RE: علي الشاطئ ذهابا وإيابا - قصة قصيرة وهوامش وتأملات شتي
أمومة
لم أرض أن نستقل الباص الممتلئ رغم أن الأطفال كانوا في غاية الإنهاك وفضلت انتظار الباص الجديد , أحيانا تحس أنك لست وحدك في مكان ما , هناك من يعرفك ولكنه لا ينتبه لوجودك , يمر بي هذا الإحساس كثيرا , أروح أدور في الوجوه أبحث عنه , كثيرا ما يصدق هذا الإحساس وأستطيع أن أتعرف علي هذا الوجه , زميل قديم , ربما تقابلنا كثيرا أو قليلا , أتعرف عليه بصعوبة لاختلاف الملامح وتبدل السحنة , أظل مسلطا بصري عليه حتي تحين منه التفاتة إلي مكاني ويري نظرتي المصوبة , لا أشير له , لا أبتسم , أتركه حتي يتعرف عليّ , أظل مشرعا نظرتي حتي يدوم انتباهه ولكني أبدا لا أبدأه , قد يظل في جموده يعالج صورتي دون جدوي , وقد يتهلل وجهه فجأة فأعرف أنه تذكرني , عندئذ فقط أبدأ في التحرك نحوه .
اعتبارا من اللحظة التي راودني فيها هذا الإحساس في الانتظار , فقدت الباص الأول وأطفالي يحتجون , أبحث عن هذا الوجه في كل دورة في الميدان الواسع , أتوقف كل مرة هناك في الجانب المقابل من الميدان , عند تلك السيدة العجوز المتشحة بالسواد التي تصوب النظر إلي ّ , أتجاوزها في كل مرة متأملا الوجوه الأخري ثم أعود إليها , كنا قد خرجنا من البحر توا والأطفال يشدون يدي في كل مرة يصل باص جديد , أعود إلي وجهها النحيل المنحوت في دقة , أتأمل تضاريسه , أقيس قد جسمها , أخرج من جيوب ذاكرتي قدود الأجسام التي تتفق مع هذا القد , دون جدوي , هل تلعب نفس اللعبة معي ؟ , تريدني أن أبدأ بالتعرف عليها أولا فقد أكون أنا بالنسبة إليها الشخص غير المقصود .
هل يمكن أن يكون البحر قد أنهكني لهذا الحد ؟ , أنا لا أنزل البحر ,أكتفي بمراقبة أطفالي وهو يلهون معه , أخاف أن يخطف واحد منهم في غفلة مني ولو لثانية , عندما لاحظت أنها لا تتأملني فقط بل كذلك أطفالي , دار في ذهني هل يمكن لهذه السيدة أن تكون واحدة ممن رأيتهن علي البحر يوما تبحث في لهفة عن طفل مفقود , تدور بين المصطافين ترسم لهم صورة الطفل , بعدها يهزون رؤوسهم بالنفي فتنظر في جنون إلي البحر وهي تفرك يديها ملتاعة , أظل للمساء قابعا حتي يخلو الشاطئ وأراها وحيدة جالسة في سكون كقطعة حجر علي الشاطئ لا تغادر عيناها الأمواج التي تندفع للساحل , ربما كانت واحدة منهن , لا تقصدني أنا بل أطفالي , تتصور أن فقيدها هو أحدهم وأنني قد عثرت عليه , ربما كانت تتعرف في ملامح أحد أطفالي ملامح فقيدها , ثم تنفي لنفسها أن يكون فقيدها حين تتعرف في ملامح وجهي علي التشابه بيني وبينه .
هل فقدت قدرتي علي التعرف , أصابني خمود الذاكرة الذي كنت أتوق إليه , كنت أبغي من رحيلي إلي هذه المدينة أن أفقد الذاكرة أو الذكريات , لا أغادرها عائدا أدراجي من حيث جئت إلا شخصا جديدا تماما , شخص قد ولد من جديد في هذا العالم , ربما كان لهذا تأثيره في مقاومة التعرف علي تلك المرأة , كنت في كل دورة بين الوجوه والعودة إلي نظرتها المصوبة , أقاوم تلك الولادة بدعوي أنها لا تضير في مثل هذه الحالة , الغربة التي تأكل نفسي في هذا المكان كانت تتصارع مع رغبتي في نفي الذاكرة , نفي غربتي بالعودة لجذوري , عودة جذوري تعيدني لنفي ذاكرتي , لم كل الصور وإيداعها في صندوق أسود لا يفتح إلا بالجهد العسير , دورة وراء دورة مثل أمواج البحر التي لا تنتهي .
أتذكر رغما عني وقت أن أعد حقيبتي للرحيل , أرص الملابس وأضع فوقها صورة أمي الكبيرة و صور أطفالي الصغيرة , بعض الكتب وأوراقي الوظيفية , عندما أمد يدي لها بالوداع ترفض وتخبئ يدها وراء ظهرها وأراها تتحرك لتقف بيني وبين باب الغرفة .
- رجلي علي رجلك
- يا أمي لا ينفع , إنه سكن عزاب , سأكون هنا كل آخر شهر .
تنهار عند الباب , تتكوم علي نفسها كتلة من الألم والدموع وأنا أمضي بخطواتي في اتجاه باب الاغتراب .
عندما وصل الباص الجديد , دقت طفلتي الصغيرة قدمها بالأرض في غضب , وأخذت تشد يدي في عنف , انتبهت , أدخلتهم الباص الواحد تلو الآخر وأنا أشير لهم بالكرسي الكبير في نهاية الباص , مكاني كان في الجانب الذي يطل عليها من الميدان , فتحت زجاج النافذة حتي لا يكون هناك أي حاجز بيني وبينها واندهشت وأنا أراها تتجول بنظرها من بعيد علي نوافذ الباص وتستقر علي ّ , امتلأ الباص بالركاب , كانت تلك هي الفرصة الأخيرة أن أتذكرها , ولكن الذاكرة ظلت معطلة , دار الباص في الميدان ليلتف عائدا , بدأ يقترب منها , وراحت ملامحها تتضح شيئا فشيئا , وعندما اقترب وجهانا تماما , رأيتها تحدق في دهشة كبيرة ثم ترفع يدها وتنطق باسمي في صراخ , تذوقت صوتها الذي أعرفه جيدا , الصوت الذي يشبه صوت ليلي مراد , التفت إلي الخلف والباص يمضي لأراها تهرع راكضة وراء الباص وهي تلوح : ارجع , ارجع .
راحت الذكريات تتقافز ضد رغبتي في النفي , صورتها القديمة الشابة وهي تجري للشارع تحتضنني أنا وابنها حمد , تنقذنا من الأطفال الذين يتشاجرون معنا وهي تمسح وجه اليتم الصغير فينا , وجهها الطيب وهي تدخل الحجرة علينا في الصباح وبيدها أطباق الفطور , شفتاها من وراء الباب وهي تمشط شعر ابنتها و تغني أغنية ليلي مراد , ( يا ساكني مطروح , جنية في بحركم , الناس تيجي وتروح , وأنا عاشقة حيكم ) , عندما تصل إلي ( اثنين حبايب الروح شبكوني في حبكم ) , ترنو من وراء الباب إلينا فنقهقه ضاحكين , عيناها وهي تبكي وابنها يجهز حقيبته وأصاحبه للميناء , شقائها وهي عائدة من عملها في المساء تحمل كيسها القليل الطعام , يداها المرتعشتان وأنا أساعدها في صرف أول مبلغ يرسله لها من غربته , بهجتها وأنا أساعدها في شراء الغسالة والثلاجة وأبسطة الأرضية , دموعها وأنا أراقب مرض السكر يأكل وجهها ويفقدها أسنانها واحدة واحدة . راحت الذكريات تتري ضد النفي وأنا أحاول أن أبعد الأجساد التي تمنعني من باب الباص البعيد , أتوقف في منتصف الباص وأستدير لأطفالي الذين يهرعون وراءي , لقد فات الوقت كثيرا , أعود لمقعدي ,أدير رأسي في اتجاهها وأراها تتوقف وهي مازالت تلوح , صورتها تتباعد كلما مضي الباص في طريقه حتي تصبح نقطة صغيرة وأنا أنحط بجسمي المهدم جوار أطفالي وأحتضنهم إلي صدري في قوة .
مرسي مطروح - صيف 1993
كوكو
يتبع
- هوامش وتأملات شتي -
|