{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
الدين بين البداوة والحضارة
محارب النور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 5,508
الانضمام: Oct 2004
مشاركة: #1
الدين بين البداوة والحضارة
النزعة الدينية في البداوة:

يقول أوليري: إن البدو لايميلون كثيراً إلى الدين. وقد تابعه في هذا القول أكثر الباحثين والمستشرقين. فهم يذهبون إلى أن النزعة الدينية ضعيفة في البدو بوجه عام. إن هؤلاء ينظرون في التدين البدوي , كمثل مانظروا في مختلف خصال البداوة , حيث هم يدرسونها في ضوء معاييرهم الحضرية.

ينبغي أن نعرف قبل كل شيء ماهو التدين في معناه الإجتماعي العام. الواقع أن التدين يحتوي على ثلاثة أركان , هي (1) العقيدة (2) الشعائر (3) الأخلاق . وحين ندرس البدو بوجه عام نجد الركنين الأولين من التدين واضحين فيهم . ولعلهم لايقلون فيهما عن الحضر . أما من حيث الركن الثالث , وهو الأخلاق , فهم قد يختلفون فيه عن الحضر من بعض الوجوه . فقد رأيناهم ذوي صدق وعفة وأمانة من ناحيه , وهم فيها أقرب إلى الأخلاق الدينية من الحضر . ورأيناهم من الناحية الأخرى ذوي عصبية وثأر وغزو وإعتداء , وهم فيها أبعد عن الأخلاق الدينية من الحضر.

فالمسألة إذن نسبية . ونحن إذن نستطيع أن نعد البدو متدينين أو غير متدينين , تبعاً للناحية التي ننظر منها إليهم . ولقد عقد ابن خلدون فصلاً في مقدمته قال فيه : إن البدو أقرب إلى خصال الخير من الحضر . ولعله كان يشير بذلك إلى أنهم بطبيعتهم أكثر استعداداً لقبول التعاليم الخلقية التي جاء بها الدين , إذ هم أقرب إلى الفطرة وأبعد عن مبتدعات الحضارة زمساوئ أخلاقها.

أشرنا من قبل إلى طبيعة “النفاق” الذي اتصف به البدو إثر دخولهم في الإسلام . وقلنا أنه قد زال عنهم شيئاً فشيئاً , لاسيما بعد أن اشتركوا في الفتوح الإسلامية ونالوا النصر والغنيمة فيها . يقول أبو جعفر النقيب في هذا مانصه : ” إن الإسلام ماحلا عند العرب , ولاثبت في قلوبهم , إلا بعد موت الرسول , حين فتحت عليهم الفتوح وجاءتهم الغنائم والأموال وكثرت عليهم المكاسب وذاقوا طعم الحياة وعرفوا لذة الدنيا … فاستدلوا بما فتحه الله عليهم , وأتاحه لهم , على صحة الدعوة وصدق الرسالة . وقد كان النبي وعدهم بأنه ستفتح عليهم كنوز كسرى وقيصر . فلما وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله , عظموه وبجلوه , وإنقلبت تلك الشكوك , وذلك النفاق وذلك الإستهزاء , إيماناً ويقيناً وإخلاصاً . وطاب لهم العيش وتمسكوا بالدين لأنه زادهم طريقاً إلى نيل الدنيا , فعظموا ناموسه وبالغوا في إجلاله وإجلاء الرسول الذي جاء به . ثم إنقرض الأسلاف وجاء الأخلاف على عقيدة ممهدة , وأمر أخذوه تقليداً من أسلافهم الذين ربوا في حجورهم . ثم إنقرض ذلك القرن وجاء من بعدهم كذلك , وهلم جرا ..”.

النصر والتدين البدوي :
تهجم بعض المستشرقين على النبي محمد فوصفوه بأنه ” نبي حرب ” لا ” نبي سلام ” والظاهر أنهم في هذا قد تأثروا بثقافتهم المسيحية , حيث قارنوا محمداً بالمسيح , فوجدوا الأول منهما يستخدم القتال في دعوته , بينما الثاني يستخدم الطريقة السليمة فيها .

نسي هؤلاء أن محمداً ظهر في محيط إجتماعي يختلف عن ذلك الذي ظهر فيه المسيح . وقد أشار إلى هذا المؤرخ توينبي وأكد عليه . ومما يجدر ذكره أن محمداً إتبع الطريقة السليمة أثناء دععوته في مكة , فلم يتأثر بها سوى عدد قليل جداً من الأتباع . وكان هؤلاء من أهل المدن . أما القبائل الدوية فقد ظلت باردة تجاه الدعوة , تتفرج عليها وكأن الأمر لايعنيها . وعندما نشب القتال بين محمد وقريش , بعد الهجرة , أخذت القبائل البدوية تراقب المعركة لترى أي فريق سينتصر فيها أخيراً . وحين انتصر محمد وفتح مكة أدركت القبائل بأن محمداً لابد أن يكون نبياً حقاً وأنه مرسل من الله .

يقول الدكتور حسن إبراهيم حسن : ” كان فتح مكة واستيلاء المسلمين على البيت الحرام (الكعبة) من أكبر العوامل التي ساعدت على نجاح الدعوة الإسلامية , فقد إعتقدت القبائل العربية التي رفضت الدعوة في بادئ ذي بدء , أن المسلمين تلحظهم عناية إلهية لا قبل لغيرهم بها , فسارعوا إلى الإسلام ودخلوا فيه أفواجاً “.

ومما يلفت النظر أن القبائل البدوية هذه دخلت في الإسلام , ثم ارتدت عنه , ثم رجعت إليه , خلال مدة قصيرة جداً لاتكاد تتجاوز الخمس سنوات . فهي دخلت في الإسلام بعد فتح مكة , ثم ارتدت عنه عند سماعها بخبر وفاة النبي , ثم رجعت إليه حين أخذ يفتح الممالك وتنهال عليه الغنائم . قيل إن طليحة , الذي إدعى النبوة في أيام الردة , صار فيما بعد من أكثر المسلمين حماساً في الجهاد . ولعل الكثيرين من أتباعه , وأتباع غيره من ” أنبياء الردة ” , قلدوه في ذلك , حيث انقلبوا فجأة من ” مرتدين كفرة ” إلى ” مسلمين مجاهدين “.

لا يجوز أن ننظر في هذه الوقائع ” الغريبة ” بمنظار ثقافتنا الحضرية , أو نقيمها بما اعتدنا عليه من قيم أو معايير مثالية . فهذه هي طبيعة البدو في كل زمان ومكان . إن نزعة التغالب والغزو التي جبلوا عليها تجعلهم ينظرون في الدين , وفي أي أمر آخر من أمور الحياة , بمنظار يختلف عن منظار المتحضرين . ولو أن محمداً سار فيهم سيرة المسيح لما أتيح لدينه أن ينتشر , أو يصل إلى ماوصل إليه أخيراً .
لو أن محمداً أمر أتباعه بمثل ماأمر المسيح به : ” من ضربك على خدك الأيمن فقدم له خدك الأيسر” , لاستهانت بهم القبائل البدوية واستضعفتهم , ثم أكلتهم أكلا . إن المستضعف المهان لا بقاء له في البادية . وتلك سنة الحياة في البادية منذ قديم الزمان!

مقارنة في التدين :
رأينا البدو يميلون إلى الدين القوي الذي يؤدي بهم إلى النصر والغنيمة . ومن المجدي أن نقارن البدو بالحضر من هذه الناحية.
قلنا إن الحضر يعانون من قهر الحكام كثيراً , وهذا أمر يصدق بوجه خاص على أهل الحضارات القديمة الذين لاعهد لهم بالحياة الديمقراطية الحديثة . وهم كانوا يعانون بالإضافة إلى ذلك من وطأة الأمراض وتوالي الأوبئة عليهم . ولهذا كان طابع الكآبة والتذمر والأنين طاغياً على الكثيرين منهم . إنهم إذن في حاجة إلى دين يعزيهم في محنهم ويبعث فيهم الثقة والتفاؤل . إنهم بعبارة أخرى يحتاجون إلى نوع من الدين يختلف عن ذلك الذي رأيناه في البداوة .
إن الأديان التي انتشرت في الحضارات القديمة اتصفت عادة بخصائص خاصة بها , نجمل بعضها فيما يلي :
(1) كثرة الشفعاء: وهذه ظاهرة أجتماعية نلاحظها في كثرة المراقد المقدسة التي يقصدها الناس ويتهجدون عندها ويتوسلون بها ويبثون شكواهم فيها . فمن النادر أن نجد ناحية من البلاد المتحضرة ليس فيها مثل هذه المراقد على وجه من الوجوه . يصعب على الحضر أن يطلبوا حاجاتهم من الله مباشرة . فالله في نظرهم كالسلطان العظيم جالس على عرش عالي جداً في السماء , وهم يريدون شفيعاً يتوسط لهم عند الله . إنهم إعتادوا في حياتهم السياسية أن يوسطوا الشفعاء في حاجاتهم عند السلطان , وهم يحسبون الله مثله لايقضي حاجة إلا بتأثير الشفعاء والوسطاء .
والواقع أن المراقد المقدسة قد ساعدت الحضر كثيراً في شفاء أمراضهم وتطمين نفوسهم . فالإيحاء النفسي الذي يتأثرون به في داخل المراقد قد يبعث فيهم الثقة النفسية . وهذا أمر له أهمية غير قليلة في شفاء الأمراض وحل المشاكل كما أثبتت البحوث العلمية الحديثة.
(2) عقيدة المنقذ الإلهي: وهذه ظاهرة إجتماعية أخرى نجدها في جميع الحضارات القديمة تقريباً . فالحضر عند تحسسهم بالألم من جور حكامهم يأملون من الله أن يرسل إليهم منقذاً يخلصهم ” فيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا “. وهذا الأمل يتحول إلى عقيدة بمرور الأيام .
إن هذه العقيدة قد تختلف في أشكالها وتفاصيلها من طائفة إلى أخرى , إنما هي موجودة في جميع الطوائف والأديان التي تنتشر بين الحضر . وهي تنفعهم كثيراً من الناحية النفسية . ولولاها لضاقت الحياة بهم . إنهم يتخيلون بها كيف ينتقمون من أعدائهم في المستقبل , وكيف سينعمون بالرفاه والحياة الرغيدة عندئذٍ.
(3) كثرة الشعائر والطقوس الدينية: فالحضر يزيدون وينوعون فيها , جيلاً بعد جيل , لكي تلائم ظروفهم النفسية والإجتماعية المستجدة . فالشعائر البسيطة التي جاء بها الدين في أول أمره لاتكفيهم . ولهذا رأينا “البدع” الدينية تتكاثر وتتراكم عندهم بمرور الأيام . فإذا جاءهم مصلح يحاول إعادتهم إلى البساطة الدينية الأولى شتموه وكفروه . فالبدع قد أشبعت حاجة في نفوسهم وهم لايحبون أن يخسروها حيث يبقون بعدها كالتائهين .
(4) كثرة الأولياء والمقدسين: فقد كانت الحضارات القديمة ولاتزال تعج بهؤلاء . ولهم وظيفة إجتماعية ونفسية لايستهان بهما . فهم ينفخون على رؤوس المرضى, ولايعزون المنكوبين , ويفضون المنازعات, ويرشدون الناس إلى طريق الآخرة . إنهم بعبارة أخرى يمثلون الدين للناس تمثيلاً حياً واقعياً . فإذا اشتكى أحد من علة أو مشكلة لجأ إليهم يستفتيهم أو يطلب نصيحتهم . وهم قد يستغلونه أحياناً , بيد أنهم ينفعونه من الناحية النفسية ويبعثون الطمأنينة في قلبه قليلاً أو كثيراً .
إن هذه الخصائص الدينية التي وجدناها في الحضارة , قد لانجد لها مايشابهها في البداوة إلا نادراً . وربما دخل بعضها في البداوة من جراء إتصالها بالحضارة على وجه من الوجوه .
إن هذا هو الذي جعل شكل الإسلام يختلف في البداوة عنه في الحضارة . وهو يختلف في الحضارة , بين منطقة وأخرى منها , تبعاً لإختلاف الظروف في كل منها .
لقد وجد البدو في الإسلام ديناً يؤدي بهم إلى النصر والغنيمة , كما أسلفنا . أما الحضر فقد وجدوا فيه مايحتاجون إليه حسب ظروفهم المختلفة . فكانت كل جماعة منهم تأخذ منه ما يلائمها , وربما زادت فيه وأضافت إليه لكي تشبع به حاجاتها النفسية والإجتماعية المتنوعة.
يظن البدو أنهم أقرب إلى روح الدين من الحضر . وكذلك يظن الحضر أنهم أقرب إليه من البدو . والواقع أنهم جميعاً أخذوا من الدين ما يلائم وضعهم الإجتماعي والنفسي , وأهملوا الباقي . وهذا هو دأب أكثر الناس في كل مكان وزمان .

::. د. علي الوردي
من كتاب: دراسة في طبيعة المجتمع العراقي
12-21-2006, 01:04 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS