اقتباس: إبراهيم كتب/كتبت
عزيزي الختيار:
تحياتي لك (f)
كيف عرفت أن الديوان الذي بين يديك ليس منحول وأنه حقاً منسوب للمهلهل عن جدارة؟ في كتاب الأدب الجاهلي قال طه حسين إن جميع الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا اليوم منحول كل النحل. من أدرانا أن هذا هو إبداع حماد الرواي أو غيره من رواة الشعر وهم أهل العنعنة و لاتوجد برديات أو ثائق تفيد ذلك...كيف تثق بديوان حفظته صدور الحفاظ و مع ذلك تعصمه من النحل؟ مارأيك؟ شكرا.
عزيزي إبراهيم
هل قرأت الموضوع ؟
لو أنك قرأته لقرأت كلامي حول هذه النقطة ، حيث قلت :
اقتباس:طبعاً هناك بعض الاختلافات في هذه الأخبار ، و هناك من ينكرها جميعها كطه حسين ، و لكن هذا لا يعنينا هنا ، فنحن سنتكلم عن جمال اللغة و الصور الشعرية عند المهلهل ، فسواء كان هو صاحبها أم غيره فهذا لن يغير من جمالها شيئاً .
فجمال اللغة و جمال بيت الشعر ليس له علاقة بصاحبه ، فلو كان حماد الراوية كما تقول أو المهلهل فهذا لن يغير من جمال الصورة الأدبية في شيء ، فمثلاً قوله :
أبت عينايَ بعدكَ أن تكفّـــــا *** كأنّ غضا القتـادِ لهـا شِفارُ
فهذا تشبيه موفق جداً و غاية في الإتقان ، سواء كتبه المهلهل أو غيره .
أما بخصوص مقالة طه حسين عن الشعر الجاهلي (مع التحفظ على التسمية) ، فهي في رأيي أسوأ مقالة يمكن أن يخرج بها مفكر عربي ، ناهيك عن أن جميع حجته مبنية على تشابه بين قصص الشعراء و غيرهم ممن ظهروا في العصر الأموي و غيره .
هل قرأت كتابه ؟
إنه يذكرني بكتاب كمال الصليبي الذي قال سماه "التوراة جاءت من جزيرة العرب" و خالف به جميع الآراء الميثولوجية القديمة و الحديثة التي تجعل مصادر التوراة نهرية (فراتية و نيليّة) . و بنى كل فكرته على تحويرات لفظية لأسماء الأماكن لتوافق ما هو موجود في جزيرة العرب بشكل متكلف و واضح جداً .
مقولة أن شعر ما قبل البعثة المحمدية هو منحول بمجمله ، هو تهوّر شديد و كلام فارغ ، فلا يمكن لأحد أن ينحل ثقافة بأكملها .
فنحن نعرف أن العرب كانت تحتفي بالشعر بشكل كبير جداً ، و أنها كانت تقيم له المحافل كسوق عكاظ و ذي المجاز و المجنّة ، و يتبارى فيها الشعراء و الخطباء ، فهل من المعقول أن يصل العرب إلى هذا المستوى من البلاغة دون أن يمرّ شعرهم بمرحلة طويلة من النضج و التعاطي و الممارسة قبل ذلك بقرون ؟
و ها هو عنترة يشتكي من الشعراء السابقين عليه ، و يتساءل إن أبقوا له معنى لم يسبقوه إليه ، فقال :
هل غادر الشعراء من متـردم * * * أم هل عرفت الدار بعد توهمِ
فأي شعراء هؤلاء السابقين على عنترة ؟ و الذين سبقوه إلى كل معاني و أغراض الشعر ؟
عنترة الذي عاصر محمد نبي الإسلام وتُوفّي قبل بعثته ، أي أنه ليس بذاك القِدَم السحيق الذي يتصوره أصحاب التشكيك في الشعر الجاهلي (مع التحفظ) ، فهل من المعقول أن يتم اختراع كل هذه الشخوص كاختراع شخصية آدم و حواء ؟؟!!!
الشخصيات المخترعة غالباً تكون سحيقة في القدم ، و على مر السنين و القرون يؤلف الناس الحكايا حولها و يزيدون عليها و يحوّلونها إلى خيال شعبي و أسطورة ، فتصبح كأنها حقيقة بعد قرون عديدة ، لابتعاد الزمن و إمكانية التحقق مما يرويه الرواة .
لكن أن ينتحل المنتحلون كل هذه الشخصيات و هذه الأسماء و هذا الفن الذي لا يُشك في ثبوته في زمن محمد نبي الإسلام و وجود الشعراء المخضرمين و غيرهم كالخنساء و زهير و الأعشى و حسان بن ثابت و كعب بن مالك و غيرهم و غيرهم ، و من يقرأ شعرهم يجد نضوجاً كبيراً لصناعة الشّعر ، فمتى نضج هذا الشعر و متى خبروا بحوره و فنونه و اضطراره و إقوائه و غيره ؟؟؟
صناعة الشعر جعلت منه مفخرة يعلقها صاحبها على الكعبة ليقرأها الناس ، فإن شككت في مسألة التعليق فلا بأس ، لكن هل تشك في وجود المعلقات نفسها ؟
كيف نضج هذا الأمر و بلغت هذه الصناعة كل هذا المبلغ ؟
فجأة و كأن كائنات فضائية هبطت عليهم و لقّنتهم الشعر ؟
صدقني لو كان لكل مفكّر وصمة ، فوصمة طه حسين هي هذا القول المتهوّر الذي لم يوافقه عليه أحد من شتى الملل و النحل ، مجرد مقولة يتم تداولها دون تحقيق ، و من يقرأ الكتاب (و هو منشور على النت) يجد أن جميع حجج طه حسين مجرد افتراضات و مقاربات و تخمينات تعتمد تشابه الشخوص و ظروفها و أسمائها و كلامها .
أما بخصوص ما دخل على الشعر الجاهلي (مع التحفظ على التسمية) من تحوير لبعض بيوته أو كلماته ، فهذا لا مراء فيه نتيجة لاعتماده الرواية الشفوية و التي هي أقل ضبطاً من الكتابة ، و شأنه في هذا شأن جميع الموروث القديم ، فهذا تجده في جميع الثقافات و الحضارات و لا يماري فيه أحد ، فاستبدال كلمة بأخرى من خلال الراوي ، لا يعطي مبرراً لإنكار الشعر الجاهلي (مع التحفظ) كله . هذا تهور ما بعده تهور .
على كل حال
أعيد و أكرر ، أن ما يهمنا في هذا الموضوع هو الصور الأدبية الموجودة في هذا الشعر ، و هذا ما أعجبني بشكل شخصي من ديوانه فأحببت أن أشرككم فيه .
تحياتي لك (f)