هذا هو المقال الذي اعتقل على إثره مشرف "البحرين أونلاين"، ويُُحقّق معه بشأنه. بالرغم من أنه، ليس هو من كتبه، هو فقط قام بإنزاله على المنتدى، وأما الكاتب، فهو، معارض بحريني كبير مقيم في إحدى الدول الأوروبية، ويزور البحرين باستمرار.
[CENTER]كيف يُخفي الحُلْمُ الوجودَ؟!!
رداً على الحلقة الأولى من خطاب الملك.. أحاديث في الوعي الوطني[/CENTER]
في كل مرة تختفي قضايا وجودية خلف عبارات حَمْلية..
قوة التسمية التأسيسية تجلب الأشياء إلى الوجود عن طريق تسميتها...
مهمة السوسيولوجي الحقيقية، كما أعتقد، تكمن في وصف منطق الصراع حول الكلمات..
عالم الاجتماع الفرنسي، بروديو.
1. أسئلة الوجود المجلوب:
ما القضايا الوجودية التي أخفتها عبارات خطاب الملك؟ ما الذي جلبته إلى الوجود قوةُ تسمية خطابه إلى الأشياء؟ وما الوجود الذي أخفاه هذا الوجود المجلوب؟ ما منطق الصراع حول الكلمات الذي يراهن عليه خطاب الملك؟ ما هي حمولات عبارات خطاب الملك؟ ما التسميات التي استند إليها خطابه في جلب وجود خطابي مختلق؟ ما الذي يخفيه حلم الملك؟
2.
القضايا الوجودية والعبارات الحَمْلية:
قبل كل ذلك دعونا نوضح الفرق بين القضايا الوجودية والعبارات الحَمْلية، فهذه المقالة تستند إلى هذه التفرقة في تحليلها للحلقة الأولى من خطاب الملك أحاديث في الوعي الوطني.
إن ما نعيشه في الواقع يمثل نمط وجود خاص، وهذا النمط الوجودي الخاص هو الذي يجعل البشر والمجتمعات مختلفة، فعلى سبيل المثال، في القرن التاسع عشر كان للمجتمع في البحرين وجود، وشكل هذا الوجود مختلف عن شكل وجوده الحالي، من حيث القوى المؤثرة فيه والمتحكمة به، ومن حيث شكل توزيع الثروة فيه، ونمط الإنتاج ومصادر الدخل وأشكال الظلم والاستغلال، ومستوى الوعي، والمفاهيم التي يرى من خلالها الحياة وذاته ودينه وعالمه وأرضه وحاكمه وحقه، كل هذا يشكل وجوداً له قضاياه. ولكي نتحدث عن هذا الوجود ونكتب عنه ونحلله ونؤلف حوله كتباً تاريخية، فإننا لا بد أن نستخدم عبارات تصفه أو تحكم عليه، هذه العبارات نسميها عبارات حَمْلية، والتسمية مأخوذة من مصطلحات علم المنطق، ففي هذا العلم العبارة مكونة من موضوع ومحمول، الموضوع هو الشيء الذي نتحدث عنه أو نصفه أو نكتب حوله، وهو هنا مثلاً المجتمع في البحرين في القرن التاسع عشر، والمحمول هو ما نقوله عن هذا الموضوع، فمثلاً حين نقول: المجتمع في البحرين في القرن التاسع عشر محكوم بنظام إقطاعي قَبَلي، فإن عبارة (محكوم بنظام إقطاعي قبلي) تسمّى محمولاً، وهذا المحمل يخبرنا عن الموضوع، فإذا كان هذا المحمول كاذباً أو مُهوَّلاً أو مبالغاً فيه أو مُخْتلَقاً، فإن وجود الموضوع الحقيقي أو القريب من الحقيقة يختفي، وبهذا الاختفاء تمارس العبارة الحملية وجوداً يزيح الوجود الحقيقي أو القريب من الحقيقي، وهذا ما يعنيه بروديو بعبارته "في كل مرة تختفي قضايا وجودية (مثلاً المجتمع في البحرين في القرن التاسع عشر (محكوم بنظام إقطاعي قَبَلي)خلف عبارات حَمْلية (مثلاً عيسى بن علي آل خليفة مؤسس البحرين الحديثة في القرن التاسع عشر)".
إن القوى المختلفة في المجتمع، تدخل في صراعات حول الكلمات، لأن كل منها تريد أن تستخدم محمولاً يقدم موضوعات المجتمع (تاريخه، أصله، مشكلاته، أناسه، ثرواته) وفق ما يخدم مصلحتها المادية والرمزية.أي كل منها تريد أن تخفي الوجود بعباراتها الحملية، ويعمل كل خطاب في المجتمع وفق استراتيجية حَمْلية مختلفة.
هكذا يمكننا أن نحلل خطاب الملك، بوصفه خطاباً من خطابات المجتمع المتصارعة حول الكلمات، تصارعاً يريد أن يخفي قضايا الوجود بعبارات حَمْلية، تنتج (أو تلد، فلكل حمل ولادة تمثل وجوداً آخر) وجوداً آخر ومجتمعاً آخر، وتاريخاً آخر، ورواية أخرى.
ستكون إذن هذه التفرقة بين القضايا الوجودية، والعبارات الحَمْلية أداة تحليلي لخطاب الملك.
3.
حلمت بوطن يحتضن كل أبنائه.
هكذا يبدأ خطاب الملك تدشين وجوده المحمول في خطابه، يبدأ حلماً يفسر حقيقة مشروعه الذي تمخض عن ولادة جديدة، أو وجود جديد.
الحلم أداة فعَّالة للحمل، وكل وجود يبدأ حلماً، وحين نحلم يمكننا أن نقول أي شيء عن أي شيء، ولكي يكون حلم الملك أقرب إلى الواقع، وحقيقة الوجود الذي يتحدث عنه، ويعمل على بنائه، فإنه لا بدَّ أن توضع له حكاية متماسكة، ليبدو الوجود الذي تحمله عبارات الحلم حقيقة. والحكاية التي يتطلبها الحلم تتطلب سرداً يعيد تركيب التاريخ وفق مقتضيات حمل الحلم. سيتخذ هذا التركيب السردي من ولادة الملك نواة سردية وتفسيرية.
4.
طفولة 1950.
كأي بطل تاريخي، تمثل سنة ولادة البطل علامة فارقة في التاريخ، يعاد لهذه العلامة لقراءة ما يحدث من تحولات تالية، ولتفسير ما وقع من أحداث ماضية.
يمثل (1950) نواة السيرة غير العادية، وما يحيط بها تربة نمو وعيها، أي وعي السيرة، وهي سيرة الملك وعائلته، التي تندغم فيها سيرة تاريخ البحرين الحديث، أليس التاريخ كله مكتوباً وفق سير الملوك والخلفاء والأمراء وعوائلهم؟
لذلك لا عجب أن يكون ميلاد الملك أول علامة فارقة "وأول علامة فارقة، بطبيعة الحال، هي الميلاد والنشأة الأولى. كان ذلك في منتصف القرن العشرين. وتاريخ الميلاد تحديدا هو 28 يناير 1950"
وأن يكون هذا التاريخ دقيقاً وحساساً وجامعاً أروع الأوقات وأصعبها "وكان منتصف القرن العشرين (1950) لدقته وحساسيته قد جمع للمفارقة، في الداخل والخارج، بين أروع الأوقات وأصعبها".
وأن تتضاعف أهميته بما يكون قد وقع قبله "عندما كنت أعود الى عام الميلاد (1950) بعد تنامي الوعي المبكر بالأحداث، كنت أجد العالم قد شهد أول ضربة نووية في اليابان قبل خمس سنوات من تاريخه (1945).."
وأن يكون هذا التاريخ زمن شهادة تكوين القيادات الشابة التي ستقود البلاد وتاريخها "هذا ومنذ الخمسينيات، التي تعيها ذاكرة الصبا ووعيه المبكر، والبلاد تشهد إعدادا متزايدة من المتعلمين والمهنيين والكوادر القيادية الشابة من أبناء البحرين وبناتها".
هكذا يُثبِّت خطاب الملك تاريخ ولادته، لا ليكون سيرة ذاتية شخصية "وليست هذه السلسلة من الأحاديث سيرة ذاتية أو مذكرات شخصية"، بل ليكون سيرة وطن، سيرة وعيه التاريخي "بقدر ما هي علامات ووقفات على طريق تكوين وعينا الوطني". إلا أنه وعي وطني ممثلاً في شخص، هو شخص الملك، هكذا يكون الملك قد ماهى بين سيرة الوطن وسيرته، على الرغم من أن سيرة الأوطان أطول من سيرة حكَّامها. أي أن خطاب الملك لم ينفي عن أحاديثه أن تكون سيرة ذاتية أو مذكرات شخصية، تنازلاً لسيرة الوطن ووعيه، وإنما لتكون سيرة الوطن سيرته، ووعي الوطن وعيه، وهذا ما يؤكده احتفاء خطاب الملك بطفولته واعتبارها هي طفولة 1950 في تاريخ البحرين، أي أن كل ما يجرى لاحقاً من انفتاح سياسي وانفراج أمني وكل ما انتهت إليه الدولة حديثاً يرتد إلى هذه الطفولة التاريخية. وكأن قراءة حاضر الدولة لا يمكن فهمه وتفسيره إلا بالعودة إلى 1950 حيث تتماهى طفولة 1950 وطفولة الملك. الدولة كانت طفلة في هذا الزمن، لأن الملك كان طفلاً، ونضجت الدولة حين نضج الملك. من أراد أن يرى كيف يكبر1950 فعليه أن يرى كيف يكبر الملك!!
لم يعد 1950 تاريخاً عاماً، بل غدا تاريخاً خاصاً وكل ما يجري فيه يجري لصالح بطولة تاريخية، قادرة على تغيير مجرى التاريخ بما يجري فيها من أحداث ومشاعر وانعطافات حادة، "لم يكن زمنا سهلا. كان مثقلا بالأحداث الجسام والانعطافات الحادة. ولم يسمح بطفولة متريثة غافلة، بل أوجد لدي وعيا مبكرا بحقائق الأشياء في سن مبكرة".
وأول حقيقة عرفتها هذه الطفولة هي حقيقة الإبعاد، إبعاد الجد للأم الشيخ سلمان بن إبراهيم آل خليفة، "هكذا تركت فكرة «الإبعاد» عن الوطن من قبل الأجنبي أعمق آثار الألم في النفس منذ الطفولة وقد تعمق لدينا هذا الألم شخصيا وإنسانيا عندما أدركنا في سن مبكرة أيضا إن جدنا من ناحية الأم الشيخ سلمان بن إبراهيم آل خليفة قد تم نفيه مع والده كذلك من البحرين إلى قطر، حيث ولدت الوالدة الكريمة هناك بعيدا عن الأسرة وشمل الأهل، مما غرس في النفس البذرة القوية للنفور من إجراءات الإبعاد"
كيف سيتم تحويل فكرة الإبعاد التي عرفتها هذه الطفولة المتريثة، إلى حقيقة تفسر المشروع الإصلاحي، وتعلل عودة المعارضة المبعدة؟!!
5.
الطفولة وحقيقة الإبعاد.
كل إنجاز عظيم، يفسر بالعودة إلى طفولة البطل، هكذا يستثمر خطاب الملك أهم مبدأ يقوم عليه الخطاب الأسطوري، الذي يجد فيه الأبطال التاريخيون مادة لكتابة إنجازاتهم وبطولاتهم الخارقة.
هكذا وفق هذا المبدأ، يمكننا أن نفسر، القرار التاريخي الذي اتخذه الملك بعودة المبدعين السياسيين، بالعودة إلى عهد الصبا والطفولة التي حملت أعمق آثار الألم حين وعت فكرة إبعاد الجد وولادة الأم خارج الوطن، "هكذا تركت فكرة «الإبعاد» عن الوطن من قبل الأجنبي أعمق آثار الألم في النفس منذ الطفولة... كان قرارنا هذا بانفتاح صدر الوطن لكل أبنائه بلا استثناء، أملا عزيزا راودنا منذ عهد الصبا، ومبادرة لتصحيح مسار تاريخنا الوطني... ويقيني أن حرصي على تقليص أيام بعدي عن البحرين، في الخارج في أية سفرة أو إجازة، مرده هذا الشعور العميق الذي تأصل في النفس منذ الطفولة"
ليس علينا أن نطلب تفسيراً تاريخياً ولا سياسياً و لا إقليمياً ولا عالمياً، لانفتاح صدر الوطن وعودة مبعديه، فطفولة الملك تملك كل مفاتيح أسرار التفسير. وهذه الطفولة، كما يقدمها خطاب الملك، بما تملكه من حس نفسي مرهف، وألم مؤثر بعمق في كينونتها، ليست قادرة على التفسير فقط، بل قادرة على إعادة إنتاج مفهوم الإبعاد ليصبح مفهوماً وظيفياً حَمْلياً، أي أن الإبعاد أصبح ينتج جملاً حملية تغيب قضايا وجودية. فقد أصبح الإبعاد مفهوماً واحداً يندرج ضمنه المبعدون من عائلة الملك والمبعدون من شعب الملك، فليس المعارض السياسي للملك وعائلته هو المبعد فقط، بل حتى أفراد عائلة الملك تعرضوا للإبعاد، والملك بما يحمله من طفولة متألمة من فكرة الإبعاد يشعر بالأسى لكل مبعد من عائلته (عائلته المالكة وعائلته المملوكة)، لكن من أبعد..
إن الملك لا يُماهي بين تاريخ الوطن وتاريخه، بل إنه يُماهي بين آلام الوطن وآلامه، لكن ليس لصالح الوطن، بل لصالحه، المماهاة الأولى تجعل منه بطلاً وطنياً تاريحياً، والمماهاة الثانية، تقوم بوظيفة تطهيرية. إذ إنها تقوم بإدراج المبعدين من كبار آل خليفة(أو ما يسميهم الخطاب بكبار القادة) ضمن سياق إبعاد المعارضين السياسيين، حيث يتماهى الاثنان في مصائر تراجيدية واحدة، وليس غير صدر الملك، بما يملكه من حساسية الطفولة، وصدر مملكته، بما تملكه من رحابة، مكاناً يجمع كل مبعد. إن هذا الإدراج بما يملكه من قدرة على توحيد مصائر الضحية والجلاد، يحقق وظيفة تطهير آل خليفة من أثر عقدة الاضطهاد، التي تحملها نفوس المعارضين بصمت (الأغلبية الصامتة ممن وقع عليها ظلم الغزو) والمعارضين بصوت (السياسيين).
ولتحقق المماهاة وظيفتها الخطابية، فإن الخطاب يعمد إلى تغيب الفاعل، وتغييب السبب، وتغييب الملابسات، بل وحتى تغييب الفروقات بين الإبعاد والابتعاد والنفي والمنع والهرب. هكذا لا نجد في خطاب الملك جواباً على الأسئلة التالية: من أبعد جد الملك لأمه؟ ما سبب إبعاد ما يسميهم بكبار القادة التاريخيين في القرن التاسع عشر؟ وما سبب إبعاد ما يسميهم بالوطنيين المخلصين الذين كانوا يتعاونون مع ما يسميه بالحكم الشرعي؟ ومن أبعد ما يسميهم الخطاب بالمبتعدين(وليس المبعدين) البحرينيين سياسياً إلى بلدهم وأهلهم؟
إن هذا التغييب المماهي( أي تغييب تفصيلات من أجل دمج مختلفات لتبدو كأنها شيئاً واحد)، لهو أبرز آلية خطابية، تخفي من خلالها العبارات الحَمْلية القضايا الوجودية.
6.
ملك اللحظة المناسبة.
قلنا إن الحلم، حلم الوطن أو المشروع الإصلاحي الذي يحتضن كل أبنائه، يحتاج إلى حكاية، والحكاية التي يتطلبها الحلم تتطلب سرداً يعيد تركيب التاريخ وفق مقتضيات حَمْل الحلم(ما يحمله الحلم)، ولأن هذا التركيب السردي اتخذ من ولادة الملك نواة سردية وتفسيرية، فلا بدَّ أن تبحث هذه النوة عن أب أو سلسلة آباء، هو/هم بمثابة الأصل الذي تنحدر منه هذه النواة، حاملةً روحَه ورسالتَه وسماتَه ومشروعَه وحلمه، وهذا يفسر لنا السبب الذي جعل خطاب الملك، يقدم الملك حاملاً بحلمه حلم آبائه وأجداده، "كان أيضا حلما راود الآباء والأجداد الذين أوصونا باتخاذه في اللحظة المناسبة".
الملك يمثل اللحظة المناسبة، ومشروعه الإصلاحي هو مشروع اللحظة المناسبة، ضمن سلسلة لحظات آبائه، وليحظى كل أب في هذه السلسة بحقه التاريخي الذي يحفظ دوره في التمهيد لهذه اللحظة المناسبة، سيتم سرد التاريخ تاريخ الآباء، وفق عبارات الحاضر، عبارات الحلم، عبارات المشروع الإصلاحي، مشروع اللحظة المناسبة، ستحمل هذه العبارات التاريخ، لتخفي قضاياه الوجودية.
هكذا سيكون كل أب مشروع تنمية شاملة للوطن، يتولى مرة مشروع تحديث الإدارة والدولة، ومرة مشروع تأسيس البحرين الحديثة، ومقاومة الهيمنة الأجنبية.
"وعلى صعيد البحرين الداخلي كانت حركة التنمية الشاملة تكتسب زخما متزايدا بقيادة المغفور له الجد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، بعد نجاح المشروع التربوي الرائد منذ تأسيس مدرسة الهداية الخليفية ونظائرها من مدارس البحرين الحديثة في عشرينيات القرن المنصرم، يدا بيد مع مشروع تحديث الدولة والإدارة في عهد المغفور له الجد الأكبر الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، حيث استفادت البلاد من فترة الاستقرار السياسي والأمني طوال عهد المغفور له، جد الجميع، الشيخ عيسى بن علي مؤسس البحرين الحديثة، الذي قاوم الهيمنة الأجنبية بإصرار، واستطاع بالتعاون مع أبناء شعبه إفشال المخطط الاستعماري لجعل البحرين مستعمرة. وإن يكن في النهاية قد تحمل نتيجة هذا الموقف المشرف، علما أنه قد بدأ حكمه ببيعة مجمع عليها شارك فيها أهل الحل والعقد في البحرين وتعرفها القوة المسيطرة جيدا"
هكذا يكون للحلم حكاية، ينتظم في تركيبها آباء مُؤسسون، كما هو الأمر مع الحلم الأمريكي والآباء المؤسسون لأمريكا، مع الفارق أن تاريخ هؤلاء الآباء لا يكتبه أي أب من هؤلاء الآباء، بل يكتبه أبناء يعملون ضمن مؤسسة يحكمها دستور، لا ضمن فرد يكتب دستوراً ويدير مؤسسة، أي أن المؤسسة التي هي صنيعة هؤلاء الآباء الحقيقية، هي من يكتب هذه الحكاية، وأن حلم هؤلاء الآباء يفتح ولا يخفي.
بهذه السلسلة من الآباء، الجد، والجد الأكبر وجد الجميع : الجد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، والجد الأكبر الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، وجد الجميع الشيخ عيسى بن علي مؤسس البحرين الحديثة، يكون لمشروع الملك أصل، ممتد من صلبه، أصل يستمد من سلسلة آباء التنمية الشاملة هويته، وحقيقته، ووجوده، وبهذا الأصل يستغني عن أي مؤثر خارجي، يكون له بمثابة الأب، أو ظرف موضوعي أو سياق سياسي، يكون له حتى بمثابة الأخ المشارك. هكذا يكون المشروع الإصلاحي خليفي الصلب، لا يمكن لأي جهة أن تدعي الانتساب له، فالانتساب له هو بمثابة ادعاء الانتساب إلى قبيلة محكومة بوهم أصالة النسب ونقاء العرق وصفاء الدم وطهارة الأرومة.
لكن، ما القضايا الوجودية التي تخفيها عبارات حمل هذه الحكاية، لنأخذ من عبارة "كان جد الجميع الشيخ عيسى بن علي مؤسس البحرين الحديثة" نموذجاً لما تخفيه عبارات الحمل في هذه الحكاية من قضايا وجودية، ما الوجود الذي كانت عليه البحرين في عهد حكمه لها؟
7.
الإقطاع جد الجميع.
فترة حكم عيسى بن علي (1869 - 1923) وقد عزل بعد انتفاضة البحارنة 1922.
أحضرت بريطانيا عيس بن علي من قطر وكان عمره 21 عاماً، ودعمته بصورة مطلقة لتسيير شؤون البحرين كما يشاء في الوقت، وقُيِّد بسلسة الاتفاقيات الخاصة التي حولت البحرين إلى محمية بريطانية، وأصبحت جميع الشؤون الخارجية والدفاع بيد الانجليز.
عهد عيسى بن علي يمثل النموذج الأفضل لهذا النوع من الحكم القبلي في منطقة الخليج . كان مجلس عيسى بن علي الذي يرمز إلى قوة آل خليفة يمثل السلطة العليا في البلاد، فعن طريق هذا المجلس كان الشيخ عيسى بن علي يتحكم في توزيع بساتين النخيل، وحقوق الغوص على اللؤلؤ، وإدارة الموانئ، وجمع الضرائب وفرض "السخرة"أي العمل دون أجر. كانت المجالس القبلية تهتم بإدارة الموارد أكثر من اهتمامها بشؤون الناس الشخصية والاجتماعية، فقد تركت هذه لرجال الدين.
عرفت البحرين في حكم جد الجميع عيسى بن علي الحكم الإقطاعي الذي اعتمد على توزيع مناطق البحرين على أفراد العائلة الحاكمة. فكل فرد من هؤلاء أعطي مطلق الحرية لفعل ما يشاء في منطقة نفوذه، وكل واحد منهم كان لديه حرس بدوي خاص يعرف باسم الفداوية، ويقوم كل شيخ من آل خليفة بتعيين أحد أفراد القرية أو المنطقة التي يسيطر عليها، وكان يطلق على مثل هذا الفرد اسم الوزير، وتنحصر مهمة هذا الوزير بجرد أسماء أبناء المنطقة وكم لدى كل عائلة من أفراد وكم لديها من نخيل ومزارع ومكاسب ومصائد سمك أو تجارة لؤلؤ.. الخ. ثم يقوم الشيخ الخليفي بفرض الضرائب على المواطنين (بصورة عشوائية ومتغيرة مع الأيام) مثل ضريبة الرقبية (تؤخذ من رب العائلة مقابل كل ذكر من أبنائه)، ضريبة الزراعة والسمك وغيرها، كما يقوم الشيخ بفرض نظام السخرة، وهو إجبار أبناء المنطقة للعمل بصورة مجانية لخدمة الشيخ الخليفي ومزارعه وممتلكاته، وإذا عجز فرد من دفع أي من الضرائب تتم مصادرة أرضه وإجباره على العمل بصورة مجانية في أرضه المصادرة منه، أما إذا اعترض أحدهم فيقوم الشيخ الخليفي بتسليط الفداوية عليه لقتله أو سجنه أو حرق منزله.
وكان (جد الجميع، مؤسس البحرين الحديثة!!) عيسى بن علي حاكم لبلاد شيخاً إقطاعيا للمحرق والحد والسنابس. والشيوخ (حلفاء جد الجميع) الآخرون في النظام الإقطاعي كانوا: جابر بن صباح بن حمد آل خليفة (الحجر)، حمود بن صباح بن حمد آل خليفة (الكورة وجرداب)، علي بن محمد بن خليفة آل خليفة (عراد وعالي وسلماباد وداركليب)، خليفة بن محمد بن خليفة آل خليفة (الشاخورة)، علي (ابن أخ جد الجميع) بن احمد بن علي آل خليفة (السهلة الفوقية)، خالد(أخو جد الجميع) بن علي بن خليفة ال خليفة (سترة والنبيه صالح)، إبراهيم بن خالد بن علي بن خليفة آل خليفة (جبلة حبشي)، عبدالله بن (جد الجميع) عيسى بن علي ال خليفة (جدحفص وبوري)، محمد بن (جد الجميع) عيسى بن علي ال خليفة (كرباباد والقلعة والحلة وجدعلي)، حمد بن (جد الجميع) عيسى بن علي آل خليفة (البلاد القديم وكرانه)، سلمان بن (جد الجميع) عيسى بن علي ال خليفة (الزنج)، سلمان بن حمد بن (جد الجميع) عيسى بن علي آل خليفة (الدراز وبني جمرة والقرية)…. الخ.
إذن كانت البحرين الحديثة!! بين جد الجميع عيسى بن علي وحلفاء جد الجميع وأبناء جد الجميع وأبناء أخ جد الجميع وكان الجميع مُلك جد الجميع. فساعد الله الجميع من جد الجميع.
للتفاصيل انظر على سبيل المثال:
(القبيلة والدولة في البحرين: تطور نظام السلطة ومماستها، فؤاد إسحاق خوري)
(
http://www.vob.org/arabic/truth/truth8.htm)
8.
الوطن أم الغنيمة.
لنا أن نتساءل من خلف ستار هذا الوجود الحاجب، هل كان (الآباء المؤسسون) أو كبار القادة كما يسميهم خطاب الملك، يعرفون مفهوم الوطن؟ أم كانوا محكومين بمفهوم الغنيمة؟ وهل كان ما يسميهم خطاب الملك بالوطنيين المخلصين الذين عاونوا ما يعتبره خطاب الملك الحكم الشرعي، وطنيين أم قبائل من البدو التي تحركها الغنائم، وتركات الغزو؟ هل عرف هؤلاء الآباء وهذه القبائل مفاهيم السيادة الحديثة، ومفاهيم الوطنية والمدنية، ليعرفوا مفاهيم الاستقلال ومقوماته ومفاهيم الانفتاح على الحضارات؟ هل كان هؤلاء يدافعون عن تقليص مقومات استقلال الوطن، أم عن تقليص امتيازاتهم في التحكم في الأرض والثروة والناس والنفوذ والسخرة؟ هل كانوا قادة كبار أم غزاة كبار؟ هل كانوا يفهمون معنى القيادة التاريخية؟ ألم تكن هذه التي سماها خطاب الملك بالقوة الأجنبية الاستعمارية التي جاءت تبحث عن مصالحها، هي التي ثبَّتت حكم القادة من آل خليفة، وهي التي أعطتهم الشرعية بالمعاهدات والاتفاقيات والإصلاحات؟ ألم تكن هي التي أحضرت (جد الجميع) من قطر في 1869، ونصبته حاكماً لمدة 54 عاماً؟
هل يمكن بإخفاء قضايا التاريخ الوجودية، عبر العبارات الحَمْلية، أن نحلم بمشاريع إصلاحية!!!