فقد وعي
لا .....لا يمكن أن تدع نفسها تنهار الآن, مازال عليها الكثير لتقوم به.
أغلقت صنبور الماء..... و تراخت على أقرب مقعد, أغمضت عينيها, فشعرت بالدم يتدفق إلى رأسها من جديد.
إنها السادسة صباحا ....و هذا موعد الكأس الأولى من الحليب الخاص الذي عليها ضخه في الأنبوب الموصول مباشرة إلى معدتها.....إن كؤوس الحليب هذه هي ما يبقيها على قيد الحياة.
قامت ثانية إلى حيث كانت تعد ما ستضخه في معدتها....عليها أن تسرع قبل أن تفقد وعيها...... ما كان عليها أن تقوم من السرير في الثالثة فجرا... كان يمكن لأعمال المنزل أن تنتظر.. هي لا تراعي صحتها حتى أثناء المرض.
ملأت الكأس ببودرة ذلك الحليب, لتضع فوقه الماء ....
لم تستطع أن تتم العملية....ومضات ضوئية تراءت لها ....خف رأسها .. ها هي تفقد الوعي من جديد, أسرعت متهالكة إلى الكرسي ثانية ... لا لن تدع نفسها تنهار قبل ضخ الحليب.
كان نومها قلقا في الآونة الأخيرة, فبسبب العلاج الشعاعي المطبق على وجهها و أنفها و رقبتها حيث اكتشف الورم , أصيبت كامل المنطقة والأغشية المخاطية بالحروق
و التورم, و بات من الصعب عليها أن تبتلع الطعام و الشراب.... قالوا لها أن هذا وضع مؤقت, و أن عليها أن تتغذى بالأنبوب الذي وضعوه في معدتها.
كانت تصحو مرات عدة في الليلة الواحدة, محاولة بلع ريقها بصعوبة, و شرب رشفات قليلة من الماء لتبقي بلعومها رطبا.
حسن ... ستحاول ثانية... قامت متثاقلة حيث كأس الحليب... استطاعت هذه المرة صب الماء فوقه ...حركت المزيج ... أين المحقنة .. لا .... ليس من جديد.....لن أفقد وعيي الآن .... لأستريح من جديد.
لا يوجد أحد في المنزل... ذهب زوجها و أولادها إلى أشغالهم و مدارسهم, و هم كمعظم المغتربين بعيدون عن أهلهم و ذويهم في بلاد غربتهم..... إذن عليها أن تواجه الأمر بمفردها.
لم تستطع عندما صحت باكرا أن تعاود النوم من جديد, فارتأت أن تنجز ما عليها من أعمال في المنزل لتنام بعد ذلك على راحتها بعد أن تتناول كأس الحليب..... مازالت تظن نفسها تلك المرأة تامة الصحة, نسيت ماذا أصابها.
عادت بها ذاكرتها أشهرا إلى الوراء ... عندما اكتشفت ذلك الورم المختبئ في أنفها
...كان ورما خبيثا.
نعم هي لم تكن تتوقع ذلك, لكنها أيضا لم تنهار لو للحظة..... لقد اعتادت أن تواجه المصاعب طيلة حياتها....و كانت دائما تنظر للموت كشيء طبيعي يحدث في سياق الحياة ..... كانت تعتبره جزءا من الحياة.... و ها هي قد وضعت على المحك الآن ..... هي نفسها تعجبت عندما لم يرف لها جفن عندما أخبرت بمصابها, لازالت تذكر زيارة زملائها في العمل, كانت زيارتهم و كأنها زيارة تعزية....استقبلتهم بحفاوة اعتادت عليها....وودعتهم.
و استعدت لطريقها الذي كان طويلا ......طويلا....نحو الشفاء.
قامت من جديد ببطء, و استندت على حوض الماء في المطبخ حيث الحليب جاهز.... يلزمها دقائق فقط لضخه ......دقائق فقط يا ربي.....لا أريد أن أفقد وعيي الآن..... إن فقدت الوعي فقد لا أصحو بعدها, و لن أجد حتى من ينقلني إلى المستشفى.....
ما كان عليها أن تقوم بأعمال البيت و الطبخ باكرا هذا اليوم.... يبدو أنها خسرت ما لديها من طاقة بسيطة بما قامت من عمل.... لبست قفازاتها المعقمة, و ملأت المحقنة...أسندت كوعها إلى المغسلة ...... لا هذه المرة الوضع لا يحتمل...وضعت المحقنة الممتلئة جانبا, و أسرعت إلى السرير, و استلقت , فهي تعلم أن الدم يصل إلى رأسها إن هي استلقت بشكل أفضل......دقائق مرت و هي مستلقية ....تشعر برأسها خفيفا جدا .... إلا أن أفكارها كانت ماتزال تتلاعب في مخيلتها ....كالأشباح.
عادت بها ذاكرتها إلى ردة فعلها عندما أخبرت بتفاصيل العلاج, ما سيترتب عليه من مخاطر و نتائج....كانت تشعر بنفسها مقدمة على مغامرة في حياتها..... لا تشبه أية مغامرة.....و يا لها من مغامرة...... خسرت خمسة عشر كيلوغراما من وزنها .... أصابها فقر دم ....و نقص في مناعتها بسبب العلاج الكيماوي....و أصابتها الحروق في جلدها و أغشيتها بسبب العلاج الشعاعي ...لكنها بقيت قوية صلبة .. تضحك من قلبها لنكتة تقال لها ....و إن رأت نظرة حزن في عين أحد أعزائها, تواسيه بأرق القول.
حسن ....الآن عليها أن تبقى حية...فأولادها مازالوا بحاجة إليها.
قامت من جديد مستندة على الحائط لتصل إلى الحوض حيث المحقنة الممتلئة حليبا .....نظرت إليها نظرة العاشق المتيم الذي ينتظر لقاء عشيقه......أمسكتها و بصعوبة فتحت غطاء الأنبوب الموصول بمعدتها ... هيا ....هيا.....نعم ليس قبل أن أحقن الحليب.
كانت قدماها ترتجفان ....و كانت تتخيل نفسها و هي تسقط في بئر عميق.... لم تعد تشعر بشيء .... لكنها كانت تضخ بسرعة....و دون أن تعي ماذا تفعل.
لا تعرف بعد ذلك إلا أنها وصلت إلى سريرها, مع قفازاتها و محقنتها بعد أن حقنت حليبها.
استلقت على السرير .... خلعت القفازين ...و ألقت بهما أرضا مع المحقنة.
ابتسمت فرحة و هي تغيب عن الوعي.
و همست......... الآن أستطيع أن أنام ملء أجفاني.
مع تحياتي :redrose:
|