البحث في نشأة الدين
علم البحث في نشأة الدين أو ما يسمى بعلم الاجتماع الديني هو علم حديث نسبيا فهو لم يبدأ إلا في القرن التاسع عشر, وكان من أوائل العلماء الذين بحثوا في نشأة الدين العالم (سير جيمس فريزر) و (تايلور) و (إميل دوركايم) و (راد كليف براون) وغيرهم من علماء الاجتماع والأنثروبولوجي .
(راجع أحمد أبو زيد, نظرة البدائيين إلى الكون, ص43) .
أما عن أسباب تأخر الأساليب العلمية لدراسة الظاهرة الدينية فيرجع ذلك لعدة أسباب أعاقت دراسة نشأة الدين، قد ذكرها الدكتور عبد الباسط محمد حسن، على النحو التالي::
1- ارتباط الدين بالجانب العقائدي من حياة الإنسان مما يجعله, محاطا بسياج من الرهبة والقدسية التي تدعو إلى الحذر والتردد في معالجة موضوعاته.
2- ارتباط المعتقدات الدينية بالجانب القيمي من حياة الإنسان مما يجعل من الصعوبة بمكان التزام الباحث بالموضوعية المطلقة متحررا من أحكام القيمة وبدون التأثر بمعتقده الديني وبخاصة في مجال المقارنة بين الأديان أو في تحديد العلاقة بين الدين وبين غيره من النظم الاجتماعية .
3- تقوم الدراسة العلمية أساسا على الأسلوب الاستقرائي الذي يبدأ بدراسة الوقائع الجزئية للوصول إلى الحقائق الكلية والاعتماد على ملاحظة الظواهر المحسوسة, وفرض المفروض, وإجراء التجارب وجمع البيانات وتحليلها للتثبت من صحة الفروض أو عدم صحتها, غير أن الظواهر الدينية تتناول حقائق كلية تتعلق بالوجود وعلته وبصفات الموجد وبكثير من المسائل التي تتصل بمعرفة الله وإثبات وجوده, وهذه الموضوعات يتعذر الرجوع فيها إلى الواقع وحسمها بالتجربة, ومن ثم يصعب دراستها باستخدام الأساليب الأمبيريقية أو إخضاعها للقياس العلمي الدقيق .
4- غلبة الجانب المادي على الحياة المعاصرة, خاصة بعد قيام حركة النهضة الأوربية وحدوث الثورة الصناعية وتقدم العلوم الطبيعية وظهور كثير من الفلسفات المادية التي تفسر الدين تفسيرا مضادا لطبيعته على أنه قوة التقدم وتقف في وجه التطور وتسرق الإنسان من الحياة وتدير ظهره إلى كل ما فيها من قوى وتضعه في حرب مع قوانين المجتمع وسنن الكون, فكان طبيعيا والحال كذلك ألا يولي كثير من الباحثين الظواهر الدينية نفس الاهتمام الذي يولونه لبقية الظواهر والنظم الاجتماعية)انتهى.
(المصدر: د. عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع, ص421,420)
# مراحل البحث في الظاهرة الدينية:
ذكر علماء الاجتماع أن دراسة الدين أو الظواهر الدينية قد مرت بثلاث مراحل رئيسية ذكرها الدكتور: عبد الباسط محمد حسن, على النحو التالي:.
المرحلة الأولى:
(بدأت دراسة الظواهر الدينية في هذه المرحلة عن طريق الاستطراد فقط، بمعنى أن الباحثين الأوائل لم يتجهوا إلى دراسة النظام الديني في ذاته وإنما كانوا يتطرقون إليه أثناء تعرضهم لوصف الحياة الاجتماعية للشعوب المختلفة، وكانوا يقتصرون على وصف المعتقدات الدينية في رقعة محدودة من الأرض وبدون الدخول في مقارنات بين المعتقدات المختلفة.
(د. عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع, ص 421).
ويقول الدكتور أحمد الخشاب: (وبمرور الوقت اتجهوا إلى المقارنة بين المعتقدات في أكثر من بلد أو إقليم نتيجة لكثرة الرحلات والأسفار التي قاموا بها، ونتيجة لزيادة الاتصالات التجارية والسياسية والحربية بين المجتمعات المختلفة،كما كانوا يميلون إلى تفضيل دين على دين،وكانوا في أغلب الأحيان يحورون الديانة التي يدينون بها على أنها أفضل الديانات وبذلك ابتعدوا عن الجانب العلمي في الدراسة).
(راجع: د. أحمد الخشاب، علم الاجتماع الديني، مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية، ص ص 29، 30.)
المرحلة الثانية:
يقول الدكتورعبد الباسط محمد حسن: (اتجه العلماء في هذه المرحلة إلى دراسة الظواهر الدينية في المجتمعات المختلفة مستخدمين المنهج التطوري، وكان يسيطر عليهم تصور عن الظواهر الاجتماعية باعتبارها تتقدم عبر خطوات محددة من البسيط إلى المركب وبحيث يسير التطور في الطريق المرسوم له حتى ينتهي إلى أعقد المراحل وأكملها.
(المصدر: د. عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع, ص421).
ويقول الدكتور الخشاب: (ويستند المنهج التطوري على التسليم بالتشابه الجوهري في الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان، وقد ترتب على ذلك التسليم بأن الشعوب تسلك نفس الطريق، ومن هنا جاء التعميم بأن الديانة تطورت إلى عبادة الأرواح، أو عبادة مظاهر الطبيعة حسب ما تصوره الطوطمية كانت أولى الديانات قاطبة، وأن جميع المجتمعات قد مرت بها المدرسة الفرنسية).
(د. أحمد الخشاب، علم الاجتماع الديني، ص 51)
وقد تفرغ عن هذا الافتراض الاعتقاد بأن الجماعات الإنسانية الأولى كانت تحيا على نفس النمط من الحياة الدينية الذي نجده في الجماعات المتأخرة المعاصرة، ومن ثم انحصر مجهود العلماء والمفكرين في ترتيب الجماعات حسب درجة كمالها، وتدرج معتقداتها من البساطة إلى التركيب. فكانوا يبدءون باختيار الشكل الأول البسيط للظاهرة الدينية حسبما تسمح بذلك معلوماتهم التي جمعوها من مجتمعات مختلفة، ثم ترتب بعد ذلك الأشكال والصور الأخرى للظاهرة الدينية بشكل يتفق مع مفهوماتهم وتصوراتهم عن تطور الظاهرة الدينية. (د. عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع, ص422).
المرحلة الثالثة:
يقول الدكتورعبد الباسط حسن: (اتجه الباحثون-ابتداء من الثلاثينيات من هذا القرن-إلى استخدام المنهج العلمي في دراسة المعتقدات الدينية، وابتعدوا عن النظريات الظنية التخمينية، وحاولوا الكشف عن الكيفية التي تؤثر بها النظم الدينية في مظاهر الحياة الاجتماعية وفي العلاقات الإنسانية والأساليب التي تتكيف بها تلك النظم وفقا للظروف الاجتماعية التي تنتشر فيها، أو تمارس في نطاقها دون أن يحاولوا تقويم الظواهر والنظم الدينية بالنظر إلى ديانتهم كما كان يفعل الباحثون الأوائل،وقد أدى هذا الموقف إلى أن أصبحت الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية الحديثة المتعلقة بالظواهر الدينية ذات صبغة موضوعية إلى حد كبير).
(د. عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع، ص 423).
ويقول الدكتور أحمد أبو زيد: (فبالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا اتجهوا إلى دراسة المجتمعات البدائية للتعرف على الطريقة التي ينظر بها هذا القطاع الهام من قطاعات المجتمع البشري الكبير إلى الكون وموقفه منه على اعتبار أن هذه النظرة وظلك الموقف يمثلان صورة واحدة من صور اهتمام الإنسان في كل عصر ومكان بالبحث عن المجهول،ومحاولة كشف أسرار الكون الذي يحيط به,والذي يؤلف هو نفسه جزءا صغيرا منه على الرغم من أهميته فيه).
(أحمد أبو زيد، نظرة البدائيين إلى الكون، ص43).
ويقول الدكتور عبد الباسط حسن: (أما علماء الاجتماع,فقد اتجهوا إلى دراسة الظاهرة الدينية عموما باعتبارها ظاهرة اجتماعية سواء كان ذلك في المجتمعات البدائية أو المتحضرة,وظهر فرع متخصص من فروع علم الاجتماع عرف باسم((علم الاجتماع الديني)) يدرس الظواهر والنظم الدينية من حيث نشأتها,والوظائف التي تؤديها والعلاقة التي تقوم بينها وبين غيرها من الظواهر والنظم الاجتماعية وكذلك الجماعات والمنظمات والاتجاهات الدينية,والأدوار التي يقوم بها رجال الدين في المجتمعات الحديثة,فضلا عن دراسة الحركات الدينية باعتبارها حركات اجتماعية) انتهى.
(د. عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع، ص 423).
# السحر وعلاقته بالدين :
لقد اهتم علماء الاجتماع والأنثروبولوجي بدراسة العلاقة بين السحر والدين وتحديد هذه الماهية وأيها أسبق في الوجود على الآخر الدين أم السحر وكان من العلماء المهتمين بهذا الموضوع (فريزر) و (كودرنجتون) و(إميل دوركايم) و(موس) و(ليغي لريل) .
يقول الدكتور : عبد الباسط محمد حسن: (اهتم علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع بدراسة العلاقة بين السحر والدين,وكان على رأس هؤلاء العلامة((فريزر)) الذي حاول أن يحدد ماهية هذه العلاقة, ثم تبعه((كودرنجتون)) الذي درس فكرة((المانا)) أو القوة السحرية عند الشعوب البدائية،ثم جاءت المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع وعلى رأسها اميل دوركايم، وموس وليفي بريل فدرست موضوع السحر بوجه عام. ولقد كان الاتجاه السائد في دراسة السحر وعلاقته بالدين هو الاتجاه التطوري الذي سيطر على الدراسات الأنثربولوجية والسوسيولوجية في أواخر القرن الماضي،(القرن التاسع عشر) ولذلك اتجه العلماء إلى وضع نظريات تفسر نشأة كل منهما, ودخلوا في جدل عقلي حول الأسبقية التي يمكن أن تعطى للدين أو السحر.
فافترض فريزر أن السحر نشأ أولا وعنه نشأت العقيدة الدينية،فالناس-على حد قوله-كانوا في بداية الأمر يركنون إلى السحر في تصريف أمورهم،غير أنهم ما لبثوا أن اصطدموا بمقاومة الطبيعة لهم،وعدم سيرها وفق إرادتهم،فاعتقدوا بوجود قوى عليا لا يستطيعون التحكم فيها أو السيطرة عليها،وهذه القوى العليا هي الآلهة،وكان عليهم أن يقفوا منها موقف الخضوع والخشوع،ويتزلفوا إليها بالقرابين والصلوات والأدعية،ومن ثم نشأت الديانات. وقد أظهرت الدراسات الحديثة خطأ فريزر الذي بنى نظريته على مبادئ عقلية تختص بها الشعوب المتحضرة وأراد تطبيقها على العقلية البدائية دون أن يفرق بين ما قد يفهمه البدائي وما يفهمه المتحضر.
(د. عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع, ص 430).
ويقول الدكتور: السيد محمد البدوي: (ثم إن العمليات السحرية ليست من البساطة كما يدعي فريزر بل هي على العكس شديدة التعقيد, وتستلزم لأدائها شروطا كثيرة منها ما يتعلق بالمكان ومنها ما يتعلق بالزمان ومنها ما يتعلق باختيار أدوات السحر نفسها وكيفية تحضيرها, فضلا عن أن مضمون السحر ذاته وما يحتويه من رموز واستدعاء قوي خفية يخرج به عن صفة البساطة.
(راجع، السيد محمد بدوي، نظريات ومذاهب اجتماعية، ص 303).
ويقول الدكتور: عبد الباسط حسن: (وقد ذهب مفكرون آخرون من أمثال (الييه) ودوركايم وهوفلان إلى القول بأن السحر نشأ عن الدين بعد أن أفسد بعض عناصره الأخلاقية وحولها إلى الشر. والواقع أن الأخذ بالاتجاه التطوري في تفسير أسبقية السحر على الدين أو العكس لا يتمشى مع حقائق العلم ولا يستند إلى أدلة واقعية محسوسة, ولذا فإن علماء الأنثربولوجيا والاجتماع في الوقت الحاضر يحاولون تجاوز هذه المشكلة والبحث عن أسس للتمييز بين كل من السحر والدين, ويمكن تلخيص هذه الأسس فيما يلي :
1- تختلف طبيعة السحر عن طبيعة الدين في ؟أساسها لأن السحر منوط أبدا بالأمور الخبيثة والوسائل الدنسة, ولم تخل العبادة قط من توسل إلى الخير, ورجاء في كرم المعبود, وقلما تخلو من (تطهر) بنوع من أنواع الطهارة يناقض وسائل السحر الخبيث, فكأنما فرق الناس بين العبادة والسحر عندما فرقوا بين الأرباب المرجوة والأرباب المرهوبة فاتخذوا العبادة لأرباب الخير والمحبة واتخذوا السحر لأرباب الشر والبغضاء.
2- يستخدم الدين اللغة السائدة والمفهومة في المجتمع على حين أن السحر له لغته الخاصة, وصيغته الغامضة غير المفهومة حتى لدى الممارسين أنفسهم.
3- يعتنق العقيدة الدينية غالبية أفراد المجتمع, ويمارسون شعائرها علانية, بينما يمارس السحر طبقة محدودة يخافها الناس ولا يحترمونها كما أنها لا تحظى بتقدير اجتماعي.
4- يعتمد الدين في شعائره على التضرع والابتهال إلى الله, بينما يستخدم السحر ممارسات يعتقد أنها تجبر القوى العلوية على تحقيق النتائج المرجوة, ويعزى الفشل في نجاح الممارسات السحرية إلى ارتكاب أحد الأخطاء أثناء الممارسة أو نتيجة لتدخل سحر آخر مضاد يكون أقوى مفعولا, وأعظم أثرا.
5- لا تحاط الممارسات السحرية بأي قدر من القداسة كما هي الحال عند ممارسة الشعائر الدينية ولذلك فإن الدين لا يكون سحرا وكذلك العكس.
6- يحتاج رجل الدين في العادة لفترة طويلة من الإعداد الرسمي قبل أن يباشر وظيفته في المجتمع بخلاف الحال في السحر الذي لا يحتاج لمثل هذا الإعداد الطويل.
7- للسحر غايات عملية نفعية ذات طابع فردي في غالب الأحيان, وقد يستخدم السحر في إيقاع الأذى بخصم أو عدو أو في تحقيق أغراض لا تتفق مع نظام الجماعة كالأخذ بالثأر أو القتل أو الحصول على ثروة بطريقة غير مشروعة, أما الدين فليست له هذه الغايات الفردية المحدودة وإذا حدث واستخدمت الشعائر والممارسات الدينية كوسيلة لغاية, فغالبا ما تكون المصلحة العامة هي الغاية المرجوة, مثال ذلك أداء الصلاة طلبا للغيث أو لدرء الشر عن الجماعة.
8- السحر – في نظر دور كايم وأتباعه – ليست له كنيسة, بمعنى أن الممارسات السحرية لا يمكن القيام بها على مستوى الجماعة كلها أو الجانب الأكبر منها كما هو الحال بالنسبة للشعائر الدينية, بل إنها كثيرا ما تمارس في الخفاء وقد لا يكون لها أي مظهر اجتماعي على الإطلاق.
(راجع، أحمد أبو زيد، البناء الاجتماعي، ص527).
9- يرتبط السحر بالمستوى الحضاري والثقافي للمجتمعات الإنسانية فكلما انحط المستوى الحضاري للمجتمع انتشرت الممارسات السحرية بعكس الحال في الدين.
وعلى الرغم من هذه الأسس التي يمكن الاستناد إليها في التفرقة بين السحر والدين, فإن بعض العلماء يخلطون بينهما ويرجع (هسو) ذلك إلى أنهما معا يتعلقان بعالم الغيبيات ويستعينان بالكائنات الروحية والقوى الخفية ويستمدان منها العون والتوفيق والطمأنينة وراحة البال.
(راجع:عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع، ص 332).
# النظريات المختلفة التي فسرت نشأة الدين:
سبق وأن قلت في صدر هذا المقال: لقد توصل العلماء الاجتماع والأنثروبولوجي إلى العديد من النظريات حول نشأة الدين في المجتمعات البدائية، وقد جاءت نتائج تلك الدراسات والأبحاث متباينة ومختلفة فيما بينها، وأن معظمها قد جانبها الصواب، وفي ذلك يقول الدكتور عبد الباسط حسن: (حاول كثير من المفكرين الاجتماعيين تفسير النشأة الأولى للدين ووضعت في ذلك نظريات متعددة،غير أن أغلب ما قيل في هذا الصدد لا يقوم على أساس وضعي، ولا يعتمد على استقراء الحقائق الدينية وتحليلها تحليلا علميا، فضلا عن أن أغلب هذه النظريات تتخذ من المجتمعات البدائية المعاصرة مادة تعتمد عليها وهذه المجتمعات لا تمثل بالدقة المراحل الأولى للمجتمعات الإنسانية.
ويمكن تقسيم النظريات التي عرضت لنشأة الدين وفقا للاتجاهات الأربعة التالية:
1-الاتجاه الطبيعي:
يرى أصحابه أن الدين محاولة أولى من جانب العقل الإنساني لتفسير ظواهر الطبيعة وقد هداه إلى ذلك ما عليه الكون من تناسق وانتظام فنسب هذا التناسق والانتظام الكوني إلى قوة مستقلة عن البشر يخضع لها نظام العالم. ويرجح-ماكس موللر- أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده لأنه أحس بروعة المجهول وجلال الأبد الذي ليس له انتهاء، وأنه مثل لهذه الروعة بأعظم ما يراه في الكون وهو الشمس التي تملأ الفضاء بالضياء، فهي محور الأساطير والعقائد كما ثبت له من المقابلة بين اللغات واللهجات.
ويذهب-موللر- إلى أن الدين هو اللغة التي يعبر بها الإنسان عن هذا الإحساس الغامض الذي يأتيه عن طريق حواسه وقلبه، والشعور الديني يعترف في بدايته بوجود عدة آلهة ولكن كلما توجه الشعور بالفرد لعبادة أحد الآلهة، سرعان ما يصبح هذا الإله في نظره أقوى الآلهة جميعا، فيتصف بصفات الآلهة الآخرين. وإذا قيل لموللر أن (الأبد) أو اللانهائية معنى لا توجد له كلمات في اللغات الهمجية ولا الحضارة الأولى, قال إن الإحساس بالمعاني يسبق اختراع الكلمات وقد ثبت أن الإنسان الأول لم يضع في لغاته كلمات لبعض الألوان. ويذهب بعض المفكرين إلى أن الإنسان الأول أحس بضعفه أمام ظواهر الطبيعة ولذلك كان لا بد له من سند يبتدعه ابتداعا ليستشعر الطمأنينة بالتعديل عليه والتوجه إليه بالصلوات في شدته وبلواه . لكن الواقع أن الضعف لا يعلل العقيدة الدينية كل التعليل لأنها تصدر من غير الضعفاء بين الناس, وليس أوفر الناس نصيبا من الحاسة الدينية أوفرهم نصيبا من الضعف الإنساني, ومهما يكن من الصلة بين ضعف الإنسان واعتقاده فهو لا يزداد اعتقادا كلما ضعفا, ولا يضعف على حسب نصيبه من الاعتقاد, وما زال ضعفاء النفوس ضعفاء العقيدة وذوو القوة في الخلق ذوي قوة في العقيدة كذلك.
فليس معدن الإيمان من معدن الضعف في الإنسان, وليس الإنسان المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل ولا أمام الناس في الاعتقاد أمامهم في الوهن والهزال.
2- الاتجاه الروحي :
يذهب أصحابه إلى أن الديانات قامت في أساسها على عبادة الأرواح, فقد اعتدى الإنسان البدائي منذ القدم إلى فكرة الروح من تلك الحياة المزدوجة التي تجمع بين النوم واليقظة, فاعتقد أنه مكون من كائنين هما: الجسد والروح, ونسب إلى الأخيرة منهما كل ما يصيبه من نجاح أو فشل وبذلك أصبح لزاما عليه أن يرضيها ويتقرب إليها وينزلها منزلة التقديس وعن هذه الأفكار انبثقت عبادة الأرواح .
يقول الدكتور، أحمد أبو زيد: ولقد استخدم (تايلور) اصطلاح (الأنيمزم) أي الاستحياء أو حيوية الطبيعة وحاول أن يفسر به الأصل الاعتقاد بالأرباب. فالرجل البدائي – في نظره – يعتقد في تقمص الأرواح كل قوى الطبيعة ومظاهر الكون المختلفة إلى حد أنه يتصور هذه الظواهر والقوى المختلفة كما لو كانت كائنات مشخصة لها ذاتيتها وكيانها الفردي,. فكل ما في الكون من شموس وأقمار وأنهار ورياح ومطر ووديان وزلازل وبراكين وما إليها تعتبر عنده كائنات حية كالإنسان تماما لأن الأرواح والنفوس تملأ في نظره كل شيء أو (تسكن) في كل شيء بما في ذلك الأشياء التي نعتبرها نحن أجساما جامدة ومن هنا فإن هذه النفوس والأرواح تمنح خصائصها ومقوماتها الذاتية لتلك الأشياء المادية. (راجع، د. أحمد أبو زيد، نظرة البدائيين إلى الكون، ص54).
والواقع أن هذه النظرة ليست مقصورة على البدائيين وإنما توجد أيضا عند كثير من الشعوب ذات الحضارات القديمة من أمثال الهند والصين مما يدل – في رأي العلماء الأوائل على الأقل – على أن هذه النزعة الحيوية نزعة إنسانية عامة وليست مسألة خاصة بمرحلة معينة من مراحل التفكير الإنساني, وإن كانت تضعف بتقدم الحضارة والمجتمع أو تتخذ أشكالا وصورا أكثر تهذيبا. ولا تزال بعض بقايا ومخلفات هذه النظرة واضحة في المجتمعات الحديثة وتظهر في بعض المواقف التي تعامل فيها الأشياء الجامدة كما لو كانت عاقلة حية.
وينص (هربرت سبنسر) نفس المنحنى في تفسير نشأة الديانات فيذهب إلى أن الإنسان الأول كان يؤمن بحياة الأرباب لأن عبادة الأسلاف هي أقدم العبادات وكان يرى الأطياف في المنام فيحسب أنها باقية ترجى وتخشى وأنها تتقاضاه فروضا لها عليه كفروض الأباء على الأبناء وهم بقيد الحياة.
ويؤخذ على هذا القول أن عبادة الأسلاف لم تستغرق عبادات الأقدمين في زمن من الأزمان, وأن النائم يرى أطياف الغرباء كما يرى أطياف الأباء, ويرى أطياف الأطفال الضعفاء, بل ويرى أطياف السباع التي يخافها في يقظته فلا يعبدها لأنه يخافها ويتردد عليه أطيافها بل يقتلها ويحول بينها وبين الطعام.
ومع الاعتراف بأن الرجل البدائي يتصور العالم الخارجي مليئا بالنفوس والأرواح التي تتقمص كل شيء فإنه يشعر دائما بكيانه ووجوده المستقلين تماما عن الأشياء, بل إنه يقف في معظم الأحيان موقف التحدي من ذلك العالم الخارجي ومن الظواهر الكونية المختلفة وعلى الرغم من إيمانه بوجود أرواح قوية وجبارة تسير هذه الظواهر الكونية والطبيعة فإنه يحاول دائما التغلب عليها وإخضاعها لمشيئته والتحكم فيها بما يتفق وصالحه الخاص.
(راجع:عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع، ص 435، 436).
3- الاتجاه الوظيفي:
يقول الدكتور عبد الباسط حسن: (أخذ بهذا الاتجاه كثيرون من علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع, نذكر من بينهم راد كليف براون , ومالينوفسكي , وتالكوت بارسونز وغيرهم , وهم يفسرون نشأة العقيدة الدينية في ضوء الوظائف التي تؤديها للأفراد والجماعات والمجتمعات والتي سنشير إليها في الفقرة التالية.
وتعليقا على ما سبق فإن من الممكن القول بأن جميع النظريات السابقة لا تعطي تفسيرا متكاملا لنشأة الديانات ومسألة العقيدة أكبر من يحصرها تفسير واحد فهي قد تتسع لجميع تلك التفسيرات معا ولا تزال مفتحة الأبواب لما يتجدد من البحوث والدراسات.
ولا بد أن تمتزج هذه الصلة بالوعي والشعور متى كان الموجود من أصحاب الوعي والشعور ومن العجيب – كما يقول الأستاذ العقاد – أن يعرف العلماء شيئا يسمى الغريزة النوعية, بل شيئا يسمى غريزة الجماعة ولا يعرفون شيئا يسمى الغريزة الكونية أو السليقة الكونية, أو ما شاءوا من الأسماء. ويقول: ففي الكون مجال (للوعي الكوني) أوسع من مجال الحواس والملكات وما دامت الصلة بين الإنسان وبين الكون قائمة فلا بد من دخولها في نطاق وعيه على مثال من الأمثلة ولا موجب لوقوفها دون غاية من الغايات التي تطبقها ملكات الجنس البشري ومنها ملكة الاعتقاد والإيمان, وفي الكون العظيم حقائق لم تقابلها الحواس الجسدية ولا الحواس النفسية كل المقابلة إلى الآن.
(راجع:عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع، ص 437، 438).
4 - الاتجاه الطوطمي:
يقول الدكتور عاطف وصفي: (أما في النظام الطوطمي فينتشر في قبائل السكان الأصليين لأستراليا وقد اهتم به العلامة (دوركايم) وأراد أن يستنتج منه نظرية عامة في الدين تحدد الوظيفة الاجتماعية للدين بأنها المحافظة على تماسك واستمرار البناء الاجتماعي للمجتمع وتأكيد أواصر التعاون والود بين المنتمين لدين واحد, ورغم أن الأنثروبولوجيين يتفقون مع دوركايم في التحديد السابق للوظيفة الاجتماعية للدين وخاصة في المجتمعات البدائية إلا أن المعلومات الميدانية التي اعتمد عليها قد تعرضت لكثير من النقد, فمثلا لم يوافق العلامة (فريزر) على اعتبار الطقوس الطوطمية ظاهرة دينية وإنما نوع من السحر ويذكر العلامة (راد كليف براون) أن المعلومات التي اعتمد عليها دوركايم غير كاملة وغير واضحة وخاصة أن الدراسات الميدانية للمجتمعات البدائية الأسترالية قد كثرت بعد عام 1912 أي بعد نشر كتاب دوركايم, وقد اعتمد دوركايم في تحليلاته على قبيلة أسترالية تدعى (أراندا) ولكن تبين بعد ذلك أن تلك القبيلة لا تمثل الصورة العامة للعقائد والطقوس المنتشرة عند القبائل الأسترالية وإنما تمثل حالة فردية ولذلك اعتمد هنا على معلومات العلامة (راد كليف براون) لحداثتها ودقتها.
يرى الإنسان البدائي الأسترالي أن العالم يعيش في عالم واحد يتكون من البيئة الطبيعية التي حوله وكذلك البناء الاجتماعي الذي ينتمي إليه, فهو يوحد بين البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية في عالم واحد, ويشمل (النظام الطوطمي) مجموعة من العقائد والطقوس تدور حول ذلك العالم الموحد, إذ يعتقد البدائي الأسترالي أن العالم – كما يفهمه – قد تكون في عصور قديمة عن طريق كائنات مقدسة يطلق عليها اصطلاح (طوطم), ويشمل الطوطم الواحد إحدى مظاهر الطبيعة المحيطة فمثلا يوجد الطوطم الكنجارو وهو يمثل جميع أفراد ذلك الحيوان وقد يمثل الطوطم نباتا معينا أو ظاهرة مناخية مثل (طوطم المطر) أو طوطم (الجو الحار) وقد لوحظ أن تلك الطواطم تمثل ظواهر هامة بالنسبة لحياة القبيلة واستمرارها, ويعتقد الإنسان الأسترالي أن الإنسان يعتمد في معيشته على ظواهر الطبيعة سواء أكانت تتابع الفصول أو تكاثر الحيوانات أو نمو النبات أو تكاثر الإنسان. إن استمرار تلك الظواهر معناه استمرار حياة الإنسان وبالتالي استمرار المجتمع ذاته, ويعتقد كذلك أنه يستطيع أن يضمن استمرار تلك الظواهر عن طريق طقوس معينة, وتتلخص تلك الطقوس في أن يتجمع أعضاء القبيلة الواحدة في مكان معين يدخل في نطاق إقليم القبيلة, ويعتقدون أن الكائن المقدس قد جاء لأول مرة في ذلك المكان ويمكن تسميته بمركز الطوطم, ويقوم أعضاء القبيلة بأداء طقوس معينة منها الرقص والأدعية للطوطم أو الكائن المقدس بغية استمراره أو غزارته, فمثلا يكون هدف الرقصات والدعوات الإكثار من حيوان الكنجارو أو غزارة المطر ليروي النبات والحيوان أو الإكثار من نسل أفراد القبيلة حتى تقوى وتهزم أعدائها.
إن الرقصات الجمعية والائتمان إلى طوطم معين والشعور بوحدة المصير تجعل من القبيلة الواحدة وحدة اجتماعية متعاونة متماسكة, ويقول العلامة (راد كليف براون) أنه في عام 1910 عندما زار القبائل الأسترالية لأول مرة قال له أحد أفراد تلك القبائل: (الكنجارو هو أخي الأكبر) , حلل العلامة براون تلك العبارة بأن ذلك الرجل يقصد القول بأن (نوع الكنجارو) يرتبط بعلاقة قوية تشبه علاقة الأخ بأخيه الأصغر. إن العرض السابق (للنظام الطوطمي) يختلف في كثير من النواحي عن عرض دوركايم الذي تصور أن الطواطم هو الجد الأكبر الذي ينتمي إليه أفراد القبيلة أي الأستراليين يعتقدون في وجود علاقة قرابة دموية تربطهم بالطواطم أما العلامة (براون) فينفي هذا الفهم للطواطم ويرى أن الطواطم كائن مقدس يعتقد أفراد القبيلة أن استمراره في عالمهم لا يتم إلا عن طريق طقوس معينة, وقد ذكرت سابقا أن العلامة (براون) قد زار القبائل الأسترالية ودرسها ميدانيا واعتمد في أبحاثه ومقارناته على كثير من الدراسات الميدانية الحديثة, أما (دوركايم) فلم ير تلك القبائل واعتمد على معلومات قليلة ناقصة ولذلك فإنني أفضل الأخذ بتحليلات العلامة براون ويجب ملاحظة أن كل من (دوركايم) و(براون) قد أكد الوظيفة الاجتماعية للدين عامة وللنظم الطوطمية خاصة بأنها تأكيد التماسك والوحدة والتعاون بين أفراد القبيلة الواحدة ويترتب على ذلك استمرار البناء الاجتماعي)انتهى.
(راجع، د. عاطف وصفي، الأنثروبولوجيا الثقافية, ص235, 233).
وفي النهاية أقول إن المعتقدات الدينية التي تعترف بوجود قوة قاهرة مقدسة صانعة لهذا الكون، موجودة في كل المجتمعات الإنسانية بلا استثناء، وفي ذلك يقول الدكتور عبد الحميد لطفي:(النظم الدينية موجودة في كل المجتمعات الإنسانية لأنها تسد حاجات اجتماعية هامة، فالدين يدفع الأفراد إلى تغليب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، كما يساعد على تكامل شخصية الفرد وتقوية روحه المعنوية فيدفع عنه الخوف ويحيي فيه الأمل بما يبثه فيه من قوى خارقة تتمثل في قوة الإله الذي يقدر على مساعدته. وللنظم الدينية دور هام في تكامل المجتمع عن طريق شعائره التي تؤدي وظيفة العاطفة الجماعية المشتركة، والتي تذكر الفرد وهو غارق في حياته المادية وأنانيته وشحه بولائه لجماعته ولقيمها العليا)انتهى.
(راجع، د. عبد الحميد لطفي, علم الاجتماع, ص73).
# قائمة بالمراجع:
1. د. عبد الباسط محمد حسن، علم الاجتماع, الكتاب الأول المدخل, مكتبة غريب، القاهرة.
2. د. أحمد الخشاب، علم الاجتماع الديني، مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية، مكتبة القاهرة الحديثة، الطبعة الثانية، 1964.
3. أحمد أبو زيد، نظرة البدائيين إلى الكون، مجلة عالم الفكر الكويتية، المجلد الأول، العدد الثالث، 1970.
4. أحمد أبو زيد، البناء الاجتماعي، الجزء الثاني، الأنساق، القاهرة، 1967.
5. السيد محمد بدوي، نظريات ومذاهب اجتماعية، دار المعارف، مصر 1969.
6. د. عاطف وصفي، الأنثروبولوجيا الثقافية, دار النهضة العربية، بيروت.
7. د. عبد الحميد لطفي, علم الاجتماع, دار النهضة العربية، بيروت.
|