ماجد عبدالهادي
صحافي في قناة الجزيرة يهز رتابة اللغة
ماجد عبدالهادي: لست مصاباً بمرض الحنين وأوجاعه
الدوحة - أحمد الوحيدي | 2012-01-07
يخطو نحو عتبة الخمسين، لكنه لا يزال يذكر ذلك الفتى الذي أثار فضوله اجتماع العائلة حول المذياع، أدار آلة التسجيل وسجل «هنا صوت فلسطين.. هنا صوت العاصفة» مفاجئا خاله الذي اعتقد لوهلة أن صوت الفتى الغض هو صوت المذيع الذي أجهده البحث عنه. كانت تلك تجربة إذاعية أولى للمبدع الإعلامي ماجد عطا عبدالهادي، ومن يومها وما قبلها كان قد قطع بلادا بعيدة، بعد أن أطل على الدنيا من شرفة عالية هي مخيم للاجئين الفلسطينيين في الدهيشة قرب بيت لحم بفلسطين المحتلة، عاين في السنة الخامسة من عمره جموع النازحين تبكي وطنا «ضائعا قد يعود»، فيما هي تيمم بعيدا باتجاه المنافي. مناف أو أماكن كثيرة كان صاحب التقارير الإعلامية الأكثر شفافية وبلاغة، قد حل فيها وعنها ارتحل، ولعل ارتحاله الدائم كان سببا لعقدة اللاحنين عنده «للحنين» حاول فك لغزه مرة وعندما أعياه عد بيوتاً سكنها، وطال تعدادها -ذات مساء- حتى خلد للنوم.
في سلته كثير من الحكايا، نثر بعضها نصوصا إبداعية وقصصا قصيرة، وأخرى ينثرها يوميا على قناة الجزيرة في تقارير صحافية تحاكي الصورة أحيانا وتشعرنها أحيانا أخرى، وتستلبها شفافية سرده أحايين كثيرة. اشتبك مع السياسة مبكرا، كيف لا وهو الفتى الفلسطيني، الذي كان شاهدا ذات نكسة على أهله وجيرانه يبكون هزيمة عام 1967، وبدأ رحلة المنافي الطويلة، عايش حروبا صحافيا شاهدا ومؤرخا، لكنه قبلها عايش حروبا أخرى ربما في ريعان شبابه كان له بندقية قبل أن يصبح له بعد ذلك ميكروفوناً. وفي اشتباكه مع السياسة أو النضال، انضوى تحت عباءة اليسار الفلسطيني، مخالفا توجه الوالد (اليميني) الذي عاينه صبيا يمتشق بندقيته وييمم وجهه شطر لبنان فدائيا، وفي ذهاب الأب وإيابه من لبنان كان يعود محملا بالمجلات التي كان يقبل عليها الفتى ماجد بنهم، لكن أجمل ما حمل كان في عام 75 عندما عاد بصحف ومجلات كلها تحمل خبرا واحدا: استشهاد الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، شغفته نصوص صاحب «عائد إلى حيفا» وجرب أن يكون شاعرا لكنه ضل طريقه إلى السرد والقصة، وهما الطريق الإبداعي لكنفاني وما تبقى له.
خرج من عباءة اليسار لكنه ظل أمينا لمثله, إذ أصبح صحافيا، وفي تغطياته في ساحة الحروب من ليبيا إلى غزة وأفغانستان ظل يتمثل قيم الانحياز للإنسان ومعاناته، ولا عجب بعد ذلك أن يحمل ثوار سوريا لافتات تحمل اسمه باعتباره رمزا لمناصرة قضاياهم في تقارير تقترب من وجعهم, وتحمل أحيانا عنهم كثيرا من أوجاعهم، يتقمص فيها هو دور الراوي.
وفي وقت يتجادل فيه «نخبويون إعلاميون» عن ماهية ما يقدمه عبدالهادي، في تقاريره التلفزيونية ويذهب بعضهم إلى اعتباره أدباً يخرق هيبة لغة الصحافة، يرد بسطاء وثائرون بانتصارهم للغة «تؤدب» الصورة، وتهز رتابة لغة إعلامية محنطة.
في تقاريره الصحافية، ينحاز عبدالهادي إلى لغة تأخذ من الأدب استعارته، ومن اللغة مخيلة تضيف صورا إضافية، إلى صورة يكتب لها فيمنحها مزيدا من التأثير والبلاغة روافده في ذلك كله خلفيته الأدبية ومرجعياته الثقافية التي توسع رؤية الحدث.
في جعبة ماجد عبدالهادي الإعلامي في قناة الجزيرة كثير من الحكايات، « العرب» التقت معه وكان هذا الحوار عن قرب:
ثمة إبداع كثير «مهدور» في تقاريرك الصحافية، إلى أي مدى ما زلت تقبض على نص الطفولة الأول، وهل هو «مهدور» بدوره، وماذا تذكر عن الطفل الذي يتعثر في الدهيشة وحواري الزرقاء؟
- قلت طفلا يتعثر، وأظنه وصفا مناسبا لحالي، فأنا فعلا عشت «طفولة متعثرة»، ها أنا أتجاوز عتبة الخمسين، ولا أحس بحنين يجتاحني أو يراودني إلى أي مكان، ذلك أنه لا مكان في حياتي أطلت فيه الإقامة أكثر من خمس سنوات باستثناء الدوحة التي أقيم فيها الآن.
يدهشني أحيانا حديث البعض عن حنينهم إلى أمكنة ما، ويثيرني أنه لا يعتريني مثل ذلك الحنين، أعني لست مصابا بذلك المرض ووجعه، هذا التساؤل قادني ذات يوم وفي بواكير شبابي وكنت بين الصحو والنوم، إلى أن أعد البيوت التي سكنتها وبدأت أعد, بيت أول وثان في الدهيشة، ثالث في الزرقاء, رابع في سوريا، وعندما وصلت إلى العدد 27 توقفت عن العد، أدركتني إغفاءة ونمت، ولما أكمل العد بعد، كانت هذه محاولة في بواكير الشباب لفك لغز اللاحنين إلى مكان.
بصورة ما يشعرني تعدد الأماكن في حياتي، وترحالي الطويل -إلى حد كبير- بأنني «ترجمة لمفهوم المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد «عن اللامكان» أو خارج المكان، فمنذ سن مبكرة عايشت هذا الشتات المكاني، وهنا أقدم جزءا لسيرة مكانية لي، أشرفت على العالم عبر إطلالة أولى في «مخيم الدهيشة « للاجئين الفلسطينيين بالقرب من بيت لحم، ولما لم تمض خمسة أعوام حتى كنت أنزح مع أبناء شعبي إثر حرب الأيام الستة ونكسة يونيو عام 67، وكانت الوجهة إلى مدينة الزرقاء في الأردن، لم أمض هناك أكثر من خمسة أعوام أخرى، بعدها كانت سوريا، عدت ثانية إلى الأردن، وبين البلاد تلك بلاد بعيدة وكثيرة أيضا طوفت فيها، وها أنا في الدوحة، منذ عشرة أعوام، ولا أدري ما إذا كنت قد ألقيت عصا الترحال.
ممتلئ بأسباب الرحيل
على حد تعبير محمود درويش فإنه «ممتلئ بأسباب الرحيل» ماذا عن أسبابك أنت؟
- أما الترحال الطفولي فكان لاعتبارات متعلقة بعمل الوالد وانتماءاته السياسية، وهي باختزال شديد سيرة التشرد والشتات بكل ما فيها, سيرة أنا فيها أسير على خطى الوالد (عطا) الذي تشتت بحكم فلسطينيته أولا وانتمائه السياسي ثانيا -كما أشرت- وها أنا أكمل سيرة الشتات عنه أيضا، وهنا لا أستطيع القول عن فترة ما إنها كانت طفولتي وحتى لو قلت إنها كانت في الزرقاء أو سوريا، أو مخيم الدهيشة، يبرز سؤال آخر ما إذا كانت هناك طفولة حقيقية أم لا, فأنا الأخ الأكبر للعائلة, وأنت تعلم أن الابن الأكبر في العائلة الفلسطينية هو المشروع الاقتصادي لها ويجب أن يكون رجلا منذ الثالثة من عمره!
مع «صاحب رجال تحت الشمس»
لكن ما أذكره جيدا أن أبي كان مجرد فدائي في صفوف الثورة الفلسطينية, لم يكن صاحب منصب في منظمة التحرير الفلسطينية، كان فدائيا وحسب، ومع كل إجازة من لبنان كان يأتيني بمجموعة من المجلات والجرائد وكنت وقتها في الثالثة عشرة من عمري,
أذكر أنني كنت أقبل على هذه المجلات وأقرأها بنهم عال،
لا أذكر كيف كان يأتيني
بهذه المجلات لكن الحدث المفصلي الذي أذكره هنا أنه جاءني بمجموعة من المجلات ذات مرة لا أذكر الآن أسماءها، بيد أنني أعي جيدا أن موضوعها كان واحدا, وهو اغتيال الشهيد غسان كنفاني, كان ذلك في عام 75، كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بغسان كنفاني,
أعني بنصه في هذه
المجلات وما نشر عنه وعن نصوصه.
في ذلك العام حاولت محاولة بسيطة لكتابة الشعر, كنت أتوهم في نفسي مشروع شاعر -كان كلام أطفال- لكن تلك الحادثة كانت مفصلية في أن أصاب بعد ذلك بهوس الكتابة والقراءة.
يساري في فصيل فلسطيني
ماذا عن مراجع وعيك السياسي الأول، واشتباكك مع قضايا التغيير؟
- انتميت مبكرا إلى فصيل يساري فلسطيني بارز كنت في الصفوف الإعدادية، وكما هو معلوم فإن اليسار الفلسطيني ربما كان معنيا أكثر من غيره بتثقيف كوادره والاهتمام بالثقافة عموما، في تلك الأجواء تعرفت على أدبيات اليسار، في هذه المرحلة قرأت كل ما كتبه غسان كنفاني وفي دراستي الجامعية قرأت للشاعر الفلسطيني محمود درويش وكنت ككل أبناء جيلي مأخوذا بشعره ولا أزال.
في برلين محطة أخرى
قبل برلين عشت تجربة الاجتياح الإسرائيلي للبنان كنت في الثانية والعشرين من عمري وقد أنهيت دراسة الإعلام من جامعة دمشق, عملت في مجلة «الهدف» في البداية, في الشؤون الإدارية, لم أقنعهم وقتها بأنني صحافي، وعندما كتبت أول تقرير ناداني بسام أبوشريف وكان مسؤولا عن المجلة وقتها وقال لي: هل ترغب في الذهاب إلى برلين؟ قلت موافقا نعم، وبعد شهر ذهبت إلى هناك.
في برلين كنت أمارس حياتي حقيقة بحس المناضل وليس بحس الصحافي, كنت أمشي في الشوارع وأنا أضع الكوفية الفلسطينية على كتفي, وكلما أصعد القطار يسألني الأطفال عن الكوفية فأقوم «منتشيا» بشرح القضية الفلسطينية لهم، وعندما يصل القطار إلى محطته الأخيرة يطالبونني بالنزول معهم، كنت أصادف صهاينة أيضا وأشتبك معهم, كانت فترة ليست مرتبطة بالصحافة بقدر ما كانت مرتبطة باستئناف المسيرة النضالية.
أظنها فترة الأحلام والزهو الثوري، كانت الفترة بعد خروجنا من لبنان عام 82 للتو، لم نكن قد انكسرنا بعد، كان هناك إحساس أنه قد هزمت منظمة التحرير عسكريا لكن هدف إنهائها لم يكن قد تحقق بعد, ضربت المنظمة لكنها بقيت حية.
خارج من عباءة اليسار
ما الذي بقي معك من أيديولوجيا اليسار العربي، وما الذي يحضر منها في عملك الإعلامي؟
-في عملي الصحافي، ما بقي من أيديولوجيا اليسار العربي معي هو قضية التعاطف مع الناس والانتصار لقضاياهم والوقوف معهم رغم انهيار الأيديولوجية الماركسية, لكن ما بشرت به من عدالة اجتماعية واحترام الإنسان وغيرها من المثل النبيلة ما زالت باقية حتى الآن، وعندما أكتب تقريري التلفزيوني عن أي منطقة من العالم سواء من غزة أو سوريا أو حتى الصومال فإنني لا أستطيع إلا أن أكون متعاطفا ومنحازا -وإن ليس بشكل سافر للناس- إلى المعذبين الذين يواجهون البطش، والقمع وآلته الوحشية.
الأيديولوجيا لدي إذن لاحقة لروح الثورة، التي هي سابقة للانتماء الفكري والأيديولوجي، حتما لم تنته هذه الروح انكسرت في محطات ما، لكنها لم تنته.
وما قبل ثورات الربيع العربي كان كل الطامحين للتغيير في حالة يأس أو هم على حافة اليأس، بيد أن هذه الثورات أحيت هذه الروح في دواخل كثير من أبناء جيلنا، الجيل الذي عايش النكبة والنكسة وقائمة طويلة من هزائم متوالية. لا يزال حاضرا أمام عيني مشاهد بكاء أقاربي وجيراني بسبب الهزيمة، ما زلت أستذكر حوادث سبتمبر ونتائجها، بشكل ما عايشت حرب أكتوبر عام 73 وشاركت في حصار 82 وهذه هي شخصيتي التي أسهمت في تشكيلها جملة من الحروب منذ 67 وحتى احتلال العراق.
كنت هناك في بغداد, تعلن «الآن بدأت الحرب», أية مشاعر كانت تنتابك وأنت تشاهد احتلالا كالذي حصل لبلدك وبدل أن تكون لاجئا في الحرب الجديدة كنت مؤرخا وشاهدا؟
- كنت مزيجا من المشاعر المتناقضة، أولها كان إنسانيا صرفا كنت خائفا، خوفا شخصيا على الحياة، فأنت في مدينة تقصف بألفي صاروخ يوميا، ماذا أقول الآن عن تلك اللحظات (...) نعم كنت أحيانا أرتجف خوفا، لكن هناك شعرة فاصلة بين أن تسيطر على خوفك أو أن يسيطر عليك.
وفي المرة الأولى التي قصفت فيها بغداد وكنت أول من يعلن ذلك على الهواء مباشرة، كنت متيقنا ومنتظرا اللحظة، كان هناك رهان أن تقصف بغداد تلك الليلة, وكان لدي يقين تام بأنها ستقصف بعد انتهاء المهلة التي حددها بوش لصدام, وكنت جاهزا وعلى الهواء, ومنذ أن سقط أول صاروخ على بغداد بعد ثوان قليلة كنت على الهواء. كان مطلوبا أن أقول جملة واحدة وسهلة «الآن بدأت الحرب على بغداد» الجملة بسيطة وسهلة, ولكن عندما سمعت نفسي كم مرة قلت: «الآن» أدركت كم كنت متلعثما، وفي الثواني التي صعدت فيها على السطح للبث كان الصاروخ الثاني قد سقط. ورغم أنني عشت حروبا في أماكن كثيرة، لكن الدوي الذي أحدثه سقوط الصاروخ كان شيئا غير مسبوق في حياتي، كان مخيفا بكل ما تعنيه الكلمة، كانت هناك مشاعر قومية, هناك بلد عربي وليس أي بلد يدمر ويحتل، بالموازاة مع ذلك كان هناك نظام ديكتاتوري يتهاوى ويسقط, كثير من العراقيين كانوا ينتظرون سقوطه, كنت أتجادل مع أصدقاء عراقيين يقولون: «متى يأتي الأميركان ليخلصونا» وكنت أرد: «أنتم لا تدركون بعد كم هو قاس الاحتلال» كانوا يقولون «الاحتلال نحن قادرون على مواجهته» أما نظام صدام «فلا نستطيع مواجهته» إضافة إلى مشاعر أخرى تعتريك أنك لا تستطيع قول كل شيء أيضا, كنت موقنا أن النظام سيسقط, مكثت في بغداد أربعة أشهر قبل الحرب وعايشت الناس في تلك الآونة, وعرفت الوضع بكل تفاصيله, والتقيت كل المسؤولين العراقيين باستثناء صدام حسين، كل شيء كان يقول لي إن هذه الحرب ستنتهي بإسقاط نظام صدام, لكنك لا تستطيع أن تقول ذلك.
التقرير الصحافي بوصفه إبداعاً
تكتب تقريرك الصحافي وكأنك تكتب قصيدة نثر، لماذا يلح عليك القصّ إلى هذا الحد لمقاربة أكثر الصور وجعا؟
- حلم طفولتي أن أكون شاعرا, ويكتشف الشخص مبكرا أن يكون شاعرا أولا يكون، وأنت تعرف أن محمود درويش كتب «أحن إلى خبز أمي» وهو في السادسة عشرة، أدركت أنني لا يمكن أن أكون شاعرا وليس عندي الملكات التي تؤهلني لذلك، لكنني أيضا رأيت في نفسي أنني يمكن أن أكون قاصا أو روائيا يستهويني الأدب والشعر, وفي تقريري الصحافي ما أشرت إليه من إلحاح أدبي علي يجد متنفسه في التقرير، هناك سبب آخر أنني لدي خبرة أربعة عشر عاما في الصحافة التلفزيونية, ومثلها في العمل الصحافي المقروء, وأول ما عملت في التلفزيون أدهشتني سطحية العمل التلفزيوني «عمل سطحي سريع» يفتقد إلى العمق، وهكذا عمل الأساس فيه الصورة, والثانوي هو الكلام، لم أطمح لتغيير هذا الوضع لكن كان دائما لدي إلحاح أن أعيد الاعتبار للكلمة في مواجهة الصورة، واللغة العربية قادرة على صنع صورها, فأمام صورة طفل شهيد أنت تستطيع باللغة العربية أن ترسم صورا عدة مع هذه الصورة, ومنذ البداية في عام 98 كانت هذه ملاحظتي, أنت تكتب تقريرا يذاع في دقيقتين ونصف أي بمعدل 300 كلمة مع المتحدثين, كيف يمكن أن تقول في 250 كلمة قصة 50 شهيدا سقطوا اليوم في سوريا, كيف يمكن أن تقول في 50 كلمة مشهد الحرب في غزة، يقولون الصور بليغة، لكن ماذا يضير الصور أن تكتسب مزيدا من التعبير بالكلمات، فأنا دائما مشدود أن أضيف إلى هذه الصور مزيدا من الكلمات التعبيرية المرتبطة بمعاناة الناس، ولست أخفي هذا الإحساس، نعم أنا دوما مسكون بمحاولة قراءة أخرى للصورة.
وللأسف يقابل هذا العمل بانتقاد شديد من الزملاء, باعتبار أن هذا أدب وليس صحافة, وأنه ليس مفهوما, لكن ما يشجعني هو الناس, ففي الوقت الذي يقول فيه زملاء وحتى أصدقاء إن هذا غير مفهوم تأتيني ردود من كثير من الناس, ردود مشجعة، وحجة أن الناس لا تفهم هذه اللغة لم أقتنع
بها, وتحديدا في زمن الاتصالات الاجتماعية التي تمكنك من قياس مدى نجاح عملك.
وما أحسست به خلال ثورات الربيع العربي أن هذا النوع من التقارير يجد صدى إيجابيا حتى من المتظاهرين, ولقد وصلتني ردود فعل إيجابية من متظاهرين في درعا وقرى نائية في سوريا, وصرت مقتنعا أكثر بجدوى هذا العمل.
يبدون أن نجاح هذا النوع من التقارير فتح شهية البعض لتقليده لكنه (البعض) وقع في الإنشائية، وحول التقرير إلى خطاب إنشائي لا يقول شيئا بموازاة الصورة؟
- لا أريد أن أتحدث عن الآخرين، وفيما يخصني أنا أكون مشدودا إلى أن تحوي هذه الـ350 كلمة أكبر كم من المعلومات الخبرية عن الحدث الذي أعالجه, ولكن بلغة ومفردات شفافة غير مستهلكة تعبر عني وعن الناس, وليست المفردات التي تصلح لأي تقرير, وما أعتقده هنا أن كل مشكلة وكل أزمة سياسية واجتماعية لها تناولها المختلف, وأميل إلى أن يأخذ التقرير شكل القصة, فالقصّ مغر ومثير للفضول، وجدير بالاستماع إليه.
عملك يحتاج إلى روافد إبداعية، فأنت تلجأ إلى التناص والاقتباس، كيف تحافظ على هذه الروافد, ألا تخشى الوقوع في التكرار ونضوب هذا المعجم اللغوي لديك؟
- أحاول قدر الإمكان خصوصا في المواضيع المتكررة ألا أكرر نفسي، معظم قراءاتي في الأدب, ولا أدري ما إذا كان ذلك إيجابيا في مثل عملي أم لا، وعندما أقرأ في التاريخ والسياسة فكأنما أكره نفسي على ذلك، ويستهويني ماركيز وكويللو وحنا مينة، وطبعا غسان كنفاني.
البحث عن غسان
استعدت غسان في برنامج بث على الجزيرة, ما الذي يمكن أن ترويه عن تلك التجربة؟
- في البحث عن غسان صادفتني تلك «المؤامرة» على تغييبه، كان غسان كما هو معلوم ناطقا باسم الجبهة الشعبية, لم أعثر على أية تسجيلات بصوته, كل ما عثرت عليه أقل من دقيقة, وكل وكالات الأنباء العالمية التي كانت تنقل تصريحاته ومؤتمراته، لم أجد في أرشيفها شيئا عنه. وما قدمته من نص في البرنامج هو نصوص غسان التي جمعت منها توليفة لسيرته الذاتية وقدمتها بصوتي.
قصص قصيرة
سقوط
استدرجوه إلى المستنقع، فظن أن شيئاً منه لن يتسخ سوى ثيابه، وفي اليوم الثاني بدأ يحس القاذورات تتسرب في مسامات جلده، وفي الثالث سقط منه شعر الرأس والجسد، وفي الرابع جاءت أمه... فأنكرته.
دمشق 1985
أبي
امتشق بندقيته، وقفز نحو الباب من دون أن ينظر إلى الخلف، فلحقت به الزوجة الشابة راجية متوسلة كي لا يتركها وحيدة مع «قطاطيم لحم» هم أبناؤها الخمسة. كان مثل جبل برشاقة نمر، وحين انفلت من بين توسلاتها، لمحت هي في عينيه شلالا من نبيذ البرتقال، فكفت عن البكاء، وعادت إلينا ثملة.
دمشق 1986
شطرنج
لم يعلن الوزير ردته. لم يقل إنه باع البيادق، ولكن الانكسار في عيني الحصان فضح عري القلعة، وأنبأ بالسوس في ناب الفيل، فأضحى الملك وحيداً ينتظر نقلة الموت الأخيرة.
رام الله 1998
شوق
كأنك شرفة دافئة على قمة جبل تكسوه الثلوج
كأني غيم يشتهي التساقط غزيرا
أو قطرة قطرة
على زجاج نافذتك..
لكن الريح تأبى حملي
حتى إلى ما دون بلاطك
بيروت 2007
صفحات من رواية لم تصدر بعد
في ذروة غيبوبته التقى صبري بعمه الوحيد الذي لم يكن قد رآه أو تعرف إليه واقعياً على الإطلاق, لقد وجد نفسه وجها لوجه أمام رجل يزعم أنه بشير عبدالحكيم الجمل، وليس فيه مجرد صفة واحدة تسمح بتشبيهه بالعم الذي غاب منذ اثنتين وخمسين سنة، وتشكلت ملامحه عبر حكايات بطولية، لا يكل كبار العائلة من تكرار سردها، ولا يمل أطفالهم من سماعها.
من أنت وماذا تريد مني؟! قال بشير أو صبري للشبح الذي ظهر أمامه فجأة، بعدما رأى في غيبوبته أن أمواجاً عاتية قد حطمت سفينة كان يستقلها ومعه عشرات الرجال والنساء والأطفال، ثم ألقت به وحيداً وسط مستنقع مظلم تتبخر مياهه بكثافة لتصبغ الهواء باللون الأزرق، ويتحول سريعاً إلى صحراء قاحلة.
- أنا عمك بشير يا بني، رد الشبح بصوت كسير.
- لا، لا يمكن أن تكون أنت عمي بشير، أجاب صبري جازماً:
- كيف لك أن تعرف يا بني، وأنت لم ترني من قبل؟
- جدي وأبي كانوا يقولون لي دوماً إن عمي بشير طويل القامة، عريض المنكبين، له عينان عسليتان تشعان كنجوم الصيف، وشعر فاحم السواد يتهدل غزيراً على جبهته العريضة. أما أنت، وأرجو أن تغفر لي جرأتي، فقزم أجرد ضئيل الكتفين، وبالكاد تستطيع النظر إلى أنفك، و...
- ما تقوله صحيح يا بني. نعم أنا كنت كذلك فعلاً، ولا أدري ماذا حدث لي حتى أمسيت على الشكل الذي تراه. كل ما أعرفه، أن ريحاً نتنة كانت تهب كل بضع سنوات من جهات الشرق والشمال والجنوب في آن معاً، ولا تتركني إلا بعد أن اضمحل جسدي. إن أكثر ما أخشاه الآن هو أن تواصل هذه الريح هبوبها حتى أتلاشى تماماً.
هنا أخذ شبح العم بشير يتوارى ويظهر ثم يتوارى ثانية وسط غمامات البخار الزرقاء، كأنه يقاوم قوة غير مرئية تسحبه عَنْوة من المكان. ولم تفلح نداءات ابن أخيه لاستكمال الحديث، إلا في انطلاق حنجرة هذا الأخير بهذيان سمعه زملاؤه وهم يحيطون به في السيارة التي نقلته إلى المستشفى، من دون أن يفهموه: «عمي، عمي بشير. توقف، انتظر، لحظة، لحظة واحدة، أرجوك».
لا حول ولا قوة إلا بالله، قال موظفو السفارة مستغربين لماذا يهذي السفير باسمه شخصياً على أنه اسم عمه، وتمتمت سميرة بعبارة الحمد لله، لأن الكلمات التي خرجت بصعوبة من حنجرة فارس أحلامها الغارق في لاوعيه، بدت لها إشارة مطمئنة إلى أنه حي يرزق، ويوشك على الاستيقاظ.
لدى وصول السيارة إلى مدخل قسم الطوارئ في المستشفى الواقع على بعد بضعة كيلومترات من مقر السفارة، كانت طبيبة شابة تقف هناك بقميصها الطبي الأبيض، وتراقب بتوتر ملحوظ حركة القدوم من الشارع الرئيسي.
هذه، على ما أظن، الدكتورة التي طلب مني السفير الاتصال بها، قالت سميرة لمن معها من موظفي السفارة، وهي تتمعن في الشابة ذات الملامح الأقرب إلى أن تكون أوروبية، بطولها الفارع وتقاطيع وجهها الدقيقة، وبياض بشرتها، وشعرها الأشقر المقصوص إلى ما فوق الكتفين.
أنا الدكتورة سلمى القاسم، قالت الطبيبة لزملاء السفير باقتضاب بدا متعمداً، ثم أردفت، وهي تلحق بممرضيّن اثنين حملاه إلى داخل المستشفى: اطمئنوا لا شيء يستدعي القلق. سيصحو إن شاء الله عما قليل.
ومم تعتقدين أنه يعاني دكتورة سلمى؟ سألها الحاج يسري، لدى إجرائها الفحص الأولي للمريض في قسم الطوارئ، فتظاهرت بأنها لم تسمع، وطلبت من الجميع مغادرة الغرفة، ثم همت بإغلاق الباب، لكنه استوقفها غير قادر على كظم غيظه: لماذا لا تجيبين على سؤالي يا دكتورة؟
- لأني منشغلة بما هو أهم كما ترى، ولأني لا أعرف درجة قرابتك من السفير، وما إذا كان يوافق على أن تعرف سبب وعكته أو لا. هل تكفي هذه الأسباب، أم تريد أن أترك المريض وأتفرغ للحديث معك؟ من فضلك أخرج، ودعني أقوم بعملي. في وسعك أن توجه ما لديك من أسئلة إلى صاحب الشأن حين يتعافى مما هو فيه.
فوجئ الحاج يسري وزملاؤه من موظفي السفارة الآخرين بفظاظة ردها، وخيم عليهم الذهول. أما هي فكانت تعرف أنها نجحت في أن تغلق باب الأسئلة المتوقعة عن مرض السفير أو عن علاقتها به، قبل أن تغلق باب الغرفة، وتصدر تعليماتها بسحب عينة من دمه وإرسالها سريعاً إلى المختبر.
- أتعبتني أيها المجنون. همست، لما وجدت نفسها وحيدة معه, ثم قبلت جبينه، وأمسكت برسغه لتجس نبضه، متوقعة أن تكون غيبوبته نوعاً من التسمم بارتفاع نسبة الليثيوم في الدم، وهو أمر يحدث عادة بسبب جرعة زائدة من العلاج المضاد للاكتئاب المرضي، أو بفعل تناول هذا الدواء نفسه متزامناً مع المشروبات المنبهة والتوتر وقلة الأكل.
|