مات نجيب محفوظ ...
مات نجيب محفوظ ...
نجيب محفوظ الرواية مات منذ زمن بعيد,و أمس فقط ذهب الجسد خلف الروائي , جسده النحيل الطويل ووجه الهادىء الملامح بعينيه الغائرتين يشبه أبطال رواياته , و يرسم بسلوكه اليومي تصرفات أحدهم , رتابته و أيقاعاته حياته المنتظمه , جملة روائية طويلة لا تتصاعد فيها الأحداث , و إنما تسير بتؤدة قطار يتحرك بالفحم الحجري في أرض منبسطة لا تكاد تصادفها هضبة و لا نفق ,بيئته تكاد تقتصر على فصل واحد , لا يشبه اي فصل من فصول السنة التي نعرفها , لا تهب فيه الرياح و لا تهطل فيها الأنهار ,و الشمس تجري في مسارها دون أن يتحرك الوقت , مزاج واحد يتحكم بها هو مزاج الموظف الخمسيني الذي قبض معاشة الشهري للتو.
جيمع روايات نجيب محفوظ و مجموعاته اقصصية التي قرأتها , كانت تحت مسمى المطبوعات الشعبية , و هي ذات تجليد عادي بأربع ألوان على الأكثر وورق خشن تخين أصفر اللون تحسب أن الغبار حزء منه , كنت أحصل عليها بأسعار زهيدة من باعة يعرضون كتبهم كما تعرض الخضروات ,تجدها مرصوفة بدون عناية على عربات خشبيه الى جوار روايات إحسان عبد القدوس , و أجاتا كريستي, كنت أمر بهم في ساحة من ساحات دمشق تدعى ساحة الشام يعبر فوقها جسر فكتوريا لا يلوي على شيء ليصل شارع الإتحاد بشارع شكري القوتلي الذي يجري بإتساع موازيا فرع نهر بردى الذي يدعى "بانياس", وصولا الى ساحة الأمويين .
على الورق الأصفر غير المصقول , كانت شخصيات نجيبب محفوظ تسير مطمئنه , يحركها الحدث دون أدنى إعتراض منها أو تذمر , بجمل ذات نفس طويل و كأنه نفس غواص,لا يكاد يحتاج الى الأوكسجين , إلا ليضع الفواصل و النقاط ,تكبر الشخصيات و تكبر و تشيخ , دون أن تتغير ملامها , و دون أن تغير بذلتها الوحيدة , يأخذك الإنشاء الى التفاصيل الصغيرة غير المهمة , فيرسم لك الصور بدقة و كأنها تتراقص أمامك بالأسود و الأبيض , لا يثيرك الحدث , يدعك تراقبه عن بعد كاف لتكشف ملامحة , و كانه يسرد شهادة تحت القسم أمام محكمة شرعية ,يعشق نجيب محفوظ شخصياته , و لكنه لا يثني عليها , لا يسبغ عليها قدرات فائقة , يتعامل معها بكل بساطة و ينحت منها أنماطا متماثلة تؤدي عمل ميكانيكي لا تحسن غيره , فخلق السيد محمد عبد الجواد, و الفتوة عاشور الناجي.
في ذلك الجو الرمادي ,قص نجيب محفوظ كل حكاياته , قد شخصياتها من الحارة المجاورة ثمائيل صلصالية بلغة من طين , و نسج أحداثها في الفرن و البققالة و الدوائر الميري حيث يتجمع الموظفون كل أربعة في غرفة , أو جعلها تدور في الأبنية القليلة الإرتفاع و المتقاربة النوافذ , حيث يعيش الجميع في كنف الحكومة , يسيطر عليهم "العرف" , و تقاليد الأجداد ,العائلة و الأرث و علاقات الأقارب , كانت أحداثة المفضلة , و قصص الحب تطل خجولة من بين السطور كحدث جانبي , و كأن مجتمعات نجيب محفوظ لا تؤمن إلا بالخاطبه و بدحول البيوت من الأبواب ,النساء منكسرات كطبع أصلي متجذر فيهن ,و في داخل كل ذكر فرعون نائم.
تفوق نجيب محفوظ بلغته السردية السلسة , التي تكرج بمهارة كالسبحة في يد شيخ تقي ,و تفوق بالجمل الروائية الطويلة , فقد تحسب أن رواية بثلاث مائة صفحة عبارة عن جملة واحدة لا تنقطع , دون أن تتتخلى عنه جمالية القص و لا تماسك الأحداث , إنشائه البسيط كان قريبا من كل قارىء سهلا وواضحا و يحمل ود "الحكي", كثافة إنتاجة, و توكيده على أحدى طبقات المجتمع دون غيرها جعلت هذه الطبقة التي يكتب عنها تلتفت أليه و تتبناه , ثم ترفعه الى درجة أستحق عنها جائزة نوبل و كان وفيا لطبقته و بدورها كانت وفية له .
هذه قصاصة صغيرة ألصقها على شاهدة قبر نجيب محفوظ , أمض بسلام يا سيدي.
|