اتمنى على كل الأخوة العرب ان يقرأوا المقال ويتفهموا اكثر طبيعة العقلية العراقية ومفاهيمها الاجتماعية بصورة اكبر بدلا" من اسقاط ما يعتقدونه هم في بلدانهم على الواقع العراقي لانه يختلف اختلافا" جذريا" عمــّــا هو في بقية البلدان العربية وكل منــّــا نحن العراقيين لدينا الكثير مما كتلب بالمقال ادناه .
____________________________________


التسامح الديني في العقلية العراقية

د.علي ثويني



عيرني أحد الأخوة المغاربة بأننا العراقيين (خالوطه)، ويعني خليط غير هجين من الملل والنحل، تأكيدا لما يشيع اليوم عن التناحر الذي أملته الفرقة الروحية و النفسية بين الفرقاء.ولم يعي الرجل بأن وجود فسيفساء بشري في بقعة ما من أرض الله، يعني تراكما تاريخيا ملموسا،دون الحاجة لتأكيده في المدونات والحفريات . والأهم ما لايفهمه الرجل الحصيف، بأن الذات العراقية مسجاة على التسامح،حتى تداعت إلى فسيفساء و ضمت إلى صدرها الجميع دون تفريق أو تفريط.

نسمع أخبار مؤلمة عن إضطهاد المسيحيين والصابئة في جنوب العراق، فمن الف عائلة صابئية في المجر الكبير، لم يبقى منهم غير ثلاثة، والأمر كذلك يتجسد في سوق الشيوخ الذي كان المندائيون يشكلون به مائه وخضرته ومبرر وجوده. ونسمع عن اضطهاد المسيحيين على يد (القوى الدينية الشيعية) في البصرة والعمارة،فعنفت وسرقت متاجرهم وأقفلت كنائسهم ، مما دعاهم للهجرة عنها وترك تلك الحواظر كالحة وحيدة اللون، مجردة من زهو ألوانهم. وهاهم نصارانا وصابئتنا ويزيديينا يملئون الشتات، بما يعني بعد أن يفرغ العراق من وجودهم الذي سيكون مثلبة وعيبا سوف نتركه ندبة سوداء وتركة كالحة على كاهل أجيالنا.

أما في شمال العراق، فالقوى القومية الكردية لديها كل المصلحة بإخلاء القرى النصرانية من أرضها، كي تخلى لها ويستحوذون عليها،ثم تضم الى (كردستان) الموعودة. وهو ما تجسد جليا في الإنتخابات وما فضيحة سهل نينوى إلا خير دليل. وما يروج (دعائيا) بالإهتمام والعناية، لايشكل إلا نقاقا وذر رماد في العيون. لقد خمدت ثورة الآشوريين منذ أن أستباحهم بكر صدقي الكردي(قوميا) منذ العام 1925. وما مصاب السريان والأرمن وتطهير عرقهم،الذي لم يتم على يد الأتراك إلا أمرا وقيادة، أما نحرهم فتم بأيادي قومية(أغواتيه) كردية يندى لها الجبين، ويتحاشى (المثقفون) اليوم الحديث عنها إلا المناضل البطل الدكتور كمال سيد قادر الذي يقبع اليوم في غياهب سجن أربيل.

لم يكن العروبيون إلا أسوء من هؤلاء، فقد سام البعثيون هؤلاء عذابا ،وما تقريبهم لطارق حنا عزيز وعبدالرزاق عبدالواحد إلا لغرض مسخهم مثلما كانوا هم ممسوخين في سجاياهم. ومن المفارقات أن تزلف عزيز وعبدالواحد أن كرس تدريس الدين الإسلامي في مدارس النصارى، أو تشتيت الصابئة بشوط يمتد بين نيوزيلنده والسويد.

وفي العهد الجديد بدأ الأمر بهجوم على الكنائس قبل عامين ، مصدره عدة جهات قومية ودينية وخارجية تعبث بمصائر أهلنا، لها المصلحة في تفريقنا ومكوثنا في دوامة الضياع. ومن تلك القوى تكني نفسها (مقاومة)، وهي محض فلول بعثية وسلفية مندحرة تروم خلط الأوراق، تعطي لنفسها مبرر محاربة أمريكا (المسيحية جدا). وأتذكر في هذه الشجون رد فعل المرحوم أبي إبان تذبيح البعثيين لشرفاء العراق بعيد إنقلاب 8 شباط الأسود 1963،بأن العراقي لايذبح من يخالفه الدين والعقيدة، فكيف سالت للبعثيين أنفسهم القتل على خلفية الخلاف السياسي، الذي هو أدنى شأنا من الخلاف بالديني.

ثمة مغالطة حينما نسمي هؤلاء (أقليات) التي أتمنى نبذها في مفرداتنا، وإلغاء صفات الأكثرية والأقلية الرائجة، والمتاجر بها مثل إحصاءات (حارث الضاري) الطيارية. هؤلاء (فئات الوطن) هم بنا ومعنا حالة أكثرية عراقية مطلقة.وإذ نعتبر بأنهم بقايا أهلنا القدامى، وأجدادنا كانوا أخوة فأفترقوا بالدين، مثلما يحدث حتى اليوم، حينما يعتنق الاخوة أديان شتى ،ودليلنا وفيصلنا في تلك الشجون علم الأنثروبولوجيا (الأجناس). فلا يمكن أن يثبت نسب أي عراقي إطلاقا، فثمة الأشقر والأسمر والآصفر في الشمال والجنوب.

العراقيون يكفيهم فخرا أنهم لم يحدث في تاريخهم الطويل نزاعا دينيا واحدا، وحتى لو حدث ذلك سنجده من تداعيات سياسية خارجية، أو صراع بين دول الجوار والعالم، بحيث لايملك العراقيون في حيثياتها ناقة ولا جمل. ولم نسمع ولا مرة أن حدث مثلما حدث بين دروز ومسلمي ونصارى الشام عام 1863 بما دعي في حينها(طوشة النصارى)،التي كانت سبب لأخلاء النصارى من الشرق الى العالم الجديد، مثلما حدث مع مسيحيونا ،حينما هجروا الى ديترويت إبتداءا من الثلاثينات على يد بكر صدقي والسلطة (العروبية).

أن حروب السلاجقة والبويهيين ثم العثمانيين والصفويين وبعدهم القجريين كانت سياسية محضة، أملتها مصالح الدولتين بالهيمنة على خطوط التجارة (خط الحرير) الذي يخترق أراضيها، أكثر من إنشغالهم بإختلاف الفقهاء. ولم تكن يوما مذهبية بين التشيع والتسنن ،كما يروج لها . وما يحز بالنفس أن هؤلاء جعلوا أرض العراق ساحات وغى وتصفية حساب، وراموا جر أهل بيت النهرين إلى مآربهم ،فأمسى بشهادة كل المؤرخين مدعاة وحدة لأهل هذا البيت .وحدث إبانها أن يحمي السني الشيعي والشيعي السني . ونقل عن سيرة عالم الدين الشيعي الذي أفتى بأن السنة موالين للإمام علي ،كي يقطع الطريق على قرار الصفويين بتصفيتهم. وعندما حل العثمانيون أعتبروه عميلا للصفويين فأعدموه، رحمه الله.

وفي القرن التاسع عشر تذكر أخبار العالم السني ابو الثناء الألوسي ،كيف كان يزدري السلفيين و الوهابيين ويعتبرهم مشعوذين ومارقين ،وكان يتهكم عليهم في مجالسه وخطبه ومقالاته. وبالرغم من سمعة السلفية التي ألصقت به، فأن أقرب مقربيه كان من أهل التصوف والتشيع.

وإذا أردنا أن نسرد قصص العامة وخواطر الناس بصدد نزعة التسامح يجدر أن تجمع في دائرة معارف، وأتذكر مثلا والدي ،كان دائب التذكر لجاره اليهودي (أبو الياهو) الذي سفرته السلطات العراقية عام 1951 لأسرائيل، ولم يعد يسمع عنه،بالرغم من المحبة التي جمعتهم . وكان يردد (ياترى هل يتذكرني أخي أبو الياهو مثلما أتذكره) .

كتب الصحفي ماجد عزيزة في إحدى خواطره ( لاأدري إن كان جدي لوالدتي سيكرر على مسامع جدتي ( رحمهما الله) وصيته الشهيرة وهو يستعد لمغادرة بيتنا في الموصل القديمة منتصف الخمسينات من القرن الماضي ، حينما كان يوصيها في شهر رمضان بأن تبتعد عن طبخ الأغذية التي تنبعث منها رائحة المقليات ، كي لا ( يشمها) الصائمون من جيراننا المسلمين . أقول لا أدري إن كان سيكرر ذلك عليها في الوقت الحاضر لو كان حيا ، وهو يشاهد ويرى ويلمس ، ما يحدث لبيوت الله المسيحية في العراق ). ونذكر اقدم من ذلك ما ورد في موسوعة العراقية ماريا تريزا الأسمر (مولودة في تلكيف عام 1804)، حيث دونت في موسوعتها التي تقبع اليوم في قبوات المكتبة البريطانية ، بأن أبوها عاقب أخيها الأصغر، كونه صعد على النخلة في البستان وصاح (الله أكبر)، ومبرره أن ذلك يثير حفيظة أخوته المسلمين ويجرح مشاعرهم.

ولدينا في سيرة الفنانة التشيكيلة (أمل بورتر) شجون ونوادر، حيث أبيها أنكليزي وأمها مسيحية عربية،وكان خوالها عروبيون أقحاح، حتى دعى أحدهم وأسمه جورج أن يسمي أبنه (محمد). و تذكر كيف أن أمها المرحومه لؤلؤ ، وهي ثاني أمرأة عراقية تحصل على إجازة سياقة عام 1931 بأنها كانت لا تأخذهم الى الطبيب حينما يمرضوا وهم صغار حتى سنوات الصبا والشباب، حيث كانت تلبس عبائتها ، و تركبهم السيارة وتذهب بهم الى روضة الإمام (موسى إبن جعفر) في الكاظمية طلبا من لدنه شفاعة وشفاءا لأولادها .

ومن المعلوم أن الكثير من نصارى العراق ويهوده ومندائييه، يذهبون لزيارة العتبات المقدسة في الكاظمية وسامراء والنجف وكربلاء، مثلما يذهب المسلمون لزيارة (ذي الكفل) و(العزير) التي يعتقد الكثيرون أنها حكرا على اليهود، والكل يذهبون إلى خضر الياس في بغداد. ويتذكر الأستاذ نهاد أبو نمير الصابئي،كيف أنه ورفاقه من الصابئة والمسلمين كانوا يتبركون بقبر السيد عاشور أحد الأولياء الشيعة(توفى عام 1957)،و الذي يتبرك به أهل العمارة .

ومن الجدير ذكره أن والد الأديب موسى الخميسي،لم تستطع الجارفات من الإقتراب من قبره لأزالته في الدوره ، حتى أجبرهم الأمر الى إحترامه وعزله و تسييجه ،بما جعل أهل الحي من المسلمين يتبركون بروضته. ويخبرنا موسى كذلك بأن أمه الصابئية المندائية كانت تمنعه وأخوته من أكل سمك (الجري) الذي يرفضه الشيعة. وقد سألها يوما عندما نضج عن فحوى هذا المنع ، فأخبرته بأن سمك الجري مكروه لأنه (خبطت الماء من أمام الإمام علي). ويقول أننا كنا نسترسل معها مزحا (مالك أنت و الإمام علي..لخاطر الله) فتجيبهم (لا يمه شلون.. جا هذا أبو الحسن ياهو مثله).

ولنا تجربة شخصية مع أختنا (عروبة) اليزيدية، وهي تردنا مع أخواتي التي تجمعهما صداقة حميمة من زمالة جامعية. حيث كانت تحبذ زيارة الإمام موسى بن جعفر( الكاظم) الذي يقع على تخوم حينا. وكانت كثيرة الدعاء والترجي وطلب العون في حضرة الإمام أبو الجوادين.

كنا مرة مع أصدقاء مسيحيين، وقد ولد لهم مولود وأرادوا أن يعمدوه في الكنيسة، فأخذنا والدتي معنا، وجلسنا نرقب طقوس الشماس وهو يعمد الطفل بالماء، وإذا بالمرحومه الحجية أمي القادمة من هور العمارة ،تتذرع الى الله وتقرأ سور من القرآن . فسألتها بتهكم ماذا تفعلين يا أمي؟، فقالت دعني أقرأ أيات الله في بيت الله .

ويعرف سكان القشل في الخمسينات شابا أسمه (طوبيا) نصراني عراقي كل أصدقاءه من غلاة الشيعة، وكان محبا لهم مثلما هم يبادلوه. حيث كان يشتري قبل كل عاشوراء دشداشة سوداء وتجده دائما يتصدر مواكب عزاء الإمام الحسين في الحي، وكان أول الناهضين للطم معهم. وقد كان جل رفاقه ممن يفضل أن يصبغ دشداشته بلون أسود ،لضعف الحال ،بالرغم من أن العرف الإجتماعي كان يعتبر الدشداشة السوداء الجديدة تكسب صاحبها أجرا أكبر،مما دفع بطوبيا يكون سباق لكسب الأجر بشفاعة سيد الشهداء.

أجزم في تلك الشجون بأن ثمة الكثير من الخواطر التي يحملها كل منا ،وأتمنى تدوينها عن تلك الروح المتسامحة التي غرسها الله في سجايا أهلنا الكرام. وإذ أتمنى أن نظهرها للملئ ونذكر بها الجميع ونعتد إفتخارا بأننا أمة لم تقتتل بسبب دين أو عرق أو مذهب حتى وطأنا شيطان البعث فشتت شملنا.وإذ نجزم أن أي ترويج قومي عنصري أو ديني طائفي تنهجه قوانا السياسية، هو محض إنزلاق وجهالة جديدة، بما يزيدها نأيا عن سوي عقليتنا العراقية المسترسلة، ويفرزها مع الوقت بأنها محض أداة طيعة موجهة لمصالح أعداء