تم تشويه تاريخ المنطقة العربية وخصوصاً الفترة التي سبقت الفتح العربي الاسلامي المعروفة باسم الحقبة (الارامية السريانية) والتي وحدت ثقافياً ولغوياً العراق والشام (الهلال الخصيب) من خلال الفكرة الخاطئة التي تعتبر كل تراثها اجنبياً، فهو فارسي بالنسبة الى العراق، واغريقي روماني فيما يخص بلاد الشام ومصر تبعاً لخضوع المنطقة للسيطرة.
تعتبر الديانة (المانوية) واحدة من ابرز الامثلة على التغريب والتشويه، باعتبارها ديناً آرياً فارسياً رغم ان جميع الشواهد تدحض هذا الرأي، وتبين بصورة قاطعة ان هذا الدين عراقي الموطن، مؤسسة رجل بابلي، كانت لغته السريانية، والتراث الذي نهل منه هو تراث سامي (البابلي العرفاني والمسيحي).
بعد سقوط بابل في عام 539 ق.م بسط الفرس الاخمينيون نفوذهم على بلاد الرافدين حتى القرن السابع الميلادي، وقد تمكن الاغريق والرومان من انتزاع العراق من يد الفرس مرات عديدة، وكان العراق مسرحاً لتلك الحروب، ومع ذلك حافظ سكان العراق على هويتهم الثقافية والدينية، بحيث فضلت اللغة الفارسية (البهلوية) استعمال الابجدية السريانية على الكتابة المسمارية التي اقتبسوها من بلاد الرافدين، كما حافظ العراقيون على ديانتهم السامية البابلية الموروثة المعتمدة على اصلين للكون، الخير والشر، هذه الثنائية التي اثرت في الايرانيين وديانتهم الزرادشتية وليس العكس.
ومع انبثاق المسيحية في الشام في القرن الاول الميلادي، بدات بالتدرج تتسرب الى العراق من الشمال الى الجنوب، وكانت مصحوبة بتيارات عرفانية غنوصية وهرمزية صوفية قادمة من الشام ومصر مع بعض التاثيرات الاغريقية وبدأت تتشكل طوائف مسيحية عدة في شمال ووسط العراق، فضلاً عن الصابئة الذين مزجوا المسيحية بالعرفانية مع اصول الدين البابلي.
تتفق جميع المصادر التاريخية على ان (ماني) ولد سنة 216 في احدى قرى بابل وكان بابلي الدين (وثني) من اب أسمه فاتك وام اسمها مريم، وفي سن الرابعة رحل ابوه الى احدى قرى ميسان، وهناك نشأ ماني على الدين الصابئي، وفي شبابه بدأ يتنقل في انحاء بلاد الرافدين، واستقر في بابل واعلن نبؤته.
ان جميع الشواهد التأريخية تؤيد عراقية ماني، منها اسمه واسم والده، وضعف الصلة بين المانوية والدين الفارسي الرسمي الزاردشتية، بينما لا يمكن تجاهل اثر (بن ديصان) القديس السرياني المسيحي الثنوي، بالاضافة الى ان ماني دون كتبه بالسريانية ومنها ترجمت الى اللغات الاخرى، وماني يؤكد عراقيته بقوله (ان الحكمة والمناقب لم يزل ياتي بها رسل الله بين زمن واخر، فكان مجيئها في زمن على يد الرسول بوذا الى بلاد الهند، وفي زمن على يد زرادشت الى ارض فارس، وفي زمن على يد عيسى في ارض المغرب (الشام)، ثم نزل هذا الوحي وجاءت النبوة في هذا الزمن الاخير على يدي انا ماني رسول اله الحق الى ارض بابل)، ثم اصرار ماني على بابل بانها مقر الكنيسة الام ومركزالديانة المانوية.
ماني والمانوية:
ولد ماني في 14 نيسان عام 216م، قرب المدائن، وهي مركز ولاية بابل، والعاصمة الثانية للفرس انذاك، رحل به والده الى ميسان وهو في الرابعة من عمره، وهناك اعتنق الدين الصابئي، وكان هذا الدين سائداً في جنوب العراق قبل هيمنة المسيحية.
تلقى ماني رسالة النبوة في 23 نيسان 240م بواسطة الملاك (توام- توما) على انه (الروح القدس) الذي بشر به النبي عيسى، طرد من الصابئية نتيجة ذلك، فرحل مع ابيه واثنين من اصحابه الى بابل، ومنها قام برحلاته الى بلاد فارس والهند، حيث عاين ودرس الزرادشتية والبوذية، بعد عامين رجع الى ميسان بحراً عبر الخليج شاءت الظروف ان يخوض ماني تجربة مكنته من فرض تاثيره على حاكم ولاية ميسان الفارسي (مهرشام) شقيق الامبراطور (شاهبور)، حيث توسط له لينشر دينه دون مضايقة.
بدأ ماني بتأسيس كنيسة في بابل، اسماها (كنيسة النور)، ثم انتشرت في انحاء بلاد الرافدين، واخذ يبعث تلامذته (الحواريون) الاثني عشر الى جميع بقاع الامبراطوريتين الفارسية والرومانية لنشر الدعوة المانوية، ومن المعروف ان ماني كان طبيباً ورساماً وكاتباً ومترجماً، وهو الوحيد الذي كتب بنفسه انجيله وباقي كتبه المعروفة التي تزيد على سبعة، وفيها (ندائي يتجه نحو الغرب، وكذلك نحو الشرق، وهو يسمع بجميع اللغات، وفي جميع المدن، كنيستي تفوق الكنائس السابقة، لان تلك الكنائس قد اختيرت لبلدان ومدن محددة، بينما كنيستي اتت لجميع البلدان، وانجيلي يبتغي جميع الاوطان).
في تاريخ غير محدد ويقع ما بين (274-277)تم صلب ماني على احد ابواب مدينة بيت العابات (جند يسابور) في الاحواز بقرار من الامبراطور الفارسي (برهام الاول)، لقد عذب ماني وقطعت اطرافه وصلب ثم احرقت جثته ونثر رماده، لأنه اصبح خطرأً على النفوذ الفارسي، وخصوصاً تحول بابل الى مركز دين عالمي واحتمال ان تستعيد امجادها السابقة.
يمكن اعتبار المانوية اساس التصوف، فهو دين (غنوصي- عرفاني) متطرف في الزهد والتنسك واحتقار ماديات الحياة، والفكرة الاساسية لهذا الدين ثنويه، وهي ان الله هو الخير والنور والشيطان هو الخطيئة والظلام ولابد من احتقار الحياة ونبذ الجسد وتفضيل الموت من اجل تخليص الروح والنور من سجن الجسد والظلام، واعتبر ماني ان روح الانسان المنيرة تتعذب على الجسد، صليب الظلام، مثلما تعذب (عيشو زاهي) عيسى الزاهي على صليبه.
والخطيئة ترتكب بثلاث وسائل القلب (النية) والفم (الكلمة) واليد (الفعل) لهذا فان وصايا ماني كانت (لاترتكب خطيئة، لاتنجب، لا تملك، لا تحصد، لاتأكل لحماً، ولاتشرب خمراً) طبعاً ان هذه لا يستوجب تطبيقها من قبل جميع المانوية، انما تقتصر على النخبة الدينية التي تنقسم الى اربعة اقسام هي: 12 الحواريون، 72 شماسون، 360 عقلاء، واخيراً الصديقون غير محدودي العدد، اما باقي المجتمع (السماعون) فهم يلتزمون فقط بالصلاة اربع مرات يومياً، والسجود 12 مرة في كل صلاة، والصوم شهر كامل في نيسان، وهو الشهر الذي صلب فيه ماني ومنه صعد الى السماء، ودفع العشر والزكاة وتقديم الطعام للصديقين.
تعتمد المانوية على كتب (ماني) المليئة بالشروحات والحكايات والاساطير المعقدة والمفصلة، فقصة الخليقة تشبه الى حد بعيد الاسطورة السومرية البابلية (حينوما عاليش- حينما في الاعالي) لكن اسماء الالهة السامية القديمة تستبدل بها اسماء سريانية ومسيحية محدثة، مذهب التثليث المسيحي (الاب والابن والروح القدس) تستبدل عند ماني بالعظيم الاول وام الحياة، والتثليث موجود في كافة الديانات البابلية السومرية، ففي قصة الخليقة البابلية هناك ابو-الاب، وممو-الابن، وتعامة-الام. اما فكرة التناسخ فهي مقتنية من البوذية مع تحوير ملائم لما يذهب اليه، فالانسان التقي تذهب روحه الى حدائق النور وجنان الله، اما الخاطئ فتنتقل الى انسان اخر ليعيش مرة اخرى حتى يصبح نقياً فيتوقف التناسخ وتذهب روحه الى جنة الخلود.
المانوية والاسلام:.
كانت القبائل العربية النازحة من الجزيرة تندمج طبيعياً مع اهل بلاد الرافدين وتتبنى دياناتهم السائدة انذاك، وهي اليهودية والمسيحية والصبائية والمانوية، يذكر ابن قتيبة الدينوري عن وجود المانوية في مكة قبل الاسلام، في حين ان عمر بن عدي ملك الحيرة العربي كان من انصار المانوية وحماتها المعروفين، وقد عرف اتباع ماني بالزنادقة، وقد اقتبسها العرب من الفرس، وتعنى المنحرفون عن الدين، وهناك من يعتقد انها مشتقة من كلمة (صديق) السريانية التي تعني رجل الدين المانوي.
يبدو ان الفتح العربي لم يضعف المانوية بقدر ما منحها بعض الزخم بسبب كثرة اتباعها في العراق، وبعد هجرة عدد كبير منهم من الشام ومصر بعد حكم الاعدام الذي اصدره الرومان بحقهم، ثم ان الاسلام في اول الامر لم يكن موقفه واضحاً منها، وقد اعتبرها في البدء من اديان اهل الكتاب.
وفي العصر الاموي تمتع اتباع المانوية ببعض الحرية، وتذكر المصادر على ان (امام الكنيسة المانوية) في افريقيا هو ابا هلال الديهوري، ومما ساعد على نشاطهم استخدام الكثير من اتباع هذا الدين كتاباً في الدواوين بدل المجوس الفرس بعد قرار تعريبها وكانت بالفارسية، لانهم عراقيون يتقنون العربية القريبة من لغتهم السريانية.
ويعتبر الخليفة العباسي المهدي اول من اعلن الحرب ضد المانوية وجميع التيارات المعارضة باسم مكافحة الزندقة، بل توسعت تهمة الزندقة حتى وصلت على يد الغزالي الى كل محاولة اجتهادية تخالف مذهب الدولة وتنحرف عنه بالتغير، وبسبب هذا الاضطهاد اضطر الكثير من المانويين الى الهروب من العراق.
ويمكن للدارس ملاحظة اثر المانوية في التصوف العرفاني العراقي الموجود لدى مختلف الاديان والمذاهب.
مجلة شعوب
http://www.shaaubmagazine.com/view.598/