مقتطف من مذكراتي أثناء تكليفي بفترة التدريب في مستشفى الجامعة بأسيوط لشهري يناير وفبراير 2009..
أحمد مختار عاشور
كنت في بنك الدم ..
أقوم بسحب الدم من المتبرعين -غالباً أقارب المرضى- بعد إجراء توافق الفصائل, وباقي الاختبارات الأخرى.
........................
ذات يوم..
أتى متبرعان معاً..
أمرت كلاهما بالإضجاع على سريري التبرع.. وأن يظهرا ساعديهما..
وأخذت أسجل بياناتهما من البطاقتين..
هما فلاحان من "أبوتيج" بأسيوط.. و"أبوتيج" به أكبر تعداد للمسيحيين في الجمهورية على ما اَعتقد..
المتبرع الأول مسيحي..
المتبرع الثاني مسلم..
المتبرَّع إليه هو والد المتبرِّع الثاني..
أحضرت قربتين من الثلاجة, وعدت إليهما..
ذهبت للمتبرع الأول..
ووجدت وشماً لصليب هائل الحجم عليه المسيح, يحتل ذراعه بأكمله..
ربطت أسفل عضده..
فأخبرته بمزاح: "العـِرق الظاهر هو اللي عند راس المسيح.. اسمحلي أشكه"
فضحك.. وأخبرني أن أفعل..
وضعت الإبرة.. وانطلق سائل الحياة الأحمر ليملأ القربة.. قمت بتثبيتها -الإبرة- بلاصق..
وذهبت للمتبرع الثاني..
فوجدته يرتجف..
أخبرني أنه لم يتناول إفطاره, فهل يصح طبياً لو تبرع بالدم؟؟
فأخبرته أني سأعطيه العصير المجاني الآن.. ليتناوله أثناء التبرع لا بعده..
فتحت له علبة العصير وضعتها في يده.. فوجدته يرتعش أكثر..
أخذت أطمأنه.. فسألني عن مدى ألم الإبرة..
فأخبرته إن كان رأى تقبل صديقه للأمر بكل بساطة.. وها هي قربته قد قاربت على الامتلاء..
فطلب مني أن أُدخـِل الإبرة بيسر.. فوعدته أن أفعل وألا يقلق وأن ينظر بعيداً عنها..
لكنه انتفض فجأة, وألقى بعلبة العصير.. وخرج مهرولاً..
رفض التبرع.. رغم أن صحته تبدو جيدة ولا يوجد أي أثر للأنيميا أو لتاريخ مرضي.. وضغطه سليم..
ذهبت للمتبرع الأول.. كانت قربته قد قاربت على الامتلاء..
نزعت الإبرة.. فأخبرني:
"شوف الخول.. مش عايز يتبرع لأبوه!"
أخبرته أنه خائف بطريقة غريبة.. هذا يحدث..
قال:
"صلي ع النبي يا دكتور"
ثم أخبرني أنه تبرع بدمه لأخته منذ أسبوعين..
فصرخت فيه: إنت بتهزر؟؟؟؟
أخبرته أنه يأتيني أكثر من 100 متبرع يومياً.. غير أني أفضل أن أخبر المتبرِّع بالنصائح المتبعة بعد أن ينتهي من تبرعه.. وبالتالي اَعتمد على أن الطبيب الذي سحب دمه أن يكون قد أخبره بعدم التبرع ثانية قبل ثلاثة أشهر من آخر تبرع بالدم.. غير إن المفروض أن يخبرني المريض بهذا..
فأخبرني أنه يعلم أضرار هذا.. كما أخبره الطبيب..
لكنه برر هذا بأنه يريد أن يتبرع للرجل الذي يحبه.. والد صديقه النذل (الصديق النذل)..
ولا يهمه ما سيحدث له..
أعطيته علبة العصير..
وطلبت من العامل أن يحضر بعض شطائر الفول.. وتناولت فطوري معه.. ثم أعطيته علبة عصير أخرى وشريط برشام حديد, وصافحته باحترام مشدداً عليه ألا يكرر فعلته هذه ثانية.. ورحل.
قد يبدو الأمر عادياً ولا يحتمل أي تهليل أهطل حول الوحدة الوطنية والتسامح الديني والانصهار الوطني وغيرها من المصطلحات الإعلامية الساذجة.. لأني غالباً أرى هذا التسامح من جانب المسيحيين أكثر من المسلمين.. في الحالات النادرة التي ألحظها..
لكن الأمر الغير عادي.. هو ما حدث بعد يومين.. عندما كنت في غرفة بنك الدم الملحقة بثلاجة حفظ أكياس الدم الممتلئة..
تلك الغرفة التي يجب أن يشرف عليها نائب طب تم تعيينه أو ينتظر التعيين..
كانت نوبتجية في الفجر..
ومعي النائب الذكر الوحيد الذي ينتظر تعيينه من بين أكثر من 20 نائبة..
أتت ممرضة من قسم الجراحة.. تطلب قربة دم لأحد المرضى فوراً..
المريض لم يجد من يتبرع له بما يتوافق مع دمه.. فسيضطر لدفع 180 جنيه ثمناً لكيس دم محجوز في الثلاجة..
أخبرني النائب أن أبحث في الثلاجة الاحتياطية عن فصيلة "O -".. قلبت محتويات الثلاجة رأساً على عقب..
وأخيراً وجدت كيس مكتوب عليه "O -" ذهبت به إلى النائب.. وضع الكيس أمامه ليسجل بياناته المكتوبة من على لاصق على كيس الدم..
فتوقف.. وأخبرني: "تعالَ نشوف كيس غيره"
أخبرته: "لا يوجد غيره.. والتاريخ سليم والفصيلة سليمة.. والتحاليل سليمة؟؟"
لم يرد وأخذ يبحث في الثلاجة عن كيس آخر.. لم أفهم وجهة نظره..
فأخبرني أن أنظر على الاسم المدون على القربة..
نظرت.. كان "محمد أحمد اسماعيل"..
ماله؟
قال: آه صحيح.. م انت ماشفتش اسم المريض على تذكرة الممرضة..
سألته: اسمه ايه؟
قال: صمويل حنا فكري
سألته: يعني؟
قال: يعني ما يصحش ناخد دم واحد مسلم عشان نديه لواحد نصراني.. انت حتى مسلم وعارف!
الصدمة ألجمتني.. وحاولت أن أمنع نفسي عن إطلاق "أحااااااا" مدوية بصعوبة بالغة..
سألته: ولو مالقيتش كيس دم لواحد مسيحي.. هتعمل ايه؟؟
سألني: مش عارف.. انت ايه رأيك؟
قلت: أنا رأيي تديله كيس الدم.. وتروح تستغفر ربنا ألف مرة لما تروح..
قال: أنا نسيت صح إنك مابتصليش.. أنا هاخد رأيك إنت؟؟
(المشكلة إن كيس الدم يستحيل أن يخرج إلا وعليه إمضاء من النائب)
أخبرته: المريض محتاج كيس الدم ده ضروري..
قال: إنت مش فاهم دينك..
قلت: وإنت اللي فاهمه؟؟
نظر إلى بدهشة..
قلت بابتسامة وأنا أجز على أسناني: يا دكتور.. كيس الدم ده لازم يطلع للمريض..
قال: ده بأمارة إنك رئيس القسم يعني؟؟
قلت: لو كيس الدم ده ماطلعش هكتب فيك شكوى..
قال: حلو أوي عشان كمان أكتب شكوى عن طبيب اِمتياز بيدخن في طرقة المعمل..
قلت: إنت لو كتبت فيا شكوى آخري هعيد شهرين بنك الدم.. وهفضل قاعدلك.. أما أنا لو كتبت فيك شكوى هتأثر على التعيين بتاعك وانت ماعندكش واسطة.. خاصة وإنت معاك طقم غيلان من الــ (Staff)..
أخبرني أنه سيتولى أمري فيما بعد.. وتظاهر بالبحث عن كيس آخر..
حتى أخذ كيس الدم وهو ممتعض ويتحاشى نظراتي.. وقام بتسجيل بياناته وأعطاه للممرضة..
وأنا أراقب كل انفعالات وجهه..
أن يأتي مثل هذا الخراء من نائب في قسم كلينكال باثولجي.. سيصبح أستاذ جامعة وفي واحدة من أرقى الكليات بعد حين!
فهذا ليس إلا مثال بسيط من الكارثة التي نتعامى (من العمى أو سلوك النعام) عن وجودها..
وتصبحون على وطن..
.....................
http://3asoryat.blogspot.com/2011/01/blog-post_03.html