المرّة الأخيرة التي تحدث فيها الرئيس الأمريكي أمام الأمم المتحدة كانت منذ أربعة سنوات في خطاب كان جزءا من التحضير للحرب على العراق. وقتها قال الرئيس أنه خطاب "استمتع كثيرا في القائه".

ومنذ يومين، وقف الرئيس الأمريكي من جديد ليلقي خطابا مماثلا لا يقلّ عدوانية عن سابقه. وقد بدا فيه مستمتعا جدا، كالشيطان وهو يستمع الى طبول الحرب، في القائه هذا الخطاب ايضا.

بدأ بوش خطابه مباشرة بذكر سبتمبر 11، ثم انتقل بسرعة الى تقسيم العالم الى قسمين: قسم "معتدل خيّر" في صفّ إدارته و قسم "متطرّف شرير" معارض لها. واستخدم الرئيس الأمريكي مفردتي "تطرّف ومتطرّفين" أربعة مرّات في جمله الست الأولى، كما وأنه استطاع "دحش" تعابير "أعداء الإنسانية" و "حملة الإغتيالات" و "سلاح الإهاب" في هذه الجمل الست الأولى أيضا!

و من الواضح أن المسؤول عن كتابة خطاب الرئيس الامريكي لم يكن يهدف، طبعا، الى الترديد بهدف البروباغاندا والتضليل وغسل الأدمغة. ففي ذاك الخطاب استخدم بوش تعبير "التطرّف" 14 مرّة فقط، كما استخدم تعابير "الإرهاب" و "الإرهابيين" 16 مرّة!

الطيبون هم، بدون مفاجآت، "قوى الحريّة والإعتدال" أو "اصوات الإعتدال". وكأب يحنو على طلفه الرضيع -أو ربما كالشيطان يحنو على إبن الدابة- امتدح جورج بوش افغانستان التي وصفها أنها دولة شرق أوسطية :). وامتدح ايضا "الحكومة الديمقراطية في العراق التي تجسّد شيئا يخص "شعب عراق" (Iraq people). وفي معسكر "المعتدلين والمصلحين"، وضع الرئيس الأمريكي كل من أنظمة مصر، والسعودية، والكويت، والجزائر، والأردن، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة .. وهي كلها أنظمة ليست مشهورة بديمقراطيتها أو التزامها بحقوق الإنسان، ولكن بكونها "على طريق الحرية" :).

لكن نسي الرئيس بوش في خطابه، للأسف، مديح حكومة الباكستان التي يرأسها الجنرال مشرّف بوصفه حاكما مطلقا منذ العام 1999. لا هم، فالرئيس مشرّف رجل معتدل وخيّر ولا بد أن يتفهّم هفوة صديقه بوش.

ثم تحدّث الرئيس الأمريكي مباشرة الى شعوب الشرق الأوسط قائلا "إن بلادي تنشد السلام" .. وكان لا بدّ له من إيضاح ذلك لان الناس لا بد وأنها أساءت تسيء فهم حربه على العراق، وعرقلته لمساعي وقف إطلاق النار في حرب لبنان الأخيرة. أما الآن، وهو قد أوضح أن "بلاده تنشد السلام"، فشعوبنا سوف تتجهّز وتجهّز أنفسها عندما يتحدّث الرئيس الأمريكي عن السلام مرّة أخرى، فلا يأخذ أحدنا الموت فجأة .. ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

وخص الرئيس الأمريكي إيران وسوريا بالهجوم بشكل لا يترك مجالا للشك أنه ينشد السلام لدرجة لا يمكن معها إخطاء الحرب القادمة.

كما خاطب الشعب الإيراني قائلا: "إن حكامكم أختاروا أن يمنعوا عنكم الحرية، وأن يستخدموا مقدرات بلادكم لتمويل الإرهاب، وتأجيج نار التطرّف، وتطوير الاسلحة النووية". وأضاف "على إيران أن تتوقف عن تطوير الأسلحة النووية" ولم ينس أن يتمنى، كما تمنى من قبل للعراقين، "أن يأتي يوم تعيشون فيه بحرية – ويكون الإيرانيون والأمريكيون اصدقاء وشركاء في صنع السلام". أما للسوريين فزاد في طنبوره نغما قائلا: "اليوم، يسمح حكامكم لبلادكم أن تصبح تقاطع طرق للإرهاب. ففي وسطكم حماس وحزب الله الذان يعملان لتهديد أمن المنطقة. كما أن حكومتكم جعلت من بلادكم أداة بيد إيران". وعلى ذلك، يبدو أن الرئيس الأمريكي يستعد لجلب حريات قنابله وصواريخه الى هذه الدول بالرغم من أن الحرية، حسب زعمه، "لا يمكن فرضها بالقوة".

أما بالنسبة لإسرائيل، فقد بقي الرئيس الأمريكي مخلصا ووفيا كعادته ولم يذكر أي من جرائمها في لبنان أو فلسطين المحتلة. العنف في لبنان سببه، بوضوح، حزب الله. أما عن غزة والقطاع فقد تكرّم الرئيس الأمريكي بالمرور مرور الكرام عن واقع الإحتلال المهين. أما عقبة السلام في فلسطين فهي ..... (واستعدو للمفاجأة) .... حماس.

ومن المفارقات المضحكة جدا أن يذكر الرئيس الأمريكي في خطابه "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". لكنه، على ما يبدو، لم يطلع على أكثر من الجملة الأولى في مقدمته :). ذلك أنه لو فعل، لكان تردد مرتين في ذكره على الأقل.

الإعلان الخامس لحقوق الإنسان يقول "لا يجب على أحد أن يخضع للتعذيب أو المعاملة أو العقاب الغير إنساني" !

والإعلان العاشر يقول أنه "لكل فرد متهم الحق في أن يتم اعتباره بريئا حتى يثبت العكس عبر محكمة غير منحازة في التحقيق في حقوقه وواجباته والتهم الموجهة اليه" !!

وكذلك الإعلان الحادس عشر يقول ما يشبه الإعلان العاشر ويزيد أن "المحكمة يجب أن تكون علنية ووفقا للقانون" وانه "يجب ان يتوفر للمتهم الدفاع الضروري عنه". !!!

إين هذا إذا من جهود بوش في واشنطن للإبقاء على غوانتنانامو والسجون السرية حول العالم، ومن إصراره على الإبقاء على سرية التهم، وأعطاء السي أي إيه "وسائل إضافية في التحقيق" .. هذه كلها تظهر وجه جورج بوش الكاذب المنافق، وتظهره بعيد كل البعد على القيم الفارغة التي يحشو بها خطاباته.

من العجب العجاب أن يكون للناس من يكفي من الجلد للإستماع الى خطاب هذا الشيطان.