ثانكس عالورد يا ورد ... و نكمل
مقدمة كتاب رأيت رام الله بقلم إدوارد سعيد:
"تجسيد" القضية الفلسطينية
هذا النص المحكم، المشحون بغنائية مكثفة، الذي يروي قصة العودة بعد سنوات النفي الطويلة إلى رام الله في الضفة الغربية في سبتمبر 1996 هو واحد من أرفع أشكال كتابة التجربة الوجودية للشتات الفلسطيني التي نمتلكها الآن. إنه كتاب مريد البرغوثي الشاعر الفلسطيني المرموق، والمتزوج كما يخبرنا في مواضع شتى من الكتاب، من رضوى عاشور الروائية والأكاديمية المصرية الممتازة، إذ كانا طالبين يدرسان اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة القاهرة في الستينيات، وخلال زواجهما اضطرا للافتراق طوال سبعة عشر عاما، هو مستشاراً في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بودابست وهي مع ابنهما تميم في القاهرة حيث تعمل أستاذة في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة عين شمس. والأسباب السياسية لهذا الافتراق يشير إليها كتاب رأيت رام الله، كما يشير أيضا إلى ظروف نفي الشاعر من الضفة الغربية عام 1966 وظروف عودته إليها بعد ثلاثين سنة.
عند صدور رأيت رام الله عام 1997 واستقباله بحفاوة عظيمة وواسعة شملت العالم العربي كله، نال الكتاب جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبي التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وأجمل ما تشتمل عليه الجائزة حقا هذه الترجمة الأنيقة المثيرة للإعجاب إلى اللغة الإنجليزية التي قامت بها أهداف سويف، وهي ذاتها روائية وناقدة مصرية هامّة تكتب رواياتها بالإنجليزية (في عين الشمس وخارطة الحب). لهذا فهو حدثٌ أدبيٌّ هامّ أن تجتمع هاتان الموهبتان داخل غلاف واحد، وإنه ليسعدني أن يتاح لي أن أقول بعض الكلمات كمقدمة لهذا العمل. أما وقد قمت بنفسي برحلة مشابهة إلى القدس (بعد غياب 45 سنة) فإنني أعرف تماما هذا المزيج من المشاعر حيث تختلط السعادة، بالأسف، بالحزن بالدهشة بالسخط والأحاسيس الأخرى التي تصاحب مثل هذه العودة.
إن عظمة وقوة وطزاجة كتاب مريد البرغوثي تكمن في أنه يسجل بشكل دقيق موجع هذا المزيج العاطفي كاملا، وفي قدرته علي أن يمنح وضوحا وصفاءً لدوّامة من الأحاسيس والأفكار التي تسيطر علي المرء في مثل هذه الحالات. إن فلسطين، على كل حال، ليست مكانا عاديا، إنها متوغّلة بعمق في كل التواريخ المعروفة وفي تراث الديانات التوحيدية، شهدت غزاةً وحضاراتٍ من كل صنف ولون تأتي وتزول، وتعرَّضَتْ في القرن العشرين إلى صراع ممضّ بين سكانها الأصليين العرب الذين اقتُلِعوا وتشتّتَ معظمهم عام 1948 وحركةٍ سياسية وافدة لليهود الصهاينة (ذوي الأصول الأوروبية في الغالب) الذين أقاموا دولة يهودية في فلسطين، وفي عام 1967 احتلوا الضفة الغربية وقطاع غزة وما زالوا عمليا يسيطرون عليها إلى يومنا هذا. إن كل فلسطيني يجد نفسه اليوم أمام موقف شديد الغرابة، فهو يدرك أن فلسطين كانت موجودة ذات يوم لكنه يراها وقد اتخذت اسماً جديداً وشعباً جديداً وهوية جديدة تُنكِر فلسطين جملةً وتفصيلا. بالتالي فإن العودة إلى الوطن، في ظل هذا الوضع، هي أمر غير عادي إن لم نقل إنه مفعم بالأسى والوطأة.
إن رواية مريد البرغوثي كانت ممكنة بسبب ما يُطلق عليه بشكل مضلل عملية السلام (هذه التسمية الخاطئة بشكل مخيف) بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات ودولة إسرائيل. فهذه الترتيبات التي بدأت في سبتمبر 1993 ولا تزال مستمرة بدون حل حتي لحظة كتابة هذه السطور (أوائل أغسطس 2000) والتي تمت بوساطة أمريكية، لم تؤدِّ إلى سيادة فلسطينية حقيقية علي غزة والضفة الغربية ولا إلى سلام ومصالحة بين اليهود والعرب. لكنها سمحت بعودة بعض الفلسطينيين من أهالى المناطق المحتلة عام 1967 إلى منازلهم. وهذه هي الحقيقة السارة التي انبثق منها مشهد الوقوف على الحدود الذي يفتتح به مريد البرغوثي كتابه رأيت رام الله.
وكما يكتشف البرغوثي بسرعة، تكمن المفارقة في أنه بالرغم من وجود ضباط فلسطينيين على جسر نهر الأردن الفاصل بين المملكة الهاشمية وفلسطين فإن الجنود والمجندات الإسرائيليين مازالوا هم الذين يمسكون بزمام الأمور. وكما يلاحظ بقوة: 'الآخرون هم أسياد المكان'. وإن كان هو من أهالى الضفة وبوسعة أن يقوم بهذه الزيارة فهو يروي ببلاغة كيف أن بقية الفلسطينيين (حوإلى 3.5 مليون نسمة) هم لاجئون من مناطق 1948 وبالتالى لا يمكنهم العودة في ظل الوضع الراهن.
إنه لأمر حتمي أن يكون في كتاب البرغوثي قدرٌ من السياسة، لكنه لايقدمها لنا في آية لحظة من قبيل التجريد أو الدوافع الأيديولوجية. كل ما هو سياسي في الكتاب ناجم عن الأوضاع المعيشية الحقيقية في حياة الفلسطينيين المحاطة بقيود تتعلق بالإقامة والرحيل. فبالنسبة لمعظم شعوب الأرض الذين هم مواطنون لديهم جوازات سفر وبوسعهم السفر بحرية دون تفكير في هويتهم طوال الوقت، فإن مسألة السفر والإقامة تعدّ أمرا مفروغا منه. بينما هي أمر مشحون بتوتر عظيم لدي الفلسطينيين الذين لا دولة لهم، والذين، وإن امتلك كثير منهم جوازات سفر كملايين اللاجئين المتناثرين في كافة أرجاء العالم العربي وأوروبا وأستراليا والأمريكتين الشمالية والجنوبية، فإنهم يحملون وزر كونهم مقتَلَعين وبالتإلى غرباء.
إن هذا الواقع جعل نص البرغوثي حافلا بالهموم، من نوع أين يمكنه أو لا يمكنه أن يقيم؟ وكم يمكنه البقاء؟ ومتي عليه أن يغادر؟ والأقسي من ذلك كله ماذا يمكن أن يحدث في غيابه؟ :يموت شقيقه 'منيف' موتا قاسيا وغير ضروري في فرنسا لأن أحدا لا يستطيع أو لا يرغب في تقديم المساعدة. وتحوم في أجواء الكتاب طول الوقت شخصيات ثقافية مرموقة كالروائي غسان كنفاني ورسام الكاريكاتير ناجي العلي اللذين ماتا اغتيالا، مما يذكّرنا بأن الفلسطيني مهما كان موهوبا أو مرموقا يظل عرضة للموت المفاجيء والاختفاء الذي لا يمكن تفسيره. من هنا هذه النغمة الموجعة الحزينة في هذا الكتاب لكنها في الوقت نفسه نغمة عفية وإيجابية. حقا إن ما يعطي هذا الكتاب تفرده وأصالته المفعمة بالصدق والتي لا تخطئها العين هو نسيجه الشعري الذي يؤكد قوة الحياة.
إن كتابة البرغوثي، وبشكل مدهش حقا، كتابة تخلو من المرارة فهو لا يُلقي خُطَباً تحريضية رنّانة ضد الإسرائيليين لما فعلوه، ولا يحطّ من شأن القيادة الفلسطينية جراء الترتيبات الفاضحة التي وافقت عليها وقبلتها علي الأرض. إنه على حق طبعا عندما يلاحظ أكثر من مرة أن المستوطنات تلطّخ وتشوه المشهد الطبيعي الفلسطيني ذا الانسياب اللطيف والجبلي في الغالب لكن هذا هو كل ما يفعله بالإضافة إلى ملاحظته لحقائق يزعج صانعي السلام المفترَضين أن يتعاملوا معها.
إنها ليست قليلة أبدا هذه المفارقة عندما ينقّب البرغوثي عن جذور اشتقاق اسم عائلته (رغم أني لا أمتلك معلومات ثابتة حول هذا الأمر فإنني أعتقد أن عائلة البرغوثي هي أكبر عائلة في فلسطين على الإطلاق، ويصل عدد أفرادها إلى 25 ألف نسمة). إنه لا يتهرب من حقيقة أن اسمهم يبدو مشتقا من 'البرغوث' وهذه التفصيلة الناجمة عن التواضع تمنح السرد بعدا أكثر إنسانية وشجناً وعذوبة.
أن التميز الأساسي لكتاب رأيت رام الله هو في كونه سجلا للخسارة في ذروة العودة ولمّ الشمل، ومقاومة البرغوثي المستمرة لأسباب خساراته وتفنيدها هي التي تضفي على شعره معناه العميق وماديته الملموسة وعلى روايته كثافتها وتماسكها.
'الاحتلال'، يقول البرغوثي، خلق أجيالا عليها أن تحب حبيباً مجهولاً، نائياً، عسيراً، محاطاً بالحرّاس وبالأسوار وبالرؤوس النووية وبالرعب الأملس'! لهذا فهو في قصائده كما في نثره يسعى إلى تحطم الحوائط، إلى تجنّب الحرّاس، من أجل الوصول إلى فلسطين التي تخصّه والتي يجدها في رام الله، رام الله التي كانت يوما ضاحية خضراء هادئة لمدينة القدس وأصبحت في السنوات الأخيرة مركزا للحياة المدنية الفلسطينية تتمتع باستقلالية نسبية ومقدار معقول من النشاط الثقافي وعدد من السكان مطّرد النمو. في هذه المدينة التي يعيد اكتشافها وتصويرها بحيوية يلتقي البرغوثي الشاعر المشرد بذاته مجددا، فقط ليرمي نفسة مرة أخرى في أشكال جديدة من الغربة:
'يكفي أن يواجه المرء تجربة الاقتلاع الأولى حتي يصبح مقتلَعا من هنا إلى الأبديّة'!
وهكذا، فبالرغم من الفرح ولحظات النشوة التي يحملها هذا النص، فإنه في جوهره يستحضر المنفى لا العودة. وهذه النغمة الشخصية هي بالضبط ما حافظت عليه الترجمة الممتازة التي تقدمها أهداف سويف لقراء اللغة الإنجليزية.
هذا كتاب يجسد لنا التجربة الفلسطينية بشكل يؤنسنها ويعطيها، بأسلوبه الجديد، معنىً جديداً.
إدوارد سعيد
نيويورك، آب أغسطس 2000
http://mouridbarghouti.net/mouridweb/ara...mallah.htm