ايها الدينيون، لا حرية في الحرية!
هذا
المقال أعجبني بصفة عامة خصوصًا في توضيحه للقهر الذي من الممكن أن يتعرض له أصحاب المذاهب الدينية من أصحاب المذاهب الأخرى رغم الاشتراك في مسمى الدين , ولكن الذي لم أهضمه تمامًا هو رأيه في فرض الحرية أو الديموقراطية بالقوة , وذلك للشك الذي يحوم دائمًا حول نوايا هؤلاء الذين يدعون فرض الديموقراطية وما يداخلها من أطماع كما هو الشأن في العراق مثلاً .. أترككم مع المقال وأتمنى أن تشاركوني الرأي حول فكرة أنه لا حرية في الحرية ..
Array
يعاني الفكر الديني التقليدي من تناقض مركب، ففي الوقت الذي ينادي فيه أتباعه بالحرية المذهبية والطائفية كمخرج من دائرة صراع عبثية بين القوى الدينية المتناحرة، سواء في المحيط القطري أو الإقليمي، إلا إنهم غير قادرين على وضعها موضع التطبيق والسريان الديناميكي داخل أوساطهم الدينية والاجتماعية ذاتها. فالدينيون الشيعة مثلا يطالبون حكوماتهم التي تعتنق المذاهب السنية باحترام المذهب الشيعي عقيدة وفقه، ومنحه حرية الحركة والنشاط في إطار سلطة الدولة ونظمها الإجرائية والعرفية المطبقة بحكم قوة القانون وفاعليته، بعنواني الحرية العقائدية والحقوق المشروعة، المعروفة بالبداهة والمقرة في معظم الأنظمة الحقوقية العالمية والتي تعارف عليها التشريع الدولي منذ 40 عاما مضت على الأقل. بينما الدينيون الشيعة في داخل دائرتهم الاجتماعية غير قادرين على تأصيل ما ينادون به بين تياراتهم المتعددة وتنوعهم المحلي! وذلك لسيطرة الدوغماتية واستفحالها في الأوساط الدينية الحاكمة، فإذا ما كانوا يقولون بحاكمية الدين وسيطرة الفقهاء وسيادة النص ومشروعيته المطلقة وأصابته للواقع بحكم الاجتهاد ونظرية النيابة عن المعصوم، فان الحكومات السنية التي تعود لمرجعية دينية هي الأخرى، تعمل بالرأي الشائع في مذاهبها والقاضي ببطلان عقائد الشيعة! وبالتالي فإنهم لا يستحقون ان يمارسوا معتقداتهم البطالة! وعلى هذا لا بد من محاصرتهم واضطهادهم حتى يذعنوا للمذهب الحق!
إن الدين منظومة اختيارية نسبية متفرعة، وتطبيقه قسرا على الآخرين سيولد حالة من الاحتقان الواسع النطاق، وستكون نتيجته صراع دائم ما بين أضداد متشاحنة، غير قابلة للتوليف، فعندما يطالب الشيعة السنة أو العكس باحترام العقيدة وإتاحة الفرصة أمام أتباع هذه الطائفة أو تلك للمشاركة في إدارة النظام العام والمؤسسات الرسمية، فان ذلك يعني مخالفة للأحكام والتعاليم العقائدية والفقهية السارية منذ مئات السنين، ذلك أن الدين ليس سوى أحكام جامدة غير مرنة، عقيدة مركزية لا يمكن أن تقبل بالآخر المخالف أو تتعايش به بأي صيغة من الصيغ، لان الدين – من وجهة نظر الدينيين - مشروع حياة لا يمكن أن يتجزأ أو يتناقض أو يشوبه الخلاف، ولهذا فانه غير قادر على التأسيس لنظام تضامني يجمع الأضداد ويمنحها حقوقا متساوية، لأنه في الأصل دين الفرد لا دين المؤسسة، دين الأمة لا دين النظام، إلا انه عندما يتحول إلى دين النظام فانه حتما سوف يتحول إلى نظام شمولي آحادي القواعد والأساس، وسيمعن في اضطهاد المخالفين بعناوين دينية شتى، يمكن ملاحظة ذلك وإدراكه في الحكم الكنسي في العصور الوسيطة وصراع المذاهب عبر تاريخ الإسلام.
عندما يطالب الشيعة بحقوقهم المشروعة فأنهم يجب أن لا يطالبوا بها من خلال الدين لان الدين حالة جامدة، متضادة، لا يمكن أن تتحول إلى نظام حقوقي لأنه متناقض متنافر، فأي دين يا ترى في الأساس يمكن أن يطبق؟ هل هو دين الإسلام أو المسيحية أو اليهودية؟ فان قيل الإسلام، فإسلام أي طائفة؟ السنة أم الشيعة؟ فان قيل دين الشيعة! أي مذهب منها؟ الإسماعيلية أو الزيدية أو الجعفرية؟ فان قيل الأخير! فأي مذهب فقهي، الإخباري أو الأصولي؟! فان قيل الأصولي! فأي مذهب منها؟ الشيخية أو العلوية أو الخوجية!؟ ثم وأي تيار سياسي من كل هذه الأضداد؟ من يؤمن بولاية الفقيه المطلقة أو الجزئية ؟ تيار ذلك الزعيم الديني أو ذلك المرجع المتنفذ؟!
كيف يجرؤ الشيعة على مطالبة الوهابيين الاعتراف بمذهبهم ومنحهم حقوقهم؟ ألا يعلمون أن مئات العلماء من أهل السنة على مر التاريخ كانوا ينظرون إلى الشيعة على انه روافض وأتباع مذهب مارق؟ كيف يمكن للسلفيين الوهابيين تجاهل أراء ومعتقدات تمتد وتتوسع منذ أكثر من 1400 عاما من الصراعات الدامية والتعاليم والآراء والفتاوى والمواقف التي تمتلئ بها مدونات التراث ومسطورات أرباب الملل والنحل؟ ثم كيف يطالب الشيعة بحقوقهم وهم في تعاليمهم الدينية ونظامهم الحقوقي متهمين بانتهاك حقوق المذاهب والطوائف الأخرى من داخل الحالة الإسلامية وخارجها؟
إن الدينيين لديهم عقيدة راسخة في فرض آرائهم ونظرتهم للكون والحياة والإنسان على الآخرين باعتبارها التعاليم المسددة من قبل السماء، ولو جيء بأي مجتمع يسيطرون عليه فأن أعضاءه سوف يصوتون بالنسبة العالية لصالح حكم ديني توتاليتاري متشدد، يطبق الأصول والقواعد الفقهية والعقائدية والنظرة الفلسفية للدين، عبر مذهب الأغلبية السائد واعتباره الممثل الوحيد للإسلام المنزل من قبل الله على نبيه (ص).
في مقابل ذلك وقبل غزو العراق عام 2003م، خرج رئيس إحدى الدول الغربية المعارضة لغزو العراق وقال "إن فرض الديمقراطية عمل غير ديمقراطي" ويعني بذلك إن فرض النظام الديمقراطي على إي شعب، بحد ذاته عمل غير ديمقراطي وغير أخلاقي!
في الواقع إن فرض الحرية قسرا على المجتمع أمر لا بد منه ويمثل قدرا لا بد من الوقوع فيه، حتى يمكن الخروج من المأزق التاريخي والخلل الإنساني الرهيب الذي تعاني منه الأمة الإسلامية منذ مئات السنين، ذلك إن فرض الحرية على الدينيين وغيرهم من المتزمتين والمتشددين والمتطرفين الحاكمين بالقوة والغلبة على شعوبهم لا يمثل بحد ذاته إجبارا على اعتناق عقيدة فكرية أو دينية معينة، إذ انه ليس سوى رفع يد الوصاية عن حركة الآلاف من الأفراد باسم الدين والقيم الدينية، حينها سوف يجد الدينيون التقليديون وغيرهم من أتباع الديانات والمذاهب الدينية والفكرية الفرصة المواتية الملائمة لممارسة شعائرهم وشعاراتهم، دون أن يجبروا الأطراف الأخرى على اعتناقها أو التقيد بها، فلن يكون بمقدور قوة ما فرض سلطتها على الأخرى كما كان يفعل الدينيون التقليديون، ذلك إن الحرية لا حرية فيها! ولا يمكن أن تخضع حرية طرف لحرية طرف آخر! في هذا الصدد طالبت الكاتبة المعروفة وجيهة الحويدر بان لا يخضع حق قيادة النساء السعوديات للتصويت الشعبي، باعتباره حقا مفروغا منه، إذ لا يجب أن تخضع الحقوق لرغبات الأفراد أو الجماعات أو حتى الشعوب! إن الحقوق الإنسانية ومنها الحق الأصيل والشرعي والطبيعي في الحرية لا يمكن أن يخضع لرغبة او نزعة ديغولية عارضة، من ناحية أخرى لا بد من فرض الحرية على الشعوب الموغلة بالتردي الإنساني والضياع الفكري والتخبط العقائدي، لأنها باختصار تعاني من فقدان الهوية وعدم القدرة على امتلاك زمام أنفسها وتوجيه أفرادها نحو التعامل الواعي الفعال مع الواقع نتيجة لسيطرة قيم الاضطهاد والقهر في ثقافتهم وسلوكهم، إذ لا بد من فرض الحرية عليهم قسرا وعدم إخضاع حق الحرية لأي قوة مهيمنة من داخل المجتمع أو خارجه.
إن فرض الحرية سيبدد السلطة الاستبدادية وسيجعل القوة المسيطرة السابقة جزء من كل، قوة من ضمن قوى أخرى عديدة، وستجبر على خوض المنافسة وفقا للمعطيات الواقعية المتاحة، وحينها سيفرز المجتمع قوى جديدة لا يمكن لإحداها إلغاء الأخرى، على إن كل منها سيكون بمقدورها التعايش مع الآخر المخالف باعتبار أن السلم الأهلي خيار استراتيجي وواقع لا مفر منه، ستكون هناك قوى دينية تقليدية وأخرى تجديدية، علمانيون وليبراليون، وسطيون ومتطرفون، يمينيون وشماليون، وكل تيار من هذه الأشياء والأضداد سيضطر للتعامل مع الآخر بروح الألفة والمنافسة الشريف والعداء ألحميمي، إذ إن منظومة الحرية بحتميتها الكونية ونواميسها الطبيعية ستفرض على الجميع التعايش وفقا لمعطيات الواقع ومستلزماته.
حينها سيتمتع كل أتباع مذهب بحقوقهم المشروعة، دون انتظار المذاهب الأخرى إقرارها من داخل منظومتها التشريعية الجامدة، إن فرض الحرية هو السبيل الوحيدة لمعالجة التخلف الحضاري والإنساني الذي تعيشه الشعوب المسلمة، خاصة وإنها لا تعني إلغاء أو تهميش قوة معينة كالتيار الديني التقليدي مثلا، بل إنها ببساطة ترفع وصايته عن المجتمع لتحوله إلى تيار يملك مؤسساته و بناه التحتية في نطاق من التعدد والتنوع، والدولة ستعتبر حينها مؤسسة تنظيمية، فان امسك بقيادتها ديني أو علماني أو ماركسي أو ليبرالي، لم تتراجع حقوق أو مكانة هذه القوة أو تلك، باعتبار إن الدولة ليست سوى مؤسسة تنظيم وإدارة، وانتفاء كونها جهاز تسلط واستبداد وارتهان لمصير وإرادة الآخرين، يمكن ملاحظة ذلك في الأنظمة السياسية الغربية، ففي الحياة السياسية لمعظم الدول الغربية أحزاب دينية مسيحية، إلا إنها عندما تمسك بالسلطة فإنها سوف تدير مؤسسة الحكم وفقا لقواعد قانونية ومعطيات دستورية واقتصادية وثقافية راسخة ومتينة، بحيث لا يمكنها إسقاط عقيدتها الدينية على مؤسسات النظام والمجتمع المدني، وليس لها أن تطيح بمعارضيها ومناوئيها من القوى العلمانية واللادينية، وفي نفس الوقت لهذه الأحزاب وأتباعها حرية التدين والمعتقد والنشاط في نطاق منظومة الحرية الحاكمة.
لا يجب أن تخضع الحرية للاختيار بعد اليوم كما كان في استفتاء 1979م عندما اختار الشعب الإيراني نظام ولاية الفقيه، رغم أن رجال الدين امسكوا بالسلطة في طهران وانتهى الأمر! والاستفتاء الشعبي ليس سوى استفتاء قسريا كان المقصود منه إضفاء الشرعية على النظام الجديد، إن ذلك الجيل من الشعب الإيراني الذي عاصر أحداث سقوط النظام الملكي وقيام نظام ولاية الفقيه ليس من حقه عبر هذا الاستفتاء أو غيره من وسائل إضفاء الشرعية تحديد مصير الأجيال القادمة من خلال التصويت على قبول نظام سياسي مركزي أو منظومة دينية أو ثقافية شمولية، وهذا ما تعاني منه الشعوب العربية والإسلامية بشكل عام وتجاوزته الشعوب الأوربية، فالأنظمة السياسية في الغرب قادرة على استيعاب كافة المتغيرات والتحولات على النقيض من الأنظمة السياسية في الدول الإسلامية والعربية، التي ترتكز على معطيات تاريخية وفقهية من الصعب تغييرها لكونها تحت سيطرة نخبة اجتماعية حاكمة ومسيطرة، ترتبط مصالحها وامتيازاتها ببقائها وديمومتها.
لا يجب أن تخضع الحرية للاستفتاء كما كان في عهد الطاغية صدام حسين، عندما اجري استفتاء على بقاءه على سدة الحكم في العراق 7 سنوات قادمة! ليدمر المزيد والمزيد من مدنية العراق وامكانيات شعبه! أو ما قام به الزعيم الثوري الفنزويلي تشافيز عندما اجري استفتاء على توليه منصب الرئيس مدى الحياة! وتحويل الاقتصاد الحر إلى النظام الاشتراكي! أو كما يطالب به بعض السعوديين من إجراء استفتاء شعبي في حق قيادة المرأة للسيارة! أو كما كان من أمر مجلس الأمة الكويتي، الذي يديره السلفيون والقبليون المتشددون، عندما حرموا المرأة الكويتية من حقوقها المشروعة في الترشيح والانتخاب في البرلمان والمجلس البلدي لأكثر من 40 عاما بدعوى مخالفة ذلك للشريعة الإسلامية! بيد إنها عقيدتهم في الشريعة وليست الشريعة الحقة المطلقة المتفق عليها بين كافة المذاهب، فكيف يا ترى يعمل بالظني على انه قطعي؟ ويركن إلى النسبي على انه قطعي؟ إن الإسلاميين الكويتيين يرومون فرض عقيدتهم الدينية الأحادية النسبية على الشعب الكويتي، وفي هذا استبداد صريح عبر آليات الديمقراطية، وذلك لخلل في منظومة التشريع في دولة الكويت، الأمر الذي أتاح للمتشددين فرصة السيطرة على السلطة التشريعية واضطهاد الإنسان بشعارات وعناوين دينية، لا يشاركهم في الاعتراف بها سوى أشباههم من المتطرفين والمتعصبين!
إن الدين حقيقة موضوعية في ثوابته القطعية وخطوطه التشريعية والعقائدية العامة، المتفق عليها والمعروفة بالبداهة غالبا، والتي تشكل جزء من المنظومة الدستورية، وفيما عدا ذلك ليست سوى حرية شخصية، ليس لها وجود سوى في معتقدات الأفراد وسلوك الجماعات، وليس له أن يتحول إلى بنود قسرية تسقط بالقهر على بقية فئات وشرائح الشعب، لأنها ليست سوى معتقدات وأفكار وأنظمة نسبية، داخل المذهب الواحد، فضلا عن المذاهب المتعددة، فكيف يصح تحويلها إلى مطلقة وإجبار الأفراد والتيارات على اعتناقها ؟ كيف يحول النسبي إلى مطلق سوى أن يكون ذلك بالفرض والإكراه والقمع؟
لا حرية في الحرية، فهي الخيار والقدر والمصير.
رائد قاسم
[/quote]