أسس الإرادة (1)
أسس الإرادة (1)
ما هي الإرادة وما هي خصائصها ومكوناتها ؟
ما هي منابع أو أسس الإرادة , البيولوجية , والنفسية , والعصبية , والفكرية , والاجتماعية .
من يتحكم بنا , ما هي مصادر إرادتنا وتوجهاتنا ؟
برامجنا الموروثة بيولوجياً , الدوافع والغرائز , موروثاتنا الاجتماعية , القوى والعناصر المادية , فكرنا وحريتنا المزعومة ؟
هل يمكن تحليل إرادة الإنسان وتشريحها ؟ وهل الإرادة دافع ورغبة , فالدوافع والرغبات لها تفسير سببي وعلّمي .
لقد كان مفهوم الإرادة من المفاهيم الأولية التي تعامل معه الإنسان , أكان ذلك بوعي منه أو بدون وعي . وقد شغل هذا المفهوم كافة المفكرين لارتباطه بالحرية , وكتب الكثير الكثير عن الإرادة .
نستطيع أن نجد بذور مفهوم الإرادة عند الرواقيين الذين أرجعوا كل شيء إلى الفعل ، ولما كان الفعل لا يتم إلا بالأجسام ، فهي وحدها تؤثر ، فقد قالوا إن كل شيء جسماني وإن كل شيء لا يتم إلاّ بالإرادة .
والرواقية تعترف بالحتمية أو بالقدر ، كما أن الإرادة الإنسانية عندهم تخضع لهذه الحتمية , ويقولون بأن جوهر الإنسان هو إرادته . القول الذي سوف يردده فيما بعد شوبنهاور ، بل إن شوبنهاور ذهب أبعد من الرواقيين حينما قال إن الكون كله في أساسه إرادة وإن من طبيعة الإرادة ، أي القوة المحركة والمكونة للانا ، ألا تعمل إلاّ على نحو متتابع ، فهي لا تنجز إلاّ فعلاً واحداً يمكن إدراكه في المرة الواحدة . وذلك بموجب أنها واحدة ومسيطرة، ومن ثم لا يمكن أن تكون في الوقت عينه.
ويرى البعض أن الإرادة لا تعني سوى الدافع أو الرغبة لإشباع الغريزة , وطالما كانت هي رغبة فإن (عدم الإشباع) صفة من صفاتها , ولكن يتعذر إشباعها (فالرغبات تتوالد)، والإنسان يحمل في داخله إرادة جائعة.
و شوبنهاور وفي كتابه "العالم كإرادة وفكرة" أثار هذه النقطة، وغاص في أعماقها، وتوصل إلى ان شخصية الإنسان تكمن في إرادته، وليس في عقله، فالدم الذي يجري في الجسم، الإرادة هي التي تدفعه، والعقل قد يتعب، أما الإرادة. فيصور الحياة كأنها شر، لأنه كلما ازدادت ظاهرة الإرادة كمالاً ازداد العذاب وضوحاً .
ويرى البعض أن الإرادة هي : الطاقة والقوة التي بداخل الإنسان , و المسؤولة عن قيامه بأفعاله الاختيارية , وإن الإرادة لا وجود لها بدون المفاضلة والاستنتاج ، أي المقارنة والقياس والتقييم والحكم , ومن ثم القيام بالاستجابات المناسبة . فنتائج الاستنتاج والمفاضلة هي الدافع للإرادة على العمل الإرادي , وحياة الإنسان هي سلسلة من رغبات ودوافع والاستجابات والأفعال لا تهدأ ، وكفاح مستمر من أجل الحياة ، بتوفير الطعام والمأوى ، والإبقاء على النوع . . .
فالإرادة هي الفاعل والمحرك للكثير من استجاباتنا وأفعالنا . فالإنسان يشعر بأنه حر عندما ممارسته لإرادته في اختيار أحد الخيارات من بين خيارات كثيرة متاحة له . لذلك يصعب إقناع أي إنسان بأنه ليس له إرادة وغير حر في اختيار تصرفاته , لأنه يحس ويشعر أنه حر, والأحاسيس يصعب تكذيبها .
فمفهوم الحرية يعتمد على الإرادة التي هي استجابة وفعل يقوم به الإنسان , و تملك كافة الكائنات الحية المتطورة الإرادة , ولكنها لا تملك الوعي بأن لها إرادة .
فالإرادة هي القدرة على التعامل مع خيارات متعددة . فأساس التفكير وكذلك الإدارة هو التعامل مع الخيارات و قيل: أن التفكير هو انتقاء البديل الأمثل من ضمن عدة بدائل ( خيارات ) ممكنة في ضوء الغايات المحددة والمعايير المقررة سلفاً , وهذا معناه أن أساس التفكير وبالتالي الإرادة هو التعامل مع الخيارات لهدف معين , وأبسط أنواع التعامل مع الخيارات هو التعامل مع خيارين فقط : موجود-غير موجود، صح –خطأ، فعل – لا فعل ، مفيد- ضار ، أكبر- أصغر ، قبل – بعد ، نعم – لا ، تريد –لا تريد ، فوق – تحت ، يمين – يسار ، خير – شر ......الخ . في هذه الحالات هناك دوماً تعامل مع خيارين فقط، يتم اختيار أحدهم ، أو تعيين أحدهم ، أو تمييز أحدهم . فالعقل البشري يبدأ بالتعامل مع خيارين بفاعلية عالية ، ويستعمل هذه الآلية البسيطة في كافة تعاملاته مع الخيارات الكثيرة والمعقدة والمتداخلة ، وذلك بإرجاعها إلى خيارين فقط يتم تمييز أحدهم عن الآخر, ولإجراء التمييز لابد من المقارنة والقياس ثم الحكم وإصدار القرار .
ومصادر الإرادة الواعية و الغير واعية , أو حرية الاختيار , ناتجة عن عمل العصبي للدماغ , , والحرية تنشأ نتيجة الحوار والجدل الذي يمكن أن تكون نتائجه متغيرة وليست ثابتة وذلك حسب سير الجدل وزمنه.
و يبقى الإنسان وقصته مع الإرادة لغزاً عميقاً، لا يمكن اختزاله أو حتى شرحه في صفحات قليلة . لنحاول تحديد منابع وأسس الإرادة لدينا .
أسس الإرادة لدى الكائنات الحية
نستطيع تصنيف كافة أشكال استجابات وإرادة الكائنات الحية إلى نوعين أو نمطين :
الأول : إرادة مقررة ومحددة ونمطية وهي موروثة بيولوجياً , وتلعب تقلبات عوامل الوسط الداخلي دوراً هاماً في هذا النمط من السلوك الذي يعتبر منظماً بيولوجياً يحفظ الفرد والنوع . فكل ابتعاد عن سوية التوازنات الفزيولوجية للجسم توجه الكائن الحي نحو العمل على إعادة التوازن إلى سويته الطبيعية وأهم هذه التصرفات , سلوك التغذية , والبحث عن المأوى , والسلوك الجنسي . . .
والنمط الثاني خاص بالكائنات الحية التي تعيش جماعات , فهذه تكيفت إرداتها واستجاباتها وتصرفاتها مع الأوضاع الاجتماعية الموجودة ضمنها , تسمح بالحوار والتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه الكائن الحي .
وفي مجال هذه الاستجابات والتصرفات الاجتماعية تكون المنبهات البيئية , وما تضيفه عليها تجارب الكائن الحي من معان اجتماعية , هي التي تقرر وتوجه منحى أرادة الكائن الحي . وتلعب الدور الأساسي في انبثاق السلوك الاجتماعي . ولا تكتسب المعلومات الحسية صفاتها الدافعة انطلاقاً من سلوكية غريزية موروثة , بل تكتسب من التكيفات الاجتماعية التي تعلمها من مجتمعه .
وسوف نتكلم عن النمط الأول , أما النمط الثاني فسوف نتكلم عنه لاحقاَ .
تظهر الإرادة لدى الكائنات الحية عند الكائن الحي وحيد الخلية فهو يريد ويختار, مع أنه لا يفكر وليس له جهاز عصبي , فهذا الكائن الحي يستجيب و يتحرك بإرادة فزيولوجية كيميائية , فيهرب من ما يضره ويهدد حياته , ويسعى إلى غذائه , فهو يتعرف على ما يوجد في بيئته ويتصرف بما يناسبه .
وغالبية الكائنات الحية والزواحف والثدييات لها جهاز عصبي وتفكر ولها إرادة , فهي تبحث عن الطعام أو عن المأوى أو عن الشريك للتزاوج , و تفترس , وتهرب من العدو أو من الخطر بإرادتها , و تتصارع وتتنافس وتفرض أرادتها وسيطرتها على المكان وعلى الطعام . . .
وبالنسبة للكائنات الحية , أواخر الزواحف والثدييات , يبرز دور الدماغ الحوفي كعنصر رئيس في إدارة السلوك , وباعتباره المسؤول الأساسي لبناء الذكريات المستخدمة في التصرفات السلوكيات الاجتماعية , وأسلوب استخدامها . فتلعب الجملة الحافية ( أو الدماغ الحوفي ) الدور الأول في إعداد وتنفيذ سلوك الكائن الحي ( وبشكل خاص الإنسان ) الذي يتفاعل مع بيئته , وهي التي تظهر الفروق السلوكية الفردية وتظهر الشخصية المتأثرة بالحياة الماضية . ويختفي دور هذه الجملة عندما يوضع الفرد في بيئة تختلف كلياً عن بيئته المعتادة , فعندها يصبح مخزون ذاكرته الذي اكتسبه أثناء حياته غير فعال .
إن الجهاز العصبي والدماغ عند الحيوانات هو المسؤول الأول ومقرر إرادة الكائن الحي , وذلك بتوجيه الفعاليات العضلية ، ومراقبة الأعضاء التشريحية ، و تركيب و معالجة معلومات الإدخال التي تلتقطها الحواس ليتم تفسيرها و من خلالها يتم التواصل مع الواقع ، من ثم " مباشرة الفعل " بناء على المعطيات التي ينقلها الواقع .
وبالنسبة لنا الدماغ هو المسؤول الأول ومقرر إرادتنا . وقد ملك الإنسان الفكر والوعي والإرادة الواعية , وهو يتميز عن باقي الكائنات الحية , بأن إرادته مدركة وواعية ولها أبعاد فكرية واجتماعية في كثير من الأحيان .
لقد قسم البيولوجي باول ماكلين أدمغتنا إلى طبقات عدة متميزة و متمحورة تبدأ من أكثر الطبقات بدائية وتحوى على طبقات متتالية أكثر حداثة تحيط بالطبقات السابقة.
الطبقة الأولى : من المخ والأكثر عمقا والتى يدعوها باول ماكلين القاعدة العصبية، وهى التى تتحكم فى وظائف الحياة الأساسية مثل التغذية والإطراح ودوران الدم والتنفس وكافة الآليات والأعمال الحيوية، وتتألف من النخاع الشوكي وجزع المخ والمخ الأوسط ، وتؤلف القاعدة العصبية فى الأسماك معظم المخ , وليس لإرادة الكائن الحي تأثير مباشر عليها .
الطبقة الثانية: وهى طبقة الزواحف- وهذه الطبقة تحيط بالقاعدة العصبية، وهى مشتركة بيننا وبين الزواحف، وتضم الفص الشمي والجسم المخطط والكرة الدماغية الشاحبة، وتتحكم هذه الطبقة فى السلوك ألعدائي و التراتب الاجتماعي وتحديد منطقة النفوذ , وتكون إرادة الكائن الحي مقررة حسب البرامج الوراثية المكتسبة.
الطبقة الثالثة: وهى تحيط بالطبقة السابقة وتسمى ( النظام أو العقل الحوفي ) , وتوجد ولدى الثدييات ، وهى تتحكم فى العواطف والتصرفات الاجتماعية بشكل رئيسي ، وفى الشم، وفى الذكريات أيضا.
الطبقة الرابعة: هي اللحاء، وهى تحيط بكل الطبقات السابقة وهى التى تتحكم فى التفكير والإدراك الراقي، ولها وظائف أخرى، وهى موجودة لدى الثدييات الراقية , وهى متطورة جدا لدينا.
ويمكن تشبيه هذه الطبقات الأربعة أو هذه العقول الأربعة بأربعة مراكز قيادة متدرجة من حيث تطورها وقدرتها على إدارة استجابات الكائن الحي.
أو تشبيهها بأربعة معالجات تنظم وتنسق وتدير استجابات وتصرفات وإرادة الكائن الحي، فهي تشارك جميعها فى إدارة حياة الكائن الحي .
يمكن اعتبار الدماغ الحوفي أهم أجزاء الدماغ لأنه المسؤول عن التقييم , فهو عقل أو معالج أساسي قائم بذاته، وكان يقود ويدير استجابات وتصرفات الكائن الحي لدى أوائل الثدييات .
إن الدماغ الحوفي هو المسؤول الأول عن إدارة غالبية تصرفات الإنسان , فهو المتحكم الأول بإرادته، فهو الذي يحدد ما يدخل إلى ساحة الشعور ( أو سبورة الوعي ) ليعالج ، وهو الذي يجلب ما يطلب من الذاكرة المتوضعة في اللحاء ، لاستدعائه إلى ساحة الشعور ، إن كان بطلب من ساحة الشعور، أو هو يدخل إلى ساحة الشعور ما يعتبره هاما ويستدعي المعالجة في ساحة الشعور .
فالدماغ الحوفي هو الذي يعالج ويقيم واردات الحواس, وينتج الاستجابة المناسبة لها, وأغلب الاستجابات موروثة محددة , وكانت إمكانية تعديل أو تغيير الاستجابة نادرة .
فالمعالجة التي يقوم بها الدماغ الحوفي محدودة وضمن خيارات قليلة معينة محددة , وكل استجابة جديدة يكتسبها الكائن الحي لا يورثها إلى أبنائه بيولوجياً ( يمكن أن تورث اجتماعياً نتيجة الحياة الاجتماعية ) , و يمكن أن تصبح موروثة بيولوجياً نتيجة الحياة الطويلة جداً و الانتخاب , وهذا يكون بطيئاً جداً .
لقد نشأ اللحاء نتيجة الحاجة إلى المساعدة في معالجة واردات الحواس بشكل أوسع . وهذا يشبه تماماً قيادة رئيس القبيلة أو العشيرة أو الإمارة الصغيرة , فهو يكون قادراً على القيادة نظراً لاستطاعته التعامل مع مجريات الأمور, ولكن إذا كبرت العشيرة أو الإمارة لتصبح دولة كبيرة لها الكثير من العلاقات الداخلية والخارجية , عندها لابد لرئيس القبيلة أو الأمير من الاستعانة بالوزراء و الولاة والنواب عنه, وإذا كبرت الدولة أكثر عندها لابد من نشوء الوزارات والمؤسسات , ولابد من المستشارين والخبراء لمساعدة الرئيس في القيادة و الإدارة , وهذا ما حصل في تطور الدماغ , عند تطور قيادته للجسم , ثم للعلا قات المادية مع الطبيعة ثم للعلاقات الاجتماعية ثم العلاقات الثقافية .
فقد كان لابد من نشوء بنيات دماغية تقوم بهذه الأعمال, فقد نشأ اللحاء وتطور ليصبح كما هو عليه لدينا . فهو بمثابة المساعد والمستشار والخبير للدماغ الحوفي الذي يبقى هو المعالج الأساسي والمقيم والمتحكم الأساسي في إدارة كافة شؤون الإنسان الجسمية والاجتماعية والفكرية.
والفرق الأساسي بين اللحاء والدماغ الحوفي هو اتساع وقوة المعالجة واتساع الذاكرة لدى اللحاء .
ويظل اللحاء مستشاراً فالإدارة والقيادة للدماغ الحوفي , فهو الذي يقرر المعاني وبالتالي يقرر الأهداف والغايات بشكل أساسي . صحيح أن اللحاء يمكنه إقناع الدماغ الحوفي في بعض الأحيان ويجعله ينفذ أهدافه التي غالباً ما تكون أفضل , ولكن هذا لا يتم دوماً بسهولة , فللدماغ الحوفي ثوابته الأساسية الموروثة في المعالجة والتقييم ويصعب تغييرها , إلا ضمن حدود صغيرة.
فاستجابة أو انفعال الخوف أو الغضب أو الغيرة والكثير غيرها ليس من السهل تعديلها , يمكن تعديلها خلال وقت طويل , أومن خلال تعديل العلاقات الاجتماعية المرافق . فالدماغ الحوفي يتعلم ولكن ببطء شديد ونتيجة التكرار الكثير والزمن الطويل . والضمير لدينا هو ما تم تعليمه للعقل الحوفي نتيجة الحياة الاجتماعية .
تظل القيادة الأساسية والتحكم بالاستجابات , والانفعالات بالذات , بيد الدماغ الحوفي لأنها في الأصل عمله الأساسي , وكان تشكل اللحاء لمساعدته وليس لينوب عنه . ولكن معالجة اللحاء أفضل وأوسع وأدق , ومع هذا فالقيادة والتحكم ليست بيده, فهو مستشار فقط للعقل الحوفي . وفي أحيان كثيرة لا يوافق اللحاء على استجابات الدماغ الحوفي ويحتج عليها, ولكن دون جدوى في أغلب الأحيان , وهنا يقع أهم صراع فكري لدينا وهو بين الدماغ الحديث أو اللحاء ويمثل عادة بالعقل والفكر , والدماغ الحوفي الممثل بالغريزة أو النفس .
وقدرات اللحاء لدينا الآن تنمو بسرعة هائلة نتيجة الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية , سواء أكان في سعة أو دقة المعالجة أو في مخزون المعلومات . فالعقل الحديث الممثل باللحاء يستخدم المعارف والمعلومات الدقيقة التي تم التوصل إليها, بالإضافة إلى استعمال المرغبات أو المكافأة , والمنفرات أو العقوبات , كالأطعمة اللذيذة والوجبات السعيدة أو الجميلة , والتصرفات المناسبة والتي تسمح له بتعديل استجابات العقل الحوفي . فهو يدير الكثير من الاستجابات بطريق غير مباشر وعبر الدماغ الحوفي .
ومع كل هذا يظل الدماغ الحوفي هو باني المعاني الأساسي , فحتى اللحاء نفسه يطلب منه تحديد المعاني , أي أنه يبقى في النهاية هو الأساس, لأنه هو الذي يحدد الممتع والمفيد وباقي المعاني بشكل أساسي .
ما هي البنى المؤلفة للدماغ الحوفي
لقد تطور مفهوم الدماغ الحوفي ( أو الجملة الحافية ) كثيراً ، وابتعد كثيراً عن الأصل ألشمي الذي نشأ وتطور منه . ونستطيع التمييز بين مفهومين للجملة الحافية .
الأول يدعى الجملة الحافية المصغّرة والتي تقتصر على عدد من البنى القشرية وتحت القشرية التي تتصف بقدمها من الناحية التطورية والواقعة ضمن الدماغ ألانتهائي .
والمفهوم الثاني أكثر اتساعاً فيضيف إلى ما سبق عدداً آخر من البنى تقع في تقع في الدماغ المتوسط والمهاد .
تقع بنى الجملة الحافية القشرية في الوجه الداخلي لنصفي الكرة المخيّة ، وأهم هذه البنى :
التلفيف المسنن ، قرن أمون أو الحصين ، البصلة الشميّة ، اللوزة ( التي هي أكثر النوى القاعدية قدما وتأثيراً ) ، الباحة الحجاجية ، القشرة الأمامية ( ذات الدور الهام جداً لدينا ، وهي تابعة للحاء ) .
اللوزة أو الأميجدالا
حينما يوجه شخص ما وعيه إلى العالم من حوله ، يواجه قدراً متدفقاً من المعلومات الحسية الواردة من المستقبلات الحسية : مناظر ، أصوات ، روائح ، أحاسيس ، وما إلى ذلك . عندها يقوم الدماغ بمعالجة هذه المعلومات في الباحات الحسية الموجودة في الدماغ الحوفي الذي يعالج الأحاسيس الأولية الأساسية مثل الشم والألم وغيرها ، وفي اللحاء الذي يعالج الأحاسيس البصرية والصوتية وباقي الأحاسيس والمعاني اللغوية المتطورة . ويعود ويرسل أو يرحل نتائج هذه المعالجة والتحليل إلى الدماغ الحوفي وبالذات إلى اللوزة ( أو الأميجدالا ) التي تعمل كمدخل للمنظومة الحوفية التي تقوم بتقييم مجمل المدخلات ، وتنظم الرد المناسب لها بالاعتماد على القيام بالاستجابة المناسبة ، وأيضاً تستعين بإضرام الانفعالات المناسبة لذلك .
واعتماد على المعارف أو المعلومات المختزنة لدى الشخص تقرر اللوزة المخيّة كيف يجب على الشخص أن يستجيب فكرياً وعملياً وانفعالياً ، مثلا : بالخوف ( لرؤية لص ) أو بالشهوة ( لرؤية محب ) أو باللامبالاة ( لرؤية شيء تافه ) . وتتدفق الرسائل من اللوزة المخيّة إلى باقي أجزاء المنظومة العصبية المستقلة ، التي تهيئ الجسم للعمل المناسب . فإن كان الشخص يواجه لصاً على سبيل المثال ، فستزداد سرعة نبضات قلبه و سيتعرق جسده ليبرد الحرارة الناجمة عن الجهد العضلي ، ومن ثم يرتجع ( تحدث تغذية عكسية ) تيقّظ المنظومة المستقلة إلى الدماغ ، مضخماً الاستجابة الانفعالية . ومع الزمن تنشئ اللوزة ( الأميجدالا ) المخيّة منظراً عاماً بارزاً ، خريطة تبين تفصيلات الدلائل الانفعالية لكل شيء في بيئة الشخص .
كيف يمارس الدماغ الحوفي عمله
يتم ذلك من خلال مجموعتين من العمليات : المجموعة العمليات الأولى تربط العناصر الإدراكية ذات المضمون الشعوري مع العناصر الموضوعية للمعلومات الحسية , مع الأخذ بعين الاعتبار تجارب الفرد السابقة مما يعطي لهذه المعلومات المعنى , ويسمح الدماغ بإمكانية التوقع والمبادرة للقيام باستجابة ما أو الامتناع عنها . كما تكتسب المعلومات الراهنة قيماً أو معاني وتصبح دافعاً لسلوك معين .
أما مجموعة العمليات الثانية فإنها تسمح برصد حالات النجاح والفشل , أو بمعنى آخر تسمح برصد النتائج الناتجة مع النتائج المتوقعة مسبقاً , وعندما يحصل التطابق تنشأ أحاسيس سارة و تشغّل جملة التعزيز الإيجابي , أما في حال عدم التوافق تنشأ أحاسيس مؤلمة تشغّل جملة التعزيز السلبي . وبهذا يتعزز ظهور الاستجابة في الحالة الأولى بينما ينعدم في الحالة الثانية عندما يتعرض الفرد إلى ظروف مماثلة .
مهما كان نوع التأثيرات حسية أو فكرية , فإن لها تأثير على الاستجابات ( الأفعال والانفعالات والأفكار) . فكل مؤثر مهما كان نوعه حسي أو فكري عندما يدخل الدماغ تتم معالجته , وتظهر نتائجه في الاستجابات التي تحصل .
ما هو دور الدماغ في أرادة الاختيار؟ وكيف يتم الاختيار ؟
هل يتم بناءً عل قواعد سجلت في الدماغ بالوراثة وبالتجربة, وتجبر حرية الاختيار على إتباع طرق معينة مسبقاً بالرغم من وجود وهم الحرية؟ أم الأمر غير ذلك ؟
لا يوجد تناقض بين الادعاء بوجود حرية اختيار بين ملكة إجراء اختيارات متعمدة, بين دوافع متناوبة, ومجموعة توصيلات محددة بيولوجياً في الفكر, والتوكيد بأن القيم الواصلة بين الاختيارات هي محددة بالخصائص البيولوجية للشبكة الدماغية.
إن التعامل مع الخيارات الواعية وغير الواعية , بواسطة التنبيه والتثبيط , يتم بشكل أساسي في التشكيل الشبكي, بالإضافة إلى باقي بنيات الدماغ , والتشكيل الشبكي مركب في معظمه من عصبونات متراكبة فوق بعضها ذات محاور وتغصنات شديدة القصر.
وبفضل هذه الهندسة يكون التشكيل الشبكي حسن التلاؤم مع التغير التدريجي المتقدم, لمستواه من النشاط عن طريق التعديلات البطيئة والمتدرجة للكمون الكهربائي للتغصنات (تغصنات المحاوير) ويجعل هذا التراكب الشديد للألياف العصبية, هذه البنية قادرة على تكميل إثارة تنبيه مصادر متعددة .
فالتشكيل الشبكي يتلقى السيالات الصادرة عن الطرق الحسية(واردات الحواس) في اللحظة التي تصعد فيها نحو القشرة. وعندما تعبر العصبونات الحسية الجزع الدماغي فإنها تتعشق على التشكيل الشبكي وتمده هكذا بمحاوير إضافية. والنتيجة تكون أنه في كل مرة تصعد فيها رسالة حسية, دغدغة أم رنينا.....في السبل العصبية حتى باحتها المتلقية الحسية في القشرة, فإنها تنبه في نفس الوقت التشكيل الشبكي الذي ينقل عندها حالته الخاصة من التنشيط أو التثبيط إلى القشرة, وعلى عكس السبل الحسية التي تتجه نحو باحات التلقي الحسية(في القشرة), فإن التشكل الحسي يسقط بشكل مختلف على مناطق متسعة من القشرة .
فهذه الميزة المتنوعة لتساقطاته هي التي تسمح للجهاز الشبكي المنشط إن يعمل بشكل غير نوعي , أي أن إشاراته العصبية الصادرة مهما كان مصدرها تصيب ليس فقط باحة من التلقي النوعي, ولكنها يمكن بواسطة تأثير الجهاز الشبكي المنشط إن تنشط كل الباحات الأخرى من القشرة .
" لقد اعتبر اكتشاف التشكيل الشبكي بمثابة خطوة عظيمة في سبيل تفهم الأسس المادية للإرادة , وكذلك لفهم الوعي . فوجود مثل هذا الجهاز الدماغي يبرهن بوضوح على أن الوعي(الخاص بحالة اليقظة أو أثناء الحلم) لا ينشأ عن حالة فزيولوجية وحيدة بل يتصف فزيولوجياً على الأقل بمجموعة اتصالية من الشدة المتدرجة.
فالنشاط الدماغي الذي يديره الجهاز الشبكي يمكن أن يتغير تدريجياً متنقلاً من التنبيه الناشئ عن الخطر أو الاكتشاف إلى الذهول التعب, وبعض علماء الأعصاب ذهلوا بشمولية وظيفة التشكيل الشبكي في عملية تنشيط القشرة وتنسيق الأجهزة العضلية. فكأنه برج مراقبة لا يقتصر في عمله على تنظيم اليقظة, بل يبدو إن تأثيره أكثر حذاقة, فهو يتحكم بسياق الانتباه والتفكير والتذكر."
ولكن يبقى عمل بنيات الدماغ و الدارات العصبية الجارية بين هذه البنيات والعناصر المكونة لهذه البنيات وآليات تفاعلها, معقدة جداً وأغلبها لم يتوضح بعد بشكل دقيق .
بنية التشكيل الشبكي
يحتوي جزع المخ أسفل الجهاز الحوفي على التكوين الشبكي الذي يستقبل المعلومات الحسية ويعمل كمصفاة خاصة بالنسبة للسماح أو عدم السماح للمعلومات الجديدة أو غير المتسقة بالمرور .
لقد اقترح جراي نموذجاً لكيفية تفاعل المكونات المختلفة للجهاز الحوفي , فرأى في فرس البحر أن "دائرة بابيز" التي تربط تكوين فرس البحر بباقي مكونات المخ أنما تعمل كأداة رقابية حيث تتابع السلوك الحادث والمعلومات الآتية من العالم, بحيث تتأكد من أن السلوك يسير وفق خطة أن المعلومات عن العالم تتوافق مع التوقعات. وفرس البحر ينظر إليه على أنه يقوم بدور وسيط يصل بين الانفعالات وبين العمليات الفكرية المصاحبة لها , أي الأساس المعرفي للانفعالات , فهو يقوم بوظائف يمكن وضعها في خدمة انفعال القلق أو بتعبير آخر فحينما ينتابك القلق تجد نفسك منخرطاً في نوع من عمليات التفكير, وهي عمليات تجري في فرس البحر.
هناك علاقات متبادلة متعددة بين جمل التعزيز الإيجابي والسلبي من جهة , والجملة الحافية من جهة أخرى . بسبب الدور الذي تلعبه هذه الأخيرة , في تسجيل النجاحات والفشل , وفي إعداد ردود الفعل الشعورية , وإضفاء المعاني والمضامين على المنبهات المختلفة .
|