thunder75
عضو رائد
المشاركات: 4,703
الانضمام: Feb 2002
|
رحيل المؤرخ اللبناني الفلسطيني نقولا زيادة
رحيل المؤرخ اللبناني الفلسطيني نقولا زيادة
بيروت - اف ب - توفي امس في بيروت عن عمر يناهز 99 عاما المؤرخ اللبناني-الفلسطيني نقولا زيادة مخلفا وراءه اكثر من 40 كتابا في التاريخ العربي والاسلامي. ونعت الفقيد الجامعة الاميركية في بيروت التي شغل فيها زيادة منصب استاذ الشرف في دائرة التاريخ. وهو عضو في جمعيات علمية عديدة مثل الجمعية الاميركية للاستشراق والجمعية الالمانية للاستشراق والجمعية العلمية العراقية.
ولزيادة اكثر من اربعين كتابا في التاريخ العربي والاسلامي وترجم العديد من كتب التاريخ من الانكليزية الى العربية منها كتب لارنولد توينبي. وله ما يناهز 150 مقالا ومحاضرات القاها في مؤتمرات عربية ودولية. وبين العامين 1947 و2000 قدم اكثر من الفي حلقة اذاعية بالعربية حول مواضيع تاريخية مختلفة. ولد زيادة في دمشق في الثاني من كانون الاول 1907 من عائلة فلسطينية من مدينة الناصرة وله ولدان. تلقى دراسته في دار المعلمين الابتدائية في القدس في العام 1921، وفي العام 1925 انتقل الى جامعة لندن ومنها نال شهادة البكالوريوس في التاريخ القديم في العام 1939، وانتقل في العام 1947 الى معهد الدراسات الشرقية والافريقية في لندن حيث نال شهادة في التاريخ الاسلامي.
بدأ زيادة حياته العملية مدرسا في كلية عكا الثانوية وتنقل في عدة مناصب كمحاضر ومطالع في التاريخ القديم في القدس وفي بريطانيا قبل ان يعين استاذا مساعدا في الجامعة الاميركية في بيروت في العام 1949 ثم استاذا في العام 1958.
المؤرخ نقولا زيادة
* ولد في الثاني من ديسمبر عام 1907 في دمشق من أبوين فلسطينيين
*في عام 1924 أنهى دراسته في دار المعلمين الابتدائية في القدس ، وبقي في سلك التعليم حتى عام 1991 .
حيث تنقل في التعليم مراحل مختلفة من ( معلماً في مدرسة قرية في ترشيحا (قضاء عكا) ومدرّساً في مدرسة عكا الثانوية ( 1925 - 1935) وأستاذاً في الكلية العربية في القدس (1939 - 1947) وأستاذاً في الجامعة الأمريكية في بيروت ( 1949 - 1973) وفي جامعة القديس والجامعة اللبنانية في بيروت والجامعة الأردنية في عمّان، وفي كلية اللاهوت للشرق الأدنى في بيروت (1973 - 1991).
* يتقن اللغات التالية اليونانية واللاتينية والألمانية والإنجليزية إضافة إلى العربية .
* كتب العديد من المقالات في مطلع حياته واهتمامه بالتاريخ
* في عام 1939 نال البكالوريوس في التاريخ القديم في جامعة لندن وفي جامعة ميونيخ بألمانيا .
* ثم تابع بعدها دراسة لتاريخ القديم وتاريخ العرب في الكلية العربية والكلية الرشيدية. واهتم بالبحث العلمي
* نال شهادة الدكتوراه في عام 1950 وكانت رسالته عن (سوريا في العصر المملوكي الأول)
* في عام 1949التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وظل يدرس فيها حتى سنة 1973، بعد ذلك عمل في معاهد وجامعات عديدة .
- 1943 صدر له أول كتاب بعنوانه (روّاد الشرق العربي في العصور الوسطى).
ومنذ ذلك الحين وصلت دراساته التاريخية الموسوعية نحو أربعين كتاباً (منها اثنان بالمشاركة) بالعربية ، وستة كتب بالإنجليزية، وترجمت ستة كتب عن الإنجليزية، وكتاباً عن الألمانية (بالمشاركة مع الدكتورة سلمى الخماش).
من مؤلفاته:
- له أكثر من (51) مؤلفاً مطبوعاً ومنها:
1- رواد الشرق العربي في العصور - القاهرة- 1943.
2- وثبة العرب- القدس 1945.
3- العالم القديم _جزءان) - يافا 1942.
4- صور من التاريخ العربي- القاهرة 1946.
5- شخصيات عربية تاريخية- يافا 1946.
6- صور أوروبية- القدس 1947.
7- عالم العصور الوسطى في أوروبا- القدس 1947.
8- قمم من الفكر العربي الإسلامي- بيروت 1987.
9- في سبيل البحث عن الله
10- المسيحية والعرب،
والعديد من المؤلفات الأخرى على هذا الرابط
http://www.neelwafurat.com/locate.aspx?sea...c7%cf%c9&Mode=1
|
|
07-29-2006, 07:04 AM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
skeptic
عضو رائد
المشاركات: 1,346
الانضمام: Jan 2005
|
رحيل المؤرخ اللبناني الفلسطيني نقولا زيادة
وجهآ لوجه مع نقولا زيادة- مجلة العربي
[CENTER]فلسطيني تحت الحصار[/CENTER]
نقولا زيادة وجهاد فاضل
7% فقط من سكان فلسطين كانوا يهوداً ومع ذلك أخذوا وطناً قومياً
بدأ هذا الحوار مع شيخ المؤرخين العرب د. نقولا زيادة بسؤال حول نبوءة وردت في كتاب نجيب العازوري الصادر بالفرنسية في باريس عام 1906 - أي قبل حوالي مائة سنة من اليوم - حول مساعي اليهود لإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين, وعما يتوقعه هو بالذات, ونحن في بداية قرن جديد, لمستقبل هذا الصراع. كان العازوري قد ذكر في كتابه أن القرن العشرين سيشهد صراعًا بالغ الحدّة بين القومية العربية والحركة اليهودية الساعية لإعادة إنشاء مملكة صهيون في فلسطين, وأن هذا الصراع سيطبع القرن العشرين بطابعه, وستكون له آثار بعيدة المدى عربيًا وعالميًا.
د. نقولا زيادة يقول إن الأمر كله متوقف على قوة العرب وتقدمهم. فلا يفلّ القوة إلا القوة, ولا يفلّ الحديد إلا الحديد. فإن لم نصل إلى الدولة القوية الناهضة, فإن إسرائيل باقية.
في الثامنة والتسعين من عمره, ولكن الروح مازالت قوية, والذاكرة مازالت مشتعلة ونابضة بالذكريات التي عاشها نقولا زيادة في القدس وعكا وجنين ودمشق وطرابلس الغرب وجامعة عليكرة في الهند, وعشرات المدن والجامعات والمعاهد التي درس أو درّس فيها. وما يؤلمه أن أحوال العرب لا تتقدّم كما ينبغي أن تتقدم. ومما يقوله في هذا المجال إن الجامعات العربية كانت قبل نصف قرن أو أكثر, أفضل مما هي عليه اليوم.
حاوره الكاتب اللبناني جهاد فاضل وشارك في الحوار د. سليمان العسكري رئيس تحرير (العربي).
[B]إحساس بالخطر
ماذا عن نبوءة نجيب عازوري?
- عندما وضع نجيب عازوري كتابه المشار إليه باللغة الفرنسية في مطلع القرن العشرين, كانت له خبرة وثيقة بالإدارة العثمانية. فلما أُنشئت متصرفية القدس, وفُصلت عن ولاية الشام, كان نجيب العازوري موظفًا كبيرًا في متصرفية القدس, ولأنه كان يعرف اللغة الفرنسية, كان صلة الوصل بين المتصرّف والقناصل الذين كانوا في القدس, أو الذين كانوا يأتون لزيارة فلسطين. معرفة العازوري بالإدارة العثمانية كانت أيضًا قوية.
نجيب العازوري, كان مثقفا كبيرا ذا نزعة عروبية, لذلك كان يشعر بالخطر الآتي الذي سيصيب فلسطين, وكان اليهود قد ابتاعوا بعض الأراضي بفلسطين حتى في أواخر القرن التاسع عشر, لكن أكثر ما اشتروا من هذه الأراضي الفلسطينية كان في القرن العشرين, وبعضها في مرج ابن عامر, وقد بيعت قبل الحرب العالمية الأولى من سنة 1904 إلى سنة 1906.
ابتدأ اليهود ينشئون مستعمرات هنا وهناك. لكن هذه المستعمرات لم يكن لها كيان. الشيء الذي لعل العازوري لم يكن يعرفه, لأن الحركة كانت قد بدأت بعد وفاته, هو أن الفكرة الصهيونية تبلورت في مراكز القوى السياسية في العالم, وأنها لذلك استطاعت أن تأخذ لنفسها مكانة. في يوم من الأيام ستُطبّق هذه السياسة على مكان ما. كانت فلسطين هي المقصودة.
الذي حدث بين الوقت الذي كتب فيه نجيب عازوري كتابه في مطلع القرن, وبعد نحو عشر سنوات من ذلك, هو صدور وعد بلفور. صدر هذا الوعد في اليوم الثاني من شهر نوفمبر في سنة 1917. ينصّ وعد بلفور على أمرين: الأول أن حكومة (جلالة الملك) تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين, وترعى الأمر, وتسعى في سبيل ذلك على أنه لا يؤذي هذا بقية الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين.
إذا كانت القضية نكتة سياسية, فهي نكتة سياسية, سبعة في المائة كانت نسبة اليهود بين سكان فلسطين, وقد أعطي هؤلاء وطنًا قوميًا, أما الجماعات غير اليهودية, فقد أشير إليها, وهي ثلاثة وتسعون في المائة, وعلى ألاّ تتأذّى من هذا الوطن القومي اليهودي.
هذا الوعد - كما هو معروف - لم يعطه بلفور, ولم تُعطِه حكومة الملك جورج, لقد أعطي بناء على اتفاق وتأييد الولايات المتحدة, وكان مركز الاتصال حول الموضوع بين بريطانيا والولايات المتحدة, جبل طارق. هناك كان يجتمع المندوب الأمريكي مع الإنجليز حتى لا تتكشّف الخطة. وقد أيّدته إيطاليا وفرنسا. ولو أن ألمانيا ربحت الحرب, لكان لها دور.
[B]تاريخ عابر
هناك أبحاث توراتية متأخرة أو حديثة كتبها علماء غربيون, أمريكيون على التحديد, تقول إن التاريخ اليهودي, كما يتحدث عنه اليهود, ليس سوى لحظة عابرة في تاريخ طويل اسمه تاريخ فلسطين, وإنه حتى المرويّات والمأثورات اليهودية المسجلة في التوراة ليست في معظمها سوى مرويّات غير مسندة إلى تاريخ, أو غير تاريخية أصلاً, لذلك تبدو عملية الاستناد إلى حق تاريخي للعودة إلى فلسطين, أو حتى إلى حق يُنعت بالحق الإلهي, إنما هي عملية مزوّرة. فكتّابها هم بشر, وقد رووا في هذه الكتابات حكايات, كما بثّوا في هذه الحكايات طموحات. وهذا كل شيء.
- أنا ذكرت ما يؤمن به اليهود على أساس ما جاء في التوراة, أي العقيدة اليهودية القديمة. أنا أجيبك بشيء من التفصيل في هذه المادة التاريخية. هذه المادة التاريخية جاءت من العهد القديم من الكتاب المقدس. والعهد القديم يروي تاريخًا يبدأ من القرن الثامن عشر قبل الميلاد, لكنه لم يُبدأ بتدوين العهد القديم إلا في القرن الثامن قبل الميلاد, أي بعد نحو أحد عشر قرنًا من المفروض أنه يتحدث عنه.
هذه واحدة, أمر آخر, إذا كان هذا يُحفظ عن طريق الرواية في أساسه أو في تفاصيله, فالرواية هذه لم تقتصر على ما كان عند اليهود, دائمًا دخلتها كل أنواع الروايات التي كانت معروفة في المنطقة, من حوالي ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف قبل الميلاد. على سبيل المثال في سفر التكوين الذي هو أول أسفار العهد القديم, هناك شيء عن الخليقة, قصة الخليقة الموجودة في سفر التكوين, منقولة شفويًا وتمامًا عن الأسطورة السومرية لخلق العالم التي تعود إلى حوالي الألف الرابع قبل الميلاد. وقد دُوّنت هذه الأسطورة في أيام حامورابي وسُمّيت الأسطورة البابلية, لكنها رُويت شفويًا كل هذه الفترة.
من هنا يجب القبول بأن هذه الأشياء الموجودة في العهد القديم ليست تاريخًا لشعب معين. إنها خلاصة ما كان معروفًا في المنطقة.
قصة الطوفان الموجودة في العهد القديم, هذه أسطورة بابلية سومرية دُوّنت في أيام بابل بتفاصيلها. كل ما هنالك أنه لم يُذكر أنه دخل أو أُمر أن يدخل إلى الفلك زوجان من كل أنواع الحيوانات. لكن الفكرة موجودة: الطوفان عمّ الأرض, وكنتيجة لهذا هناك واحد فقط, يمثل نوحًا أو يمثله نوح, نجا من الطوفان, ومعناها أنه صارت له الحياة الأبدية, فكان أن ملك نيبور السومرية ذهب ليبحث عن هذا الرجل ليطلب منه هذه الوصفة ولم ينجح. فالخليقة والطوفان موجودان قبل مجيء اليهود بما لا يقل عن 2500 سنة.
والآن ما الذي يقوله التاريخ?
- يقول التاريخ إن هذه الأسفار بدأ تدوينها في القرن السابع قبل الميلاد, ولم تُقبل رسميًا إلا في القرن الأول بعد الميلاد.
إذن لدينا شيء ليس مزوّرًا, لكن هذا هو الذي كان موجودًا, إنما كان اليهود يعتقدون أنه حصتهم وحدهم.
وقد أثبتت البحوث الأثرية أن القدس لم تصبح مدينة إلا في القرن السابع قبل الميلاد, وكل ما كان هناك إلى ذلك الوقت, هو مجرد قرية, والقرية لا يُبنى فيها هيكل من هذا النوع.
كما نعرف في الإسلام, القرية لا يُبنى فيها مسجد جامع, يُبنى فيها مسجد فقط, المسجد الجامع خاص بالمدينة.
هذا الهيكل لم يُبْنَ في القدس في أيام سليمان, الهيكل الذي يقول اليهود إن بقاياه هي سور الحرم الغربي, ويُسمّى حائط المبكى, هو جزء من الهيكل الذي بناه هيرودوس الآدومي حاكم تلك المنطقة في القرن الأول قبل الميلاد واسمه الآدومي لأنه عربي (حرد), ثم صار هيرودوس عند اليونان والرومان, هذا بنى هذا الهيكل لليهود في ذلك الوقت. هُدّم هذا الهيكل في أيام الإمبراطور إدريان في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد, وبقيت منه أشياء. ولكن هذا الذي بقي, ليس بقايا هيكل سليمان. هيكل سليمان لم يُبْنَ. هذا فيما يتعلق بالبحوث الأثرية المعروفة.
إذن التاريخ اليهودي مزوّر.
- نعم, التاريخ مزوّر, لكن الفكرة التي كانت عندهم فيما يتعلق بالعقيدة, فكرة موجودة.
هناك مَن يقول, مثل وايتمان وكمال الصليبي وزياد منى, إن هذه الأحداث التي تُروى عن فلسطين, لم تحدث في فلسطين, بل حدثت في الخارج. وعلى كل حال, ومهما أخذنا منها, فإن جزءًا كبيرًا في التاريخ اليهودي مزوّر. هو مزوّر, ولكن هذا التزوير عندما يصبح عقيدة, ويُثار باستمرار, يتحول إلى تاريخ متين وثابت.
[B]غزوة صليبية
إذا لم يكن لهم في الماضي وجود حقيقي في فلسطين, يؤيد ذلك عدم عثورهم هم على أي آثار توراتية في أرضها, فهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى النظر إليهم على أن (حضورهم) إلى فلسطين بدءًا من وعد بلفور وحلول الانتداب البريطاني على فلسطين, هو في حقيقة الأمر غزوة صليبية جديدة للمنطقة, خاصة أن جذورهم التاريخية في بلادنا هشّة وغير قوية?
- هي غزوة يهودية, لا صليبية...يجب عدم الخلط بين الأمرين, ما حصل في فلسطين, على مدار القرن العشرين يؤلف غزوة. لكن المشكلة هنا أن هذا الغزو كان يؤيده عالم واسع أوربي - أمريكي, ثم سوفييتي بعد ذلك. كان يؤيده عالم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
عندما يقال إنه عندما زار المفتي الحاج أمين الحسيني هتلر في ألمانيا وطلب منه, إما رأسًا أو بالواسطة لا أدري, أن يٌصدر وعدًا بأنه إذا انتصر في الحرب يُلغي وعد بلفور, رفض هتلر.
أنا لو كنت محله, أرفض أيضًا. هو كان يريد التخلص من اليهود ويرسلهم إلى فلسطين, يكمل على الباقي فيرسلهم مرة واحدة.
القضية هي أن غزو اليهود لفلسطين هو غزو أو هجوم واستلاب, سمّه ما شئت, ولكن كان له مؤيدوه ولهم أسبابهم, والمؤيدون لم يكونوا قلة, وبالتالي يجب ألاّ نُنكر على اليهود التنظيم الذي قاموا به, بحيث إنه لما بدأ الانتداب في فلسطين, وكانت الوكالة اليهودية في القدس دائرة سياسية كاملة تقدم النصح والإرشاد, إذا طُلب منها, لحكومة فلسطين. ولما قامت دولة إسرائيل, الذين كانوا في الوكالة اليهودية, أصبحوا حكام إسرائيل.
الآن كل القضية التي نتحدث عنها, هي في الواقع قضية مزورة, لكن ماذا تفعل بالقضية المزورة عندما تؤدي النتيجة إلى ما حدث?
وكيف تنظر كمؤرخ إلى أفق هذا الصراع بين الفلسطينيين والعرب من جهة, واليهود أو الإسرائيليين من جهة ثانية? السكان الأصليون, وهم الفلسطينيون, جرى اقتلاعهم من أرضهم, والطارئون, وعن طريق الدسائس والمكائد وتدخل القوى الدولية النافذة, تمكنوا من اغتصاب فلسطين وهم في طريقهم إلى ابتلاعها كلها تقريبا, وما من زاجر أو رادع.
- مستقبل الصراع بين الفريقين هو مستقبل قوة. هذا إذا كان هناك صراع باقٍ. إنه مستقبل قوة. والقوة لها ناحية محلية من جهة ولها ناحية عالمية.
إلى الآن, والآن خصوصا, الدولة المهيمنة في العالم هي الولايات المتحدة, والولايات المتحدة تؤيد إسرائيل طوال الوقت, ولا تهتم حتى بالعرب.
ترسم (خارطة الطريق) ثم تسأل ماذا حدث (لخارطة الطريق)? لا نسمع سوى أن فلانا زار, أو فلانا صرح وتحدث, ثم ماذا. المهم ليس الحديث, المهم العمل. اليهود صار عندهم دولة منظمة ولهم مؤيدون نافذون في العالم, ماذا ننتظر? ننتظر أن ينقلب الكون فيصبح الأمريكان مستعمرين للمشارقة وساعتها ننتقم منهم.
[B]فجوة حضارية
لا ننسى بالطبع الفجوة الحضارية الهائلة بيننا وبينهم. نحن من الشعوب المتخلفة, في حين أنهم أوربيون.
- طبعا هناك فجوة هائلة, وحتي اليهود الذين أتوا من مناطق متخلفة جرى نقلهم من حال إلى حال. لديهم تنظيم. التنظيم الصهيوني لم يكن يعادله أي تنظيم آخر في أي مكان في العالم. حتى الدول العريقة لم يكن لديها مثل هذا التنظيم المذهل. أنت تنقر في الخشب باستمرار, وتجمع الأموال.
الآن بعض الأراضي بيعت في فلسطين, القباني باع أراضي, سرسق, سواهم باعوا أراضي كبيرة.
هناك فلسطينيون أيضا باعوا أراضي لليهود. لكن الأهم من هذا أنه كان في فلسطين أراض تسمى الجفتلك, كانت ملكا شخصيا للسلطان العثماني. لم تكن وقفا إسلاميا. كان السلطان يملكها, ويعطيها لمن يشاء. في أيام عبدالحميد أعطى عبدالحميد البشانقة الذين لم يظلوا في بلادهم في البوسنة, وجاءوا إلى فلسطين فأعطاهم السلطان أراضي في منطقة قيسارية. لما خرج الشركس من أوربا, أعطاهم السلطان عبدالحيمد أراضي في غور الأردن.
لما زالت الدولة العثمانية, أصبحت أراضي الجفتلك ملكا للحكومة البريطانية, وسُمح للمندوب السامي أن يتصرف بها على الوجه المناسب.
وعندما عُين أول مندوب سام في فلسطين, عُين لمدة خمس سنوات, وكان يهوديا صهيونيا, كما كان وزيرا سابقا في بريطانيا, وأحد العاملين جديا في سبيل وعد بلفور.. هذا عُيّن مندوبًا ساميًا واسمه هربرت صموئيل.. فماذا تنتظر منه أن يفعل?
هربرت صموئيل كان داهية. صنع أشياء عُرفت في أيامه, وأشياء عُرفت لاحقًا, فبالنسبة للمنظمات اليهودية, ساعدها, أما المسيحيون, فقال إن هؤلاء كنائسهم وبطريركيتهم تهتمان بهم. ولأنه لم يكن في فلسطين مجلس تشريعي أو برلمان, أراد أن ينظم شئون المسلمين. وقد نظم هذه الشئون عن طريق إنشاء المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى. وبقدرة قادر, انتُخب الحاج أمين الحسيني الذي كان مفتي القدس رئيسا لهذا المجلس. كان الحاج أمين يشرف على كل موظف في كل جامع في فلسطين. كان مسلمو فلسطين كلهم سنة ما عدا ثلاث قرى شيعية. وكانت كل الأوقاف تحت تصرف المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى.
[B]الحلم العربي
أعرف أنك كنت عروبي النزعة, وأنك من الذين حلموا بقيام دولة عربية واحدة منذ وقت مبكر.
- أنا من الذين حلموا بهذا الحلم. بدأت أتعرف إلى القومية العربية في العشرينيات من القرن الماضي, أي عندما كنت في السادسة عشرة وكان مدربي أو معلمي الأول في هذا التوجه اثنين: خليل طوطح ودرويش المقدادي. درويش المقدادي كان متحمسًا تحمسًا شديدًا للقومية العربية, فتأثرت أنا به كما تأثر سواي. ثم تخرجنا وكانت القومية العربية في تلك الفترة هبّات شعرية أو رومانسية. لكن يكن هناك شيء واضح لأن الحركة التي قامت في أيام العثمانيين كانت حركة لها هدف معين: عرب ضد أتراك. الآن اختلف الوضع, كانت الآمال موجودة, أنا شخصيا أذكر, وهذا قد يبدو غريبا, أنني عندما قرأت كتاب أمين الريحاني: (ملوك العرب) (وقد قام بزيارته إلى الجزيرة عام 1923), وصدر كتابه عام 1925, وجدت أنه تحدث فيه عن جميع زعماء العرب يومها: من السعودية إلى اليمن إلى سواهما. وجدت في تأملات وطموح الشاب, أن الشخص الذي يمكن أن يستفاد منه يومها على هذا الصعيد هو السلطان (يومها) عبدالعزيز آل سعود. لماذا? بريطانيا موجودة في مصر وفي فلسطين وفرنسا وفي سورية ولبنان, وبريطانيا في العراق وفي الهند, ثم صرت أحلل القومية العربية وأصولها وجذورها وكتبت عنها وعلمتها ولكن كفلسفة. لم أعد أقدر أن أرى من هو الذي سيوحّد.
ولما قامت الانقلابات العسكرية صار كل منهم يعتبر نفسه بروسيا العرب. الشيشكلي ذكر مرة أن سورية هي بروسيا العرب, مع أن أولئك الانقلابيين لم يكن أحدهم يضمن 24 ساعة, حصلت خيبة أمل, لكن الفكرة ظلت موجودة. ولاتزال موجودة عند عدد كبير من الناس.
لكن في عام 1946 انعقدت أول قمة عربية قبل عبدالناصر, في انشاص وكانت تمثل الحكام الذين أنشأوا جامعة الدول العربية. كانوا سبع دول, رسمت مجلة (المصور) المصرية التي كانت تصدر بحجم كبير كاريكاتورا على غلافها الأخير عن مؤتمر انشاص: كان فيه زعيمان: كلّ يقبل الآخر, وبيده خنجر يطعنه في الظهر.. مع الأسف هذا واقع, أو أنه على الأقل كان واقعًا.
إدارة فلسطين كانت تدير سكة حديد الحجاز في أرضها, وكانت تجمع الأموال إلى جنب على اعتبار أنها وصية على وقف إسلامي.
السلطان عبدالحميد عمل أشياءً كثيرة, يكفي عبدالحميد أنه, على الأرجح, لم يأذن لليهود بشراء أراضي فلسطين. قال: فلسطين بلد مقدس ولن أسمح لليهود بشراء أراض فيها. ولو أن هناك من يتهمه بأنه (من تحت لتحت) دبّر الأمور. لكن مبدئيا, معروف عن عبدالحميد أنه لم يسمح لليهود أن يشتروا أراضي في فلسطين.
القضية كلها معقدة أكثر مما يظن الناس. القضية لم تكن قضية عرب ويهود فقط. اليهود ساعدتهم الدنيا كلها, وتنظيماتهم, في حين أن العرب فقراء.
إسرائيل والغزوات الصليبية
هناك اهتمام في إسرائيل اليوم بالغزوات الصليبية أو بحروب الفرنجة. أنشأوا في بعض جامعاتهم أقساما لدراسة تلك الغزوات, وبخاصة لماذا فشلت هذه الغزوات في النهاية.
- هل تعرف لماذا أنشأ وينشئ الإسرائيليون مثل هذه الأقسام? لأن الإفرنج لم يستطيعوا أن يحتفظوا بالبلاد العربية التي احتلوها, لأنه لم يكن عندهم عدد كاف لكي يسيطروا سيطرة تامة عليها. وقد انتبه اليهود إلى ذلك فدرسوا الأسباب التي أدت إلى فشل الصليبيين كي لا تتكرر معهم.
اكتشف هؤلاء أن السبب الأساسي هو أنه لم يكن هناك عدد كاف من الأوربيين للسيطرة على البلاد. كانوا يأتون ثم يعودون. ولذلك اهتم اليهود بزيادة الهجرة إلى فلسطين ثم إلى إسرائيل.
ليس هناك إذن ما يمكن تسميته بحملة صليبية في وضع الإسرائيليين اليوم. ثمة فرق في رأيي بين قوم استولوا على بلادنا وبقوا فيها, حتى الآن, وحملة أجنبية فشلت في البقاء فرحلت.
هي غزوة بلا شك, وهجوم وحشي. أنا لا أنكر أنها غزوة, لكن كل ما هنالك أن المقارنة لا تضبط كما يجب.
وهل تعتقد أن التعايش ممكن بين الانغلاق الصهيوني الذي تمثله إسرائيل في قلب مجتمع عربي إسلامي وغالبية هذا المجتمع?
- هذا أمر يتعلق بالمستقبل. نحن تحدثنا عن الماضي. هذه قضية يمكن أن يفكّر بها. عندك في النهاية مجموعة قائمة في غيتو, حولها سكان عرب أكثريتهم من المسلمين. ثمة خلاف أيديولوجي وسياسي, خلاف على الأرض. هناك نهب وسرقة للأرض. ما الذي يمكن أن يحدث عندما تفقد إسرائيل الدعم الأجنبي?
هنا المشكلة. إذا تخلت الولايات المتحدة في يوم من الأيام لأي سبب كان, هل تستطيع إسرائيل أن تبقى هنا?
إسرائيل ستذوب مع الوقت, ولكن ليس عن طريق الاجتثاث, بل عن طريق منع التطور. العرب - إذا استطاعوا أن يقوموا بهذا العمل - فهم عندئذ الذين سينقذون البلاد.
هذه البلاد لم ينقذها أحد من خارجها. لن ينقذها من اليهود إلا أبناؤها, أبناء المنطقة. فإذا تخلى الأوربيون والأمريكان في يوم من الأيام عن إسرائيل, وكان العرب قد دفعوا بأنفسهم إلى الأمام, عندئذ تصبح القضية قضية أقلية يهودية في مجتمع عربي قوي وناهض. عندها تنعكس الآية وتزول إسرائيل. تزول من الوجود سياسيًا. وقد يعاود اليهود الهجرة من جديد, كما هاجروا من قبل وهم معتادون كما نعرف على الهجرة.
ولكن هذا عن المستقبل. وهذا هو الذي أتصوره أنا, وهذا هو الذي يمكن أن يتصوره سواي أيضا.
المهم في الموضوع, في رأيي, هو أنه ما دامت إسرائيل لها مثل هذه الضمانة السياسية القوية, فهي موجودة.
|
|
07-29-2006, 04:08 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
skeptic
عضو رائد
المشاركات: 1,346
الانضمام: Jan 2005
|
رحيل المؤرخ اللبناني الفلسطيني نقولا زيادة
[CENTER]القدس كما عرفتها . . نقولا زيادة [/CENTER]
هذه شهادة مؤرخ حول مدينته التي ضاعت. القدس درة المدن العربية التي نفقد كل يوم جزءًا منها. كأنها روح تتسرب خفية من جسدنا العربي المغشى عليه. فمتى نستفيق?
عرفت القدس لنحو ربع قرن تقريبًا بين سنتي 1921 و1947. لكن هذه الفترة يمكن تقسيمها إلى ثلاث: أولاها طالب علم في دار المعلمين 1921-1924; وثانيتها زائر زيارات متتابعة أثناء عملي في مدرسة عكا الثانوية 1925-1935; وثالثتها مقيم في القدس, أستاذا في الكلية العربية 1939-1947. وكان لكل من هذه الفترات سبيل للتعرف على القدس يختلف اختلافًا جذريًا عنه في الأخريين.
بعد دخولنا دار المعلمين (1921) بنحو أسبوعين تقريبًا, قال لنا مدير دار المعلمين الدكتور خليل طوطح إنه سيرافق الطلاب الجدد جماعات لزيارة المدينة بقصد التعرف على معالمها. شعرت بمنتهى الغبطة لذلك الإعلان. كانت الزيارة الأولى لسور القدس. هذا السور بناه السلطان سليمان القانوني سنة 1543. كانت ثمة أجزاء صغيرة من الأسوار تعود في تاريخها إلى فترات سابقة, لكن الصيغة الأساسية هي تلك التي تمثل عناية السلطان سليمان بالمدينة المقدسة.
كان سور القدس لا يزال قائما, درنا حوله من الخارج حينا ومن الداخل حينًا, ودخلنا من بوابة وخرجنا من أخرى.
خرجنا من مبنى دار المعلمين وسرنا بضع دقائق فوصلنا باب الزاهرة (الساهرة), وهو أحد الابواب في الجهة الشمالية من السور. لم ندخل المدينة ولكننا جارينا السور من الخارج متجهين غربًا, فوصلنا بعد دقائق باب العامود. وله اسم آخر هو بوابة دمشق (Damascus Gate), لأن الطريق الذي يبدأ عنده ويتجه شمالاً كان, في نهاية المطاف, يصل بالمسافر إلى دمشق. بعد بضعة أمتار من باب العامود ندور بزاوية السور, ونصعّد في اتجاه شمالي جنوبي في شارع السلطان سليمان إلى الزاوية الجنوبية الغربية من السور, مارين بالباب الجديد الذي فتح أيام عبد الحميد الثاني (1876-1909). ذلك أن المنطقة المصاقبة للسور من الداخل كانت قد ازدحمت بالسكان والمدارس, وأصبح الوصول إليها من الأبواب الأخرى شاقا, فكان فتح هذا الباب تيسيرًا لأعمال السكان.
بعد الباب الجديد ببضعة أمتار نصل إلى الزاوية الجنوبية الغربية للسور إذ بعدها يتجه السور شرقا مع ميل نحو الجنوب حتى يصل باب الخليل (الذي كان يسمى بوابة يافا (Jaffa Gate), لأنه يؤدي, في نهاية المطاف إلى يافا على الساحل), وفيها كان يتم انتقال السكان القادمين بحرًا, زائرين للأراضي المقدسة أصلا, وتجارا ورسلا سياسيين إلى البلاد فيما بعد.
وإلى جانب باب الخليل كانت ثمة ثغرة في السور تعود إلى سنة 1898. في تلك السنة قام غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا بزيارة ديار الشام, وكان من الطبيعي أن يزور القدس. لكنه أبى أن يمر من باب في سور بناه سلطان آخر, فكان له ما أراد إذ إن عبد الحميد أمر بهدم هذه الثغرة كي يمر غليوم عبرها.
في الجهة الجنوبية من السور يقع باب رئيسي هو باب النبي داود. هذا الباب كان يصل أرباض القدس الخارجية بالداخل. ويسمى أحيانًا, عند الطوائف المسيحية (باب العليّة). ذلك بأن العشاء الأخير الذي أعد للسيد المسيح, والذي قبض فيه عليه لمحاكمته والحكم بصلبه, أقيم في قاعة كبيرة في الدور الثاني مما يسميه أهل القدس (عليّة).
نحن دخلنا من باب الخليل إلى ساحة القلعة, التي كانت تقوم فيها بقية من القلعة الرومانية القديمة, وما بني بعدها على مر الدهور مررنا فيها بكنيسة إنجيلية بناها الإنجليز في القرن التاسع عشر.
ولكن أهم ما مررنا به في اتجاهنا نحو باب النبي داود من داخل السور هو دير الأرمن. كان هذا الدير معلمة مهمة في القدس. بنيت بعض أجزائه في القرن السادس عشر لما ازداد عدد الأرمن الذين يقيمون في القدس. ومع توالي الزمن اتسع بحيث أصبح شبه بلدة, إذ كانت تقوم فيه كاتدرائية ومنازل كثيرة للسكن وحوانيت ومصانع.
درنا به ووصلنا باب النبي داود ثم سرنا داخل المدينة محاذين لساحة الحرم الشريف وبعد اتجاه شمالي وصلنا إلى باب في الجهة الشرقية من السور, فخرجنا وسرنا في موازاة السور شمالاً, ودرنا غربًا, فإذا نحن مرة ثانية أمام باب الزاهرة.
تسلقنا السور حيث يمكن, وأشرفنا على جزء من المدينة القديمة.
تجاور الأديان
كانت الزيارة الثانية لساحة الحرم الشريف. والدكتور طوطح كان يعرف تاريخ القدس, وقد وضع كتابا في تاريخها بالاشتراك مع بولس شحادة صاحب مرآة الشرق. ومن هنا كانت رفقته في زيارة القدس أكثر من مجرد وقوف على الأطلال.
يومها رأيت للمرة الأولى أثرًا عربيًا إسلاميًا مطعمًا بالفن البيزنطي في قبة الصخرة المشرفة, وتخطيطا لجامع كبير بناه عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي كي تبدو عظمة الإسلام لزائري المدينة المقدسة.
أما الزيارة الثالثة, فكانت إلى كنيسة القيامة, التي بنتها الملكة هيلانه أم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين (312-337), وهو الذي اعتنق المسيحية, وجعلها أولاً دينًا من الأديان المعترف بها في الإمبراطورية, ثم اتخذت, فيما بعد, دين الدولة الرسمي. جاءت هيلانه لزيارة الأرض المقدسة, وبنت كنيسة, حيث ولد المسيح في بيت لحم وأخرى ضخمة في القدس, حيث حكم عليه وصلب وقام في اليوم الثالث.
لا يتسع المقام هنا لوصف مفصل لكلا المكانين كنيسة القيامة وساحة الحرم الشريف. والذي قصدته أنا من هذه الرواية إنني, أنا شخصيا, أخذت بالفن الذي تمثل في مبنيين رئيسييّن للمسيحية والإسلام. شغفت بالمكانين, وما أكثر ما زرتهما, وأنا تلميذ في دار المعلمين. كنت أحمل معي كتابًا وأذهب إلى ساحة الحرم أجلس على الأرض راكزًا ظهري على جدار الصخرة أو المسجد الاقصى, مستمتعا بالهدوء والطمأنينة, التي كانت تمثلهما أسراب الحمام التي تطير في الأجواء, وتبدو كأنها تسبح في عالم الأحلام - مثلي أحيانا.
أما كنيسة القيامة فكنت أذهب للصلاة فيها, لكن لأن القداس, بما فيه قراءة الإنجيل, كان يتم باليونانية, فقد عزفت عن زيارة العبادة. ولكن في إحدى السنوات قضيت أربعًا وعشرين ساعة داخل كنيسة القيامة لأحضر الطقوس الدينية المتعلقة بالسيد المسيح. وكانت تجربة لا يمكن أن تنسى. لكن القدس التي عرفتها تلك السنوات لم تقتصر على زيارة المكانين المقدسين, وهما ليسا القدس كلها.
لندخل الآن إلى قلب المدينة المقدسة. كنا ننتقل من المدرسة إلى باب العامود لندخل إلى المدينة. هناك كنت اجتاز شارعا مهمًا - باب أو شارع خان الزيت. هذا يبدأ بعد دخولك باب العامود بنحو خمسين مترا.
هو شارع مسقوف بزجاج أصفر قليلاً, بحيث يمكن للنور أن يدخل اليه. كان الشارع ضيقا ومبلّطا, ولم يكن يسمح للخيل أو الجمال بالمرور فيه - حتى الحمير كانت تجتازه على مضض.
في هذا الشارع مطاعم يلجأ إليها القادمون من الريف لقضاء حاجاتهم. وكانت في هذا الشارع حوانيت لكل ما يحتاج إليه الرجل العادي, وكان زبائنه خاصة من أهل الريف المقدسي. كان هؤلاء يقصدون القدس يوم الجمعة للصلاة في المسجد الأقصى. وعندها يمرون بهذا الشارع ليبتاعوا حاجاتهم على اختلاف أنواعها - ثيابًا, أدوات منزلية, مواد غذائية وأشياء لا توجد في القرى.
الشارع يبدو طويلاً, إذ إنه يجدر بك أن تسير وئيدًا كي لا تؤذى. وكان في نهايته طريقان: واحد إلى اليمين يوصلك إلى القيامة والآخر إلى اليسار يحملك إلى الحرم الشريف.
فإذا خرجت من ساحة كنيسة القيامة صعدت بضع درجات يمينا لتجد نفسك أمام سوق يباع فيها كل ما يأمل الزائر أن يحمله معه من آثار الأرض المقدسة: من مجسمات لكنيسة القيامة وكنيسة المهد إلى صلبان أنيقة الصنع إلى لوحات رسمت عليها صور القديسين وكنائس القدس وبيت لحم أو نقشت عليها, إلى مسابح لا يحصى لها عدد, إلى الكتاب المقدس مجموعًا أو مجزءًا يضمه ويحنو عليه غلاف من خشب الزيتون أو الصدف. وهذا كله لا يعدو أن يكون أمثلة لما تجد هناك. وفي الأسبوع السابق ليوم الفصح كانت الشموع المختلفة الحجم والزخرف تزين الحوانيت هناك.
وأنت إذا انتهيت من هذه الفسحة المحدودة وجدت نفسك في سوق حارة النصارى. هذه السوق كنت تجد فيها كل ما يلزمك أو زوجك من القماش أو الأثواب الجاهزة. وكان فيها محلان لكي الطرابيش. ذلك بأن الذين لم يعاصروا اعتمار الطربوش, على أنه الأداة الوحيدة لغطاء الرأس, لا يعرفون, بطبيعة الحال, أن الطربوش كي يحتفظ بكيانه عندما يعتمر كان يجب أن يُقشّش ويُكوى.
أذكر أنني في سنتي الأولى في دار المعلمين (1921-1922) ابتعت طقما بنيا بمبلغ 125 قرشًا من محلات ميشيل مَنِّه. وفي نهايته الجنوبية يسلمك هذا الشارع إلى ساحة باب الخليل الداخلية.
ليسمح لي القارئ أن أتوقف عند حانوت لفتني في أول سوق خان الزيت على يسار الداخل من باب العامود. كانت في مقدمة الدكان بسطة واسعة فيها مربعات خشبية كثيرة, وفي كل منها عدد من الرسائل, كثرت أو قلت. ولكنني خجلت أن أقف فأسأل صاحب الحانوت عن هذا الذي أراه. إلا أن الرجل كان يبيع أنواع الدفاتر وأقلام الرصاص والورق وورق النشاف والحبر - وهي أمور كنا نحتاج إليها. أخذت أبتاع ما يلزمني من هذه الأمور من حانوته, فلما شعرت أنه يمكنني أن أسأله عن تلك المربعات والرسائل, أقدمت على ذلك. ابتسم الرجل, ثم قال ثمة عدد كبير من أبناء قرى القدس مهاجرون في أمريكا. هؤلاء يبعثون إلى أقاربهم برسائل بريدية. لكن البريد الرسمي لا يقوم بتوزيع الرسائل إلى هذه القرى الصغيرة. لذلك كان أهل القرى يطلبون من المغتربين أن يضعوا عنوانًا مقدسيا على رسائلهم, مثل دكان أو عيادة طبيب أو صيدلية. خطر لي أنا أن أنظم تبادل الرسائل بين الوطن وبلاد الاغتراب. بدأت بالبعض واتفقنا على أن تعنون رسائلهم بواسطتي. وفي يوم الجمعة إذ يأتي أهل هذه القرى لأداء صلاة الجمعة في القدس, كانوا يمرون بي ويأخذون رسائلهم. وازداد العدد بحيث أصبحت الوحيد, الذي عنده مكتب بريد خصوصي. إذا عثر الرجل على رسالة أخذها ودفع لي المبلغ المتفق عليه. وكثيرا ما كانوا يطلبون مني قراءة هذه الرسائل. وعندما يعدون الرسائل لإرسالها كانوا يضعونها عندي ويدفعون أجرتي وثمن الطوابع وأنا أرسلها إلى الخارج. كل هذا عن طريق البريد الرسمي طبعا. وقد يتلقى الواحد منهم شيكًا بنكيّا أو حوالة بريدية, فكان يعهد إلي تدبير أمرها وقبضها له.
أماكن يحن إليها القلب
ولنخرج من باب الخليل: عندها يبدأ شارع يافا, الذي كان يجاري سور القدس. شارع يافا كان أول منطقة انتقل إليها تجار المدينة القديمة - وكان ممن انتقلوا اليها ميشيل مَنّه الذي ابتعت من محله بدلة للتخرج (1924), كما نقل إليه عدد كبير من الحوانيت التي أصبحت تحتل أماكن أوسع وأصبحت أجمل ترتيبا.
بالنسبة لي كانت هناك مكتبة فلسطين العلمية لصاحبيها بولس ووديع سعيد (وهذا الأخير هو والد الدكتور إدوارد سعيد الكاتب والناقد والمفكر والسياسي المعروف).
هذه المكتبة تعرفت عليها في زيارة أو اثنتين, وأنا تلميذ في دار المعلمين. لكن في الفترة التي قضيتها أستاذًا في مدرسة عكا الثانوية (1925-1935), كانت مكتبة فلسطين العلمية أحد الأماكن التي أحج إليها. وقد كانت صلتي بعالم الكتب الإنجليزية التي كنت أقتني منها عددًا كبيرًا في التاريخ وما يمت إليه ويحيط به.
ومن أطرف المقاهي التي سمعت عنها في القدس يومها مقهى البرستول, الذي كان خلف السور مباشرة وقد ثقب السور خصيصًا للوصول إليه. هذا, الذي عرفته فيما بعد, كان مطعمًا وبارًا على النمط الإنجليزي. في نهاية سور القدس المصاقب لشارع يافا كانت ساحة صغيرة تسمى ساحة البوسطة (فيما بعد ساحة اللنبي) وفيها يقع المطعم الوطني, الذي عرفته مباشرة أثناء زياراتي المتكررة إلى القدس من عكا.
هنا, باستثناءات قليلة, كان ينتهي الجزء الأصلي العربي من شارع يافا, الذي يمتد غربًا مسافة طويلة. إذ فيه كانت تقوم مبان يهودية تمتد على جانبيه للتجارة والمكاتب والسكن.
أما وقد انتشرنا خارج القدس فلنشر إلى مبنى متوسط السعة كانت تقوم فيه يومها جمعية الشبان المسيحية, التي كانت تحيي نشاطات علمية وفنية كبيرة بالنسبة لتلك الأيام. أذكر أنني حضرت فيها سلسلة من المحاضرات عن فضائل الأديان: تكلم فيها عن المسيحية القس الياس مرموره, وعن الإسلام الشيخ نديم الملاح وعن البهائية حسين روحي (أحد كبار موظفي إدارة معارف فلسطين يومها). ولم أحضر المحاضرة عن اليهودية.
وكانت ثمة (جمعية) تتألف من الموظفين البريطانيين في حكومة فلسطين وقريناتهم تقدم رواية لشكسبير سنويًا. حضرت فيها أول رواية إنجليزية - مكبث.
وكان شارع ماملاّ (أصلها مأمن الله) من الشوارع الرئيسية في ظاهر المدينة. شارع تجارة ومطابع وشوية كتب عربية (هذا عن فترة 1921-1924).
وما دمنا قد أصبحنا خارج السور فلنتحدث عن ضواحي القدس. ونحن إذا بدأنا في الجهة الشمالية الشرقية, وجدنا وادي الجوز, الذي يبدو أن سكانه, وقد خرجوا من المدينة القديمة, كانوا من أصحاب الأعمال الصغيرة أو المتوسطة, لكن عندما نتجه غربًا, نقع على حي الحسينية الذي يقوم على تلة مرتفعة قليلاً وتزينه بيوت قليلة لكنها جميلة. وهناك كانت تقع مباني دار المعلمين المتواضعة, التي كانت أصلا للسكن, لكن مديرها رتبها, بحيث إنها أصبحت صالحة لأن تكون مدرسة.
وبعد هذه المباني - إلى الشمال منها - كان يقوم مبنى كبير هو المدرسة الأمريكية للدراسات الأثرية. وإلى الشمال من حي الحسينية يقع حي الشيخ جراح, الأقل مساكن, ومن سكانه إسعاف النشاشيبي, ولكنه الحي الذي نما على نحو سريع في السنوات التالية.
وأكبر حي خارج السور في الشمال كان حي المصرارة, الذي يصله باب العامود بداخل المدينة. كان الأكثر ازدحامًا وتنوعًا سكانيًا, ويكاد يتمتع ببعض الاستقلال من حيث حوانيته, التي كانت تلبي حاجات السكان الأساسية. وأكبر معالم هذا الحي المدرسة الدستورية, التي أنشأها خليل السكاكيني سنة 1909, تيمنا بإعادة الدستور (1908).
وكان ثمة مبنيان كبيران شمالي حي المصرارة - الأول دير الآباء الدومينيكان, الذي كان يحتوي على أغنى مكتبة في المنطقة للدراسات التاريخية والدينية في فلسطين.
أما المبنى الثاني فهو المجمّع الأنجليكاني, الذي كان يضم كاتدرائية كبيرة ودار إقامة المطران الانجليكاني ومكاتبه ومدرسة المطران الإنجليزية, التي يعود إنشاؤها إلى أواسط القرن التاسع عشر (اسمها الرسمي مدرسة سانت جورج, لكن لأنها كانت تقوم في المجمع المطراني, أطلق عليها مدرسة المطران).
في الجهة الغربية كانت ترتفع تلة الطالبية, وهذه اختارها الأغنياء من الطائفة الإنجيلية للانتقال إليها, وظلت وقتًا طويلاً, يسكنها هؤلاء ومن انضم إليهم, لكنها لم تكن حكرًا عليهم.
والجهة الجنوبية الغربية من القدس, القطمون, اختارها مبدئيًا وجهاء الطائفة الأرثوذكسية. في هذه الضاحية بنى خليل السكاكيني بيتًا له فيما بعد كنت أتردد عليه فيه لما سكنت القدس (بعد 1939).
لعل الضاحية الجنوبية كانت الأكثر ازدحامًا بالسكان بالنسبة لضواحي القدس الأخرى. فكان فيها البقعة التحتة والبقعة الفوقة. كان يغلب على سكان الأولى أبناء البلد ممن خرج من القدس القديمة, كما كانت تضم بعض الأسر, التي انتقلت من القرى الجنوبية القريبة من القدس. أما البقعة الفوقة - وكانت تسمى الكولونية الألمانية - فكان قد أنشأها فريق من الألمان الذين هاجروا إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر, على اعتبار أن نهاية العالم قد اقتربت, باقتراب نهاية الألف الثاني على ميلاد السيد المسيح. وانضم إلى هذه الناحية من الضاحية بعض سكان المدينة القديمة. هذه الضاحية كانت تصاقب طريق بيت لحم.
وقد قدر عدد سكان القدس في تلك الأيام بنحو 000ر90 نسمة.
مدارس وشخصيات
كانت ثمة مدارس ثانوية في القدس, بعضها كان يعود تأسيسه إلى أواسط القرن التاسع عشر. منها مدرسة سانت جورج (مدرسة المطران), التي كانت تقوم على نظام المدارس الداخلية في إنجلترا من حيث التدريس والعناية بالأخلاق والنظام والرياضة. كان مديرها يومها رينولدز, الذي تولى إدارتها نحو ثلث قرن.
كان خليل بيدس أستاذ اللغة العربية فيها. وهو ضليع باللغة الروسية وصاحب قلم أنيق رشيق. نشر مجلة النفائس لسنوات, وترجم الكثير من عيون الأدب الروسي إلى العربية.
كان خليل بيدس من الناصرة, وكنا جيرانا في المنطقة, فقد كان يأتي لزيارتنا وتفقد أمورنا, نحن الطلاب الناصريين.
والمدرسة الإنجليزية الثانية كانت معاصرة للأولى هي صهيون (مدرسة المطران غيبوت الإنجيلي, الذي كان هولانديا), لكنها عرفت باسم مدرسة صهيون لأنها كانت تقوم على جبل صهيون.
وكانت تقوم في حي المصرارة (كلية الشباب), الأحدث عهدًا, والتي طورت تدريسها فيما بعد بحيث كانت تقدم مساقًا كاملاً في الآداب يعادل البكالوريوس, وكان من خريجيها حسن الكرمي, اللغوى المعروف والقاموسي المبرّز.
وفي الجهة الغربية من القدس, وعلى مسافة ليست باليسيرة كانت تقوم مدرسة شنِلّر الالمانية, التي أنشئت سنة 1862 واسمها الرسمي دار الأيتام السورية, لكن لأن مؤسسها كان القس هرمان شنِلّر غلب اسمه على الاسم الرسمي. كان بعض تلاميذها الاوائل من أيتام حرب لبنان الأهلية في الستينيات. وهذه المدرسة كانت تختلف عن المدارس الأخرى, في أنه كان فيها قسم للصناعات (مقابل التعليم الثانوي الأكاديمي) كان متخرجوه مضرب المثل في الإتقان والجودة وقد أقفلت عند احتلال بريطانيا فلسطين, ثم فتحت بإدارة رئيس أمريكي (المستر آش), لكنها أعيدت إلى صيغتها الألمانية فيما بعد. وقد كان رئيسها أيام كنت في دار المعلمين ثيودور شنلّر, حفيد المؤسس. (في الأربعينيات المتأخرة من القرن العشرين اشتد الضغط الصهيوني على المدرسة الألمانية. فانتقلت بفروع ثلاثة إلى الناصرة وعمان ولبنان (في خربة قنافِر في البقاع), والذي أعرفه أن فرعي عمان ولبنان لا يزالان حتى اليوم يقومان بالخدمة التربوية, لكنني لا أعرف عن فرع الناصرة تمامًا).
وتعتبر مدرسة الفرير النموذج الفرنسي للتربية والتعليم في القدس. وهي واحدة من عشرات المدارس, التي فتحتها منظمة الفرير الكنسية في أنحاء العالم.
وكانت للبنات كلية مس روبرتسون (المدرسة الإنجليزية للبنات) هذه طورت فيما بعد لتصبح كلية على مستوى كلية الشباب.
وعلى نحو ما كان للإنجليز مدرسة للبنات, فقد كان في القدس مدرستان أخريان مهمتان للبنات: الأولى ألمانية هي مدرسة شميت والثانية فرنسية هي كلية مار يوسف.
أما المدارس العربية فالرسمية منها كانت المدرسة (الكلية فيما بعد) الرشيدية التي أنشئت في أواخر العهد العثماني, وتولت إدارة فلسطين البريطانية شئونها بعد الحرب. وكانت هناك روضة المعارف وهي مدرسة عربية خاصة. وقد أنشأ المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الكلية الإسلامية التي كانت تعنى بإعداد الموظفين الذين يعملون في المحاكم الشرعية أو مع المحامين الذين يتعاملون معها.
وفي مقابل دار المعلمين كانت ثمة دار المعلمات التي أنشئت في بدء عهد الإدارة البريطانية.
كانت (مرآة الشرق) لبولس شحادة وبيت المقدس لبندلي مشحور تصدران في القدس (جريدة الجامعة العربية صدرت 1925).
كان للقدس من قبل دور علمي كبير على نحو ما كانت عليه كبرى المدن في العالم الإسلامي. وقد خرّجت هذه عددًا من العلماء والأدباء والشعراء, كما أن عددًا من علماء بيت المقدس تلقوا العلم في الأزهر الشريف لكن سني الحرب العالمية الأولى, أخرت هذه النواحي. وكان لا بد أن يمر بعض الوقت قبل ان تعود إلى المدينة مكانتها العلمية أولاً, وتأخذ بأسباب التقدم ثانيًا. والذي أعرفه أن النشاط الثقافي الرئيسي الذي كان يتم في القدس كان يتركز حول جمعية الشبان المسيحية وكانت مفتوحة للجميع, وكان هناك النادي اللاتيني, الذي كان نشاطه يقتصر على أتباع هذه الطائفة.
تركت دار المعلمين 1924, علّمت السنة الأولى في ترشيحا, قضاء عكا, ثم نقلت سنة 1925 إلى مدرسة عكا الثانوية واستمر عملي فيها إلى سنة 1935. خلال هذه السنوات العشر كنت أزور القدس مرة أو أكثر في السنة. وكانت إقاماتي فيها تطول. فأنا أرغب في كسب المعرفة مباشرة من الذين يملكونها وفي القدس كثيرون وعن طريق الكتب: كان من اليسير الحصول على الكتب العربية من مصر. أما الكتب الإنجليزية, وكانت حاجتي إليها كبيرة, فقد كنت أحصل عليها بواسطة مكتبة فلسطين العلمية في القدس.
القدس تتطور
خلال هذه السنوات العشر, يمكنني أن أسجل الأمور التالية حول تطور مدينة القدس.
أولا: اتساع نطاق الأحياء اليهودية خاصة في الجهة الغربية وازدياد عدد السكان اليهود بأعداد كبيرة. ومع أن هذا الانتشار اليهودي شمل مناطق مختلفة في فلسطين, فقد تركز في حيفا ويافا تجاريًا, وفي القدس علميًا (الجامعة العبرية 1925) وإداريا - مكاتب الوكالة اليهودية, التي كان على الحكومة المنتدبة أن تستشيرها في أمور كثيرة خاصة بإدارة فلسطين, وذلك بموجب صك الانتداب.
ثانيًا: كانت القدس عاصمة فلسطين, ومن ثم فإن جميع الأمور المتعلقة بالإدارة, كان يجب أن تبدأ من القدس أو تحال إلى القدس لإبداء الرأي. وما دمنا في سبيل الحديث عن الإدارة فلنشر إلى أن المستشار القضائي (بنتويتش) ومدير دائرة الأراضي (هايمسون), ومدير دائرة الهجرة والجوازات (ابرامسون) كانوا بريطانيين, لكنهم كانوا يهودًا. (ويكفي أن المندوب السامي الأول كان هربرت صموئيل - الزعيم البريطاني في حزب الأحرار, والوزير السابق, والرجل الذي كانت له أصابع في صياغة وعد بلفور 1917 كان يهوديًا صهيونيًا).
ثالثًا: خلال هذه المدة أصبح من الممكن أن يحصل الواحد على عدد كبير من الكتب, التي تصدر في مصر من مكتبتين أو ثلاث كان أفضلها مكتبة الأندلس. الذي كان صاحبها يختم كل الكتب التي يبيعها إعلانًا عن المحل.
رابعًا: نشأت جمعيات جديدة ونشطت القديمة. الجديد كان جمعية الشبان المسلمين. ونشط النادي اللاتيني بعض الشيء واستمرت جمعية الشبان المسيحية في نشاطها.
خامسًا: كانت تقوم دار واحدة عربية للسينما في منطقة باب العامود يوم كنت تلميذًا في القدس كان اسمها سينما القدس الكبيرة. وقد احترقت سنة 1923. وظلت القدس العربية خالية من دار للسينما. إلى أن فتحت أول دار سينما عربية سنة 1925 وحضرت فيها فيلم الوردة البيضاء لعبد الوهاب, ثم تلتها دور أخرى, لكنها كانت يومها صغيرة نسبيًا.
سادسًا: كانت قد قامت في فلسطين حركة نهضة أرثوذكسية عربية, أولاً بسبب تصرف البطريرك داميانوس (1897-1931) السيئ والمجحف بحق أبناء الطائفة, وثانيًا بسبب تصرفه في بيع أوقاف الكنيسة لليهود. وعقدت, بدءًا من سنة 1924 مؤتمرات في حيفا (مرتين) والقدس وانتخبت لجنة تنفيذية مقرها القدس, كان رئيسها يعقوب فراج. ومع أن حكومة فلسطين عينت ثلاث لجان لبحث القضية, فإن تصرف البطريرك لم يتوقف سوءًا, بل زاد حتى توفي.
سابعًا: كانت الزعامة السياسية بفلسطين قد اتضحت خيوطها. كان هناك تجمعان (لا يمكن أن يسميا حزبين) رئيسيان, الأول يتزعمه الحاج أمين الحسيني, مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى, وكان يطلق على أتباعه المجلسيين, وكان اسمه الرسمي الحزب العربي الفلسطيني ورئيسه جمال الحسيني. وحزب الدفاع الوطني (وكان يشار إليه بالمعارضين) ورئيسه راغب النشاشيبي, رئيس بلدية القدس إلى سنة 1936. وفي أواسط عقد الثلاثينيات, ظهرت أحزاب (تجمعات) سياسية أخرى أرادت الخروج عن طوق الحاج أمين الحسيني, وهي: حزب الاستقلال وأمينه العام عوني عبد الهادي; وحزب مؤتمر الشباب ورئيسه يعقوب الغصين (يافا) وحزب الإصلاح برئاسة حسين فخري الخالدي; وحزب الكتلة الوطنية ورئيسه عبد اللطيف صلاح (نابلس) والجمعية الإسلامية بحيفا, وهي مؤسسة حزبية برئاسة رشيد الحاج إبرهيم (1899-1953).
وكان معنى هذا توزع النشاطات السياسية الذي غلب عليه الخلاف بدل تجميع القوى والتنبه إلى معنى وعد بلفور وأهمية تعيين هربرت صموئيل للقيام بوضع طرق التنفيذ ووسائله.
ثامنًا: كان ثمة نهضة أدبية وقد وضعت كتب تناولت الأوضاع السياسية في فلسطين والعالم العربي. وقامت مطابع جديدة لعل أنشطها كانت مطبعة بيت المقدس (داخل الباب الجديد في القدس)
تاسعًا: ازداد عدد المقادسة الذين خرجوا من المدينة القديمة فنمت الأحياء التي تحدثت عنها.
كانت آخر زيارة لي إلى القدس في صيف 1935. وفي خريف تلك السنة ذهبت إلى لندن, إذ حصلت على بعثة علمية من إدارة المعارف. غبت أربع سنوات, ولما عدت عينت أستاذًا في الكلية العربية في القدس. عندها سكنت المدينة وأقمت فيها إلى سنة 1947.
كان من الطبيعي أن تكون معرفتي بالقدس في هذه الفترة أوفى, إذ انخرطت في حياتها انخراطًا كليًا: تعرفت إلى كثيرين من أهل المعرفة في مقدمتهم زملائي في الكلية العربية (والكلية الرشيدية). وشاركت في النشاطات الثقافية في جمعية الشبان المسيحية والنادي الأرثوذكسي والنادي اللاتيني (هذه النشاطات لم تقتصر على القدس, ولكنني أنا اتحدث اليوم عن القدس).
الحالة السياسية
ليس من اليسير التأريخ للحركة السياسية العربية في فلسطين في هذه الفترة التي أقمت فيها في القدس (1939-1947) في مقال عام عن المدينة المقدسة. لكن لا بد من وضع بعض المعلومات والملاحظات التي أرى أن الإشارة إليها ضرورية.
يبدو أنه كان هناك نوع من التأرجح في القيادة الوطنية أشرت إليه من قبل, فبين 1921 و1929 لم يكن الحاج أمين الحسيني خصمًا نشيطًا ضد الإدارة البريطانية (1921-1929 بدأت مرحلة جديدة في تاريخه الحاج أمين, وتاريخ الحركة الوطنية عامة. فقد قبل المفتي بمنصب الإفتاء عام 1921 كما قبل برئاسة المجلس الإسلامي الأعلى (تم هذا أيام المندوب السامي الأول - هربرت صموئيل 1920-1925) وهكذا بدأت الحركة الوطنية - زعامة وجماهير - فترة كانت أقل عطاءً وزخمًا, من حيث الممارسات الوطنية. وهنا تخلّت الحركة الوطنية عن الكثير من اندفاعها ورومانسيتها, التي شهدتها المرحلة الأولى, ودخلت في مرحلة هادنت فيها الاستعمار, أو على الأقل لم تصنفه على أساس أنه العدو الرئيسي أو التناقض الرئيسي, مع أنها بقيت على رفضها القاطع للصهيونية واعتبارها رأس الشرور) (علي سعود عطية في (المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام وفلسطين, المجلد الثالث - تاريخ فلسطين) مطابع الجمعية العلمية الملكية عمان 1982, ص 438-9). المقال بكامله فيه تفاصيل أكثر على الموضوع (ص 421-483).
وفي حادثة البراق (1929) ظهر نوع من النشاط المعادي للسياسة البريطانية.
لكن الإضراب الفلسطيني, الذي دام ستة أشهر وقيام حركة الشيخ عبد العزيز القسام, التي كلفت حكومة فلسطين خسائر كبيرة, وقد اضطرت هذه إلى الاستنجاد ببعض فرق من الجيش البريطاني من خارج فلسطين لمحاربتها, والتي انتهت سنة 1935 باستشهاد الشيخ عبد العزيز في إحراج يعبد (جنين), أدت إلى شيء من العمل الجدي, وقامت على أثر ذلك اللجنة العربية (الفلسطينية) العليا بنشاط كبير, انتهى بأن أعلنت اللجنة إنهاء الإضراب بناء على طلب الدول العربية (أعضاء جامعة الدول العربية), التي تلقت من بريطانيا وعدًا بأن تنظر في قضية فلسطين على نحو يرضي العرب. طالت المفاوضات بين بريطانيا والدول العربية, ولم ينعقد (مؤتمر الطاولة المستديرة) في لندن إلا في 1939 (كنت أنا يومها طالب علم في لندن), واتصلت أنا وموسى عبد الله الحسيني برؤساء الوفود العربية الخمسة, التي جاءت لندن وهي مصر والمملكة العربية السعودية والعراق واليمن والأردن فقط, لأن الحكومة الفرنسية لم تسمح لرئيسي الوفدين اللبناني والسوري بالذهاب إلى لندن فبقيا في باريس, وتابعا المناقشات والمفاوضات من هناك.
وكانت نتيجة المفاوضات التوصل إلى قرارات فيها قدر ضئيل من الإنصاف للعرب من حيث بيع الأراضي والهجرة اليهودية, وأمور أخرى, ولو إنها كانت مؤقتة, صدرت في كتاب أبيض عن الحكومة البريطانية 1939.
لكن لم تكد الوفود العربية, بما في ذلك الوفد الفلسطيني تعود إلى بلادها وتتلقى التهنئة على الجهود والنتائج حتى تلبدت الغيوم العالمية, وأعلنت الحرب العالمية الثانية (صيف 1939), وعندها طار الكتاب الابيض.
في سنة 1939, شعر الحاج أمين الحسيني, بأنه معرض لعمل رسمي ضده مثل الاعتقال أو النفي أو كليهما, فتخفى بزي امرأة, وخرج من فلسطين إلى بيروت. لكن إقامته هناك لم تطل بسبب موقف الفرنسيين منه (وهم حلفاء بريطانيا حربًا وسلمًا - إلى درجة معينة), فانتقل إلى العراق. (وقصة أعماله وتنقلاته ونشاطه في إيران وأوربا قضية خارجة عن الموضوع.)
وهنا تولت اللجنة العربية العليا إدارة شئون القضية الفلسطينية, (لكن الاتصال والإشارة بالحاج أمين, وبعض الأحيان التقيد بالرأي - كان امرًا أساسيًا في تصريف الأمور.)
أعود إلى سياق الحديث. كانت القضية الشغل الشاغل للجميع, لكن الحرب القائمة كانت درعًا يتقي به الجميع اللوم وينتظرون جلاء الأمور بعد الحرب - كل هذا في ظل أحكام عرفية.
على أن القضية السياسية مع أهميتها, لم تشغل كل فئات (ولا أحب استعمال طبقات) المجتمع. فالفكر كان له أهله وأصحابه. لا أستطيع أن أتحدث عن جميع الذين عملوا في هذا الميدان. ولكن لا بد من أن نتذكر أن كتّاب المقالات كانوا كثرًا, إذ إن هؤلاء شملوا كتّاب المقالات السياسية والأدبية وسواها. كانوا ينشرون في جريدة فلسطين والدفاع والحرية (إسحق عبد السلام الحسيني) والجامعة الإسلامية (سليمان التاجي الفاروقي) والكرمل. وفي مجلات كانت تصدر عن أندية تعنى بالأدب والفكر مثل مجلة المنبر (النادي الأرثوذكسي). ونشرة النادي اللاتيني, التي كان يشرف عليها روكس بن زائد العزيزي, اللغوي الكبير. وكانت مؤسسة الدومنيكان الكاثوليكية تنشر مجلة فرنسية حول الدراسات المتعلقة بالأراضي المقدسة. كما كانت دائرة الآثار الفلسطينية تصدر نشرة فصلية بالإنجليزية تتناول الكشوف الأثرية التي تتم في البلاد.
عندما نتناول الحركة الفكرية على نحو عام, دراسات وتاريخا وقصة ورواية وشعرًا يصبح من الصعب الفصل بين نشاط القدس ونشاط مراكز أخرى في فلسطين. صحيح أن القدس ظلت نقطة الانطلاق الأساسية, لكن الصحف كانت تنشر في يافا وحيفا, وما دبجه أصحاب الأقلام فيها لم يقتصر على السياسة والاقتصاد والإدارة, بل تعدى ذلك إلى مقالات تتعلق بالتاريخ والفكر والأدب والمجتمع ذلك لأن المجلة الأسبوعية أو الشهرية لم تكن قد تطورت بعد,. فضلا عن أن التأليف كان له زبائنه في أماكن متعددة من البلاد.
ولنبدأ على كل بالمؤسسات الثقافية, التي عرفتها القدس في ذلك العقد. كانت ثمة مؤسسات لدراسة آثار وتاريخ الأراضي المقدسة. لكن الاجتماعات التي تعقد, والمحاضرات التي تلقى, كانت شديدة التخصص بحيث يُعنى بها عدد محدود فقط. لكن الذي أود أن أتحدث عنه هو المؤسسات, التي كانت تعنى بالجمهور الأعرض من المثقفين. هنا تأتي الأندية والجمعيات التي زاد عددها عن ذي قبل وتعددت اهتماماتها. منها ما كان قائما من قبل, لكن دائرة اهتمامه اتسعت وتنوعت مثل النادي اللاتيني وجمعية الشبان المسلمين ومنها ما قام بعد, وأهم هذه كان النادي الأرثوذكسي, والذي كان أوسع نشاطًا في محاضراته وندواته.
لكن المؤسسة الثقافية التي بزّت سواها في الأوساط العربية, هي جمعية الشبان المسيحية. هذه كانت يومها قد انتقلت من مكانها القديم البسيط إلى مبنى كبير في ظاهر المدينة إلى الجهة الجنوبية. كان المبنى يضم مكتبة جيدة, وقد يمكن القول بأنها كانت متميزة, تضم كتبًا مختلفة الأنواع وصالحة لجميع الهوايات تقريبًا, فضلاً عن أن غرفة الصحف كنت تعثر فيها على دوريات عربية وإنجليزية في مجالات متنوعة. وعهد بالإشراف على المكتبة والدوريات إلى خبير في هذه القضايا. كانت فيها قاعة كبيرة للمحاضرات العامة, التي كانت تستعمل بانتظام وقاعة أصغر للندوات, وكانت هذه تستعملها مؤسسات ثقافية لا تملك قاعة للاجتماع. كما كان ثمة مسرح للتمثيل. إلى هذا كله كان فيها غرف رياضة تتسع لعدد كبير من المهتمين إلى بركة للسباحة. كما كانت تضم مطعما للاعضاء وضيوفهم.
نشاطات هذه الجمعية كان يفيد منها عدد كبير من المثقفين, ويمكنني القول عن تجربة (وتقديم العون أحيانًا) إنها كانت أكبر عامل ثقافي مؤثر في القدس.
ولننتقل الآن إلى المدارس. المؤسسات التي تجاوزت التعليم الثانوي هي الكلية العربية (بدءا من السنة 1927, إذ أضيف إليها سنتان), والكلية الرشيدية بدءًا من السنة 1942, أما المؤسستان الأجنبيتان اللتان استمرتا في عملهما, إذ أضافت أربع سنوات بعد التعليم الثانوي (وكانت الشهادات التي تمنحهما تساوي درجة البكالوريوس) فهما كلية الشباب وكلية القدس للبنات وهما إنجليزيتان.
وقد عنيت المدارس الثانوية العربية بتقوية مناهجها وبرامجها واختيار المدرسين فيها كي تتمكن من اللحاق بالركب العام.
وقد أنشئت مدرستان ثانويتان جديدتان في العقد الخامس من القرن العشرين, كلية النهضة لخليل السكاكيني, ولبيب غلمية وكلية الأمة لشكري حرامي وعبد الله نعواس.
كانت ثمة لجان ثقافية متعددة في أنحاء البلاد, لكن اللجنة, التي كانت لها نشاطات متعددة هي (لجنة الثقافة العربية), التي تأسست سنة 1943 بعضوية (الأسماء حسب ترتيب الحرف الأول) اسحق موسى الحسيني وسعدي بسيسو وقدري حافظ طوقان وعبد الحميد ياسين وعبد الرحمن بشناق ونقولا زيادة ويوسف هيكل, وقد عهدنا بالسكرتارية إلى اسحق موسى الحسيني. ألقينا عددًا من المحاضرات في القدس ويافا وحيفا ونابلس وغزة حول القومية العربية وقد نتج عن هذه المحاضرات كتب هي (القومية والعروبة) (نقولا زيادة) 1945 و(تاريخ الحركة العربية) (سعدي بسيسو) و(مستقبل العالم العربي) (يوسف هيكل).
ونشرت أنا مع صديقي علي شعث كتبًا دورية باسم سلسلة الثقافة الحديثة. لكن لأننا كنا موظفين لم نشر إلى أن السلسلة تصدر بإشرافنا, بل وضعت تحت طاقية المكتبة العصرية بيافا لصاحبيها حنا صليب, وبطرس ملك. نشرنا منها: (رحلة إلى إيران) (أحمد سامح الخالدي) و(العلم في المطبخ) (علي شعث) و(قصص) (عبد الحميد ياسين) و(أمراء عرب من بلاد الشام) (نقولا زيادة) و(العلامة انستاس ماري الكرملي (أعده وحرره روكس بن زائد العزيزي).
لكن هذا نموذج على النشاط المنظم, ولعله لم يكن الوحيد, لكن لم أقف على شيء مثله.
نقولا زيادة
|
|
07-29-2006, 04:13 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
skeptic
عضو رائد
المشاركات: 1,346
الانضمام: Jan 2005
|
رحيل المؤرخ اللبناني الفلسطيني نقولا زيادة
[CENTER]الفقيه {ليتفقهوا فـي الديـن} [/CENTER]
صانعو الحضارة العربية الإسلامية الوظيفة وليس الاسم, هذه هي الرؤية التي ينتهجها أستاذنا د. نقولا زيادة لدراسة حضارتنا الإسلامية ونحن في بداية هذا القرن الجديد, فالحضارة هي مجموعة من الأدوار والوظائف المتواصلة التي تسيّر الحياة البشرية, لا تتوقف بتغير الحكام وتوالي الدول, كما أن الانتكاسات السياسية لا تشل من فاعليتها, إنها تصنع نوعاً من الوتيرة الثابتة تحقق في النهاية ذلك التراكم الحضاري الذي أهل الحضارة الإسلامية أن تقوم بدورها وأن تأخذ سمتها.
الفقيه.. هل هو مقلد أم مجتهد وهل يكتسب شرعيته من النظام الحاكم أم أنه يكسب النظام شرعيته المفتقدة?
كانت الجماعة الإسلامية الأولى في المدينة يقوم بالحكم فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأعوانه من الصحابة. ولما بدأت الفتوحات الأولى في الجزيرة العربية كان من يولى ولاية أو أمر حرب عنده مصدران رئيسيان يرشدانه في أعماله الإدارية أو قيادته العسكرية وهما: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وبعد ذلك فله أن يجتهد في حدود هذين المصدرين.
ولما بدأ العرب المسلمون بفتوحهم, وخاصة لما توسعت هذه الفتوح وانتشرت, ولعل القضايا والمشكلات قد اتسعت وتزايدت, ظل الحدان الأساسيان هما ما يسترشد به في الملمات, يضاف إلى ذلك الاجتهاد الشخصي.
وهذه الحالات, مع الاهتمام بتوضيح الإسلام في الأجواء الجديدة وضرورة مناقشة أصحاب الأديان الأخرى التي عرفتها الفئات الإسلامية المنتشرة في الأصقاع المتباعدة حملت أصحاب المعرفة بتفسير القرآن الكريم, الأمر الذي كان موضع اهتمام هؤلاء في القرن الأول للهجرة/السابع للميلاد.
على أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت موضع اهتمام خاص. لكن الذي اهتم بأمر جمع الحديث عمر بن عبدالعزيز, الخليفة الأموي (99ـ101/717ـ720). فبعد أن استشار أهل الرأي كتب إلى عامله على المدينة طالبا منه أن يجمع ما كان معروفا فيها من الحديث. وقد لبى طلب الخليفة الزهري (تو 124/ ) وهو عالم الحجاز والشام فدون له في ذلك رسالة. ويبدو أن عمر اتخذ هذه الخطوة خشية أن يختلط الحديث إذ إن الوضاعين بدأوا يضعون الأحاديث وينسبونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويبدو أنه, مع جمع الأحاديث أصبح لدى العاملين في محاولة استخراج أمور العبادات والقواعد الشرعية فيما يخص المسلمين ودولتهم, المصدران الأصليان.
وهنا نقع, كما سنرى, على أوائل الفقهاء.
على أنه يجب أن نذكر أن هؤلاء الفقهاء المبكرين كانوا يدركون أيضا أن ثمة أمورا أخرى يجب أن يلجأ إليها لاستخراج القواعد المذكورة إذا أعوزهم النص: ومن هنا نجد أن أمورا ثلاثة تدخل في عمل هؤلاء الفقهاء الأوائل وهي: القياس والإجماع والرأي. لكن الأمر لم يتم بين عشية وضحاها, بل اقتضى وقتا وجهدا.
جامعو الأحاديث
ولعل جمع الأحاديث هو الأمر الذي يجب أن نوليه العناية الآن, ولو أنه جاء متأخرا عن الاهتمام بالتفسير بعض الوقت.
المعروف أن (موطأ مالك) (توفي 179/786) هو أقدم كتب الحديث لكن بعض علماء الحديث القدامى كانوا يرون فيه كتاب فقه, كأن الإمام مالك أراده دليلا لأولئك الذين قد يميلون إلى الانصراف إلى هذه الناحية.
ومن حيث الترتيب التاريخي فإن (مسند أبي حنيفة) (تو 150/767) هو الثاني ويليه (مسند أحمد بن حنبل (تو 241/855).
ومسند أحمد مبوب على أساس الرواية ـ بالإسناد طبعا ـ عن الصحابة. ومن هنا فإن الأحاديث تتكرر فيه بسبب هذا الأسلوب.
ويلي ذلك, تاريخيا ـ (صحيح البخاري) (تو 256/870) و(صحيح مسلم) (توفي 261/875), ومن المألوف أن يشار إلى هذين باسم الصحيحين. وتأتي بعد ذلك أربعة كتب في الحديث يطلق عليها اسم السنن. فهناك (سنن أبي داود) (تو 275/888) و(سنن ابن ماجه) (تو 275/888) ?! و(جامع الترمذي) (تو 295/892) و(سنن النسائي) (تو 303/915).
ونود, قبل الانتقال من موضوع المحدثين ومجموعاتهم أن نضع الملاحظات التالية أمام القارئ:
أولا ـ ليست الكتب المذكورة هي كل ما صنف في الحديث, لكن هذه هي التي وصلتنا. وثمة كتب كثيرة لم يكتب لها البقاء.
ثانيا ـ أن العاملين على دراسة هذه المجموعات من الأحاديث قد صنفوها على طبقات: فالطبقة الأولى فيها من أقسام الحديث المتواتر والصحيح الأحادي والحسن.
ومصنفو هذه الكتب لم يرضوا بالتساهل فيما اشترطوه على أنفسهم. والطبقة الثانية قد يكون فيها الضعيف من الأحاديث. وهناك طبقتان تليان ذلك واحدة تكثر فيها أنواع الضعيف من الأحاديث. والأخيرة هي التي جمعت في العصور المتأخرة (من أفواه القصاص والوعاظ والمتصوفة والمؤرخين غير العدول وأصحاب البدع والأهواء). وهذه لا يعول عليها أحد ممن لهم إلمام بالحديث النبوي). والذي يجمع عليه الباحثون أن كتب الحديث التي ذكرت هي المعول عليها في علوم الحديث.
ثالثا ـ من المهم أن نذكر أن خمسة من جامعي الحديث ـ من البخاري إلى آخر اللائحة إما أنهم جاءوا أصلا من الديار الشرقية للخلافة العباسية أو أنهم قضوا أكبر جزء من حياتهم هناك وتوفوا في ديار الهجرة. فمن الأوائل ابن ماجه القزويني الأصل وأبو داود أصله أزدي والنسائي خراساني المنشأ. أما البخاري ومسلم فقد عاشا في بخاري وتوفي الأول على مقربة منها في نواحي سمرقند, أما مسلم فقد توفي فيها.
رابعا ـ وهو الأهم إن جمع الأحاديث على هذا النحو الواسع أدى إلى نشوء علوم الحديث من حيث الإسناد والجرح والتعديل وعلم مختلف الحديث وعلله وغريبه. وإلى ذلك فإن المحدثين كانوا هم الذين يستنبطون أصول العقيدة والشريعة من هذه الكتب المذكورة, بعد أن يكونوا قد أخذوا المباديء الرئيسية من القرآن الكريم.
ومفسرو القرآن
كان من الطبيعي أن يظهر مفسرون للقرآن الكريم في وقت مبكر من الوجود الإسلامي, ولابد أن الحاجة إلى ذلك ازدادت مع انتشار هذا الوجود.
والذي يتفق عليه الباحثون أن عبدالله بن عباس (تو 67/687) كان أول من أوضح للناس الكثير مما غمض من عبارات القرآن الكريم. وقد نشر تلاميذ عبدالله بن عباس الكثير من تفسيره ومنهم سعيد بن جبير (تو 94/713) ومجاهد (تو 102/721) وعكرمة (تو 105/724). وقد احتفظت تفسيرات عبدالله بن عباس بأهميتها وأصالتها بحيث أفاد منها الطبري (تو 310/922).
لكن الباحثين في تاريخ التفسير لم يعثروا بعد على عمل منفرد أو أعمال تختص بالتفسير. ويبدو لنا أن الأمر قد يعود إلى واحد من سببين: أولهما إن علوم الحديث, من حيث نتائجها لشئون العبادات والشريعة والمعاملات دخل فيها الكثير من التفسير, فلم توضع كتب كبيرة في التفسير بالذات. والسبب الثاني هو أن تكون كتب التفسير التي وضعت خلال الفترة السابقة للطبري قد استقى منها هذا المفسر حاجته, ولذلك اعتمد الناس بعد وفاته على تفسيره الضخم الجاد. وكما (ابتلع) تاريخ الطبري الروايات التاريخية المدونة قبله لأنه أخذ منها ما هو بحاجة إليه, فإن تفسيره قام بالعمل نفسه بالنسبة لما يمكن أن يكون قد وضع قبله.
ولذلك فإننا عندما نود أن نرجع إلى أي تفسير للقرآن الكريم فيه ما نحتاج اليه من مادة تاريخية و(حديثية) وعقائدية وشرعية فإننا نعود إلى تفسيرات جاءت متأخرة. ولنذكر هنا أهم هذه وهي أربعة: تفسير الطبري والزمخشري وفخر الدين الرازي والبيضاوي. ومع أن الأول منها الذي سنعود إليه في هذا الحديث, فإنه قد يكون نافعا التعريف بالكتب الأخرى وأصحابها.
أولا ـ الطبري (225 ـ 310/830 ـ 923) كان الطبري طالبا متنقلا من بلده في طبرستان عبر بغداد ومدن بلاد الشام (ويشير مؤرخوه إلى أنه اهتم بدراسة الحديث في هذه المدن) ومصر وسواها. وقد استقر في نهاية الأمر في بغداد وهناك وضع تفسيره المسمى (جامع البيان في تفسير القرآن) (والغالب أن يشار إليه بتفسير الطبري), كما ألف كتابه في التاريخ.
وقد اتبع الطبري لعشر سنوات مذهب الشافعي ثم استقل بمدرسته الخاصة وسمى طلابه أنفسهم (الجريرية) (نسبة إلى أبيه جرير).
ثانيا ـ الزمخشري (539/1144). فارسي الأصل لكنه كان لغويا عارفا بأسرار اللغة العربية, كما كان يشار إليه بالبنان من حيث علمه الديني. وقد توفي في الجرجانية (قرب بحر قزوين). واسم كتابه في التفسير هو (الكشاف عن حقائق التنزيل).
ثالثا ـ فخر الدين الرازي (تو 606/1209). ولد فخر الدين الرازي في الري ودرس فيها وفي مراغة. وبعد ذلك تنقل بين بخارى وخوارزم وجرات, حيث فتحت له مدرسة خاصة. وفيها توفي.
عني الرازي بالفلسفة ومن أعماله محاولته التوفيق بين الدين والفلسفة وله في ذلك كتب كثيرة. لكن الذي يهمنا في هذا الحديث هو تفسيره المسمى (مفاتيح الغيب) ويسمى أيضا (التفسير الكبير).
رابعا ـ البيضاوي وهو عبدالله بن عمر (توفي إما في سنة 685 أو 691/1286 أو 1291). كان قاضيا في شيراز ثم استقر في تبريز. وتفسيره هو (أنوار التنزيل وأسرار التأويل). ويبدو أنه بسبب صغر حجمه شاع استعماله كثيرا بين متعلمي القرآن الكريم ومدرسيه.
هنا موضع لوقفة قصيرة. مر بنا, فيما تحدثنا عنه كلمات عالم وعالم الحديث ومفسر. لكن كانت تظهر في ثنايا الذي قرأناه, كلمة فقيه. تحدثنا كتب التاريخ عن فقهاء معينين ـ مثل ابن مالك الذي يشار إليه على أنه (فقيه المدينة) والأوزاعي على أنه (فقيه الشام).
وقد تمر الكلمة على لاتعيين. ومن ألطف ما مر بنا قراءة إشارة الطبري إلى ابن حنبل على أنه ثقة في الحديث لكن ليس في الفقه. فهل كانت كلمة فقه (وفقيه) متأخرة في الدخول إلى الدراسات الشرعية أم أنها لم تكن قد اتضحت (حدودها) في الفترة المبكرة?
القرآن والقواعد الشرعية
إن الحديث عن هذه القضية يطول لأن كلمة فقيه مرت على أيدي الكثيرين بمعان متعددة قبل أن تصبح, ولو إلى درجة محدودة, تعني دراسة الأمرين الحديث والنصوص القرآنية لاستخراج القواعدالشرعية وتنظيمها. لكن يمكن القول إنه لما اقتضت شئون الدولة وإدارة أمور الناس ذلك, كان لابد من الانتقال من العناية بناحية واحدة أو بأخرى من مصادر التشريع إلى تناول الأمور بشكل عام. وهنا يبرز دور الفقيه.
ونود أن نؤكد هنا على أنه مع الوقت قام إلى جانب القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أمور قبل بها العلماء المسلمون المبكرون على خلاف في درجة التقيد بها. فكان هناك الإجماع والقياس والرأي في المقدمة وكان ثمة أيضا الاستحسان والاستصلاح. ولن نتوقف عند هذه الأمور, إذ إن فحواها ستتضح عند التحدث عن المدارس الفقهية, ولو باختصار.
المذهب والفقيه
كانت المدارس الإسلامية الأولى جغرافية التوزيع, تدور حول المدينة والعراق والشام. لكن في القرن الثاني للهجرة أصبحت تعتمد على الرجال. فصاحب المذهب وهو الذي ينتمي إليه التابعون أي يقبلون بتفسيره هو الذي يطبع المدرسة بطابعه. وهنا نعثر على (الفقيه) لأنه هو, كما مر بنا, الذي يقلب النواحي الإضافية لاستنباط القواعد الشرعية بأجمعها. وقد عثرنا على ثماني مدارس, وأحسب أنه آن الأوان لأن نسميها (مذاهب) تعود إلى القرن الثاني الهجري, وهي مرتبة ترتيبا زمنيا:
1ـ مذهب أبي حنيفة (تو 150/767).
2ـ مذهب عبدالرحمن الأوزاعي ـ فقيه أهل الشام, (تو 157/774).
3ـ مذهب مالك بن أنس (تو 179/795).
4ـ مذهب الشافعي (تو 204/820).
5ـ مذهب ابن حنبل (تو 241/855).
6ـ مدرسة داود بن علي (أو بن خلف) ـ (تو 270/883) وهي تنتمي إلى الظاهرية, الحركة التي أنشأها صاحبها).
7ـ مدرسة سفيان الثوري (تو 270/833).
8ـ مدرسة الطبري (تو 310/923). وقد عرفت باسم الجريرية على اسم أبيه جرير.
وقد يكون ثمة سواها, ولكن هذا العدد يكفي للتمثيل.
من هذه كلها انتهت اثنتان بعد وفاة المؤسس وهما الثورية والجريرية. وظل مذهب الأوزاعي حيا في بلاد الشام وانتشر حتى الأندلس, لكن لما دخل المذهب المالكي إلى شمال إفريقيا والأندلس انتهى أمره عمليا. وبقيت المذاهب الأربعة هي التي عينت الاتجاه العام في العالم السني.
(لم نتحدث عن النواحي المتعلقة بالشيعة على اختلاف اتجاهاتهم لأن الأمر يطول).
المذاهب الأربعة
ولنعرض الآن لهذه المذاهب الأربعة بالاختصار كي لا نطيل على القارئ.
1ـ أبوحنيفة ( ح 81 ـ 150/ ح700 ـ 767) كوفي المولد.
وقد أقام ببغداد مدة طويلة. ولعل الحركات الفكرية والعلمية التي كانت قد بدأت في العراق قد أثرت بعض الشيء في تفكيره. والواقع فإنه لم يصلنا أي أثر من كتاباته الأصلية. ويعود نشر أفكاره وآرائه على الخصوص إلى اثنين من طلابه وهما القاضي أبو يوسف يعقوب (تو 182/798) في (كتاب الخراج) الذي وضعه للخليفة هارون الرشيد, وقد بين فيه الأحكام الشرعية بشكل خاص, ومحمد بن الحسن الشيباني (تو 189/798) في (كتاب الأصل) (أو المبسوط) و(الجامع الصغير) و(الجامع الكبير). ويمكن اعتبار هذين التلميذين صاحبي فضل كبير في توضيح المذهب الحنفي, حتى يقال إن فضلهما قد يتعدى عمل صاحب المذهب نفسه.
وثمة (مسند أبي حنيفة) الذي جمعه طلابه بعده. فأبوحنيفة لم يكتب إلا قليلا, ذلك أنه قضى أكثر وقته في التدريس وفي تدريسه تطورت أفكاره إلى حد أنه ثمة خلافات فيما روي عنه أو نقل.
وإذا كان من أمر خاص يتعلق بفقه أبي حنيفة فهو أن الرجل كان يفضل اللجوء إلى الرأي, عندما ينعدم نص قرآني أو حديث شريف على القياس. ومن هنا فقد كان شديد النقد لأصحاب الحديث, كما كان هؤلاء خصوما له.
2ـ مالك بن أنس (90 أو 97 ـ 179/709 أو 716 ـ 795) أشير إليه فيما بعد باسم فقيه المدينة وإن كان اللقب كان متأخرا بالنسبة إليه, فمعاصروه لم يعترفوا له إلا أنه كان من أصحاب الحديث. ويبدو أن مالك بن أنس لم يدون كثيرا في حياته بل كان يدرس ويفسر ويجيب عن أسئلة طلابه وطالبي علمه. (وموطأ مالك) هو أقدم ما وصلنا من كتب المسند الذي تروى فيه الأحاديث بالنسبة لمصدرها.
ولكن حتى المسند لم يضعه هو بنفسه بمعنى أنه ألفه. إنه يمثل (إجماع) المدينة في الناحية الفقهية في دور تطور هذا الموضوع الرئيسي في تلك الفترة. وهو على كل حال أقدم كتاب شرعي وصلنا.
وقد انتشر المذهب المالكي انتشارا واسعا في الشمال الإفريقي والأندلس, وتغلب على مذهب الأوزاعي هناك. فضلا عن ذلك فقد كان له دور كبير في مناطق إفريقية أخرى بسبب أن أكثر الذين نشروا الإسلام في إفريقيا الغربية والوسطى كانوا من اتباع هذا المذهب.
3ـ أحمد بن حنبل (164ـ 241/780 ـ 855). بعد فترة دراسة في بغداد, بدأ سنة 183/799 رحلته في طلب العلم التي حملته عبر العراق وسوريا والحجاز إلى اليمن, ودامت اثنتي عشرة سنة عاد بعدها إلى بغداد حيث درس على الشافعي الفقه وأصوله. وقد امتحن في قضية خلق القرآن وعذب لكنه لم يتزحزح عن موقفه. ولما عادت الأمور إلى نصابها أيام المتوكل (232 ـ 247/847 ـ 861) أعيدت إليه منزلته. وقد تجمع حوله بعد ذلك عدد كبير من طلاب علمه, فثابر على التدريس إلى آخر عمره, ومات في بغداد.
مسند أحمد فيه من الأحاديث, وبعضها مكرر, بين 28,000 و30,000 حديث. فأحمد بن حنبل كان قد انتهى إلى رأي قاطع هو أن القرآن الكريم والحديث (وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم) هما المصدران الوحيدان اللذان يمكن أن يشرعا, أما القياس والرأي فلم يقبل بهما.
4ـ الشافعي (150 ـ 204/767 ـ 820), وبعد وفاة والده حملته أمه إلى مكة. قضى بعض شبابه في اليمن ثم حمل إلى بغداد, حيث تعرف إلى تلاميذ أبي حنيفة وتعرف إلى (الرأي) في نظرة أبي حنيفة. ودرس على مالك بن أنس طالبا بين يديه في المدينة, وعرف وجهة نظره في الحديث كأصل للشرع. وعاد ثانية إلى الحجاز وقضى تسع سنوات مدرسا في الحرم المكي. وانتقل إلى بغداد ثانية ثم هاجر إلى مصر (199/815) وقضى بقية عمره هناك.
يعتبر الشافعي واضع أسس الفقه في أصوله وفروعه. وقد أوضح ذلك في كتابه المسمى (الرسالة). ويمكن تلخيص عمل الشافعي في مجال الفقه في أمرين: أولهما أنه جعل للتعابير الفقهية معاني محددة. أما الثاني فإنه وضع قواعد بين فيها مصادر الفقه من حيث المصادر التي يجب الاعتماد عليها.
المصادر الأربعة
هذه المصادر هي أربعة: الكتاب الكريم والسنة النبوية, أما المصدران الباقيان فهما الإجماع والقياس. والإجماع (هو الرأي الذي يقره أهل العلم بالإجماع.. أي المبدأ الذي يتقبله الفقهاء على أنه أمر واقع متفق عليه). والقياس مشروط بكونه هو النظر في العلة أو السبب الذي يكمن وراء النص أو السنة. ولعل عبارته بالذات هي التي توضح رأيه, يقول: (العلم وجهان اتباع واستنباط. والاتباع اتباع كتاب فإن لم يكن فسنة, فإن لم يكن فقول عامة من سلف لا نعلم له مخالفا. فإن لم يكن فقياس على كتاب الله عز وجل. فإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن لم يكن فقياس على قول عامة من سلف لا مخالفة له).
إلى هنا انتهى عمل المفسرين ورواة الحديث وعلماء المسلمين والفقهاء. وكان كل من هؤلاء (يجتهد) حتى وصل الجميع إلى هذا الحد في القرن الثالث/التاسع.
لكن بعد هذه المحاولات انقفل باب الاجتهاد, إلا في حدود واحد من هذه المذاهب السنية. من هنا, منذ القرن الرابع/العاشر أصبح الفقيه (مقلدا) إذ أصبح يتوجب عليه أن يبحث في الأمور الفقهيه في إطار واحد من المذاهب الأربعة.
الخلافة والإمامة
شهد القرن الرابع/العاشر تضعضعا في المركز من الخلافة العباسية. فدويلات الأطراف استقلت فعلا, وإن كانت ظلت, في أغلبها, تعترف بالخليفة, كي يكون لحكامها موقف شرعي. وكان أكثرها يحصل على إذن من الخليفة ليكون أميرا أو ملكا. وفي داخل الخلافة نفسها كان الحاكمون من الأتراك يطلق عليهم, الواحد بعد الآخر, أميرا أو أمير الأمراء.
لكن في سنة 334/945 جاء البويهيون (وهم من الشيعة) بغداد بقيادة أحمد بن بويه وانتزعوا الحكم من الخليفة العباسي. وقد نصبه الخليفة (أمير الأمراء) ومنحه لقب (معز الدولة) وذكر اسمه, فيما بعد, تاليا لاسم الخليفة في الخطبة, كما سُكت النقود باسمه. وقد دامت سلطة البويهيين حتى سنة 447/1055.
إذن ثمة أزمة أصابت مركز الخليفة نفسه.
هنا جاء الماوردي (364 ـ 450/974 ـ 1058) للتغلب على هذه القضية في إطار من الفقه الإسلامي. والماوردي كان قد عمل في القضاء وقام بمهمات دبلوماسية للخلافة, فضلا عن أنه من كبار الفقهاء.
والأمور التي ندب الماوردي نفسه لها, من أجل الحفاظ على مراكز الخلافة هي التالية.
1ـ الخلافة أو الإمامة ضرورة للجماعة إذ إن هذه بحاجة إلى من يسوس أمورها ويدير شئونها.
ولأنها كانت قائمة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن استمرارها بالقيام بواجبها أمر لابد منه. (والمباديء التي قامت عليها شرعية الراشدين والأمويين هي المباديء نفسها التي تقوم عليها شرعية العباسيين). ومقاصد الخلافة عنده بأنها (موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا).
2ـ الوزارة نشأت عن الكتابة أصلا, والإمارة مثلها. فالأمير هو الشخص الذي ينتدب به الخليفة لادارة ولاية من الولايات التابعة للدولة. لكن الوزارة أصبحت شيئا آخر في أيام الماوردي, كما أن الإماراة تبدلت صفتها.
وهنا يأتي الماوردي برأيه في الوزارة من حيث إنها أصبحت على نوعين ـ وزارة التنفيذ وهي التي ينفذ فيها الوزير أوامر الخليفة ووزارة التفويض التي يتنازل فيها الخليفة عن شئون الدولة إلى وزيره, فيقوم بالأمور على مسئوليته. ولكن تظل للخليفة المنزلة الدينية على أنه رأس الجماعة).
3ـ الإمارة ـ اعتبر الماوردي أن الإمارة هي استمرار لما كانت عليه دوما, لكنها في أيامه كانت على صنفين: (إمارة الاستكفاء) التي تتم بشكل طبيعي, إذ يعين الخليفة الأمير ويندبه للقيام محليا بالواجبات ذاتها التي تترتب على الخلافة. أما الثانية فهي (إمارة الاستيلاء) وهي (التي تعقد عن اضطرار. فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة إمارتها, ويفوض إليه تدبيرها وسياستها, فيكون الأمير باستيلائه مستبدا بالسياسة والتدبير, والخليفة بإذنه منفذا لأحكام الدين.. وهذا وإن كان فيه خروج عن عرف التقليد المطلق واحكامه وشروطه ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلا مدخولا ولا فاسدا معلولا).
لا نود أن ندخل في تفاصيل أخرى. المهم أن الماوردي (شرْعَن) ما كان قائما, مرجعا كلا إلى أصل قديم, مفصلا التطور. وغايته أصلا حماية الجماعة.
يقول رضوان السيد (هذا التقليد.. هو في الواقع دفاع عن الخليفة والخلافة, يتجاوز شكليات السلطة الواحدة أو وحدة السلطة (وهي في الأصل الخلافة) ليضع نصب عينيه الأهداف العليا فقط للشريعة الموحاة.. (وهو) في النهاية اعتراف بالحدود الشرعية الإسلامية) وحفاظ على الجماعة ووحدتها تحت سلطة الخليفة أو الإمام.
هذا نموذج من الفقه أو التفقه الذي عثرنا عليه بعد انقفال باب الاجتهاد. وفيما بعد أصبح عمل الفقهاء أن يتناولوا المصالح المرسلة والفتاوى في الشئون العامة (أو حتى الخاصة) والجهاد (كما حدث في أيام الصليبيين وأيام الحملات المغولية).
لكن الفقيه كان, بعد مذاهب فقهاء القرن الرابع/العاشر الأربعة, مقلدا لا مجتهدا. وتاريخ الدول المختلفة فيها أدلة على ذلك. ولعل المثل الممتاز على وجوب الحصول على سلطة شرعية (الخلافة) لتمكين السلطان من الحكم هو ما فعله الملك الظاهر بيبرس البند قداري, لما أحيا الخلافة العباسية في مصر (كي يكون له ولخلفائه غطاء شرعي) ولو أنه منذ البداية أطلق على نفسه (قسيم أمير المؤمنين).
نقولا زيادة
|
|
07-29-2006, 04:16 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
skeptic
عضو رائد
المشاركات: 1,346
الانضمام: Jan 2005
|
رحيل المؤرخ اللبناني الفلسطيني نقولا زيادة
[B] [CENTER]نقولا زيادة: رجل في تاريخ وحياة كثيرة
ثلاث حسرات ونٍعَمٌ أربع
[/CENTER]صقر ابو فخر
بعثرت الأقدار المريرة مصائر نقولا زيادة فما أمكنته من تخطي حاجز المئة، بعدما ظل، مثل أبطال الأساطير الاغريقية، يصارع أيامه موعوداً بتدشين قرن جديد في عمره المديد، لكن تعب الأيام أوهنه فغادرنا في التاسعة والتسعين.
كان يدرج نحو المئة بفرح غامر، ويخطط لأيامه المقبلة بنشوة الأيام الأولى. وفي لقاء مؤثر معه بصحبة جامعية أميركية جميلة تدعى روشيل دايفيز، والتي يحلو لها أن تعرّف نفسها بأنها بدوية فلسطينية من <تشاليفورنيا>، قال لي إنه تعاقد مع إحدى دور النشر اللبنانية على كتاب سيصدر في سنة ,2007 أي عندما يبلغ المئة. وحينما قلت له مازحاً: <وماذا لو غادرتنا الى الرفيق الأعلى قبل المئة؟>، نظر إليّ بابتسامة حانية، وقال: <بحَفَظ...>، وأشار الى قفاه. وتابع قائلاً: <إذ مت فسيخسر الناشر ما دفعه على الحساب، وإذا عشت فسأربح أنا الكتاب وما بقي من المبلغ>.
هكذا عاش نقولا زيادة ضاحكاً وساخراً معاً. عاش في هذه الدنيا نحو قرن من الزمان، وهو أسوأ قرن وأروع قرن في تاريخ العرب المعاصر؛ فكم ارتفعت بنا في خضم هذه الفترة العاصفة أحلام جسورة، وكم انحطت بنا هزائم كثيرة. لكن نقولا زيادة، المؤرخ اللامع والراصد الثاقب، اجتاز هذه المرحلة الصاخبة وفي فؤاده ثلاث حسرات، وفي روحه أربع متع: أما الحسرات ففقدانه والده صغيراً وفقدان وطنه فلسطين ثم فقدان زوجته مرغريت شهوان. أما المتع التي لم يبرح جائلاً في أرجائها فهي الحسان والسفر ومتعة الحروف والخمر. وكم كان يقرّعني حينما أتباعد في زيارته فيهاتفني: ماذا لديك هذا المساء؟ لعلك تشاطرني كأساً من نقيع البصل.
? ? ?
عرفت نقولا زيادة، أول مرة، في مقر الموسوعة الفلسطينية في بيروت. كنا نفراً لم يتجاوز العشرة نتحلق حول أنيس صايغ الذي كان يرعى بالجهد والعذاب مشروع الموسوعة مثلما رعى بالدم وبالأصابع المقطعة مركز الأبحاث الفلسطيني. ولا أبالغ في القول إنني قلما عرفت جماعة ربطت المودة أفرادها مثل جماعة الموسوعة الفلسطينية، وأوثقتهم بعرى متينة من الصداقة لا تنتهي أبداً. وكان نقولا زيادة في هذه الجماعة كبيرنا وصديقنا وزميلنا في آن، وكان استاذاً نبيلاً ومتواضعاً في الوقت نفسه. وإني إذ أذكره الآن، في معمعان هذه الحرب الهمجية، فإنني أتذكره مرة وقد دخل علينا في مكتب الراحل قسطنطين خمار في الموسوعة الفلسطينية، وكان خمار يباسطنا ويروي لنا نكتة فيها بعض الكلام المكشوف. وتوقف خمار عن الكلام وهبّ واقفاً ليسلم عليه. ثم رحنا نحثه على إكمال النكتة، غير أن خمار اضطرب واحمرّ ولم يكمل نكتته إلا عندما غادر نقولا زيادة المكتب. وحينما سألناه: لماذا توقفت عن سرد النكتة مع أن الدكتور زيادة مشهور بأنه إذا بدأ الكلام المكشوف فلا يتوقف، أجاب: عيب. لقد كان أستاذي في عكا. ولعلم من لا يعرف، فإن هذه الواقعة حدثت في سنة 1984 حينما كان قسطنطين خمار في الثالثة والسبعين ونقولا زيادة في السابعة والسبعين، أي أكبر منه بأربع سنوات فقط، فتخيّلوا هذا الطراز من الأفراد الذي ظلّ حتى وهو في الثالثة والسبعين يحفظ للمعلم القديم احتراماً متجدداً لا مثيل له.
? ? ?
ولد نقولا زيادة في 2/12/1907 في حي باب المصلّى أحد أحياء منطقة الميدان في مدينة دمشق. فهو، والحال هذه، دمشقي المولد، لبناني الإقامة، ناصري <الدم>. فكأنه مثل ابن بلدته الناصرة، أي مثل المسيح الذي كان، بدوره، ناصري <الدم> تلحمي الولادة، سرياني الثقافة. ومهما يكن الأمر، فقد عاش نقولا زيادة في بيت لا رجل فيه؛ فوالده عبده الذي عمل في سكة حديد الحجاز توفي في سنة ,1915 أي إبان الحرب العالمية الأولى. واضطرت والدته هيلين السعد الى العودة به وبأخيه ألفرد الى فلسطين في ما بعد. وهذا الفتى الفقير الذي بدأ دراسته في دمشق وتابعها في فلسطين على ضوء قناديل الكاز صار، لاحقاً، أحد أهم المؤرخين وأساتذة التاريخ في العالم العربي بعدما حاز الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة لندن سنة 1950 على أطروحة بعنوان: <تاريخ مدن سوريا بين 1200 و1400>، وبعدما زاول التدريس في فلسطين وكيمبردج وليبيا وهارفارد، وترأس دائرة التاريخ والآثار في الجامعة الأميركية في بيروت بين 1965 و.1973
? ? ?
لم ينخرط نقولا زيادة في أي جهد سياسي مثل معظم الفلسطينيين في بلاد الشتات، ولم تشغله السياسة يوماً عن حياته الفكرية والثقافية والتربوية، لكن مذكراته الموسومة بعنوان: <أيامي: سيرة ذاتية> (1992) حفلت بأخبار رجال السياسة، فضلاً عن رجال الفكر والأدب والتربية. وهذه المذكرات وإن تكن تأريخاً لكثير من الأماكن، إلا أنها ليست تاريخاً لمدينة بعينها ولو حتى الناصرة. لكن لدمشق فيها مكانة مميزة ومكان رحب. ومع أن نقولا زيادة لم يعش في دمشق إلا طفولته المبكرة غير أنه حينما يتكلم على هذه المدينة فكأنه يتكلم بسلطان الشعر والعاطفة لا بسلطان التاريخ وعين المؤرخ، فجاءت عباراته أنشودة حب وقصيدة وفاء لهذه المدينة العابقة بالتاريخ وسحر الماضي وشواهد السنين.
ويكاد نقولا زيادة يتفرد عن غيره من الأعلام الفلسطينيين بشجاعته على الذات وجرأته على المحرمات. ولعل ادوارد سعيد المقدسي تفوّق على نقولا زيادة الناصري في هذا الضرب من الكتابة، ولا سيما في سيرته <خارج المكان>. غير أن زيادة، وهو من جيل أسبق، تجرأ على البوح بتفصيلات حميمة من حياته لم نعهدها في كتب مجايليه أو السابقين عليه أمثال محمد مهدي الجواهري (<ذكرياتي>)، وميخائيل نعيمة (<سبعون>)، وهشام شرابي (<صور الماضي>)، وجبرا ابراهيم جبرا (<البئر الأولى> و<شارع الأميرات>)، فكان أقرب الى <يوميات> أندريه جيد و<اعترافات> جان جاك روسو والقديس أوغسطين التي شجّعت الميل إلى تعرية النفس المتلبسة بالآثام. ونقولا زيادة الذي نشأ في بيت بلا رجل، فلا أب ولا عم أو خال، تجرأ على الحديث في سيرته الذاتية عن تفتح غرائزه وعن الإغواء الذي تعرّض له من بعض الفتية في نابلس، ثم اعترف انه لم يعرف امرأة إلا سنة 1935 في أوروبا، وكان في الثامنة والعشرين. وبين هذه المشاهد من التذكر وافتضاض أختام المحرمات العتيقة جاء وصف عرسه على زوجته مرغريت شهوان أشبه بقصيدة حب لم تُنْسِه الأيام دقائقه، ولم تخنه الذاكرة في أبسط تفصيلاته.
? ? ?
خانته أقداره فلم تصل به الى المئة، ورحل في لجة هذا العماء الإسرائيلي الهمجي. ولعل من حسن حظه ألا يشاهد ما نشاهده نحن في كل يوم.
http://www.assafir.com/iso/today/culture/3263.html
|
|
07-29-2006, 04:21 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
|