{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
وداعاً رجاء النقاش
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #1
وداعاً رجاء النقاش
هوامش للكتابة - وداعاً رجاء النقاش
جابر عصفور الحياى - 13/02/08//

ها هو رجاء النقاش يرحل عنا بعد أن أوجع قلوبنا بمرضه الطويل الذي ظل يسرقه، شيئاً فشيئاً، من محبيه، إلى أن قرر الموت أن يسرقه منا، تاركاً في نفوسنا ألم الفقد، ومرارة الحزن، والشعور القاهر بالخسارة، خصوصاً في زمن لا يزال في حاجة إلى أمثال رجاء النقاش، يملأون الحياة الثقافية من حولهم، بالحيوية الدافقة والاستنارة التي تتسع بعقول القراء وتمتد إلى ما لا نهاية برحابة أفق الثقافة التي تظل في حاجة إلى العقول التي تقود وتضيء وتشع بقيم الحق والخير والجمال في كل مكان حلّت أو تحل فيه، فرجاء النقاش آخر الوارثين لجيل الموسوعيين العظام من أبناء ثورة 1919، جيل طه حسين والعقاد والمازني وبعدهما يحيي حقي وبقية النجوم الوضاءة التي لا تزال الثقافة العربية مدينة لها بغرس وتعميق معنى الجامعة، والنظرة الشاملة التي تتعدد أدوارها الثقافية في المجتمع الذي تسعى للانتقال به من وهاد الضرورة إلى أعلى آفاق الحرية ولذلك كان رجاء النقاش دارساً وصحافياً ومحرراً أدبياً ورئيس تحرير لمجلات عدة، أحدث في كل منها ما دفعها إلى المزيد من الإنجاز والتقدم والاستشراف الطموح للمستقبل الخلاق الذي تدين له به مجلات رأس تحريرها، مثل مجلة «الكواكب» التي رأس تحريرها ما بين عام 1965و1996، ومجلة «الهلال» (1969-1971) و «الإذاعة والتليفزيون» (1971-1972) وأضف إلى ذلك كله دور المحرر الأدبي الذي يؤديه رجاء بعد تخرجه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عام 1956، مزاملاً الأعلام الذين تخرجوا معه أو قبله أو بعده، بسنوات قليلة، من أبناء الجيل الذي يضم صلاح عبدالصبور، وعز الدين إسماعيل، وعبدالغفار مكاوي، وعبدالرحمن فهمي، وفاروق خورشيد، وأحمد كمال زكي وهو جيل نضج وعيه في ظل الأفكار القومية التي أشاعها أمثال ساطع الحصري وتبناها البعث ثم الناصرية بعدها وهي أفكار لم تكن تحول بين التوجه القومي واليسار في دائرة اللقاء التي كان أساسها الإيمان بالعدل الاجتماعي والعداء للاستعمار الذي كان حارساً للرأسمالية القائمة على الاستغلال وقد ظل رجاء محافظاً على فكره القومي، منتسباً إليه، مؤمناً به في كل الأحوال، لا يتحول عنه مهما كانت التغيرات العاصفة التي ناوشت وهددت مسار الفكر القومي ولا أزال أذكر مقالاته في ذلك، خصوصاً تلك التي جمعها في كتابه «الانعزاليون في مصر» الذي كتبه رداً على دعاة انفصال مصر عن محيطها العربي ولذلك كان رجاء النقاش متأثراً على نحو خاص بأستاذنا عبدالعزيز الأهواني الذي كان أبرز القوميين بين أساتذة قسم اللغة العربية الذي تخرج فيه رجاء النقاش ولكن كانت سهير القلماوي الأستاذة الأكثر تأثيراً في وعي رجاء النقاش، أولاً لاقترابه من الأدب الحديث، ووقوفه في صف التجديد في هذا الأدب، وضرورة انفتاحه على آداب العالم، ودراسته من هذا المنظور وكانت سهير القلماوي، التلميذة الأقرب إلى طه حسين، نصير الجديد دائماً، هي النموذج الذي يجسد هذا المنزع أكثر من غيره في قسم اللغة العربية، وكان ذلك في زمن أمين الخولي الذي تحلّق حوله شكري عياد وفاروق خورشيد وغيرهما من أعضاء «الجمعية الأدبية المصرية» ومؤسسيها في ما بعد وكان رجاء النقاش أقرب إلى صلاح عبدالصبور الذي تخرج قبله في المنزع الحداثي نفسه ولذلك لم يكن من المصادفة أن يقوم كلاهما بتسجيل عنوان أطروحة ماجستير، تحت إشرافها في قضايا التجديد الأدبي عموماً، والشعر خصوصاً، ولكن للأسف حال انشغالهما بالصحافة، والغرق في دواماتها من دون الانتهاء من أطروحتي الماجستير اللتين حلما معاً بإعدادهما.

ولقد تخرجت في القسم نفسه الذي تخرج فيه كلاهما، وبعد تسع سنوات من تخرج رجاء على وجه التحديد وابتدأت معرفتي له بقراءة ما يكتب في «أخبار اليوم» ما بين 1961 و1964 وكانت البداية أن أستاذتنا جميعاً، سهير القلماوي، قرأت معنا في إحدى محاضرات «النقد التطبيقي» إحدى قصائد أحمد عبدالمعطي حجازي من ديوانه الأول «مدينة بلا قلب» وكان الديوان قد صدر منذ سنوات معدودة وكان تدريس سهير القلماوي، وقد كانت ملء سمع النقد الأدبي وبصره في تلك الأيام، حدثاً ترك أعمق الأثر في نفوسنا، وفي تذوقنا للشعر الجديد الذي بدأنا ننحاز إليه بفضلها وكانت النتيجة أننا اشترينا الديوان الذي صدر عام 1959 مع دراسة بالغة الأهمية كتبها رجاء النقاش الذي كانت دراسته خير مقدمة لشعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وخير مدخل إلى الشعر الحر عموماً وسرعان ما اكتشفنا أن كاتب هذه المقدمة هو رجاء النقاش الشاب الذي تخرج قبلنا بتسع سنوات، عام 1956 على وجه التحديد.

ولا أزال أعتقد، إلى اليوم، أن هذه الدراسة الاستهلالية لديوان حجازي كانت، ولا تزال، إحدى وثيقتين رائدتين في مجال تبرير الشعر الحر وتحليله. أما المقدمة الثانية، فقد كتبها بدر الديب لديوان صلاح عبدالصبور الأول «الناس في بلادي» الذي صدر عن «دار الآداب» البيروتية في مطلع 1957، قبل صدور ديوان حجازي بعامين ويعني ذلك أنني قرأت ديوان صلاح عبدالصبور الأول بعد أن قرأت حجازي الذي أكملت ديوانه الأول بعد أن قرأت دراسة رجاء قراءة الطالب الذي يريد أن يفهم ويتعلم وينحاز إلى قضية الشعر الحر التي أصبحت أهم قضايا التجديد الأدبي لأبناء جيلي.

وقد كانت الدراسة التمهيدية التي كتبها رجاء لديوان حجازي هي البداية التي دفعتني إلى السعي وراء قراءة ما يكتبه في النقد الأدبي وكانت البداية في جريدة «أخبار اليوم»، التي كان يكتب لها مقالاً أسبوعياً في النقد الأدبي وكان، أيامها، منغمساً، قبل السنة السابقة على تخرجي بكتابه «مقالات عن العالم الروائي عند نجيب محفوظ» الذي كان قد استقر على عرش الرواية العربية من دون منازع، وانهالت عليه مقالات يحيى حقي ورمسيس عوض وعبدالقادر القط وسهير القلماوي وأحمد عباس صالح ومحمد مندور وغيرهم من كبار النقاد في الستينات من القرن الماضي، ولكن رجاء النقاش آثر أن يرى روايات نجيب محفوظ بعدسة نقدية مغايرة، فاكتشف جوانب لم يكتشفها أساتذته، وكان لما اكتشفه أبلغ الأثر في إعجابي به بوصفه ناقداً أدبياً واعداً، مرهف الإحساس، فقد كان نقده لا يقل أهمية ولا قيمة عن نقد أساتذته، بل كان يضيف إليهم ما تهديه إليه بصيرته النقدية النافذة وأذكر، على سبيل المثال ما أجمع عليه النقاد في تناولهم رواية «الطريق» الشهيرة، حيث رأى أكثر النقاد في بطلتها إلهام نموذجاً للصفاء الروحي المقرون بالطريق الهادي للابن الضال، كي يصل إلى أبيه الرمزي الحقيقة المطلقة وهناك يجد، لديه وبواسطته، الأمن والسلام والكرامة، على عكس كريمة التي رأوها تجســيداً لعالم الحواس والغرائز الغارق فيها الابن صابر وللاسم مغزاه، فيعجز عن الوصول إلى فيء أبيه وصدره الحنون، فإذا برجاء النقاش يقلب التفسير، ويجعل من كريمة موئل الروح التي لا نصل إليها إلا بعد أن نصل إلى قرارة القرار من الحــسية التي ليس بعدها سوى الروح، وذلك بمنطق له بعد صوفي بمعنى أو بآخر.

هكذا انتقلت مع كتابات رجاء، قارئاً، من الشعر إلى الرواية، ومن الرواية إلى المسرح ومضيت متابعاً له، مستمتعاً بما يكتب إلى أن انتهت الحقبة الناصرية، واضطر إلى العمل في قطر، رئيساً لتحرير مجلة الدوحة واستطعت خلال هذه الفترة أن أصوغ صورة لنقده الأدبي في ذهني، خصوصاً بعد أن استهواني الجانب التنظيري، أو النقد الشارح، للنقد وانتهيت إلى أن نقده يتميز بسمات أساسية عدة.

أولاها أنه نقد متطور، يفيد من التطورات الأخيرة لنظرية التعبير في ذلك الوقت، وأن العملية النقدية تبدأ عنده منذ اللحظة التي يتأثر فيها وجدانه بالعمل المقروء، فيسعى إلى فهمه وتفسيره، ومن ثم تقييمه وما بين الفهم والتفسير، يظل مشغولاً بجمع القرائن الدالة التي يجدها في العمل، ويصل بينها لتصور معناه، قبل تقديم هذا المعنى إلى القارئ في هيئة تفسير للنص وهي عملية تفضي إلى تحديد القيمة الموجبة للعمل أو نفيها عنه وهو في ذلك كله لم يكن يتطلع إلى إجراءات معقدة مثل البنيوية التي نفر منها، وما جاء بعدها، مثل التفكيك وغيره من البدع التي كان يمزح معي، مبرراً موقفه منها.

وثانيتها أنه ظل يرى في الناقد قارئاً خبيراً، اكتسب تجارب عميقة من طول معاشرة النصوص الأدبية والغوص فيها، ولذلك جعل دور الناقد أشبه بدور الوسيط الذي يجمع بين طرفين يحبهما، النص الأدبي والقارئ، مؤكداً هذا البعد بنقده التطبيقي الذي يسعى إلى إيصال معنى النص إلى القارئ في بساطة آسرة، بعيداً من التقعر أو التقعيد، أو التنظير المتعالي، أو التقليد الساذج لنقد آخر، أجنبي على وجه الخصوص وكانت نصوصه النقدية، في معظمها، رسائل محبة إلى القارئ عن نص محبوب، فقد ظل رجاء أميل إلى الكتابة عن النصوص التي يحبها، والتي يهتز بها، ولم يكتب عن النصوص التي نفر منها أو رآها عديمة القيمة.

وثالثتها أنه كان يتمتع ببصيرة نقدية، تجعله قادراً على اكتشاف الجوهر الصافي في النصوص، قبل أن يكتشفها الآخرون، ولذلك كان هو السباق في الكشف عن جوهر شعر أحمد عبدالمعطي حجازي، ممهداً الطريق أمام من جاء بعده من نقاد حجازي وقد جاء بعد حجازي بسنوات اكتشافه الطيب صالح الذي لم يكن هناك أحد يعرف عنه على امتداد العالم العربي، فإذا برجاء يمسح التراب وغبار عدم المعرفة عن رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» مؤكداً ظهور عبقرية فريدة في الرواية العربية وكان نقده لرواية الطيب صالح بداية لاهتمام متزايد بهذا الروائي الذي ما كان العالم النقدي ليحتفل به إلا بعد أن أزاح رجاء الستار عن تفرد إبداعه الروائي وقل الأمر نفسه عن شعر محمود درويش وشعر شعراء المقاومة ثانياً، وكانت النتيجة كتابه عن محمود درويش الصادر عن «دار الهلال» القاهرة وكان ثمرة اكتشافه محمود درويش الذي كان لا يزال مجهولاً بالنسبة إلى النشاط النقدي الأدبي والذائقة الشعرية عموماً ولذلك فليس من المبالغة القول إن نقد رجاء النقاش التعريفي والتفسيري والتقييمي لمحمود درويش، وبعده شعراء المقاومة، بمثابة الضوء الذي وضع درويش وأقرانه في الدائرة التي سرعان ما جذبت إليها الجميع، فتسابق في اكتشافها وتناولها، إلى درجة أنها أصبحت «موضة».

ورابعتها أنه كان يؤمن أن أي نوع أدبي لا يمكن فهمه إلا في علاقته بغيره من الأنواع، فالأدب كيان متكامل، تتبادل أنواعه التأثر والتأثير، وتقوم بالعملية نفسها مع الفنون التي تتجاوب إبداعاتها وتتراسل على نحو لا يمايز بينها إلا بنوعية الأداة التي تقترن بطبيعة الفعل التعبيري للإبداع من ناحية، وطبيعة الموضوع في علاقته بالمتلقي الذي يتلقاه من ناحية مقابلة ولذلك كان رجاء يكتشف عمليات التراسل بين النصوص الأدبية، وبينها والأعمال الإبداعية في الدوائر المتسعة من عمليات الاستقبال والتلقي.

وخامستها أنه ظل على إيمانه في عملية التقييم المرتبطة بالتفسير أن للأدب وظيفة إنسانية، تجاوز لغتها إلى غيرها من لغات العالم، وأن الغوص إلى قرارة القرار الإنساني من المحلية هو الطريق إلى العالمية، وأن الأديب المؤثر حقاً هو الأديب الذي يتميز إلى جانب عمق مشاعره وصدق إحساسه بحرصه على التواصل مع قرائه، والوصول إلى أوسع دائرة من المتلقين، غير ناس أنه ينتسب إلى مجتمعات تغلب عليها، بل تتزايد، الأمية ولذلك ظل نافراً من ما رأى فيه تعقيداً مسرفاً في الرمزية لا السريالية، مؤثراً الوضوح الأبولوني على الغموض أو الجنون الديونيسي، فكان أميل إلى حجازي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش في مواجهة أدونيس وغيره من شعراء الحداثة ذات الجذور الفرنسية التي كانت، ولا تزال، مختلفة كل الاختلاف عن الحداثة التي ترجع إلى جذور أنكلوسكسونية.

وكان البعد الفني في هذا الجانب الأخير الوجه الآخر من البعد القومي، فقد ظل نفوره من أدونيس نابعاً من تصوره أن شعره تجسيد لرؤية الحزب القومي السوري للعالم، واصفاً إياها بأنها رؤية فينيقية غير عربية، وأن إبداعه غريب الوجه واليد واللسان للقارئ العربي ولذلك، أيضاً، ظل أقرب إلى شعر أحمد حجازي القومي، نافراً من تحولاته الأخيرة التي انقلب فيها على القومية والناصرية وبالقدر نفسه، ظل أقرب وجدانياً إلى شعر صلاح عبدالصبور الذي كان حريصاً على استكتابه في الدوحة القطرية، حين كان رئيس تحريرها، كما ظل أقرب إلى تحولات صلاح الشعرية، في القصائد الغنائية والمسرح الشعري، أعني التحولات التي ظلت أقرب إلى الوضوح الأبولوني منها إلى الغموض والجمود الديونيسي، فشعر صلاح شعر من «كان يريد أن يرى الجمال في النظام/ وأن يرى النظام في الفوضى».

وهما سطران يصوغان في إيجاز بالغ، مذهب رجاء النقاش في الحياة والفن.

وليس من المصادفة، والأمر كذلك، أن تتوثق العلاقة الإنسانية بين صلاح عبدالصبور ورجاء النقاش، فقد كان كلاهما بالغ التقدير للآخر، كما ظل كلاهما، ويا للمفارقة، منطوياً على جرح لم يندمل، وندم لم يكن له علاج ناجع، فما أكثر ما كان يحدثني كلاهما، بعيداً من الآخر، وفي لحظات استرجاع التاريخ الماضي، عن الأسف البالغ لأن كليهما غرق في الرمال المتحركة للصحافة، فأخذ من كل شيء بطرف، وخاض معارك خاسرة، وفرض عليه ما لم يكن يميل إليه، فانشغل عن التفرغ اللازم للبحث العلمي الهادئ طويل النفس، ونسي حلمه القديم بالاستمرار في الطريق الأكاديمي، لكن وآه من قسوتها «لكننا»: «لأنها تقول في حروفها الملفوفة المشتبكة/ بأننا ننكر ما خلفت الأيام في نفوسنا/ نود لو نخلعه/ نود لو ننساه».

ولكن، وليس آه من قسوتها هذه المرة، على الأقل في نظري، فقد حقق كلاهما إنجازاً يدعو إلى الفخار، وأضاف كيفياً، وعميقاً، في مجاله النوعي، وكلاهما أثر، ولا يزال، يؤثر في أجيال متتابعة، وكلاهما انطوى، في إنجازه وإضافته، على إيمان عميق بالإنسانية وجعل من ممارسته الإبداعية والنقدية منارة تستضيء بها الأجيال المتعاقبة، ويستهدي بها وطنه في الطريق الشاق للانتقال من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية، ولذلك سيبقى منهما الكثير للتاريخ، وسيظل فقدهما جرحاً عميقاً، غائراً، لا يندمل في نفسي، وحزناً لا يفنى ولا يتبدد، فقد كان كلاهما صديقاً حميماً، وأخاً كبيراً راعياً، وزميلاً سابقاً في القسم الذي أنتسب فيه، مثلهما، إلى تقاليد طه حسين الجذرية، العقلانية التي استمرت في تلامذته المباشرين، وانتقلت منهم إلى صلاح ورجاء، ومنهما معاً إلى، من ينزل منهما منزلة الأخ الصغير الذي أدركته، مثلهما، حرفة الأدب فوداعاً يا رجاء، يا شبيهي، يا أخي.

02-13-2008, 10:55 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #2
وداعاً رجاء النقاش
كتّاب مصريون يتحدثون عن رجاء النقاش: مكتشف نجوم وصاحب مساهمة مهمة في النقد والصحافة الأدبية
محمود قرني

14/02/2008

القاهرة ـ القدس العربي رحيل الناقد الكبير رجاء النقاش، ليس خسارة فادحة للنقد الأدبي فحسب، بل هو خسارة تحيق بمصر كلها، فرغم انجاز النقاش الباهر في حقل النقد الأدبي، إلا أن وجوده كصحافي ورجل عام، وكاتب مقالة رفيع المستوي وشديد التميز، جعل دوره يتجاوز العلم النقدي الأكاديمي والمدرسي في حلقات الدرس مشوقة الحدود والأطر، لينطلق بدوره الأشمل والأوسع ليتمثل نافذة لأجيال متصلة من المبدعين والنقاد والمفكرين من مختلف الأجيال والمجالات.
فقد ترأس النقاش تحرير الشهرية العريقة الهلال ، كذلك ترأس في سن متأخرة مجلة الدوحة التي قدمت برفقته أحداث الأجيال الشعرية آنذاك، حيث أطل جيل السبعينيات برأسه في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
وكما يقول الدكتور محمد السيد سعيد لم يكن رجاء النقاش من رجال السياسة بالمعني المألوف، وكان علي الأرجح يخشاها ولذلك كان يسربها داخل الألحان أو الأشجان الأسلوبية لمقالاته وكتبه، ويفسر الدكتور سعيد ذلك الموقف بالخوف الذي يأتي في محله تماما، وهو علي كل حال لا ينطبق كلية علي مواقف رجاء النقاش الأقرب دائما إلي الحركة اليسارية شأنه في ذلك شأن معظم النقاد والكتاب الذين بزغوا في ظلال الناصرية التي تمثلت الصيغة القومية العربية في كل أطروحاتها.
فقلم رجاء النقاش النافذ لم يكتف فحسب بتقديم أول دواوين الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي مدينة بلا قلب عام 1958، بل قدم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش بينما لم يكن قد تجاوز السابعة والعشرين من عمره، كذلك قدم الروائي السوداني الكبير الطيب صالح، فضلا عن عشرات المقالات التي آزرت شباب الكتاب والكاتبات في رحلة ممتدة عبر أكثر من خمسين عاما.
خرج الكاتب والناقد الراحل رجاء النقاش في كلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة القاهرة، وولد في الثالث عشر من شهر آب (أغسطس) عام 1934 بمحافظة الدقهلية بمدينة منية سمنود، ونزح إلي القاهرة بصحبة عائلته في سن مبكرة، تلك العائلة التي رفدت الحياة الثقافية بأسماء ذات قيمة رفيعة فهناك الشقيقات والأشقاء فريدة النقاش، أمينة النقاش، فكري النقاش، وحيد النقاش، وكلهم ينجز في حقل الثقافة.
قدم النقاش العديد من المؤلفات المؤثرة في النقد المصري والعربي مثل، أدباء ومواقف، في أضواء المسرح، في الثقافة المصرية، أبو القاسم الشابي شاعر الحب والثورة، محمود درويش شاعر الأرض المحتلة، نساء شكسبير، بالإضافة إلي السيرة الذاتية لنجيب محفوظ التي أنجزها قبل أن يشتد عليه المرض.
ونحاول هنا أن نستطلع آراء شريحة من كبار الكتاب والنقاد الذي أثروا وتأثروا برجاء النقاش.

سيد المنازلات والمعارك
عبدالمنعم تليمة

كان رجاء النقاش طرفا ملموحا في المنازلات والمعارك الفكرية المشهودة في آفاق الهوية المصرية والحركة القومية والثقافة العربية، ونهض بدور ثابت في تأسيس الصحافة الأدبية والفنية وترأس تحرير أعرق الدوريات العربية الثقافية، لكن منجزه الساطع الباقي في حقل النقد الأدبي، وهو في هذه الساحة من أعلام السباقين إلي التقديم والتقويم.
اتصل رجاء النقاش اتصالا حميما بأنظار الأجيال الثلاثة التي سبقته وعلمته، وكان أعلام تلك الأجيال قد تفتحوا ـ بأصالة ـ علي الأصول التي أثمرها العلم الحديث في تحديد البنية الثقافية والعوامل التاريخية الاجتماعية الفعالة في تكوينها وتطورها، وفي درس الفن نقد الأدب.
يصدر رجاء النقاش في عمله النقدي عن الجوهري المشترك في تلك المقاولات والأصول مع التزود الدائب بالجديد في المذاهب والمناهج وطرائق التعبير، وهو ـ النقاش ـ في الحقيقة من أصحاب ما سماه الرواد المنهج التاريخي الذي يعتمد علي النفسي والروحي والفكري ثمرات لعوامل تاريخية اجتماعية ثقافية، والذي يستند ـ في التطبيق والتعامل مع الأعمال الأدبية والفنية ـ علي ذائقة جمالية مدربة وتخليص الانطباعية النقية من الذاتية والهوي.

المعرفة مفتاح الحب
أحمد عبدالمعطي حجازي

رجاء النقاش خُلق ليحب ويكتب، أعني لينتصر للخير والعدل والمال والحرية، ولا شك أنه وجد نفسه في الكلمة التي قالها الروائي الفرنسي رومان رولان عن الكاتب النمساوي ستيفان زفايج، ونقلها عنه رجاء وهو يتحدث عن هذا الأخير في كتابه أدباء ومواقف الصادر عن المكتبة العصرية في لبنان: يقولون إن الحب هو مفتاح المعرفة، وهذا صحيح بالنسبة إلي ستيفان زفايج، ولكن العكس صحيح أيضا، إن المعرفة مفتاح الحب، إنه يحب بالعقل، ويفهم بالقلب .
رجاء النقاش يحب ويكتب بكل كيانه، وهذا ما قصدته وأنا أتحدث عن التزامه.
الالتزام الذي قصدته ليس الالتزام السياسي أو المذهبي الذي كنا نتحدث عنه في الخمسينيات والستينيات، وإنما هو هذا الالتزام التلقائي الذي يندفع إليه الإنسان للوقوف الي جانب القيم التي يقدسها حين يراها مستباحة أو مهددة.
هكذا يعلن رجاء النقاش في التمهيد الذي قدم به كتابه الأول في أزمة الثقافة المصرية الصادر في كانون الثاني (يناير) 1958 عن دار الآداب في بيروت أن كتابه ليس مجرد كتاب، وإنما هو محاولة للمساهمة في عملية المراجعة التي تهدف إلي التغيير والتبديل، ومن هنا فلم يكن تاريخ الحركة الثقافية فيه مستقلا عن تاريخ الحركة الاجتماعية .
ورجاء في هذا الكتاب كما هو في كتبه جميعا ناقد متحمس يناصرمن يحبهم، ويحب من يدافعون مثله عن الإنسان في معركة البقاء كما يقول عن محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس.
وقد استطاع صلاح عبدالصبور أن يكشف في كلمته الجميلة التي ظهر بها غلاف هذا الكتاب عن العلاقة الحميمة بين الحياة والكتابة عند رجاء النقاش.
وبالنسبة لي فقد أصبحت علاقتنا ـ أنا ورجاء ـ شرطا من شروط حياتي وربما أصبحت كذلك بالنسبة له، كأني صرت فردا من أفراد أسرته، رحم الله رجاء النقاش.

نبوءة رجاء لا تخيب
جابر عصفور

كان واضحا منذ البداية، أن نبوءات رجاء النقاش قادرة علي اكتشاف معدن الشعر الأصيل، فهو الذي يضع يديه المرهفتين عليه بالكتابة عنه والتقدير له منذ البداية.
وهكذا، كان أول من كتب بإسهاب وعمق وتفصيل عن أحمد عبدالمعطي حجازي، وأول من ناقش، في مرارة، نازك الملائكة في أفكارها عن القومية، وأول من أسرف في الهجوم علي الحزب القومي السوري في هويته الفينيقية، وهو الهجوم الذي جمع في الرفض ما بين الدعوة الفينيقية والرموز التي استخدمها الأدباء القوميون السوريون في كتاباتهم، حالمين بإعادة فينيقيا التاريخ والرمز إلي الوجود، ورأي رجاء في مثل هذا الحلم بذرة من بذور الشر في حياتنا الأدبية والسياسية.
وكان طبيعيا ـ في ذلك الوقت ـ أن يتركز الهجوم علي أدونيس، أبرز شاعر قومي سوري في ذلك الزمان، وأن يحلل الناقد ـ في رجاء ـ قصائد أدونيس التي تقدم صورة كئيبة للحياة، وحلما دمجيا بالعودة السعيدة الي فينيقيا القديمة.
وكان ذلك عبر أربعة مقالات بالغة الدلالة والأهمية بعنوان القوميون السوريون والأدب نشرها رجاء بعد ذلك في كتابه أدب وعروبة وحرية .
ولم يتخل رجاء النقاش عن منظوره القومي الذي دفعه إلي الاهتمام البالغ بالمأساة الفلسطينية ـ جرح العرب النازف ـ والكتابة عنها، ومرة ثانية تظهر في أفق رؤيته النقدية للإبداع الفلسطيني قدرته التنبؤية الفائقة علي اكتشاف عروق الذهب الصافي في شعر هذا الإبداع، ولذلك كان احتفاؤه حماسيا بشعر محمود درويش الذي كتب عنه مقالاته التي فتنتنا حين نشرها متفرقة، وحين نشرها كتابا، وهو الكتاب الذي كان مدخلنا الي معرفة أعظم شعراء فلسطين بلا منازع.

أحببنا جرأته في الحق
خيري شلبي

لكم أحببنا ـ نحن قراء ذلك الجيل ـ هذا الشاب الفتي النابه الجريء الحاد في قول الحق رغم وداعة مظهره، والحياء الذي لا يني يصبغ وجهه القمحي بعصير الفراولة، أحببنا حتي اسمه رجاء النقاش حفظته أعيننا بجميع ألوان الخطوط من الرقعة إلي النسخ إلي الثلث.
تداولنا كتابه الاول عن أزمة الثقافة المصرية الصادر عن دار الآداب، كأنه كنز ثمين يخصنا نحن، تابعنا صعوده علي صفحات جريدة أخبار اليوم حيث المقال صفحة كاملة في النقد الأدبي، الملاحق للواقع الثقافي الحي، المساهم في بنائه الموسع لمعني الثورة بفتح آفاق مترامية الاطراف للثقافة، ثم انتقل رجاء النقاش إلي جريدة الجمهورية فانتقلنا معه، ثم انتقلنا إلي دار الهلال رئيسا لتحرير مجلة الكواكب الفنية فقام بتطويرها ومنحها ثقلا ثقافيا دون أن يخرجها عن طبيعتها الفنية، وهذه في حد ذاتها قدرة استثنائية في بعض الموهوبين من ابناء صاحبة الجلالة، إلا أنه سرعان ما انتقل إلي المقعد الذي يلائمه ويستوعب طاقاته الكبيرة، اصبح رئيسا لتحرير الشقيقات الثلاث: الهلال، روايات الهلال، كتاب الهلال.
الحق يقال، لقد بذل جهودا عظيمة في تحديث هذه السلاسل الثلاث وربطها بالواقع الثقافي العالمي الراهن، نهض بمجلة الهلال ، وجدد شبابها، فتح روايات الهلال علي ترجمات حديثة وكاملة ودقيقة لدور الأدب العالمي الحديث، ولروائيين مصريين وعرب محدثين، نقل كتاب الهلال من الموضوع التقليدي التراثي إلي آفاق أوسع في الأدب والفكر والعلم والاقتصاد والسيرة الذاتية.
ولرجاء النقاش دور عظيم في حركة الشعر العربي الحديث ليس فحسب لأنه قدم لديواني عن القمر والطين لصلاح جاهين و مدينة بلا قلب لحجازي وإنما لأنه واكب الحركة بالنقد والإسهام النظري والتشجيع والترشيد ويشهد علي ذلك كتابه ثلاثون عاما مع الشعر أما بقية كتبه الكثيرة فتشهد له بأفضال أخري جمة.

مقاله تجسيد للحاضر
أحمد درويش

المقال الأدبي عند رجاء النقاش يمثل هذا النمط الحي في الكتابة الأدبية النقدية الصحفية في أرقي صورها، ويأخذ مكانه في تجسيده للحاضر الأدبي والنقدي وفي تمثيله للماضي، عندما يواصل الزمن مسيرته محتفظا من ذلك الحاضر بافضل عناصر تمثيله، وهذا النمط من المقالات يقدم لقارئه نصا متكاملا تتجاوب فيه المتعة مع الفائدة، والعناصر الآنية المتغيرة مع العناصر الثابتة الباقية، والمادة الأدبية التي توجد في الموضوع المدروس، مع المادة التاريخية والفلسفية والتراثية المنتمية إلي الفكر المحلي أو الإقليمي أو العالمي مع محاولة مستمرة لمربع حرارة الواقع الذاتية العاطفية، برصانة الحقائق الموضوعية وعملية المزج بين هذه العناصر الكثيرة، لا تبدو أمام القارئ إلا من خلال منتج متكامل قد يصعب الفصل بين عناصره المكونة له، إلا إذا حاولنا إعادة تفكيكها، ومعرفة ما حاول الكاتب ان يصنعه وهو يجمع الفسيفساء المتفرقة أمامه ليشكل منها لوحته المثالية.
وقد يكون كتاب رجاء النقاش ثلاثون عاما مع الشعراء واحدا من النماذج الطيبة للمقال الأدبي النقدي المتنوع، وهو في ذاته صالح لإلقاء نظرة عليه لملاحظة جانب من عملية التكامل والنسيج في بنية المقال، والكتاب معا.

الزاهد الأعظم
فريدة الشوباشي

أعتقد أن سر القوة التي كان يتمتع بها رجاء النقاش هو زهده العجيب في كل مغريات الدنيا، إنه يقول كلمته ويمضي دون انتظار لشكر أو جزاء، وأيضا دون خوف أو رهبة ما دام يعتقد فيما يكتبه، ومن هنا لم يكن غريبا ان يثور البعض، وما أكثر المتشدقين بالديمقراطية منهم، لنقد النقاش لأنه يعلم أن قلمه يحظي بمصداقية نادرة، وأنه، علم من أعلام حياتنا الثقافية والأدبية، وإذا قلنا رجاء النقاش، فنحن نقول حياة حافلة بالعطاء، وكأنه نهر كريم يمنح ولا يأخذ.

تلميذ محمد مندور
إبراهيم عبدالمجيد

رجاء النقاش هو بامتياز تلميذ محمد مندور النابه، بل هو العلم الكبير في هذه المدرسة النقدية العظيمة التي كانت تدرك أن النقد الأدبي موجه إلي القارئ بقدر ما هو موجه للعمل الأدبي، ومن ثم تجعل في النقد ما يثير المتعة والخيال الأدبي، ومن ثم تجعل في النقد ما يثير المتعة والخيال بقدر ما يثير المعرفة والتأمل، بما يعنيه ذلك من لغة عذبة، سلسلة، وعرض للأفكار يجد طريقه بسرعة الي العقل، ويستحوذ بدقته، وعذوبة لغـــــه علي العقل والقلب معا، وهذا ليس بالأمر الســــهل، بل يحتاج دائما من الناقد الي ثقـــــافة عميقة بموضوع نقده والجنس الأدبي أو الفني الذي ينقـــــده، وثقافة عميقة أيضا بتاريخ هذا الجنس الأدبي، وبالمجتمع وتطوره السياسي والثقافي والأخلاقي، ومن ثم فالنقاــد من نوع رجاء النقاش، وهم قليلون جدا، بعد أن رحل الرعيل الاول منهم مندور ولويس عوض ومحمد غنيمي هلال وعلي الراعي وعبدالقادر القط وشكـــــــري عياد، وأخيرا النقاش، هذا النوع من النـــــقاد لا يمكن فصل ما يكتبه عما يفعله، سواء كان يعمل بالصحافة أو بالجامعة، انهم اصحاب الرسالات الفكرية والنقدية، وهم اكثر الناس اكتمالا، وهم في كل الأحوال متواضعون في علاقاتهم بالآخرين، بسطاء في تعاملهم، غير متكلفين، يأسرونك من أول لحظة بلطفهم القادم من علمهم الغزير وشعورهم العميق بالإشباع الناتج عن هذا العلم.

02-14-2008, 03:15 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #3
وداعاً رجاء النقاش
أمثولة رجاء النقاش
صبحي حديدي

18/02/2008

أميل إلي اعتبار رحيل الناقد المصري الكبير رجاء النقاش (1934 ـ 2008) بمثابة اختتام، وربما طيّ حتي إشعار آخر طويل، لصفحات خاصة في تاريخ النقد الأدبي العربي، خلال أواسط الخمسينيات وعقدَيْ الستينيات والسبعينيات، حين توجّب علي بعض النقّاد ذوي الميول القومية أن يواكبوا برامج أحزاب وقوي البرجوازية الصغيرة العربية، الناصرية أو البعثية، وأن يشحنوا مفهوم الإلتزام بجرعات عالية، وأحياناً مفرطة مغالية، من الحسّ النضالي والإنحياز الحزبي. وبالطبع، توفّر في المقابل ذلك الفريق الذي لم يطالب بالتخفّف من تلك الجرعات فحسب، بل ناهض مفهوم الإلتزام ذاته علي قاعدة منح الفنّان حرّية قصوي، فنّية وسياسية (الأمر الذي لم يمنع بعض هؤلاء من أن يلتزموا بالدفاع عن فلسفات أخري، مثل نظرية الفنّ للفنّ أو الوجودية أو العبث أو القومية الإجتماعية التي بشّر بها أنطون سعادة، حتي إذا كانت أفكار بعض هذه الفلسفات تفضي إلي مآلات غير بعيدة عن الفاشية).
لكنّ النقّاش، في غمرة هذَين الإستقطابين، وسواهما، ظلّ ناقداً من طراز خاصّ بالفعل، لأنّ نشاطه النقدي كان، ومنذ الكتابات الأبكر، علامة طازجة حارّة تشير إلي أمرَين:
1 ـ إدارة الصراع (في جبهة الأدب) بين اليمين واليسار عموماً، وبين المدافعين عن عروبة مصر ودعاة انتمائها إلي أصول أخري شعوبية. وفي هذا الصدد تندرج سجالاته ضدّ توفيق الحكيم ولويس عوض ومَن أسماهم بـ الإنعزاليين ، ودفاعه عن طه حسين وأنور المعداوي، وتمييزه بين اتجاهات اليمين واليسار عند عباس محمود العقاد (وكان ذلك التمييز بمثابة اختراق ذاتيّ نحو الديالكتيك الماركسي، مارسه النقّاش بنفسه، علي نفسه)، وتشخيصه للظواهر السياسية وراء أزمة الثقافة المصرية.
2 ـ تقديم المواهب الأدبية الجديدة، والسباحة عكس التيّار في الدفاع عن حقّها في احتلال الموقع المناسب. وهكذا كان رجاء النقاش بين أوائل الذين قدّموا الروائي السوداني الطيّب صالح، فرحّب بروايته موسم الهجرة الي الشمال ، واعتبر أنّ صدور هذه الرواية يدلّ علي أنّ الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ لم يعد عقبة في وجه تطوّر الأسماء الشابة. كذلك قدّم النقاش لمجموعة أحمد عبد المعطي حجازي الأساسية مدينة بلا قلب ، 1958، وكانت تلك المقدّمة بمثابة بيان سياسي، قوميّ ناصري تقدّمي، في تحصين قصيدة التفعيلة المصرية ضدّ دعاة تأثيمها واعتبارها نتاجاً إستعمارياً. وبالطبع، كان النقّاش أوّل المبادرين إلي تقديم محمود درويش، وذلك حتي قبل أن يغادر الأخير فلسطين المحتلة، ورغم حساسية الحديث (آنذاك!) عن شاعر فلسطيني كان يحمل الجنسية الإسرائيلية، فكيف بامتداحه شاعر مقاومة!
وفي الجانب السجالي خاض النقّاش عشرات المعارك دفاعاً عن قناعاته (ولعلّ هذا بعض السبب في إفراط الحماسة لديه)، كما خاض عشرات المعارك الأخري دفاعاً عن الآخرين (سواء أكانوا من النقّاد أو الأدباء). وكان يصيب في معظم الأحيان، ويخطئ في أحيان، خصوصاً حين يطغي التأويل السياسي للنصّ أو الإنتماء العقائدي لصاحب النصّ علي الخصائص الفنّية للنصّ ذاته. وفي الجانب العملي تولّي النقاش رئاسة تحرير دوريات عربية أساسية (مثل الهلال و كتاب الهلال الشهري، و الدوحة القطرية)، وكانت هذه المهامّ بمثابة اختبار عملي لمواقفه المنحازة إلي الحداثة والتجديد، وتسامحه مع النزعات التجريبية لدي الأدباء الشباب.
لكنّه كان، ولعلّه ظلّ حتي رحيله، شديد الميل إلي إسقاط السياسة (بمعناها المباشر والعقائدي والحزبي) علي الظواهر الإبداعية، وإلي شطب جزء كبير من حقوق الإبداع إذا أخلّت هذه بحقوق تلك السياسة تحديداً، وليس السياسة في أيّ من معانيها غير التبسيطية. ولعلّ جوهر هذا الموقف تختصره الكلمة التي نُشرت علي الغلاف الأخير لكتاب النقّاش ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء ، حيث جاء فيها: وقد وقف المؤلف بوضوح وصراحة مع حركات التجديد الأصيلة ورموزها المختلفة، كما وقف ضدّ حركات التجديد المبنية علي عداء حضاري وقومي للأمّة العربية واللغة العربية وآدابها. ولم يتردّد المؤلف في معارضة حركات التجديد القائمة علي سوء النيّة القومية، والإستهانة بالتراث الحضاري العربي بهدف تمزيق العرب فكرياً وثقافياً ووجدانياً .
والحقّ أنّ أحداً لا يستطيع الزعم الأكيد بأنّ دعوة تجديدية في الأدب، أياً كانت مفاهيمها، يمكن في الآن ذاته أن تكون حالة عداء حضاري وقومي للأمّة العربية ، لأنّ تجدّد المضامين والأساليب والأشكال والمدارس الأدبية أو الفنّية ظاهرة إبداعية واجتماعية ـ ثقافية عميقة، وحتمية مراراً، حتي إذا انطلقت من أساس سياسي أو فلسفي. وهكذا برهنت السنوات اللاحقة أنّ حركة التجديد التي قادت إلي تكريس قصيدة النثر في الشعر العربي منذ أواخر الخمسينيات، لم تكن حركة سياسية قادها شعراء أعضاء في الحزب السوري القومي الإجتماعي حصرياً، وشجّعتها أوساط الإستشراق الغربية وحدها، كما تردّد حينذاك، بل هي حركة تجديد عميقة في المحتوي والأسلوب والشكل، بدليل أنها اليوم الإتجاه الأعمّ في الشعر العربي المعاصر، ويمارس كتابتها شعراء قوميون وماركسيون وإسلاميون!
وإلي جانب اختتام هذه الصفحة، الحارّة الحافلة، يخشي المرء أن يطوي رحيل رجاء النقّاش تلك القدوة الصالحة التي اجتهد الراحل طويلاً لتكريسها: في ميدان ممارسة النقد التطبيقي، وفي الحرص علي متابعة الظواهر الخلافية، وإثارة النقاش حولها، والتنبّه إلي الأصوات الجديدة والشابة، والمجازفة بتقديمها ووضعها ضمن سياقات المشهد الأدبي الأعرض.
02-18-2008, 02:31 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  رجاء عالم‮.. ‬النص البصمة سيناتور 1 877 10-25-2007, 08:01 PM
آخر رد: سيناتور

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS