{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
كانط وفلسفته النقدية
لايبنتز غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 409
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #1
كانط وفلسفته النقدية
[font=Book Antiqua][align=center]زكي نجيب محمود





[1]

أريد بهذا الفصل أن أبين أن الفلسفة عند " كانط " هى أولا وقبل كل شئ ، تحليل للقضايا ، وليست هى بالفلسفة التى يريد بها صاحبها أن يقول من عنده شيئاً إيجابياً عن العالم أو أى جزء منه ؛ الفلسفة عنده طريقة أكثر منها مادة ؛ وليس هذا القول استنتاجاً منا ، بل هو نقل مباشر عن نص صريح ذكره " كانط " نفسه فى مقدمة الطبعة الثانية من كتابه " نقد العقل الخالص " ، يصف به كتابه ذاك ، إذ يقول إنه إنما يحاول أن يلتمس الميتافيزيقا طريقة للبحث تجعلها علماً على غرار علمى الرياضة والطبيعة ، فالكتاب

" رسالة فى المنهج وليس هو بشرح لمذهب فى مادة العلم نفسه" (1) وقد كان حسبنا أن نلاحظ الأسماء التى أطلقها " كانط " على مؤلفاته ، كيف اشتملت على كلمة " نقد " ( نقد العقل الخالص ، نقد العقل العملى ، نقد الحكم ) لنعلم منذ اللحظة الأولى أنه قد أراد بكتبه تحليلا فى هذا المجال أو ذاك – لكننا قبل أن نحدد المراد بالطريقة " النقدية " عند كانط ، يحسن بنا أن نشرح فكرة " الفروض السابقة " (2) بقسميها النسبى والمطلق ، لأنها ستلقى ضوءا شديداً يعين على إدراك الطريقة النقدية إدراكا واضحاً جلياً .

كل عبارة ينطق بها الإنسان ليصف بها شيئاً مما يصادفه فى خبرته ، أو يعبر بها عن فكرة ، إنما تتضمن سؤالا سابقاً ألقاه المرء على نفسه ، أو ألقاه عليه شخص آخر ، فجاءت عبارته بمثابة الجواب على هذا السؤال ؛ فإذا نظرت إلى الساعة التى أمامى الآن فقلت : إنها الواحدة إلا عشر دقائق ، فذلك القول هو فى حقيقة أمره جواب لسؤال – ضمنى أو صريح – القيته على نفسى ، وهو : " كم الساعة الآن ؟ " وإذا قلت عن فلان إنه هو المسئول عن كسر الفنجان ، كان ذلك أيضاً جواباً لسؤال : " على من تقع التبعة فى كسر الفنجان ؟ " وهكذا . على أن السؤال بدوره يتضمن افتراضا سابقا عليه ، افتراض حقيقة معينة أو عقيدة بذاتها ، يستند إليها السائل فى سؤاله ، فلولا أننى أعلم أن الساعة التى أمامى تقيس الزمن وتخبر به ، لما أمكننى أن أسال ناظراً إليها : " كم الساعة الآن " ، ولولا أننى أعتقد فى أن الإنسان مسئول عن بعض أعماله ، لما أتيح لى أن أسأل عمن تقع عليه تبعة كسر الفنجان .

ويلاحظ أن العبارة التى تقولها تصف بها شيئا أو تعبر بها عن فكرة ، إنما يتوقف قول السامع لها على اعتقاده فى صدقها أما الفروض التى تنطوى عليها العبارة. أعنى تلك الفروض المتضمنة التى لولاها لما أمكن قول العبارة ، فليست مما يعتمد فى قبوله على كونه صادقا ، لأنه لو خضع " الفرض" إلى مقاييس الصدق والكذب، لما كان " فرضا " بل عبارة تصف هى الأخرى شيئاً أو تعبر عن فكرة . إن قولى: [1] لو كان عندى عشرة آلف جنيه [2] كنت أغنى فرد فى أسرتى " مؤلف من جزءين [1] فرض ، [2] حقيقة تترتب على الفرض ، فهاهنا يجوز لك أن تصف الجزء الثانى من العبارة بأنه صادق أو بأنه كاذب ، بناء على الحالة الواقعة فيما يختص بالثروة التى يملكها كل من أفراد أسرتى ، أما الجزء الأول من العبارة، وهو الفرض: " لو كان عندى " فليس هو بمتوقف فى قبوله على شئ من حالات الواقع ، وبالتالى لا يكون متوقفا فى قبوله على صدقه .

غير أن الفرض المتضمن فى العبارة التقريرية التى أصف بها شيئاً ، هو بدوره قد يكون متضمنا لفرض سابق عليه – وعندئذ يكون فرضاً نسبيا ، أى أنه يكون فرضا بالنسبة للعبارة المترتبة عليه ، لكنه يكون قضية تقريرية بالنسبة للفرض السابق عليه – أو قد يكون فرضا نهائيا لا يتضمن وراءه أى افتراض أسبق منه – وعندئذ يكون فرضا مطلقا ، أى أن هناك أقوالا كثيرة واعتقادات كثيرة متوقفة عليه ، أما هو فمفروض بذاته من غير استناد إلى فرض أعم منه . بعبارة أخرى ، إذا أمكن أن تسأل سؤالا عن الفرض المتضمن ، كان ذلك دليلا على أنه فرض نسبى ، معتمد على فروض أسبق منه ، إذ لولا أسبقية تلك الفروض الأخرى لما أمكن إلقاء السؤال ، وأما إذا رأيت استحالة أن يسأل عن الفرض المتضمن ، فاعلم أنه إذن لا بد أن يكون فرضا مطلقا لا يسبقه فرض آخر .

لو قال قائل – مثلا – حمى هذا المريض سببها الذباب ، فإن قوله يتضمن اعتقادا سابقا هو أن لهذه الظاهرة المعينة سبباً . فلو سألته : وما الذى أدراك أن لهذه الظاهرة سبباً بحيث رحت تبحث عنه ؟ فقد يجيبك بقوله : لأن لكل شئ سبباً ؛ عندئذ يكون المتكلم قد وصل إلى الفرض المطلق فى تفكيره فى هذه الناحية التى نتحدث عنها ، بدليل أنك لو عدت فسألته : وكيف عرفت أن لكل شئ سبباً ؟ أخذه الغضب أو أخذته الحيرة ، لأنه يرى الأمر عندئذ لا يحتمل سؤالا أى أنه فرض مطلق لا يتوقف على فرض سابق عليه .

والنقطة الهامة التى نريد إبرازها هنا ، هى أن الفروض المطلقة لا يسأل عنها ، لا لأننا نحاول السؤال فلا نجد الجواب ، بل لأنه تناقض منطقى أن نقول عن القول إنه افتراض مطلق ، ثم نظن فى الوقت نفسه أنه قابل للتعليل بما هو أعم منه وأشمل ؛ ومما هو جدير بالذكر فى هذا الصدد أن الناس يثير منهم الغيظ الشديد أن تسألهم أى سؤال عن فروضهم المطلقة ؛ فمثلا هنالك فرض مطلق تنبنى عليه أحكام كثيرة ، وهو افتراض أسبقية الله على مخلوقاته ، فهاهنا لو سألت : وكيف عرفت أن الله غير مسبوق بشئ آخر، غضب منك المسئول ، لأنه يحس أن سؤالك غير ذى موضوع ، إذ هو منصب على مالا يحتمل السؤال ، وهو لا يحتمل السؤال لأنه فرض مطلق بالنسبة إليه .

فإذا صدقنا فيما نرمى إلى تقريره فى هذا الكتاب ، وهو أن الفلسفة مهمتها التحليل، كان الكشف عن الفروض السابقة المطلقة التى ينطوى عليها تفكير الناس فى عصر من العصور ، هو الواجب الأول للفيلسوف ، فلن نمل من تكرار ما قلناه ، وهو أن الفيلسوف ليس من شأنه أن يقرر الحقائق عن العالم أو أى جزء منه ، لأن ذلك من شأن العلماء وحدهم ، كل عالم فى المجال الذى اختص فى بحثه ؛ وإنما ينحصر عمل الفيلسوف فى تحليل ما يقوله العلماء من قضايا ، تحليلا يبرز تكوينها وعناصرها ، ثم يظهر ما استبطن فى جوفها من فروض سابقة متضمنة ؛ ولعل سقراط أن يكون أول من استحق اسم الفيلسوف فى تاريخ الفكر ، إذ هو أول من اضطلع بمثل هذا التحليل على نحو صريح ، فجعل مهمته أن يأخذ من الناس أقوالهم وأحكامهم – وبخاصة فى مسائل الأخلاق – ليمضى فى تحليلها ، صاعدا من القول إلى الفرض المتضمن فيه ؟ ومن هذا الفرض إلى ما قبله ، وهكذا حتى يصل بمن يحاورهم إلى مرحلة فروضهم المطلقة ، فإذا ما سألهم عن الفروض المطلقة ، أخذهم الغضب ، ولعل معاصريه حين اتهموه بأنه " مفسد للشباب " ، كان ذلك أخص ما يقصدون إليه من المعانى ، وهو أنه يبيح لنفسه أن يضع الفروض الأولية المقبولة عند الناس فى غير حاجة إلى جدل أو نقاش ، يضعها موضع البحث ، فيشكك الشبان فيما لا يجوز لهم أن يتشككوا فيه .

إن الإنسان فى تفكيره العابر ، أعنى حين لا يأخذ نفسه بصرامة المنهج العلمى ، لا يكاد يدرك أن ما يقوله من عبارات منطوية على فروض سابقة ؛ فعند التفكير العابر ، لا تكون عبارة مثل قولنا : " الساعة تدل على الزمن " منطوية على شئ غير معناها هذا البسيط الظاهر ، مع أنها تنطوى على سؤال هو : " لماذا صنعت الساعة ؟ " ، وهذا السؤال بدوره ينطوى على فرض أسبق منه هو " أن لبعض الأشياء غايات مقصودة " وهذا بدوره يتضمن اعتقادا أسبق ، هو أن العالم ليس قوامه المصادفات ... وهكذا .

أقول إن التفكير العابر ، يأخذ أمثال هذه العبارات على أنها مكتفية بذاتها ، قائمة بنفسها ، وليس وراءها من شئ آخر ؛ وإما إذا أراد المفكر أن يمعن فى تحليل أفكاره – والتحليل شرط جوهرى للتفكير العلمى – فإنه لا بد أن يتعقب الفكرة إلى أصولها السابقة ، حتى ينفض كل فحواها وينثر كل مكنونها ، فيأمن بعد ذلك أن يقع فى خطأ. إنه يستحيل على الإنسان أن يكون صاحب تفكير علمى ، إلا إذا أخذ نفسه أخذاً شديداً فى ترتيب الأسئلة التى يلقيها فى موضوع بحثه ، فلأن تعرف أى سؤال تلقيه فى مجال بحثك ، وكيف يكون ترتيب أسئلتك ، هو فى الحقيقة معرفتك لخطوات السير المنتج المستقيم .

ومن وسائل التدريب على مثل هذا المنهج العلمى ، أن تعتاد حل الجملة إلى ما تنطوى عليه من أسئلة وفروض ؛ فذلك بمثابة فك الخيوط المعقدة فى حزمة متشابكة ، ثم ترتيب تلك الخيوط خيطا خيطا ، فعندئذ يتاح لك أن تعرف عناصر المشكلة التى أنت بصددها معرفة علمية مستنيرة ؛ وفى كتب المنطق مغالطة مشهورة ؛ هى مغالطة إدماج جملة أسئلة فى سؤال واحد ، تضليلا للشخص المسئول ؛ والمثل الذى تسوقه معظم الكتب المنطقية لهذه المغالطة ، هو أن يسأل سائل : " هل أقلعت عن ضرب زوجتك ؟ " – هذا سؤال واحد من وجهة نظر النحو واللغة ، لكنه جملة أسئلة عند المنطق ، فيمكن تحليله إلى الأسئلة الآتية : [1] هل لك زوجة ؟ [2 ] وهل تعودت ضربها ؟ [3 ] وهل فكرت فى الإقلاع عن ضربها ؟ [4] وهل بدأت فى تنفيذ ما اعتزمت عليه بفكرك ؟

والتحليل وحده لا يكفى ، بل لا بد من ترتيب العناصر ، لأن سؤالا من الأسئلة قد يتوقف على السؤال السابق ، ففى هذا المثل لا يجوز السؤال عن الإقلاع عن ضرب الزوجة، إلا إذا سبقه سؤال عما إذا كان هناك عادة ضربها ، وهذا بدوره لا يجوز إلقاؤه إلا إذا سبقه سؤال عن وجود زوجة لدى الشخص المسئول . هذا المثل الساذج ، هو فى الحقيقة صورة مصغرة بسيطة للتفكير العلمى المنهجى ؛ فالتفكير العلمى هو تفكير مرتب ، والترتيب معناه أن تضع عناصر المشكلة فى وضعها المنطقى سابقاً فلاحقاً ، ولا يتيسر ذلك بغير إخراج جميع العناصر الكامنة فى المشكلة التى نكون بصدد بحثها لكى نضع الخطوة المفترضة قبل الخطوة التى تنبنى على افتراضها .

ولو استطعنا أن نحلل أفكار شخص كما هى مبسوطة فى عباراته ، أو أفكار عصر كما هى قائمة فى إنتاجه من مؤلفات وما إليها ، بحيث نبرز الفروض الأولى التى يقوم عليها البناء كله ، كنا بذلك فلاسفة بالمعنى الذى نريد تقريره لكلمة " فيلسوف " وإذا قبلنا هذا المعنى للفلسفة ، ثم إذا جعلنا " الميتافيزيقا " هى مثل هذا التحليل الذى يخرج الفروض السابقة المنبثة فى التفكير العلمى ، كانت " الميتافيزيقا " عملا مقبولا من وجهة نظرنا ، إذ " الميتافيزيقا " بالمعنى المرفوض هى تلك المحاولات التى يحاول بها أصحابها أن ينبئوا بأحكام إيجابية عن أشياء غير محسوسة .

ولما كان " كانط " قد جعل مهمته الأولى أن يحلل قضايا العلم مثل هذا التحليل الذى أشرنا إليه ؛ كنا نعده فى طليعة فلاسفة التحليل ، وجدير بنا أن نلقى بعض الأضواء على ما أخذ " كانط " على نفسه أن يؤديه ، ليزداد هذا القول وضوحا فى ذهن القارئ .




[2]

كان الشائع منذ " ديكارت " أن العلوم ثلاثة ، هى : الرياضة وعلم الطبيعة والميتافيزيقا ، واستعرض " كانط " موقف هذه العلوم الثلاثة واختبر صلابة الأسس التى تقوم عليها ، فانتهى إلى نتيجة أيقن بصدقها ؛ وهى أن الرياضة وعلم الطبيعة كليهما يقومان على أسس صحيحة ، ولذلك تقدما ، وأما الميتافيزيقا فهى وحدها التى يقوم بناؤها على أساس واه متهافت ضعيف ، ولذلك رآها متعثرة الخطى ؛ فجعل مهمته أن يحلل الأسس التى قامت عليها الرياضة وعلم الطبيعة ، لعله يهتدى على ضوئها إلى الأساس الذى يمكن أن تقوم عليه الميتافيزيقا فتتقدم بمثل ما تقدما .

وجد " كانط " أن الرياضة قامت على أساس متعين منذ اليونان ، وأن علم الطبيعة كذلك قد قام على أساس سليم منذ جاليليو فى عهد النهضة الأوروبية ، فماذا صنع اليونان للرياضة ، وماذا صنع جاليليو لعلم الطبيعة ، لعلنا نستطيع أن نصطنع للميتافيزيقا مثل ما صنع ، فتستقيم لها الطريق كما استقلت طريق الرياضة والعلوم الطبيعية ؟

أما الرياضة فقد كشف اليونان لها عن طريق التقدم العلمى ، حين عالجوا مشكلانها لا على أساس أنها مسائل جزئية عملية تصادف الإنسان فى حياته اليومية ، بل عالجوها على أساس فروض افترضوها ، ثم حاولوا أن يستنبطوا منها كل ما يمكن استنباطه من نظريات ونتائج ؛ فليس علم الهندسة هو أن أرسم مثلثاً وأقيس أبعاد أضلاعه وانفراج زواياه ، بل هو افتراض مسلمات أولية ثم استنتاج بناء نظرى يتولد بالضرورة عن تلك المسلمات ، فانظر إلى كتاب إقليدس ، تجده قد بدأ الكتاب ببديهيات ومصادرات مسلم بها وتعريفات يشترطها لبعض ألفاظ هامة فى علم الهندسة ، كالنقطة والخط والسطح ، ثم أخذ بعد ذلك يستنتج النظريات التى تلزم عن تلك المقدمات المفروضة ؛ إن الهندسة لا تكون علماً حين نقول لأنفسنا : هذه قطعة أرض مثلثة الشكل ، فهلم نقس أبعادها ، بل تكون الهندسة علماً حين نبدأ بفرض قائلين : افرض أن ا ب ح مثلث ، وافرض أن ا ب = ا ح ، فماذا يترتب على هذا الفرض وذاك من نتائج ؟ وبكلمة مختصرة نقول إن اليونان قد جعلوا الرياضة علماً قائماً على أساس صحيح ، حين جعلوها بناء قائماً على فروض فيفرضون الفرض أولا ، ثم يسألون أسئلة محاولين الإجابة عنها أساس تلك الفروض .

وذلك بعينه ما وجده " جاليليو " فى علم الطبيعة حين أراد أن يرسى قواعده على أرض صلبة ؛ إذ وجد أن طريق التقدم العلمى فى هذا الميدان أيضا ، هو فى فرض الفروض ثم فى التفكير فى التجارب التى تثبتها ، وليس تقدم العلوم الطبيعية مرهونا بمشاهدات جزئية ثم البحث عما تدل عليه تلك المشاهدات .

والسمة المشتركة بين موقف اليونان إزاء الرياضة وموقف جاليليو إزاء علم الطبيعة ، هى أن كليهما لم يحاول بناء العلم بادئاً تدليله من مشاهدة الأشياء الجزئية التى تمر عابرة فى الحياة اليومية ، بل راح يسأل الأسئلة بناء على فروض يفرضها ، ثم يحاول الإجابة عنها ، فكأنما العلم هو من صميمه أسئلة يجاب عنها ؛ وفى ذلك قال " بيكون " بحق عن علم الطبيعة إنه استجواب للطبيعة ؛ فالعالم يفرض لنفسه فرضا ، ثم يلقى على الطبيعة سؤالا تلو سؤال ، ليرغمها على الإجابة له إن كان فرضه ذاك صوابا أو لم يكن ، وليست مهمة العالم عنده هى أن يقف إزاء والطبيعة موقفاً سلبيا ، يشاهد ما يفرضه عليه، ويسجله وهو قانع به ، وقد اعترف " كانط " بما هو مدين به لـ " بيكون " فى هذا الاتجاه . بل اتخذ عبارة مقتبسة من بيكون شعارا لكتابه فى " النقد "(3).

فالذى أراد " كانط " أن يدعو إليه ، هو أن طريق التقدم للميتافيزيقا مرهون كذلك كما هى الحال فى الرياضة والعلوم الطبيعية ـ بأن يعرف الميتافيزيقى كيف يفترض لنفسه الفروض ، ثم كيف يلقى الأسئلة على أساس تلك الفروض ، بطريقة منظمة منسقة ؛ بدل أن يمضى فى حجاج أعمى انتظارا لما قد يؤدى هذا الحجاج إليه من نتائج . ونعيد هذا الذى قلناه ، بعبارة " كانط " نفسه كما وردت فى مقدمته للطبعة الثانية من " نقد العقل الخالص " (4) . يقول: " فى الرياضة وعلم الطبيعة – وهما العلمان اللذان يقدم العقل فيهما معرفة نظرية – يتعين الهدف قبل المضى فى طريق البحث ، فالرياضة تفعل ذلك معتمدة على العقل الخالص ، وأما علم الطبيعة فلا بد له – إلى حدما على الأقل – أن يعول على مصادر أخرى للمعرفة غير العقل (5) .

" بدأت الرياضة سيرها على الطريق القويمة للعلم ، منذ أقدم العصور التى يمكن الرجوع إليها بتاريخ العقل البشرى ، وأعنى به العصر الذى عاش فيه ذلك الشعب العجيب، شعب اليونان ، ولا ينبغى لظان أن يظن بأن الأمر ]كان هينا ميسورا [ ... إذ لم يكن من اليسير على الرياضة أن تهتدى إلى طريق العلم ، أو قل إنه لم يكن من اليسير عليها أن تشق لنفسها طريقها السلطانى المستقيم ، بل الأمر على نقيض ذلك ، فعقيدتى هى أن الرياضة قد لبثت أمدا طويلا – وبخاصة عند المصريين – فى مرحلة التحسس ؛ ولا بد أن يكون التحول فى طريقها ]من طريق التحسس إلى الطريق العلمى [ قد جاء نتيجة

لا نقلاب أحدثته فكرة مواتية طرأت لواحد من الناس ، فاصطنع لها تجربة بعينها . فكان هذا ] أى ورود الفكرة أولا واصطناع التجربة لها ثانيا [ هو العلامة التى ميزت الطريق الذى لابد للعلم أن يبدأ السير فيه … إن التاريخ لم يحفظ لنا الوقت الذى حدثت فيه هذه الثورة العقلية – وهى أهم بكثير جدا من كشف الطريق حول رأس الرجاء الصالح – كذلك لم يحفظ لنا التاريخ من هو صاحب هذه الثورة الموافق … فلقد لمع شعار جديد من الضوء على عقل الرائد الأول ( وليكن هذا الرائد طاليس أو غيره ) الذى أقام البرهان على خصائص المثلث المتساوى الساقين" (6) .

فالطريقة الصحيحة التى التمسها ذلك الرائد الأول فى البرهان الرياضى ، لم تكن فى أن يرسم مثلثا أمامه ، ثم يبحث فى خصائصه التى يراها بعينيه ، بل هى أن تردعلى عقله فكرة بالنسبة إلى هذا المثلث ، ثم يسأل نفسه الأسئلة عما يترتب على هذه الفكرة من نتائج، على فرض أنها فكرة صحيحة ، وبعدئذ إذا ما رسم مثلثا أمامه ليثبت عليه ما قد رآه بعقله بادئ ذى بدء ، فلا يكون هذا المثلث المرسوم إلا بمثابة جزئية تمثل الفكرة التى سبقت إلى ذهنه ." ولبث العلم الطبيعى أمدا أطول بكثير جدا ]ممالبثته الرياضة [ حتى بدأ سيره فى الطريق السوية للعلم ؛ فالحق أن العلم الطبيعى لم يقض في هذه الطريق العلمية إلا قرنا ونصف قرن ، وكان ذلك منذ بيكون ، إذ اهتدى إلى هذا الكشف بفضل آرائه الفذة .. ففى حالة العلم الطبيعى أيضا، يمكن تفسير الكشف الجديد بأنه النتيجة المباغتة لثورة عقلية.. إن جاليليو حين أقام التجربة لكرات – كان قد سبق له تصميم أوزانها – بحيث تتدحرج هابطة على سطح منحدر ؛ وإن " تورشلى " حين جعل الهواء يحمل ثقلا – كان قد حسب مقداره بفكرة سابقة – وهو أن يكون الثقل مساويا لوزن عمود معين من الماء عندئذ أشرق شعاع من الضوء على دراسى الطبيعة ، إذ علموا أن العقل لا يدرك في الأشياء إلا ما أنتجه هو وفق خطة من وضعه … فلا بد للعقل أن يشق هو الطريق أولا بمبادئ يقيمها .. ثم يضطر الطبيعة بعد ذلك اضطراراً أن تجيب له عن أسئلة صاغها العقل نفسه ؛ فالملاحظات العابرة التى لا تتم وفق خطة سابقة مدبرة ، يستحيل أن تنتهى إلى قانون ضرورى ؛ فالقانون الضرورى]أى الذى تكون صحته مؤكدة يقينية [ لا يكشف عنه إلا العقل وحده " .

" أما الميتافيزيقا . فلم يواتها الحظ السعيد بعد ، لتبدأ سيرها فى طريق العلم المأمون. فترى الباحثين فى الميتافيزيقا أبعد ما يكونون عما يشبه إجماع الرأى ، مما يجعل الميتافيزيقا توشك أن تكون ميدانا للقتال . ولم ينجح أحد من المتقاتلين فى كسب شبر واحد من الأرض . وهذا يدل بغير شك على أن الطريقة التى اتبعتها الميتافيزيقا إلى الآن ، قد كانت مجرد خبط عشوائى . فما الذى اعترض سبيل الباحثين دون الكشف عن الطريق العلمى القويم فى هذا الميدان ؟ أيكون هذا الطريق مستحيلا كشفه على الإنسان ؟ . أم أننا أخفقنا حتى الآن ، ولكن هنالك من الدلائل ما يبرر لنا الأمل فى أننا إذا بذلنا جهداً جديداً ، فربما كنا أحسن حظا من أسلافنا فى ذلك ؟ " (7) .




[3]

بهذا الأمل كتب " كانط " كتابه فى " نقد العقل " إذ أراد به أن يمهد السبيل إلى ميتافيزيقا تقوم فى المستقبل خالية من أوزار الماضى وأخطائه ، إنه لم يرد بكتابه فى

" نقد العقل " أن يقدم تفكيراً ميتافيزيقيا إيجابياً ، بل أراد أن يتخذ منه أداة تعينه على كشف الطريق السوى للبحث الميتافيزيقى المنتج وهذا البحث الميتافيزيقى – كما قال فى المقدمة – إنما يدور حول موضوعات ثلاثة هى الله والحرية والخلود .

لقد بدأ " كانط " عمله هذا بوعد قطعه على نفسه ، وهو أن يترك الموضوعات الميتافيزيقية جانباً حتى يفرغ من تحليله لبناء العلم الرياضى وبناء العلم الطبيعى ، وبعدئذ يعود إلى البحث الميتافيزيقى ، ليقيمه على نفس الأسس التى رآها فى ذينك العلمين ؛ لكنه فرغ من " نقده " للرياضة وعلم الطبيعة ، ثم لم يتم ما كان قد وعد به من تشييد بناء الميتافيزيقا على غرارهما ، ولما سئل فى ذلك ، قال إنه وجد أن " النقد " هو نفسه الميتافيزيقا التى أرادها (8). – وهذا هو عندى بيت القصيد .

قام " كانط " بتحليل لقضايا الرياضة وقضايا العلوم الطبيعية ظناً منه أنها ستهديه إلى طريقة التفكير السديد فى القضايا الميتافيزيقية فتراه يقول فى مقدمة " نقد العقل " إن " محاولة تغيير طريقة البحث فى الميتافيزيقا حتى تكون على غرار الهندسة والطبيعة ، هى الغرض الرئيسى من هذا الكتاب " (9) . لكنه لا ينتهى من بحثه ذاك إلا وقد أدرك أن التحليل للقضايا العلمية فى الرياضة والطبيعة هى كل ما يرجوه الفيلسوف لنفسه ، ولا شئ غير ذاك ، فإن كان للميتافيزيقا معنى ، فهى تحليل القضايا العلمية .

ومن حسن الطالع أن " كانط " كان رجلا شديد الاهتمام بالتفصيلات فيما يتعرض له من أمور ؛ فلما قرر لنفسه أنه لا قيام لعلم إلا إذ ألقيت أسئلة معينة ، وأن الطريقة العلمية الدقيقة هى نفسها المهارة فى إلقاء الأسئلة ؛ ولما قرر لنفسه أن إلقاء الأسئلة يتضمن دائماً فروضاً ؛ ولما رأى أن الرياضة وعلم الطبيعة قد أصابا تقدماً حين عرفا كيف ينظمان إلقاء الأسئلة على أساس الفروض التى يفرضها أصحاب هذا العلم أو ذاك ؛ أقول إنه من حسن الطالع أن " كانط " حين رأى هذا كله فى علم الرياضة وعلم الطبيعة ، لم يكتف بمثل هذا التعميم فى القول ، بل راح يفصل القول تفصيلا شديداً فى الرياضة وعلم الطبيعة ، حتى استغرق كتابه كله ، وحتى ظن الناس أنه قد نسى موضوعه الأصلى ، وهو التماس الطريقة القويمة للبحث الميتافيزيقى المنتج ؛ راح فيلسوفنا يبحث بحثاً تفصيلياً فى الفروض الكائنة وراء البناء الرياضى والفروض الكائنة وراء بناء العلم الطبيعى ؛ راح يحلل القضية الرياضية والقضية الطبيعية تحليلا تفصيلياً دقيقاً ليتعقبها حتى الأساس الذى تقوم عليه هذه القضية أو تلك . ولما سئل آخر الأمر : وأين الميتافيزيقا فى هذا العمل كله؟ أجاب : إنها هى هذا التحليل نفسه .

ومما هو جدير بالملاحظة أن " كانط " قد اختصر القول فى تحليله لقضايا الرياضة، لأ لم يكن من علماء الرياضة ، أما علم الطبيعة فقد كان مادة اختصاصه إذ كان عالما فى الطبيعة من الطراز الأول فى عصره ، واشتغل بتدريسها مدة طويلة ، ولذلك تراه قد أفاض القول فى تحليله للقضية الطبيعية إفاضة لا تدع زيادة لمستزيد، لأنه هاهنا كان يجول فى ميدانه الذى يألف كل شئ فيه ، ما ظهر منه وما خفى على العين العابرة .

أطلق "كانط" اسم "التحليل النقدى" (10) على بحثه الخالص بتحليل قضايا العلم الطبيعى ، وردها إلى الفروض الكائنة وراءها ؛ وأعيد القول مرة أخرى لأهميته ، فأذكر أن " كانط " حين أجرى هذا البحث التحليلى فى قضايا العلم الطبيعى ، لم يقصد به إلى أن يكون بحثا ميتافيزيقيا ، بل أراد به أن يكون مفتاحا للميتافيزيقا ، أو منوالا ينسج عليه من أراد البحث فى الميتافيزيقا ؛ لكنه عاد آخر الأمر فغير وجهة نظره، إذ جعل هذا البحث النقدى نفسه هو بعينه البحث الميتافيزيقى الذى كان ينشده (11) . ولكن ماذا نقول فى الموضوعات الثلاثة التى كان قد جعلها عند بداية حديثه ، موضوع البحث الميتافيزيقى بصفة خاصة ، وأعنى بها : الله والحرية والخلود ؟ هل يجوز القول فيها أولا يجوز ؟

يجيب " كانط " على ذلك بأنها موضوعات يستحيل أن يستغنى الإنسان عن الحديث فيها ، لكنها خارجة عن حدود العقل النظرى ومستطاعه ، فإذا نحن جعلناها موضوع بحث نظرى عقلى علمى ، وقعنا فى متناقضات … يقول كانط فى مستهل كتابه " نقد العقل الخالص " ( فى الطبعة الثانية ) ما يأتى : " كتب على العقل الإنسانى أن يتسم بهذه السمة المميزة ، وهى أنه – فى جانب من جوانب علمه – مثقل بأسئلة ، ومحتوم عليه بحكم طبيعته نفسها ألا يهملها ؛ لكنه فى الوقت نفسه لا يستطيع الإجابة عنها ، لأنها تحاوز حدود قدراته كلها " (12) وإذا اضطر العقل إلى الرجوع إلى مبادئ تجاوز حدوده ، فهو بذلك " يطرح بنفسه فى الظلام والمتناقضات " (13) .

فكأنما يريد " كانط " أن يقول إن الحديث فى الموضوعات الميتافيزيقية بهذا المعنى الخاص ، وهى الله والحرية والخلود ، ممكن لكن إمكانه لا يكون عن طريق العقل النظرى ، لأن هذا العقل النظرى له حدود لا يستطيع مجاوزتها بغير أن " يطرح بنفسه فى الظلام والمتناقضات " – وها هنا تختلف الوضعية المنطقية عن " كانط " لأنه فى رأى هذا المذهب الوضعى المنطقى أن الحديث فى هذه الأمور وأمثالها غير مشروع بتاتا ، ما دمنا نريد بالحديث أن يكون منطقيا ، أى قابلا لأن يوصف بأنه صادق أو كاذب ؛ فإذا كان " كانط " قد سبق إلى القول باستحالة الميتافيزيقا على العقل النظرى ، فقد بنى تلك الاستحالة على أساس غير الأساس الذى ترفضها عليه الوضعية المنطقية ؛ فبينما الوضعية المنطقية ترفضها على أساس أن عبارتها ليست من الكلام المفهوم عند المنطق ومعاييره ، نرى " كانط " يرفضها على أساس أن العقل البشرى بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء ، وأنه إذا ما غامر فى مجال " الأشياء فى ذاتها " وقع فى المتناقضات ؛ وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية عنده حقيقة نفسية وليست هى بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعى المنطقى ؛ هى عند " كانط " حقيقة نفسية بمعنى أنه لو كان الإنسان على غير ما هو عليه فى إدراكه للأشياء ، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة ؛ هى مستحيلة الآن لأن العقل الإنسانى لم يخلق لإداركها ، كما لم تخلق العين لسماع الأصوات ؛ أما أصحاب المذهب الوضعى المنطقى فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنى بحكم ما اتفقنا عليه فى طرائق استعمال اللغة ؛ إنها أقوال لا تصف شيئاً هنا أو هناك ، بحيث يجوز لنا أن نسأل أيمكن حقا أن يدرك الإنسان هذا الشئ أم أن إدراكه مستحيل عليه .

ونحب بعد هذا الاستطراد أن نجمع شتات القول ، فنلخص ما أسلفناه فى هذه الفقرة فيما يأتى : يمكنك أن تجعل للميتافيزيقا عند " كانط " معنيين ، وهى عنده مستحيلة بأحد هذين المعنيين ، لكنها ممكنة بالمعنى الآخر ؛ هى مستحيلة على العقل النظرى العلمى إذا أريد بها البحث فيما هو فوق متناول التجربة البشرية ، وهى ممكنة إذا أريد بها تحليل القضايا العلمية تحليلا ينتهى بنا إلى إبراز الفروض التى تستند إليها تلك القضايا .

وقد بدأ " كانط " بالاعتراف بمعنى واحد لها ، وهو المعنى الأول ، وإذ كانت لفظة "الميتافيزيقا " عنده بادئ ذى بدء تعنى " مجموعة الأحكام الفلسفية كلها فيما عدا الأحكام المنطقية ؛ وذلك بعبارة أخرى معناه كل الأحكام التى لا تنبنى على الحدس التجريبى أو الحدس الرياضى " (14) ؛ لكنه بعد خوضه فى تحليل الأحكام العلمية – رياضية وطبيعية – انتهى إلى المعنى الثانى ، فأصبحت الميتافيزيقا بمعناها المجدى من الناحية العلمية ، هى مجرد تحليل القضايا العلمية .

فموقفنا إزاء " كانط " هو رفض للمعنى الأول ، لا على أساس أن الميتافيزيقا عندئذ تكون فوق مستطاع العقل الإنسانى ، بل على أساس أن أقوالها تكون فارغة من المعنى وتأباها قواعد تكوين اللغة ذاتها ؛ وقبول للمعنى الثانى ؛ فإن كانت كلمة " ميتافيزيقا " معناها " تحليل القضايا العلمية " موضوعها هو الذى قبلنا أن يكون عمل الفيلسوف . وسنبين فيما يلى طريقة " كانط " النقدية ، أى طريقته فى التحليل .




[4]

تبدأ الطريقة النقدية بالاعتراف بأن لدى الإنسان متفرقات من المعرفة ، فأنا أعلم مثلا أن هذا الجدار أبيض ، وأن 5 + 7 = 12 وأن جسمى له امتداد محدود فى المكان وهكذا ؛ إنها لا تريد أن تتشكك فى صدق ما نعلمه عن الدنيا الخارجية ، فليس البحث فى صدق العلم أو كذبه من شأنها ؛ بل هى تبدأ – كما قلنا – بقبول هذه الحقيقة الواقعة ، وهى أن الناس يعلمون كذا وكيت من القضايا عن دنياهم الخارجية ، فما هى الشروط الأولية التى أتاحت للإنسان أن يعلم ما يعلمه ؟ بعبارة أخرى تستطيع أن تقول إن القضية تنقسم إلى نوعين : قضية ابتدائية وقضية ثانوية، الأولى هى القضية التى تصور واقعة من وقائع العالم الخارجى ، كقولنا " الغربان سوداء " ، والثانية هى القضية التى تقرر علم الناس بقضية ابتدائية ، كقولنا : " الناس يعلمون أن الغربان سوداء " (15) ؛ القضية الابتدائية تقابل الحقيقة الخارجية مقابلة مباشرة ، وهى تصورها تصويرا قد يكون صوابا وقد يكون خطأ ، وأما القضية الثانوية فتشير إلى موقف الإنسان العرفانى إزاء حقيقة معينة ؛ والذى نقوله الآن : هو أن الطريقة النقدية عند " كانط " لا تعنى بالنوع الأول من القضايا ، بل تعنى بالنوع الثانى ، وهى تريد بالتحليل أن تكشف عن الظروف العرفانية الأولية التى أتاحت للإنسان أن يعلم ما يعلمه .

ومعلومات الإنسان على كثرتها يمكن حصر مصادرها فى مصدرين ، فهى إما جاءت إلى الإنسان خلال التجربة الحسية وإما أن تكون عنده غير معتمدة على تلك التجربة؛ أو بعبارة أخرى ، معلومات الإنسان إما بعدية أو قبلية ؛ وكل من هذين يعود فينقسم قسمين ، فهو إما تحليلى أو تركيبى .

وإذن فمعلومات الإنسان على كثرتها تقع فى أقسام أربعة ، تمثلها أربعة أنواع من القضايا ؛ فالقضية التى نعبر بها عن شئ نعلمه ، لاتخرج عن أن تكون واحدة مما يلى :

1- قضية قبلية تحليلية ، مثل قولنا " الأجسام ممتدة " فهذه معرفة قبلية لا تحتاج إلى خبرة حسية لكسبها ؛ لأن كلمة " الأجسام " نفسها لا يمكن فهمها بغير أن نعلم أن "الامتداد " جزء من معناها ؛ فكأننى إذا عرفت كلمة " الأجسام " وحدها وأدركت معناها، فقد عرفت بالتالى أنها " ممتدة " – وإذن فهى معرفة قبلية لأنها لا تعتمد على الخبرة الحسية ، وهى تحليلية لأن محمولها لا يضيف شيئاً إلى موضوعها ، أعنى أننا لا نقول بها شيئاً سوى أن نحلل الموضوع تحليلا يبرز بعض عناصر معناه .

2- قضية قبلية تركيبية ؛ مثل قولنا " كل المعادن تتمدد بالحرارة " فهى أولا تركيبية بمعنى أن المحمول فيها وهو " يتمدد بالحرارة " ليس جزءاً من المعنى الضرورى لكلمة " معادن " ؛ فليس يشترط العقل أن تكون المعادن مما يتمدد بالحرارة ، وإنما علم الإنسان عنها هذه الصفة بالخبرة والمشاهدة ، لكن الإنسان فى خبرته تلك ومشاهدته لم يستعرض كل أجزاء المعادن جزاءا جزءا ، بل اكتفى بقليل منها رآه يتمدد بالحرارة ، فعمم الحكم قائلا " كل المعادن يتمدد بالحرارة " فهو بهذا الحكم العام يحكم على أجزاء من المعادن لم تقع له فى خبرته ولم تخضع لمشاهدته ، وإذن فعلمه عنها قبلى غير معتمد على تجربة حسية .

ومن هذا القبيل تكون قضايا العلوم التجريبية كلها ، فهى كلها تعميمات يعلم الإنسان شمولها على أفراد النوع كله ، وضرورة صدقها على كل هذه الأفراد ، على الرغم من أن الباحث لم يستعرض بخبرته إلا جانباً ضئيلا من هذه الأفراد ، وسترى فيما بعد أن هذا النوع من القضايا – أعنى القضايا القبلية التركيبية – هو الذى كان عند " كانط " مشكلة المشاكل ؛ حتى تستطيع أن تعد فلسفة " كانط " كلها محاولة لتحليل هذا النوع ، كى يقوم بناء العلم على أساس مكين ، إذ العلم – كما قلنا – قضاياه كلها من هذا القبيل .

3- قضية بعدية تحليلية ، كقولى مشيراً إلى الحائط الذى أمامى " هذا الجدار أبيض" – فأنا فى هذه الحالة أتحدث عن جدار جزئى معين أراه رؤية مباشرة وأشير إليه ، ويستحيل أن أراه ولا أرى فى الوقت نفسه أنه " أبيض " وإذن فكلمة " أبيض " لا تضيف علماً جديداً إلى معرفتى " لهذا الجدار " ؛ إننى ما دمت قد عرفت " هذا الجدار " بأن وجهت انتباهى إليه ، فقد عرفت بالتالى صفة البياض فيه ؛ وعلى ذلك فهى قضية تحليلية ؛ أما أنها بعدية فواضح من أننى لا أستطيع أن أعرف " هذا الجدار " إلا بعد خبرة حسية ، فلا بد أن أوجه إليه بصرى لأعرف وجوده ولونه .

4- قضية بعدية تركيبية ؛ كقولى إن عدد أوراق هذه الزهرة مساو لعدد أوراق تلك الزهرة – المعرفة هنا جاءت من الخبرة الحسية ، وإذن فهى بعدية ؛ ثم هى تركيبية لأن معرفتى لعدد أوراق الزهرة الأولى لا تتضمن شيئاً بالنسبة لعدد أوراق الزهرة الثانية ، فقد تكون الزهرة الثانية أكثر أو أقل أو مساوية فى عدد أوراقها للزهرة الأولى .

هذه أنواع أربعة من القضايا تمثل كل ضروب المعرفة عند الناس ؛ وليس فيها ما يثير الإشكال إلا القضية القبلية التركيبية – فلا إشكال فى قضية قبلية تحليلية ، لأنى مادمت قد اعترفت أن علمى فيها مستقبل عن الخبرة الحسية وغير معتمد عليها ، فقد اعترفت بالتالى أننى لم أزد بها على عملية تحليل لبعض معارفى؛ كذلك لا إشكال فى قضية بعدية تركيبية ، لأنى مادمت قد اكتسبتها من الخبرة الحسية وحدها ، فلا بد أن يكون فيها إضافة إلى ما كنت أعلمه ؛ ولا إشكال أيضاً فى قضية بعدية تحليلية حين يكون الموضوع فيها فرداً جزئياً ندركه بحواسنا إدراكا مباشراً ، وحين يكون المحمول فيها صفة لابد أن تظهر فى الموضوع بمجرد إدراكه، كلون الجدار فى المثل الذى أسلفناه .

لكن الإشكال كل الإشكال فى القضية القبلية التركيبية ؛ لأنها بحكم كونها تركيبية ، تكون معتمدة على الخبرة الحسية ، إذ هذه الخبرة وحدها هى التى تضيف إلى علمى علماً جديداً ، وتكون أيضاً بحكم كونها تركيبية لا هى بالشاملة ولا هى بالضرورية ، لأننى إذا خبرت بعض أفراد المعدن ووجدتها تتمدد بالحرارة ، فهذا " البعض " المختبر هو وحده حدود علمى ؛ ولا يجوز لى أن أجاوزه إلى سائر أجزاء المعادن التى لم أخبرها ، إذن فالقضية بحكم كونها تركيبية لا تكون شاملة ؛ كذلك لا تكون ضرورية ، لأنه كان يجوز للخبرة الحسية أن تأتينى من العلم بغير ما أتت به ، كان يجوز مثلا أن أخبر المعادن فلا أجدها تتمدد بالحرارة ؛ فكونى وجدتها تتمدد بالحرارة أمر لا ضرورة فيه من العقل ولا تحتيم فهكذا وجدتها ، وكان يمكن أن أجدها على غير هذه الصورة ، أعود فأقول إن القضية بحكم كونها تركيبية لا هى بالشاملة ولا بالضرورية ؛ لكنها من جهة أخرى بحكم كونها قبلية لا بد أن تدل على الشمول والضرورة – فالقضية العلمية " كل المعادن تتمدد بالحرارة " لا يقتصر صدقها على جزئيات المعادن التى خبرناها ، بل صدقها شامل للمعادن كلها بكل أجزائها ، وصدقها ضرورى بمعنى أنه يستحيل أن نجد جزءاً من المعدن لا يتمدد بالحرارة (16)؛ فمن أين جاء هذا الشمول وجاءت هذه الضرورة للقضايا التركيبية القبلية ، وهى بعينها قضايا العلوم ؟ بعبارة أخرى من أين جاء هذا اليقين لدينا بصدق أحكام العلم ؟ هذا هو السؤال الذى حاول "كانط" أن يجيب عنه ، فانتج فى محاولته هذه طريقته النقدية التى نحن بصدد شرحها. إننا إذ نقول عن فلسفة "كانط" إنها "نقدية" فإنما نعنى بذلك أنها تحليلية ، فماذا تحلل ؟ هى تتناول أحكام الناس الكلية التى يقولونها فى العلوم – أو فى حياتهم اليومية محاولة حلها إلى عنصريها: ما هو مستمد من التجربة الحسية فيها ، وما هو قبلى لم يعتمد على تجربة حسية بل يستند إلى مبادئ عقلية.

وحين نصف فلسفته بأنها " ترانسند نتالية " فإنما نعنى أنها تتناول القضية الكلية من هذه القضايا التى يقولها الناس فى علومهم وفى حياتهم اليومية ، فتوغل فى باطنها لتستخرج ما يكمن فيها من مبادئ عقلية ؛ أو قل إنها تحفر تحت البناء التجريبى المتمثل فى القضية لعلها تصل إلى الأساس الخفى من مبادئ العقل ، الذى يقوم عليه هذا البناء؛ فإذا اصطدمت كرة بأخرى فحركتها ، ثم قلنا إن الكرة الأولى سبب فى حركة الكرة الثانية ، كان قولنا هذا معتمدا على الحس من جهة ، لكنه معتمد على مبدأ عقلى من جهة أخرى هو مبدأ السببية ، وطريقة "النقد" هى أن أحاول استخراج هذا المبدأ من وراء الخبرة الحسية

لاحظ أننى حين أقول قضية علمية مثل " كل المعادن تتمدد بالحرارة " فكأننى أقول إن أى جزء من المعدن لابد أن يتمدد بالحرارة ؛ وواضح أننى إن كنت قد شاهدت بحواسى معدنا ، وشاهدت ناراً ، وشاهدت المعدن يتمدد على أثر اقترابه من النار ، فإنى لم أشاهد "لا بد " ؛ لم أشاهد " الضرورة " – شاهدت كذا يحدث مرة ومرة ، فمن أين جئت بهذه "الضرورة " حين أقول عن الشئ إنه " لا بد " أن يحدث على هذه الصورة المعينة فى الظروف الفلانية – فإذا بحثت عن المصدر الذى أتاح لى أن أقول " لابد " أن يحدث كذا وكذا " ، فأنا أبحث عن " المبدأ العقلى " الذى يجعل من التجربة الحسية المحدودة ، قانونا علميا واجب النفاذ .

وواضح أننى حين أقول عن شئ إنه " لا بد " أن يحدث على هذه الصورة أو تلك ، فأنا لم أقتصر بهذا على مجرد ذكر ضرورة الحدوث ، بل أقول ضمنا إنه حكم عام شامل لجميع أفراد النوع الذى أحكم عليه ؛ فقولى عن حادثة معينة إنه " لا بد " لها من سبب ، مساو لقولى : إن لكل حادثة سببا ؛ وإذن فالحكم بضرورة الصدق فى حالة معينة ، هو فى الوقت نفسه حكم بشموله – وجدير بنا فى هذا الموضوع أن نفرق بين نوعين من التعميم، أحدهما التعميم الذى يجئ بعد حصر المفردات كلها التى أريد أن أحكم عليها ، كقولى – مثلا – إن طلبة قسم الفلسفة بكلية الآداب هذا العام كلهم مصريون ؛ وثانيهما التعميم الذى ينطبق على مفردات غائبة ومجاوزة لحدود المفردات التى وقعت تحت الخبرة ، كقولى " كل المعادن تتمدد بالحرارة " – والتعميم الذى يكون فى قضايا العلوم ، والذى هو متضمن فى كون الحكم ضروريا ، هو التعميم الذى يكون من النوع الثانى (17) " النقد " عند "كانط " هو استخراج المبادئ العقلية المشتركة فى تكوين أحكامنا العلمية التى فيها شمول وضرورة ؛ ففى الأخلاق – مثلا – مهمة الفيلسوف النقدى ، ليست هى أن يتناول أحكام الناس الأخلاقية بالتأييد أو بالتفنيد ؛ فإن قال الناس مثلا إن طاعة الآباء واجبة على الأبناء فليست مهمة الفيلسوف الأخلاقى النقدى هى أن يقول : نعم أصاحب الناس فى حكمهم هذا، أو كلا فقد أخطأ الناس فيه ، بل مهمته منحصرة فى تعقب هذا " الوجوب " إلى مصادره الأولية ؛ من أين استمد الناس فكرة " الوجوب " هذه ؟ إنهم لم يجدوها فيما خبروه بحواسهم من تجارب ، لأنهم فى هذه الخبرة رأوا فلانا وفلانا وفلانا يطيعون آباءهم، ولم يروا " وجوبا " ، فمن أين جاءهم حين قالوا حكمهم الأخلاقى " يجب على الأبناء طاعة الآباء ؟ " – ولو كان التعميم هنا من قبيل الإحصاء لما كان إشكال ، لكنه التعميم بمعناه الضرورى الذى يشمل أفراداً لم يقعوا فى حدود تجاربنا (18) .

من هنا ترى " الأخلاق " عند " كانط " مهمتها البحث عن المبادئ الأولية القبلية التى تبرر أحكامنا الأخلاقية ، أو بعبارة أخرى هى البحث عن المبدأ العقلى الذى يصدر عنه إلزامنا بأداء الواجب لذاته ، كلما قلنا " يجب فعل كذا وكذا " فما الذى أوجب الواجب ؟ لماذا نلتزم بفعل ما نقول عنه إنه " واجب " ؟ وهذ السؤال هو بعينه السؤال : " ماهى المبادئ القبلية الكامنة فى أحكامنا الأخلاقية ؟" واستخراج الجانب القبلى من أحكامنا هو مهمة " النقد " فى فلسفة "كانط" ، ولا يكون هذا طبعا بغير تحليل الموقف كله ، الذى يكون عليه الإنسان حين يصدر حكما، فنستخرج الأساس الذى يرتكن إليه فى إصدار حكمة .




[5]

" نقد العقل" عبارة معناها " إقامة البرهان على صحة الأحكام العامة الضرورية التى يصدرها الإنسان ، وإقامة البرهان هنا تكون بالكشف عن الأسس أو المبادئ الأولية التى تجعل تلك الأحكام ممكنة الصدور " (19) . الطريقة النقدية هى أن نختار من أقوال الناس فى ميدان العلم أو فى مجال الحياة اليومية طائفة من الأحكام التى ليس عليها خلاف، ثم نتعقبها راجعين خطوة خطوة ، حتى نصل إلى المبادئ التى تكمن وراء هذه الأحكام كلها التى اخترناها ، فقولى مثلا " إننى وجدت الكرة التى ضاعت بالأمس ، يتضمن اعتقادا عندى بأن الكرة بعينها ظلت محتفظة بذاتيتها ، وهذا معناه قبول منى لمبدأ ثابت

"العنصر" ودوامه ، وقولى " إن سقوط الحجر على رأس الحوذى سبب موته " يتضمن اعترافاً منى بأن الحوادث ترتبط ارتباطاً سببياً ، وهذا معناه قبول منى لمبدأ السببية وقيامه وإن لم يكن ملحوظا فى خبرة الحواس – وهكذا ، فنحن نحلل العبارة التى نقولها فى موقف معين تحليلا يضع أعيننا على مبدأ كامن فيها ، ثم نجرد هذا المبدأ من تطبيقاته الجزئية لنجعله ضروريا شاملا مهما اختلفت المواقف الجزئية التى يلبسها ملتفا بتفصيلاتها وحوادثها .

إننا بهذه العملية التحليلية لا " نبرهن " على المبادئ ، بل نكشف عنها ، وإنما يكون " البرهان " هنا منصباً على العبارة التى نحللها ، فنقول إنها قد تأيدت بالبرهان حين نعثر على المبدأ الذى ترتكن إليه – وما الذى يحملنا على التسليم بهذا المبدأ ؟ لا شئ إلا أننا افترضنا فيه ضرورة التسليم ، ومجرد كونه " " فرضا " نفرضه ونزعمه يجعله واجب القبول ، لأن الفرض لا يقال فيه إنه صادق أو كاذب فإذا قلت مثلا : " على فرض احتفاظ الأشياء بذاتيتها ، فإن هذا المكتب الذى أمامى يكون هو المكتب الذى كان أمامى بالأمس " ، فليس من حقك هنا أن تقول عن الفرض شيئا ، ولا أن تطالبنى بالبرهنة عليه، لكن من حقك أن ترى هل النتيجة التى رتبتها على الفرض تترتب فعلا عليه أم أنى أخطأت استدلال النتيجة من الفرض المزعوم .

المبادئ الأساسية المنبثة فى أحكام الناس ينكشف الغطاء عن وجودها بعملية التحليل ، ولا يكون الكشف عنها برهاناً عليها ، لأن البرهان على شئ يكون بإرجاعه إلى سند ، والمبدأ الأساسى لا يستند إلى شئ وراءه ، بل هو الذى يقف وراء أحكامنا ليسندها ويؤيدها ؛ فإذا فرضت في علم الهندسة بعض المسلمات ثم استنتجت منها نظريات، فالبرهان لا يكون هنا إلا على النظريات بإرجاعها إلى المسلمات التى تستند إليها وتتفرع عنها وتشتق منها ، أما المسلمات نفسها فينبغى قبولها لأنها فروض مفروضة لتكون أساساً لما سيأتى بعدها من استدلالات . ولقد صدق من قالوا : إنك لا تستطيع المناقشة مع من يخالفك في المبدأ – فهذا صحيح ، لأن المبدأ الأساسى الذى يكون بمثابة الأم الأولى يتولد عنها كل الأفكار بعدئذ ، أمر يفرض فرضا ، فلو دخلت معى في هذا الفرض كان لك حق مناقشة ما يتولد عنه ، لترى هل كان التوليد سليما أو فاسدا ؛ أما إذا رفضت الدخول فى الفرض منذ البداية، فقد انقطع بذلك كل وجه للمناقشة والجدل . إن من حقك أن تشك فى قضية معينة ، ثم يزول شكك هذا بإرجاع القضية إلى السند الذى يؤيدها ، فإن وجدته زال الشك ، بالحكم بالصدق على القضية . وإن لم تجده زال الشك أيضاً ، بالحكم بالكذب عليها ، وهذا السند نفسه إما نسبى أو مطلق ، فهو نسبى إذا كان بدوره مستنداً إلى سند وراءه ، وهو مطلق إذا لم يكن وراءه سند ، فهو مفروض الصدق بغير برهان ، ومثل هذا السند المنطلق هو المبدأ العقلى القبلى الذى تحاول الطريقة النقدية أن تلتمسه فى الحكم الذى تختاره من كلام الناس لتحلله . أعود فأقول مرة أخرى إن المبدأ الأساسى ، أو الفرض الأولى لا يقوم عليه برهان، بل يكشف عنه الغطاء وكفى ، وبكشف الغطاء عنه نضعه فى مركز الرؤية فيتصح بعد أن كان ملتبساً غامضاً ، وتوضيح المبادئ الأولية على هذا النحو ، هو مهمة الفلسفة النقدية . وهو تحليل – كما ترى .

وها هنا يتضح الفرق بين الفلسفة النقدية من جهة ، والفلسفة الاعتقادية أو "الدوجماطيقية " من جهة أخرى ، فالفيلسوف الدوجماطيقى ، يقرر مبادئه أحيانا على أنها أساسية لا يجوز عليها التحليل أو إقامة البرهان ، مع إنها قد تكون مبادئ نسبية ، أعنى قد يكون وراءها سند تستند إليه ، ويحتاج الأمر فى توضيحه إلى تحليل ؛ فالذى لا يقبل تحليلا ولا برهانا هو المبادئ المطلقة التى لا تستند إلى شئ وراءها، ولا نطمئن إلى أن ما أمامنا هو من هذا القبيل ، وإلا إذا حاولنا التحليل فوجدنا أنه مستحيل لعدم وجود فرض سابق على المبدأ الذى نحلله ، يمكننا أن نستند إليه فى البرهنة على هذا المبدأ .

والفيلسوف الاعتقادى أو الدوجماطيقى أحياناً أخرى تراه يحاول إقامة البرهان على ما يعتقد أنه مبدأ أولى ؛ فمثلا يفرض وجود الله كمبدأ أساسى لتفكيره، ثم يحاول البرهان على ذلك ؛ مع أنه لكى يبرهن لا بد أن يرتد بما يريد البرهنة عليه إلى مبدأ أسبق أولية وأصل منطقياً ، وفى هذا تناقض واضح ، لأن اعترافك عن مبدأ معين بأنه أولى أصيل ، وهو وحده دال على أنه ليس ثمة ما هو أسبق منه مما يمكن أن نتخذه برهانا عليه ، ولذلك فالطريقة النقدية فى الفلسفة – دون الدوجماطيقية – هى وحدها التى تحررت من الوقوع فى هذا الدور ؛ لأنها لا تسعى إلى البرهنة على المبادئ الأولى ، بل تكتفى بالبحث عنها واستكشافها و إبرازها لإدراكها فى تجردها – الطريقة النقدية لا تقيم برهانا على شئ ، بل تجعل مهمتها البحث عن المبادئ التى تسابق الناس إلى افتراضها ليستخدموها فى براهينهم ولا غرابة بعد هذا أن ترى الفلسفة النقدية والفلسفة الاعتقادية الدوجماطيقية مختلفتين حتى فى وجهة السير ؛ فالفيلسوف الدوجماطيقى يبدأ بافتراض مبادئ مع
02-24-2008, 02:13 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  المياتافيزيقا بعيون كانط رشيد عوبدة 9 2,781 08-21-2011, 01:34 PM
آخر رد: Kairos
  الواقع الفيزيائي بين كانط ولابلاص مصطفى قشوح 0 1,517 05-06-2011, 03:38 PM
آخر رد: مصطفى قشوح
  كانط في فضاء هابرماس لايبنتز 1 1,625 03-20-2008, 07:34 PM
آخر رد: لايبنتز
  منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت لايبنتز 5 3,543 03-13-2008, 06:36 PM
آخر رد: لايبنتز
  محنة التنوير بين ميشيل فوكو وإمانويل كانط سيناتور 1 1,877 03-10-2008, 06:00 PM
آخر رد: سيناتور

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS