مهنة الصيدلة في مهب الريح ... بقلم : محمد عامر المارديني
http://www.syria-news.com/readnews.php?sy_seq=117451
مقالات واراء

بينما كنت خارجاً من كلية الصيدلة ..وبعد أن أنهيت محاضراتي.. لمحت على زجاج الباب الخارجي للكلية ورقة مزركشة تحمل العبارات التالية...مطلوب شهادة صيدلة بدون دوام..للراغبين الاتصال على الرقم.....

لكم كانت صدمتي كبيرة عند رؤية ذلك الإعلان.. ليس لأنه يعرض تأجيراً للشهادة فحسب.. بل لأن الصفاقة وصلت إلى درجة تعرض معها طلبات التأجير في معقل علوم الصيدلة... في كلية الصيدلة بجامعة دمشق.

وللعلم فإن هذه الكلية هي أول كلية أنشئت في سورية عام 1903 كقسم من أقسام كلية الطب.. وتخرج منها أول صيدلي في العام 1906. وقد خرّجت خلال مسيرتها الطويلة الذاخرة بالعطاء الكثير من رجالات العلم الذين نشروا علومهم وفنونهم في تصنيع وصرف الأدوية في أصقاع المعمورة.. وقدموا للناس أروع الأمثلة في تفانيهم وخدمة مجتمعهم.

وفي مساء يوم آخر تابعت الصدمة ضرباتها القاسية وتأثيرها في مزاجي.. فمرّة كنت في زيارة لبيت عمي.. وإذا بإحدى قريباتي تستنجد بي.. وتشرح لي بالتفصيل الممل قصتها المرضية .لم أستطع مساعدتها كثيراً لأن معلوماتي التشخيصية كصيدلي ليست بالواسعة إلى الدرجة التي أستطيع معها وصف دواء لعلتها المفترضة.. وكل الذي استطعته حينها أني دللتها على عيادة طبيب صديق.. يمكنها مراجعته دون أن تتحمل عناء الانتظار.. أو حتى أعباء دفع الكشفية.

لم تكن قريبتي راضية كثيراً بمشورتي، بالرغم مما أبدته من شكر جزيل قائلة.. دون أي تحسب لكرامتي العلمية..إن بقرب منزلها صيدلية ممتازة..وستسأل أبا أحمد "الحجّي" صاحب تلك الصيدلية عن حالتها المعلولة.. فهو يعالجها عادة.. ويعالج كل زبائنه.. ومن جميع الأمراض العارضة والعرضية والمستعرضة..ولديه دواء لكل علّة..ويمكنه أن يقيس النبض والضغط.. ويحلل سكر الدم والبول..وأن يجسّ البواسير والبروستات ..ويعالج العقم عند الرجال والنساء على السواء ..وربما لديه أنابيب للأطفال لمن ليس لديه أطفال ..وربما يفعل أكثر من ذلك..

مع العلم أن أبا أحمد ليس بصيدلي..وحتى شهادة الكفاءة لم يستطع أن يحصل عليها.ثم تتابع قريبتي التباهي بشطارته.. وأنه ليس مثلي – بمعنى الأحمق - الذي أفنى حياته في الدراسة ..وأن مصلحة الدواء تعلمها بالخبرة على يد معلمه الصيدلي مذ كان أجيراً لديه.....وذكرت اسم معلمه وهي تتنهد من الحسرة عليه قائلة: الله يرحمه.. ويرحم البطن الذي حمله .

شغلت هاتان القصتان تفكيري فترة طويلة..وجعلتاني أتحسّر بحرقة على واقع مهنة الصيدلة ..وبدأت معهما أعصر ذهني حاصراً الأسباب التي جعلت هذه المهنة المعطاءة مخترقة إلى هذا الحد.. ممن لا مهنة له..أو حتى من الذين لديهم مهن أخرى محترمة.. كالمهندسين والأطباء وخريجي العلوم والاقتصاد وحتى العلوم السياسية.. وصرت أسأل نفسي ماذا حلّ بهذه المهنة؟..وما الذي أودى بها إلى ذلك المصير؟ فكرت كثيراً فوجدت أن الأسباب أكثر من أن تحصى..ورأيت أن الحلول أقل من أن يفكر فيها.

سألت نفسي..هل المشكلة بدأت في تشغيل بعض الصيادلة القدامى المشهود لهم بالعلم والخبرة لأجراء..فعلّموهم ودربوهم.. ثم سلّموهم مقاليد الأمور في صيدلياتهم..وتفرّغوا هم لتجارة عقاراتهم ولولائمهم وللعب الورق والنرد؟ أم أن هؤلاء الصيادلة العظام لم يكونوا مؤمنين بمهنتهم أو بعلمهم أو بأنفسهم..أو بأهمية ما كانوا يقدمونه للمواطنين من خدمات إنسانية جليلة..؟

هل الثقافة المجتمعية ساءت كثيراً؟ وباتت تفعل فعلها في الأجيال المتعاقبة؟.. فجعلتنا نضغط على البنت لتدرس الصيدلة..!! فقط لأنها باعتقاد الأهل المهنة الوحيدة المريحة بعد الزواج ..ويمكن في المستقبل حتى للزوج أن يمارسها.. بينما تتفرغ الصيدلانية لأولادها ولطبخها ونفخها..أو أن الصيدلانية تؤجر شهادتها لتتفرغ لفطورها مع صديقاتها في بلودان.. ورحلاتها إلى تركيا وقبرص.. أو للعمرة مرتين في السنة.أو ربما تكون الحالة أعقد.. فتؤجر الصيدلانية شهادتها بدراهم معدودة.. لا تعادل حتى ما دفعه أهلها ثمن بضع دروس خاصة في الرياضيات استعداداً لأم المعارك "البكالوريا"..والسبب هنا هو التهرب من تصنيف النقابة لها ضمن فئة غير المزاوالين..الذين يسددون رسوم شبه فلكية لعدم المزاولة..إضافة إلى عدم احتساب سني الخدمة في استحقاقات التقاعد..!!

هل سياسة حرق المراحل التي ينتهجها العديد من ذكور الصيدلة بهدف تلبية متطلبات حياتهم المتسارعة قد خلطت علمهم بتجارتهم؟..فأصبحوا بأنفسهم من عرابي تأجير الشهادات ..فيوظّفون لهذه الصيدلية صيدلانياً في خدمة العلم.. وفي تلك الصيدلية طالب سنة رابعة أو خامسة.. وفي أحسن الأحوال طالب دراسات عليا..فتردّت الخدمات التي يفترض تقديمها.. واقتصرت على مناولة الدواء وبيعه كأي سلعة وقبض ما يقابل ذلك من ربح ..!!

هل المشكلة في أن الخريجين والخريجات قد أصبحوا حقيقة بلا علم ..؟ وأن الكرة غدت في ملعب كليات الصيدلة من حيث المناهج المعقدة وأساليب التدريس المدرسية والتدريب العملي البائس ..!!

هل السبب في من يرخص..و رخص سابقاً.. للمئات وربما لاحقاً للآلاف من حملة الشهادات التي تمنحها ما يسمى بالجامعات؟.. كما المختار في الحارة يمنح شهادة حسن سلوك ..ولشخص لم يره قط ..!!

هل معاهد الصيدلة المنتشرة هنا وهناك والتي تخرج مساعدي الصيادلة نعمة للمهنة أم نقمة عليها ..؟

هل النقابة وفروعها تسهر على مكافحة المتنفّذين؟ الذين ما فتئوا يتوسطون لبائعي "النوفوتيه" ومصلحي الدراجات الهوائية ويسعون لهم في استبدال مصلحتهم بمصلحة بيع الأدوية..!!

هل السبب هو في عشق ممانعة البعض (أو ربما الكثير) لتطبيق القوانين والأنظمة..؟ دون أن ننسى أن الأدوية المهدئة ومسكنات الألم المركزية والمضادات الحيوية وخافضات سكر الدم وخافضات الضغط وغيرها أصبحت متاحة في العديد من الصيدليات دون الحاجة لوصفة طبية..!! فهل أصبحت صحة المواطن ترفاً عند البعض(أو ربما الكثير) ؟

هل السبب في أن القيّمين..أو بالأصح القائمين على المهنة أصبحوا- مع الأسف- غير معنيين ؟..أم أنهم قد تورطوا في المسألة فأصبحوا من أصحاب الصيدليات ومستودعات الأدوية المخالفة؟.. أو ربما من أصحاب رؤوس الأموال الصيدلانية.. فتاجروا بالمهنة وبشرفها ..!!

أسئلة هي برهن الجميع.. بما فيهم كاتب هذه الكلمات.. وتحتاج لإجابات صادقة..فالحوادث المؤسفة، والأخطاء المهنية تقع كل يوم ..وبالجملة.. تودي بصحة الناس..لا بل بحياتهم.. سببها المباشر المتعدّون أو الأصح ..المعتدون على مهنة الصيدلة ..الذين استسهلوها ثم امتهنوا قيمها وأخلاقياتها..الأمر الذي يستوجب من حاملي الألوية ..وزارات وجامعات ونقابات وإعلام وجمعيات أهلية.. وقفة متأنية مع الذات ...وإعادة النظر في مستقبل هذه المهنة الخيّرة العظيمة ..لكن يا خوفي من أن الأمر قد استفحل وأصبح من الصعب جداً تصحيحه