من نقد الخرافة إلى نقد الاغتراب ... فويرباخ وماركس امام "ما هو التنوير؟" لكانط
سامية الهواشـي
تمهيــــــــد
لقد أصبح مبحث التنوير محايثا للفكر الفلسفي الحديث والمعاصر باعتباره يتناقض مع كل الإرهاصات والعوائق التي تحول دون سيادة الإنسان على الطبيعة، ولارتباطه بالأفكار العلمية الجديدة فانه يمثل إشاعة لنور العلم ضد الأوهام والخرافات الدينية والقوى الرجعيّة وكل ما يمكن أن يشل أذهان الناس دون التطلع إلى حرية الفكر والبحث العلمي والفلسفي والسياسي أي الارتباط بالمعايير الحقوقية للدولة والمجتمع المدني . و لذلك فان فوكو مثلا إنما ينزّل السؤال عن الأنوار ضمن مساءلة عن ماهية الكائن الموجود: ما نحـن ؟ أي ما الإنسان ؟ . وعن المعرفة: فيما نفكر وأيّ وجهة يمكن أن تتخذها أفكارنا ؟. وأخيرا عن الفعل: ماذا نفعل نحن اليوم وما هي طبيعة أفعالنا ؟، هل نختارها دون محدّدات خارجية أم أن هناك ما يجعلنا نفعل ما نفعل لزوما ؟ . و يعتبر أن سؤال » ما التنوير؟ « معضلة فعلية فهو يقول : » لا يوجد من فلسفة لم تواجه بشكل مباشر أو غير مباشر هذا السؤال : ما هو هذا الحدث الذي نسميه الأنوار L’Aufklنrung ومن الذي حدد ولو من جهة على الأقل، ما نحن وفيمـا نفكر ، وماذا نفعل نحن الـيوم ؟ « . وبذلك يشمل هذا التنزيل كل مجالات الفلسفة التي تحتاج باستمرار لفعل التنوير: الوجود والمعرفة والعمل والممارسة، إنها في حاجة للوضوح والدقة وإضفاء المعنى والدلالة.
لقد كان مصدر فوكو في الإجابة عن هذا السؤال مقال كانط الشهير:"حول التنوير" في المجلة الشهرية البرلينيـة (Berlinische Monatsschrift) في ديسمبر 1784، الذي يقول عنــه: " ربما كان النص قصيرا . ولكن يبدو لي انه بواسطته دخلت في تاريخ الفكر خفية مسألة كانت الفلسفة الحديثة عاجزة عن الإجابة عنها ورغم ذلك فإنها لم تستطع ابدا التخلص منها". وان استعادة فوكو لسؤال ماهي الأنوار يندرج ضمن تاريخ طويل، وليس وليد القرن العشرين ، بل إن اهتمام مدرسة فرنكفورت في كتاب " جدل الأنوار" لهوركهايمر وادرنو في أوج الحرب العالمية الثانية 1942 و اهتمام هابرماس به في اركيولوجيا الرأي العام في أطروحته حول الفضاء العمومي ( 1958) ، يرتبط بأول تفكير نقدي في نص " ما هي الأنوار؟ " كان قد ظهر في كتابات فويرباخ حول الاغتراب الديني 1836-1843 التي اعتمدها ماركس لنقد الاغتراب الديني والاغتراب السياسي ولصياغة مفهوم مادي ونقدي عن التنوير. وهو ما نريد إن نتوقف عنده هنا .
وان إعادة البحث في السؤال ذاته من قبل فوكو ومن سبقه من أعضاء النظرية النقدية لتُبَيّنَ وجاهة هذا المشكل الفلسفي " العريق"، ونحن سنشير أولا إلى كانط مدشن الاستشكال، وبعد ذلك نستجلي نقد فويرباخ لكـانط ،الذي استعان به ماركس ، الذين كانا يشاطران كانط قيم التنوير وان طرحاه على أرضية مادية ، لنعيد طرح السؤال في عصرنا الذي يحتاج إلى تنوير جديد في تقدير الذين واصلوا الإيمان بقدرة العقل على التحرير مثل هابرماس ، أو الذي عليه أن يتوقف عن هذا المسعى ، كما يوحي بذلك كل نقاد التنوير الجذريين ومنهم فوكو.
1- غاية نقد كانط في " ما هي الانوار ؟ "
يجيب كانط في بداية نصّـه، انه: "خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسئول عنه. قصور يعني عجزه عن استعمال عقله دون إشراف الغير، قصور هو نفسه مسؤول عنه لأنّ سببه يكمن ليس في عيب في العـقل، بل في الافتقار إلى القرار والشجاعة في استعماله دون إشراف الغير . تجرّأ على استعمال عقلك: ذاك هو شعار الأنوار" .
لقد كان رهان كانط في ذلك المقال كما في كل فلسفته،عقلانيا ، لذلك فانه اشترط لتحقيق التنوير القدرة الذاتية على استعمال العقل .
ولذلك تخضع مسألة التنوير عنده لاعتبارين اثنين: اعتبار أول بمقتضاه يرتبط فعل التنوير بمستوى الفرق الانطو- بيولوجي الذي يجعل الإنسان بوصفه كائنا عاقلا ينتج الفرق بينه وبين الحيوان ، وينفتح بالتالي على فضاء تعقل العالم الخارجي بواسطة موضوعات المعرفة التي أنتجها العقل ذاته والتي تدين له بها الفيزياء ذاتها لعجزها على البحث في الطبيعة دون قوانينه الثابتة . وثانيا على الاستعمال العمومي للعقل وههنا تكمن الإجابة عن سؤال »ما التنوير ؟ « بالنسبة لكانط .
لقد اقتضت هذه الإجابة تدرجا مرحليا ارتبط فيه التنوير بمفهومين مركزيين همـــا " الخــروج " و" القصور" وكلاهما يمثل " شعار الأنوار" على حد قول كانط. إذ يمثل الخروج حالة القطع مع وضعية يتساوى فيها الوجودين الانساني والحيواني ، وان كانط يستدل على ذلك بقوله : " (....) وبعدما دفعوا بقطيعهم الى هذا المبلغ من الحمق ، واحتاطوا بعناية كي لا تجرؤ هذه المخلوقات الوديعة على ان تخطوا خطوة واحدة للخروج من الحظيرة التي حبسوها فيها ، فانهم يطلعونها على الخطر الذي يتهددها فيما لو غامرت بالخروج وحيدة " .
ان كل هذه المصطلحات انما تؤكد على فكرة مركزية واحدة : حالة الانسان في غياب العقل ودون استخدامه للملكة التي بها يستنير ويواجه العالم في " مغامرة " اثبات الذات . اذن لا بد من الخروج من حالة القصور هذه ، وقد ترتبط هذه " المغامرة " بمقتضيين :
مقتضى اول ينتج عن قرار الخروج وانه يستوجب تحطيما للقيود ومطالبة بالحرية . ويتطلب الفعلان كذلك " الجهد الخاص " و " المشي بخطى ثابتة " . وقد ينجم عن ذلك نزوع وجهد والم وما اقرب كانط في هذا المستوى من سجل الدلالات الرمزية والفلسفية التي ساقها افلاطون مثلا في " أمثولة الكهف " في" الجمهورية " والمتعلقة بتلك الالتفاتة الاليمة الى العالم المعقول التي تتطلب ثورة فكريـة ، والتي نجد لها نظائر كثيرة عند ديكارت فـــي " التأملات " او قبل ذلك لدى القديس أغسطينوس في " الاعترافات" .
اما المقتضى الثاني فيتمثل في الاضطلاع بمسؤولية المعرفة ، وانه يتعلق بالأداة الكامنة في الانسان أي العقل للانتقال من وضعية الوصاية الى الاسهام في بناء الواقع المادي العقلي. غير ان التشابه بين كانط وأغسطينوس و ديكارت وافلاطون ليس مطلقا لان هؤلاء وظفوا كل على طريقته الخاصة الثورة الفكرية العقلية لاجل الارتقاء الى عالم المثال ، او عالم الاله ،او عالم الفكرة الصادقة ، اين تكمن الحقيقة ، لغاية تحصيل الفضيلة، او المعرفة ، او اليقين ، في حين لم تكن غاية كانط نظرية فحسب بل ولاجل مقتضيات عملية تكمن في مجال ذلك الاستعمال العمومي والحر للعقل . فضمن أي فضاء يكمن الاستعمال الحر للعقل؟
يقول كانط بان التنوير يرتبط ضرورة بحرية استعمال العقل دون وصاية وهذه المسلمة ليست خاصة بهذا المقال بقدر ما تمثل الخيط الناظم لمؤلفاته النقدية الثلاثة " نقد العقل المحض " (1781) السابق للمقــال و " نقد العقل العملي" (1788) و " نقد ملكة الحكم " (1790) اللاحقين له.
غير ان هذا المقال يصدر عام 1784 وتحديدا بعد ان ضمن كانط كتابه الاول مذهبه في المعرفة والذي جنحت بعض موضوعاته للمادية وان أعطت الاولوية المعرفية للعقل. كما كان بصدد الاعداد للمؤلف الثاني الذي ضمنه نظريته الاخلاقية . فكان المقال ثريا بشكل مزدوج :
أولا يرتبط فيه قصور الإنسانية بالعجز عن الاستعمال الذاتي والمسؤول للعقل ومن ثمة فانه يؤسس لاصلاح طريقة التفكير.
وثانيّـا يرتبط فيه التنوير الذاتي بالحرية في الاستعمال العمومي للعقل : »أفهم بالاستعمال العام لعقلنا ذلك الاستعمال الذي يقوم به المرء بوصفه عالما أمام مجموع الجمهورالمتعلم « ، فالحرية تقطع ضرورة مع كل خضوع لتعاليم يمليها الآخر، ومع مبدأ الطاعة ،الذي ينبغي ان ينحصر في الاستعمال الخاص للعقل (ما يلزم به رجل الشرطة او رجل المال او الكاهن ) الذي يعده كانط من بين الحدود المضادة للانوار : » أسمي استعمالا خاصا ذاك الاستعمال الذي يحق للمرء ان يقوم به في مركز مدني او وظيفة معينة اسندت اليه « .
ولذلك يرتبط استعمال العقل حسب كانط بمهمة مزدوجة ،هي في الوقت ذاته فكرية ومؤسّساتية ، وكلاهما شرط لتحقيق انسانية الكائن الانساني على حد تعبير فوكو .
1-مهمة فكرية لان في استخدام العقل هناك خروج عن القصور وتحمل لمسؤولية ذاتية تجاه النفس ومسؤولية جماعية ترتبط بالإسهام في بناء الفضاء العمومي الذي ينتمي له الفرد ، لذك فان مدلول التنوير يرتبط بالنزوع الموضوعي للتطور لأجل بناء فضاء أفضل وأرقى . ولذلك يفترض الاستعمال العمومي للعقل " حرية لا حدود لها " في التفكير والتعبير . وفي نفس الوقت تنطوي المهمة الفكرية على ابعاد ايتيقية أخلاقية تجعل الاستجابة لمقتضيات العقل لا تتناقض مع الخضوع لمبدأ طاعة جديد ، لن يخلف ذلك القصور القديم ولن يثقل الضمير في شيء لانه يرتبط بفعل الالتزام تجاه مرجعية خارجية . هذا الالتزام الذي يستوجب الطاعة يتعلق بسجل ديني . فالكاهن وان كان عالما مطالب بطاعة تعاليم الكنيسة وبتعليم المنافع العلمية والأخلاقية ، مؤمنا بوجود »حقيقة خفية« يعجز هو ذاته وان كان عالما عن البحث فيها . وهو ما سيعود كانط للبحث فيه في " نقد العقل العملي " عندما افترض وجود " عالم العــقل " او " العالم المعقول " الذي يلزم العقل العملي الإيمان بوجوده، ومن هنا يكون مبدا الطاعة واجبا لا لان العقل يقتضيه بل لانه يرتبط بالتزام تجاه مرجعية خارجية هي الدين . وكل ما يفعله كانط هنا هو الحد من المعرفة لصالح الايمان ، فالعقائد مثلا (الايمان بالثالوث والعناية الالهية وقيام المسيح...الخ ) لا يمكن اثباتها ولا نفيها بقوة العقل بل لا يمكن الايمان بها الا على اساس الوحي الإلهي .
و رغم ذلك سيحاول كانط في كتاباته اللاحقة التخفيف من تبعية الاخلاق للدين مؤكدا بان الاخلاق لا تقوم على الدين بمعنى ان الدين لا يسبقها بل على العكس فان الدين يقوم على الاخلاق بمعنى ان الاخلاق هي التي تقود اليه .اما في المقال فتندرج مقولة الاخلاق ضمن اطار الواجب الاخلاقي الذي نستخلصه من الامر القطعي الذي تحدث عنه كانط في " أسس ميتافيزيقا الاخلاق " والذي يجعل من الفعل مطابقا لقانون كلي مفـاده : » اعمل كما لو كنت مشرع القانون« يشرّع له العقل الفاعل والحرّ ..ولان الانسان كائن عاقل فان عمله يفترض شرطين هما : الارادة والحرية بحيث يصبح القانون الاخلاقي ممارسة الارادة الحرة للواجـب . فكيف سيوظف كانط الاستجابة للواجب الاخلاقي عندما يتعلق الامر بالمسألة السياسية ؟
2- عندما يتعلق الأمر بتناول المسألة السياسية ، يطرح كانط أرائه ، المتعلقة بالمهمة المؤسساتية (السياسية) ، بشكل لم يخل من التباس . إذ يبدو للوهلة الأولى وكأنه اقرب إلى المنحى الديمقراطي سواء في تحديده لواجبات المواطن أو لحقوقه . فمن واجبات الفرد المواطن المطالبة بإصلاح بعض القوانين (دفع الضرائب) » لن يكون تصرفه مضادا لواجباته بصفته مواطن فيما لو عبّر باعتباره عالم وعلانية عن طريقته في النظر …« . ان الاساس الواقعي لاراء كانط من هذه الزاوية يقوم على معارضته للتعسف الاقطاعي بالحق البرجوازي النابع من حق الملكية الخاصة ، وفي نفس التوجه يطرح مسألة سيادة الشعب التي استقاها من روسو محافظا على نفس مصطلحاته : حق الشعب في تحقيق مصيره، سهر السلطة التشريعية » على ان يكون كل تحسين واقعي او يفترض انسجامه مع النظام المدني « ، اذ يفهم كانط الحرية المدنية على انها حق الفرد في عدم الامتثال الا للقوانين التي وافق عليها مسبقا والتي هي حق لا ينازعه فيه منازع ، وعندما يقول: "(...) ان هذا العصر هو عصر الانوار ، أو عصر فريديريك "، فذلك لكون فريديريك الثاني سمح للشعب بالحرية في استعمال عقولهم في كل ما يتعلق بضمائرهم ولكن عليهم بالطاعة ، وهذه الحرية لن تمس الاستقرار العام في شيء ، بمعنى انه عليها الا تضر الكيان السياسي (الدولة) . ان حرية العقل التي تحدث عنها كانط خاضعة للرقابة الذاتية التي تستمد من الخضوع لمبدا الطاعة ذاته سواءا تعلق الامر بسجل عقائدي او سياسي (عدم تعارض الحرية مع سيادة الدولة وسلطانها) ، ولذلك تختلف الحرية من هذا المنظور عن ذلك التصور الذي قد وجد عند بعض مفكري عصر الانوار الجذريين ، نقصد الذين دافعوا عن حرية مطلقة في التفكير والتعبير والحوار والمشاركة في تأسيس وبناء الفضاء العموميّ الذي ينتمي له الفرد ، وهم في الحقيقة قلة من الماديين لم يكن كانط ليقبلهم.
و لعله لذلك يسال كانط ويجيب في نفس الان : » هل نعيش حاليا في عصر التنويـر؟ ، فاليكم الجواب : "كلا بل في عصر يسير نحو الانوار" . ان علة ذلك تعود الى ان التنوير يشترط ضرورة مبدئين :
1-الاستعمال الذاتي للعقل والمشاركة في بناء الفضاء العمومي وبذلك يتحول كل فرد عقله مستنير الى عَالِمٍ تحكمه ارادته الحرة .
وان هذه المبادئ : الاستقلالية والارادة والحرية هي التي ستجعله من جهة يلتزم بالطاعة التي يقتضيها العقل تجاه النظام الذي انظوى تحته والذي هو نتاج لذلك العقل في بعديه النظري والعملي ، ومن جهة اخرى للدين الذي تُردُّ له الحقائق التي يعجز العقل عن البحث فيها والتي قد تجعله ، اذا بحث فيها ، لا ينتج حولها سوى الاوهام .
2 -ما من ضمان لتحقق التنوير ان لم يرتبط ضرورة بوفاق ضمني بين من بيده السلطة (الحاكم) وبين الشعب ، فالاستعمال العمومي للعقل موجه سياسيا دائما. ولكن ، مع ذلك ، يظل العائق الاساسي دون الاستعمال الحر للعقل كامنا في الفضاء المدني وذلك لان حرية التفكير لا تنفصل عن حرية التعبير : ولان عمل العقل يفترض حوارا عموميا فانه يستوجب إزاحة كل العوائق النظرية التي تقيد الفكر بالإلزام والطاعة سواء تعلق الأمر بالسجل الديني اللاهوتي او بسجل الممارسة أي طاعة الحاكم المستنير .ولعل هذا ما يجعل فلسفة كانط تتعرض لمجموع من الانتقادات من قبل تيارات فلسفية اخرى ، بدأت منذ حياته في العقد الأخير من القرن الثامن عشر مع فيخته ، وتواصلت لاحقا مع المذاهب المادية وخاصة مع فيوربــاخ وماركس.
2- نقد فيورباخ لماهية الديــــن
لقد تابع فيورباخ تقاليد مادية القرن الثامن عشر فساهم في تطوير النظرية المادية الحسية في المعرفـة . وان ما قام به ليتعارض مع التصور العقلاني المثالي الكانطي (ثنائية العقل والتجربة الحسية) باعتبار ان كل ما يوجد في الطبيعة وما يتجلى للانسان يمكن ادراكه في معزل عن الإيحاءات الغيبية للايمان الديني . يقول فويرباخ : " فلسفة كانط هي تناقض الذات والموضوع، الجوهر والوجود ، الفكر والكينونة ... ولكن ياله من تناقض ان نفصل الحقيقة عن الواقعية والواقعية عن الحقيقة " . ولا يعني ذلك ان فيورباخ لا يعترف بالوظيفة المعرفية الخاصة بالتفكير النظري وبقدرته على فهم اعمق للواقع بل انه يعتبر ان وظيفة الفكر تقوم في جمع المعطيات الحسية ومقارنتها والتمييز بينها وتصنيفها والكشف عن محتواها الخفي. فالتامل الحسي يظل ابدا معيارا ليقينية التفكير .
فبعد ان راينا ان التوجه العقلاني الذي كان كانط احد رواده يجعل العقل شرط تحقق انسانية الانسان والموجه لكل افعاله ، تقوم في المقابل مأْثرة فيورباخ على التفنيد العميق لمثالية كانط، تفنيدا مباشرا في عدة مستويات ، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - ان فويرباخ يقدم فهما انتروبولوجيا لجوهر الدين يطور به المذهب الالحادي لماديي القرنين السابع عشر والثامن عشر ، عكس كانط الذي يقوّض المعرفة لصالح الدين . فلقد اكد فويرباخ في أولى اطروحاته على ان تحقيق الدين يقتضي نفيه ، لذلك يتحول مذهب اللاهوت الى مذهب للانسان : " ان سر اللاهوت هو الانتروبولوجيا ، ان سر الفلسفة النظرية هي اللاهوت الذي ينقل دنيويا أي يُرَهّنُ ، يعيّنُ ويوقعنُ الجوهر الالاهي ، الذي كان الاخر ينفيه من هذا العالم الى ما ورائه، بدافع الجبن والحماقة " ، فالدين يعكس الخوف والإله لا يولد إلا في الآلام البشرية ولا ينتج إلا الجبن ، لذلك لابد من أن يصبح للدين محتوى واقعي يرفض من خلاله الإنسان التصور العيني عن ماهيته ليحقق على الأرض ما كان الدين يعد بتحقيقه في العالم الآخر الذي لا يعدو أن يكون مجرد وهم. وان نقد الدين يمتد من كانط ليشمل هيجل الذي ارتبط بفلسفة كانط الدينية خاصة في مؤلفه " الدين ضمن مجرد حدود العقل " (1793)، انه نقد موجه للدين بما هو تجسيد حسي لمفاهيم عقلية.
2-يدحض فيورباخ المذهب الكانطي في الأمر القطعي (المطلق والقبلي) ، فالانسان يتصرف وفقا للحساسية وتمظهراتها عديدة : حب الحياة والنزوع الى السعادة ويحكمها المبدأ الذاتي أي الانانية والمصلحة واللذة . فلئن كان الانسان يسير وفقا للضرورة فانه يتصرف بحرية حقيقية تختلف عن تلك التي تصورها كانط أي الممكنة خارج الزمان والمكان .
3-يدحض فيورباخ مذهب كانط في قبلية الزمان والمكان ، مستدلا بالتصور العلمي عن أنّ تعين الأشياء في المكان لا ينفصل عن تواليها في الزمان بل يفترض الإدراك الحسي للحيّز : " نفي المكان والزمان في الميتافيزيا ، في جوهر الأشياء ينتج في العمل أوخم العواقب. فقط من يتبنى على طول الخط وجهة نظر المكان والزمان يملك في الحياة أيضا الحس والمعنى العملي " . إذن ليس ثمة واقع خارج الزمان والمكان كما انه لا وجود لزمان أو مكان خارج الطبيعة ، ولذا فان المزاعم الدينية والمثالية باطلة .
لقد تجاوز فويرباخ الاعتقاد في أن الوجود مغاير للفكر وان الطبيعة تستمد من الفكر ومن المفهوم بناءها وحركتها ، فالطبيعة هي الحقيقة الأولية ، وان الفكر لمنبثق من الوجود لا العكس . وما الوجود الطبيعي للإنسان سوى وجود الإنسان المؤسس لواقعه . لقد اكتمل تشكل الرؤية المادية للطبيعة في فلسفة فويرباخ باعتبارها الواقع الوحيد ، وانه من خلال الإنسان فقط تحس الطبيعة ذاتها وتعقلها ، لذلك فانه يربط ما بين تأمل الطبيعة والإنسان وما بين الكشف عن أسرار الفلسفة .
هذا ما يتعارض بالتالي تماما مع هيجل الذي تمثل منظومة أفكاره امتدادا لكانط في تصوره للوجود على انه فكر منذ البداية . فالوجود بالنسبة لهيجل ليس الواقع والمعطى بل انه مغاير للفكر ، انه "مفهوم" . في المقابل يؤكد فيورباخ بان على الفلسفة ان تبدأ بالوجود لا الوجود المجرد في ذاته كما عند هيجل : " ان كائنا لا يفعل سوى ان يفكر ولا يفكر الا في التجريد لا يملك اطلاقا أي تمثيل عن الكائن ، عن الوجود ، وعن الواقع " . فان تبدأ الفلسفة بالوجود يعني الوجود العيني أي الطبيعة ، " فماهية الوجود بما هو وجود هي ماهية الطبيعـــة " وان الفلسفة الجديدة تستهدف الطبيعة التي تتحكم في الوجود الانساني .
لقد استمد فيورباخ جذور نقده من انشغالاته الاولى بدراسة فلاسفة القرن السابع عشر" من بيكون الى سبينوزا " وتخصيص كتاب لتلك الحقبة ، وتوجيه مجهوده النظري للبحث في ما استمدته الفلسفة المعاصرة له من فلسفة القرن السابع عشر. ولذلك فانه تمكن من دحض الفهم المثالي الذي يعتبر ان الفكر جوهر قائم خارج الانسان ومن تفنيد القول بان الفكر او العقل هو المحدد للوجود ، فكانت ماديته نقدية بشكل مزدوج لعقلانية كانط ولمثالية هيجل في الآن نفسه . ولقد اسهم هذا التوجه المادي في بناء فضاء جديد يتموضع فيه الانسان بعد ان افرغ الالاهي من كل معنى لاجل تحديد هوية الانسـان ، واكتشاف اللامحدود في المحدود لاجل تعريف الانسان الذي فقد عبر امتثاله التاريخي لتعاليم اللاهوت ماهيته وكونه الخصوصي . لا يعدو الالحاد الفيورباخي في الحقيقة ان يكون ضربا من " تأليه البشر"(anthropotheism)، بحيث يتوجه كل جهده النظري إلى السعي إلى استرجاع ماهية الانسان الدنيوية والواقعية.
ان كل ما قام به فيورباخ انما هو تحرير التفكير من النظرية او بالاحرى من التجريد الهيجلي وكذلك الكانطي من قبله : " جرّد : وضع جوهر الطبيعة خارج الطبيعة ، جوهر الانسان خارج الانسان ، جوهر الفكر خارج فعل الفكر" ، وذلك للعودة إلى العياني والواقعي " فالانسان الذي لا يهتم الا بجوهر التخيل والفكر المجرد ... ليس هو نفسه سوى كائن مجرد او خيالي " . لذلك كانت مهمة الفلسفة الجديدة ايجاد سبل تحرير الوجود النوعي للانسان ، وما نفي الاله الا تاكيد على حرية الانسان .
ترتبط راديكالية وجدية مشروع فويرباخ بنوعين من الإصلاح ، إصلاح داخلي للفلسفة وبمقتضاه يكون نفي الدين وتجاوز المسيحية ، واصلاح خارج حقل للفلسفة يوجه نحو الطبيعة ، وبالتالي الى ما يمكن ان يشبع الحاجيات الانسانية . ونحن يمكن ان نرصد ضمن هذا الاصلاح الثاني انبثاق ملامح حاجة جديدة : هي الحاجة للحرية السياسية ، وكذلك الحاجة السياسية ذاتها ، وهنا تحل السياسة محل الدين : بمعنى " ان تلمس السياسة لا فقط الراس ، ولكن بان تدخل الى حدود القلب " . وان في اقتضاء تحقق مبدأ الحرية استعادة للخط العام لتطور صياغة المطالبة بالحرية التي امتدت من كونها مطالبة بالانعتاق من سلطة اللاهوت على الانسان الى مطالبة بالانعتاق من سلطة اللاهوت على السياسة ، وبذلك تتغير حدود وآفاق نقد اللاهوت لتمتد الى السياسة. كما ان هذا النقد المتحول سينتهي الى نتائج نظرية على غاية من الاهمية لانها ستقود كارل ماركس لاحقا الى صياغة نظريته حول الدولة والمجتمع المدني .وبالتالي سيتمكن ماركس ، بفضل النقد الفيورباخي المتحرر تحررا داخليا فقط ، لان حدوده انما هي حدود التحرر الديني ، من تقديم تصور جديد لمسالة التنوير و الربط ما بين التحرر بمختلف اشكاله ومسألة التنويربمجملها .
3- ماركس ونقد الاغتراب الانساني
لقد استمدّ التطور الثري لفكر ماركس على الصعيدين النظري والسياسي مبادئه الاولى من الحركات الثورية الفكرية الالمانية من كانط الى هيقل . ولان شاغله انما هو " البحث عن الفكرة في الواقع ذاته " فانه كان مطالبا بالاستدارة عن الفلسفة المثالية التي ابتدات " بقراءة كانط وفيختة " وبامتحان وعيه الفلسفي القديم وتحديدا التخلص من التجريد الهيجلي . وهنا كان نقده لمبادئ فلسفة الحق الهيجلية ، حيث يؤكد بان كل نظرية هيجل السياسية قائمة على مبدأ التجريد ، فلم يعد الاشكال الفلسفي يُعنى بالمؤسسة السياسية في ذاتها بقدر ما يعمل على منح الدستور طابعا تجريديا ، تماشيا مع مسار الفكرة الموضوعية . اضافة الى نقده لتعامل هيجل مع مسألة الحق ومع الوجود الفعلي للحق كوجود حكومي سياسي غيّب الحريات الفردية للمواطنين وجعل المساواة تصبح وهما صعب التحقق .
غير ان هذه الاستدارة لم تمنعه ابدا من الاستفادة من مجموع الانساق الفلسفية الكبرى التي اطلع عليها زمن دراسته والتي وظفها في كل كتاباته تقريبا التي لم تخل من المضمون التنويري . فانشغال ماركس بمادية الذريين القدامى في اطروحته 1842 ، اسهم في تطوير اعتراضه على علم طبيعة الوعي بالذات في تعارضه مع العالم ، بحيث يصبح المضمون التنويري لاطروحته مبرهنا على ما استمده من مادية الذريين القدامى من انتصار للعقل ومن دفاع عن الحياة والحرية. فما استجلاه ماركس في " تنوير القدامى " في كل ما يتعلق بالذرة وما يعتبر من قبيل التعديلات الجوهرية لعلم الفيزياء ، سيتحول الى بحث في العالم الموضوعي الحسي والعياني المتعلق بالفرد باعتباره كائنا حركيا ومهيأ للمشاركة مع الآخرين لأجل بناء معالم وجوده الاجتماعي .
وبقدر ما يرتبط التنوير بالانتصار للعقل بقدر ما يقطع مع مقولة الضرورة والقوى المتحكمة في الوجـود . وانه في هذا المستوى بالذات يختلف جوهريا مع كانط . فالحرية بالنسبة لماركس هي قمة التطور في الطبيعة وبالتالي فهي دفاع عما يشرع لمبدأ الفكر الحر والفلسفة وضد كل اعتبار مثالي للعالم . وسيعود ماركس مجددا للبحث في البعد التنويري للمادية من القدامى الى المحدثين في مؤلفه " العائلة المقدســــة " (1845) ليؤكد بان هذا البعد ليس في نهاية الأمر سوى تأسيسا لوجود يتجاوز مظاهر الاغتراب سواء من نظام الطبيعة أو من سيطرة اللاهوت ، وبالتالي ما التنوير سوى كل أفق يؤسس لموقعة الإنسان المتحرر من قيود الدين في الطبيعة والمجتمع بحيث يكون الفرد من يصنع ظروفه ويحدد طبيعة وجوده في المجتمع كقوة مستقلة .
فلئن ربط كانط تحقق التنوير بضرورة الاستعمال الذاتي والمسؤول للعقل لبلوغ التحرر من الأوهام ومن المعارف الخاطئة. وتجلى التنوير بالنسبة لفويرباخ في التحرر من الدين وفي انفتاح الإنسان على الواقع وعلى الطبيعة ، فان ماركس سيستند إلى أهم مبدأ في مادية فويرباخ ، أي اكتشاف الاغتراب الديني " ليعثر على مفتاح كل التناقضات التي تعفن الفكر الانسانــي" بل انه سيذهب الى ابعد من هذا المستوى كاشفا عن الاسباب الرئيسية للبؤس الاجتماعي الذي يَسمُ الحياة الانسانية . فلئن اعتبر فيورباخ الدين انعكاسا للعلاقات المشوهة بين الناس بوصفه "ايمانا بالاشباح " (الاطروحة 18) ، فان ماركس قد بين علاقة الوعي الديني بالاضطهاد والاستغلال: " ان التعاسة الدينية هي في شطر منها تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة اخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة المخلوق المضطهد، روح عالم لا قلب له ، كما انه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح ، انه افيون الشعوب " . تتحدد من هذا المنظور طبيعة الانسان ذاته في كليتها وشمولها ، والتي تتطلب لا فقط تحررا دينيا بل وكذلك تحررا من الشروط المادية . ومن هنا سيكون نقده "فيما ابعد" من نقد فيورباخ وكانط معا .
ولتحقيق ذلك سيتجاوز ماركس " الفهم المثالي " الذي حملته مادية فيورباخ التي خلت ، حسب رأيـه ، من اهم شروط ومقومات الفلسفة المادية العملية، أي ادراك العنصر الاجتماعي والسياسي بصفتها العنصر الحاسم . فالبرغم من تاثر ماركس بمادية فيورباخ الانتروبولوجية وتقديره لنضاله ضدّ الفلسفة النظريـة، الا انه عاب عليه عدم تمكنه من بلوغ فهم مادي للحياة والوعي والاخلاق الاجتماعية ، وهو ما قصده بقوله : " ما ان توضع حقيقة الواقعة السياسية –الاجتماعية العصرية موضع النقد، وعموما ما ان يرتفع النقد الى معضلات انسانية حقة ، حتى يجد نفسه خارج الوضع الالماني القائـم ، والا سيكون عليه البحث عن موضوعه تحت او دون موضوعه ذاته " . وسيؤكد ماركس موقفه هذا لاحقا في اطروحاته حول فيورباخ عندما يقول بان كل ما فعله الفلاسفة هو تأويل العالم في حين كانوا مطالبين بتغييره، وبالتالي باستجلاء المعايير والشروط المنظمة لقوى الافراد الاجتماعية الخاصة ، مما يمكنهم من تجاوز مستوى التحرر من الدين كظاهرة من ظواهر الاغتراب الانساني الى المطالبة بتحرر انساني مكتمل. ولكن قبل ذلك اعتبر ماركس مع فويرباخ ان "نقد" الاغتراب الديني " انما هو شرط كل نقد ، على الاقل "بالنسبة إلى المانيا " كما جاء في نص1843 الشهير، ولذلك افترضت مسألة التنوير بالنسبة لماركس ، في كل هذه المرحلة – 1842-1844 ، الفكر الحر بما هو معيار تحقق الحرية الواقعية المرادفة للقدرة والاستقلالية ، وانه لا يمكن الحديث عن حرية التفكير في سجل الخضوع للدين ولتعاليم اللاهوت .
لذلك فان ماركس سيدرج مسألة نقد الدين ضمن مقالاته الصحفية وتحديدا في مقالاته الخاصة بنقد الرقابة التي تفرض خضوع الفلسفة والعقل لللاهوت والدين . فكان موضوع نقد ماركس مزدوجا:
1-نقد أساسه العجز عن الفصل بين المجالين الديني والسياسي والغاية منه الكشف عن دور وغاية الرقابة الفعلي أي منع تأسس الدولة على مبدأ العقل الحر .
2-لم يخرج حديث ماركس عن " العقل الحر " عن تيار العقلانية اللاهوتية الذي تطور في المانيا بفضل كانط ، الا انه يحدث فصلا ما بين قوانين الاخلاق العامة والعقلانية والتي تستمدها من ذاتها مما يجعلها غاية في ذاتها ، وما بين اخلاق الدين الوضعية والخاصة . بالنسبة لماركس عندما يخدم فعل ما غايات غريبة عنه فانه ينحط بالاخلاق من استقلاليتها إلى جعلها في مصاف الوسائل ، الامر الذي يعد اعتداءا وسرقة للكرامة الانسانيـة .
فاذا ما اعتبر الحاكم المسيحي بان الأخلاق تستوجب اعتبار من لا يستجيب لأخلاق المسيحية فرد لا أخلاقي فان في ذلك استعباد للفكر الإنساني يتناقض مع الأخلاق بما هي استقلالية وحرية . ويؤكد ماركس ذلك بقوله : " إذ لا يمكنكم القبول بهذا ، لانكم لا تريدون تأسيس دولة أساسها العقل الحرّ " . فكيف يمكن الانتصار إذن للدين المسيحي الذي يعد " المذهب المكتمل " والحال انه لا ينجم عنه سوى الكراهية والعدائية المناقضة لماهية الدين ولما هو خصوصي فيه ؟
من هنا سيوظف دفاع ماركس عن الفكر الحرّ والمستقل : أولا للقضاء على الوحدة بين اللاهوت والسياسة ، وستكون مبادؤه مستمدة مما وجده عند سبينوزا من فصل بين الحق واللاهوت ، وبين الدين والفلسفـة ، خاصة وانه قد تاكد لماركس قارئ " رسالة اللاهوت والسياسة " لسبينوزا بانه ما من تعارض بين حرية التفكير والتعبير وبين مبادئ الايمان . وثانيا للبرهنة على التناقض القائم بين طموح الفكر للتحرر وبين كل القوانين والتشريعات التي تريد السيطرة على الفضاء العمومي .
فدفاع ماركس عن الفكر الحرانما يستمد موضوعيته وصرامته من العقلانية الكانطية ولكنه يريد ان يكون وثيق الصلة بالفضاء الخاص لفكر الشعب ووعيه الذي يجب ان يتبلور في استقلالية عما تمليه الحكومة من معايير وضوابط . فاذا ما شرّع كانط للفكر الحر وللاستعمال العمومي للعقل شريطة ان لا يمس هذا الاستعمال الكيان السياسي واستقرار الدولة وسلطة الحاكم ، فان حرية الفكر بالنسبة لماركس انما هي بمثابة تأشيرة الدخول في صلب المعارضة والصراع المعلن ضد سيطرة الحكومة على "المجتمع المدني" وفق عبارة روسو ، و لذلك تحديدا كان نقده لهيجل بمثابة صياغة جديدة لشروط تحقق التحرر الانساني بعيدا عمـــــا " أتـاه " الماهية الفعلية للانسان في صلب التضاد الكامن بين ما تمليه الحكومة من معايير وضوابط وبين فكر الشعب ووعيه وتطلعه لبناء فضاء عمومي يستجيب لمطالبه في الحرية والعدالة والمساواة . وان الوصول الى هذا الافق التنويري سيجعل ماركس يبحث في الاسباب المباشرة للتأخر الالماني والتي يمثل مركزها تصورالدولة المستخلص من الفلسفة الهيجلية . لذلك فانه قد وجه أوّل نقده لمفهوم الدولة بما هي الفكرة الإلهية متجلية على الارض .
وسيتضمن هذا النقد نقدا مزدوجا :
1-نقد لمفهوم التنوير المستخلص من الفلسفات السياسية الليبرالية ، ويتضمن قراءة نقدية للثورة الفرنسيــة (1789) التي اعتبرها مجرد ثورة سياسية ، وبالتالي ثورة غير مكتملة ، ونقدا لاعلان حقوق الانسان الذي وان تمثلت غايته في ايجاد ضمانات لحقوق الانسان الفعلية في العدالة وفي الفعل والاخلاق وفي السياسة فانه لم يستهدف في النهاية مصلحة الكل بقدر ما نهض بالمصالح الخاصة بالدولة ككيان سياسي ، كما جذر الانفصال بين الحقوق المدنية والسياسية .
2-وسيتوقف ماركس عند نقد هيجل للتجريد الذي سقطت فيه الثورة الفرنسية التي زعزعت الاسس الفلسفية والسياسية والاقتصادية للدولة ، وللارادة العامة الروسوية التي مثلت نوعا من الاغتراب لماهية الانسان وجوهره العاقل والحر. ولكن ذلك لن يمنع ماركس ، ناقد فلسفة الحق الهيجلية ، من نقد السلطة التشريعية التي مثلت اعلى هرم الدولة السياسية والمتحكمة في الدستور وفي سن القوانين باعتبارها كذلك المسؤولة عن تجذير فكرة الوساطة الوهمية بين الدولة والمجتمع المدني ،قائلا : " الدولة والحكومة يوجدان في نفس الصف متماثلين والشعب يذوب في هذه المجالات والافراد يتموضعون من جهة اخرى " ، ليقر بالتالي عجز هيجل على ايجاد حل لواقع الانفصال بين الفضائين السياسي والاجتماعي الذي كان قد وجهه هيجل ذاته للثورة الفرنسية . كما ينقد ماركس تصور هيجل عن ضرورة تحقق دولة عقلية كغاية مطلقة في ذاتها تكون فيها السيادة مطلقة للنظام الملكي المتحكم في سن القوانين ، فيرتبط التنوير بتحرر المواطن من سلطة القانون لانه تحديدا من أوجده .
فلئن تأكد لنا بان هيجل لم يخرج عن عصر النقد الذي افتتحه كانط وبالتالي حافظ على القول بان الوجود الحقيقي هو العقل الذي يزيد وعي الناس بماهية ما يقومون به وما يشغلون به انفسهم مما يجعل العقل التنويري يمتدّ ليشمل مختلف اشكال الوعي الاجتماعي (الدين والسياسة والحق والاخلاق والفن) ، فان ماركس قد حافظ على نفس هذا الدور الوظيفي للعقل بل لقد اعتبره ما به يبرهن الانسان عن كونه الواعي والعاقل والفاعل وان ذلك تحديدا ما سيجعل تصوره يصبح توجها يشترط التحرر الانساني المكتمل من سيطرة الخطاب السياسي ومن سيطرة تعاليم الدين واللاهوت ومن نظام المصالح الخاصة وهنا تحديدا يكمن وجه الاختلاف بينه وبين كانط وهيجل .
فليس التنوير بالنسبة لماركس سوى شرط تحقق التحرر من النظام الاجتماعي الذي تنتصب فيه الحرية الدينية ذاتها سلطة على مستويي العقائد والممارسة ، بالإضافة الى التحرر من كل القيود التي تمنع الأفراد من حق المشاركة في العملية السياسية .و لذلك فان التحررانما يرتبط ضرورة بكل مبادئ التنوير مجتمعة : أي العدالة والمساواة وحرية التفكير والتعبير ، فحرية الفكر تعدّ نموذجا ومعيارا للحرية الإنسانية وإعلانا عن تغيير ضمني للواقع من اجل التأسيس للحياة العادلة والحرة .
4- تعقيبـــــات نقديّــــــة
ومما لا شك فيه ان مقولة التنويرذاتها تندرج ضمن هذا السياق تحديدا ، فليس التنوير كاتجاه فلسفي قبل أن يتحدد اجرائيا في ابعاده الاجتماعية او السياسية ، سوى اتجاها يتميز بفكرة التقدم والتفاؤل والحركية الواعية والاستعداد للتغيّر من اجل المشاركة في بناء الفضاء العمومي الذي اليه ينتمي الفرد والذي اسهم في انشائه عبر عملية تفكيره وتعقله واقامته للعلاقات مع الاخرين ومع النظام وتأسيسه للحوار . ليس التنوير سوى القطع مع الوجود السكوني الغير القابل للتطوّر والتقدّم المؤسّس للإرادة الحرّة .
ونحن اذا نظرنا إلى الامر تاريخيا فاننا يمكن ان نؤكد على ان التنوير وليد القرن السابع عشر الذي نشد بنية متينة وتسلسلا منطقيا في الافكار بنقد السكولائية وبالبحث في شروط بلوغ حلم ديكارت في السيطرة على الطبيعة باصلاح العلم وتنظيف العقل من رواسبه واوهامه واعتماد المنهج التجريبي الذي يعمل على حد تعبير بيكون على جمع اكبر عدد ممكن من الوقائع شانه في ذلك شان النملة التي تحمل الى وكرها كل ما تستطيع حمله مما تصادفه في طريقها ، وتوظيف كل الانتصارات العلمية التي قدمها كوبرنيك وكابلار وقاليلي في فهم بناء العالم ، فنؤكد بذلك قول برنار غروتزين : " دائرة المعارف هي صنيع عصر النور. ومن صنع الذهن الذي يخضع لقوانين عقل مبدع والذي يعترف بتفوق هذا العقل. ان العلم في خدمة العقل" . فاذا ما ارتبط التنويربمراهنة على قدرة العقل وعلى اولويته في عملية المعرفة كان نضالا ضد الاوهام والخرافات . وان جذور هذه القدرة ابتدأت منذ افلاطون وارسطو الذين نعتبرهما ولا شك من انصار العمل بمقتضى العقل ، وصولا الى كانط الذي وان اراد الحسم في السؤال الالح أي قدرة العقل على التفكير ونسبة الحقيقة في التفكير الا انه لم يخرج ابدا عن اطار نقد يمارسه العقل على الممارسة العقلية ذاتها في استعمالها غير المشروع لمقولات الذهن، وصولا الى هيجل في مسلمته بان " الواقع هو المعقول ، والمعقول هو الواقع " ، متجاوزا الثنائية الكانطية بين العقل والعالم الحسي ومشرعا لقيام اللاهوت النظري الذي كان مذهب التنوير منذ كانط يرفضه ، بالرغم من انه ينشأ عن العقل وعن الحرية كعاملين يُعَيّنَان مفهوم الطبيعة الانسانية الذي اصبح موضوع البحث في الفلسفة الحديثة وخاصة بعيدا عما تفترضه العقيدة المسيحية من احتقار عميق للانسان وخرافة ساطعة في فهمه .
وان التنوير في القرن الثامن عشر الذي مثلما ارتبطت حركة التنوير فيه بنقد الايديولوجيا الاقطاعية وتفنيد الاوهام والمعتقدات الدينية نضالا لفائدة الفكر العلمي ، فانه وخاصة في فرنسا ارتبط بتوجه مادي يتخلص من ربط المعرفة بالعقل وجعله ديدنها الوحيد ، للبحث في الاصل التجريبي للمعرفة (بول هولبـــاخ (1723-1789)، نظام الطبيعة) ولدور النزعة الحسية (كوندياك ، بحث في اصل المعارف الانسانية (1746) ، رسالة في المذاهب (1749)) وللبحث في القوى الحقيقية المحركة للانسان ولافكاره (لامتري ، المعجم التاريخي النقدي (1695-1697)) . وقد ارتبط إذن بنظرية مادية ذاتية تستغني عن اختزال حقيقة العالم في المقولات والقوانين الصورية للواقع . وبعد ان تقوّضت مقولة مطابقة العقل لذاته وللواقع ، فان رواد المادية لن ينضووا تحت لواء الدين كما فعل كانط موفرا للاعتقاد مكانا ، بل سيكون شاغلهم الكشف عن عرج الفلسفة المثالية والكشف عن مهمة الفيلسوف الكامنة في مقولة التعالي نفسها . ولكن سيكون لهذا التعالي مدلول ومعنى مختلفين عن المعنى التقليدي ، لانه تحرر من الحتمية ومن القوى الغيبية واللاهوتية وترسيخ لنضال الانسان ضدّ الدين وكل ميتافيزيقا ديكارت وسبينوزا وليبنيتز وكشف عن عجز العقل وحده على وضع قوانين الكون وهو ما انتهى اليه بيار بايل (1674-1707) عندما تحدث عن "العقل البشري المسكين" القاصر على فهم ما يسود الواقع من تناقضات (القاموس التاريخي والنقدي (1695-1697)).
وسيجد هذا البعد التنويري امتداده في القرن التاسع عشر حيث يرتبط بالنظم السياسية الجديدة الرافضة للمجتمعات الفردية النزعة والمناصرة للملكيات الخاصة ولنظام الامتيازات والبناء التراتبي، وبالتالي المدافعة على مبادئ الحرية والاستقلالية وحق الشعوب في تقرير مصائرها وهو ما سنجده مع كارل ماركس في مناشدته لتصور انساني مكتمل بعيدا عن التجريد الذي أتاه الماهية الفعلية للانسان في صلب التضاد الكامن ما بين التاريخ الظاهر والتاريخ الفعلي وفي الانفصال المحدث ما بين الثورات السياسية التي حققت تحررا سياسيا جزئيا دون ان تنفتح على الانشغالات الفعلية والكلية للأفراد التي كانت مطلب الثورات الاجتماعية . لذلك ارتبط المعنى التنويري في كتاباته بتغليب مرتبة الانسان في الكون ضد كل مرجعية دينية وباحداث تطابق ما بين مفهوم الفرد كمواطن في الدولة وما بين حقه في المشاركة في الحياة السياسية ، مما جعل التنوير يرتبط أساسا بحرية الفكر العمومي باعتباره نموذجا ومعيارا للحرية الانسانية . و سيجد هذا التوجه التنويري امتداده الى مشارف القرن العشرين في مجهود الحركات الثورية العالمية في الصراع من اجل الاشتراكية التي هي وريثة افكارالحرية و العدالة والمساواة التنويرية .
خـــــــــاتمــة
لقد اتخذت أفكار التنوير كأساس لها مبدأ الإيمان المطلق بالعلم وبالعقل الذي أنتـجه، بحيث يمكن تنظيم حياة الانسان وجعلها تصبح مدينة الله على الارض بعد ان يئس الانسان من بلوغ مدينة الله في السماء . وقد حاول ممثلو الاتجاه العقلاني بالاساس ، الذين يمكن ان نضع ضمنهم كانط وفورباخ وماركس رغم الفروق بينهم ، " ان يصحّحوا نقائض المجتمع القائم وان يغيروا اخلاقياته واساليبه وسياسته واسلوبه في الحياة بنشر آراء في الخير والعدالة والمعرفة العلمية " . اذ انه للتخلص من النظام القديم القائم كان لابد من نشر المعارف العلمية ، ولذلك ارتبط التنوير " بالتحولات العلمية والصناعية الكبرى التي عرفها تاريخ الانسانية لاول مرة وصحبتها قاعدة تغيير في طبيعة الانتاج والتسويق والعلاقات الاجتماعية الناجمة عن التغيرات الطبقية " . ولكن التنوير لم يشترط فقط هذه الواقعية العلمية المؤسسة على مبدأ العقل لانه وليد كل الثورات التي صارعت لاجل الخروج من الظلمات ومن الاسر ، اسر الخرافات والمعارف الخاطئة وتعاليم اللاهوت والاستبداد السياسـي .
بل انه يمكن ان نذهب مع نقاد التنوير التاريخيين إلى اعتبار ان تقدم الانوار في القرن التاسع عشر والقرن العشرين لم يفترض فحسب صراع المعرفة ضدّ الجهل والعقل ضد أوهامه بل تنوع واختلاف المعارف بل وحتى تعارضها فيما بينها ، وهو ما يترادف مع نسبة الغنى والثروة في الفئات الاجتماعية ومقدرتها على اقتناء المعارف التكنولوجية . وان مبرّرات طرح هذا المشكل الخارجة عن الفلسفة لارتباطها بتطوّر العلوم من ناحية ، و من ناحية ثانية بنزوع العقل البشري ذاته للتخلص من أوهامه المترسّبة من معارفه القديمة ، يجعل فهم التنويرالتاريخي لنص كانط حول التنوير ، انما يرتبط بجينيالوجيا المعارف .
..........................................................................................