دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
الخميس 25 آب 2005
أ.د. عبده عبود(
1­ياسين رفاعية يكتشف تراجعاً كبيراً في كتابات محمد الماغوط .. هكذا وببساطة لامتناهية، ومن خلال زاوية صحافية قصيرة، نشرتها جريدة «تشرين» بتاريخ 17/8/2005، «شطب» الأديب الشاعر والكاتب المسرحي وكاتب المقالة والرواية السوري الكبير محمد الماغوط، وذلك انطلاقاً من نصوصه التي نشرتها جريدة «تشرين» ومازالت تنشرها بصورة نصف شهرية منذ عدة شهور. ففي ما يشبه الضربة القاضية أو الهجوم النهائي شن ياسين رفاعية هجوماً كاسحاً على تلك النصوص، ووصفها بأنها «أصبحت تكراراً ممجاً لكل ما كتبه (محمد الماغوط) في السابق، وأن نشر هذه النصوص أصبحت تسيء اليه وتسيء الى الجريدة التي تنشرها، إنها نصوص بلا لمعة، بلا طعم، ولا رائحة، إنها باختصار لا تعبر أبداً عن الماغوط القديم الذي أحببناه في الخمسينيات والسيتنيات والسبعينيات.

كيف يفسر الأستاذ رفاعية ذلك «التراجع» الذي يرى أن كتابات الماغوط قد شهرته؟ إنه يرجعه بكل بساطة إلى حقيقة أن هذا الكاتب لم يعد اليوم كما كان، لقد ارتاح الرجل، وأصبح ميسور الحال، أكثر من أي أديب آخر من جيله إن في مرتباته التقاعدية، أو في دخله من المسرح، الذي وفر له منزلاً في أحد أحياء دمشق الراقية، هذا عدا عن الاحترام والتقدير الذي بات يحيط به بحب لم يألفه من قبل، فلم تعد هناك أسباب لغضبه من الحياة. فكل شيء أصبح متوفراً إلى أقصى ما كان يحلم به. كل شيء أصبح في حياة الماغوط هنيئاً وبسيطاً ومريحاً إلى آخر الحدود. ولم يتورع السيد رفاعية عن الإشارة إلى ابنتي محمد الماغوط، فذكر في زواية أنهما «أنهتا دراستهما وأصبحت إحداهما طبيبة» وعندما يقرأ المرء ماورد في تلك الزاوية من معلومات حول أوضاع محمد الماغوط المادية. فإنه يجد نفسه مضطراً لأن يتساءل: هل جمع ياسين رفاعية معطيات دقيقة عن الأوضاع المادية لكل أدباء جيل الماغوط، مما سمح له بإجراء مقارنة، وبالتوصل إلى نتيجة كهذه؟ وما مصادر تلك المعلومات؟؟ وبأي هدف قام السيد رفاعية بجمعها؟ وهل كان على محمد الماغوط أن يسكن في حي غير راقٍ كالحجر الأسود أو الطبالة أو دف الشوك؟ وهل كان عليه أن يظل محتقراً ومنبوذاً وملاحقاً أو مسجوناً؟ وكيف عرف الأستاذ ياسين رفاعية «أقصى ما كان يحلم به» محمد الماغوط؟ لقد كان يحلم بأن يتزوج ابنة خاله أو عمه، وأن يكون فلاحاً يحرث أحد حقول بلدته السلمية كما قال في الكلمة البسيطة التي ألقاها في مكتبة الأسد بمناسبة تكريمه. وهل كان على محمد الماغوط أن يواصل حياة العذاب والتشرد والسجون؟ وهل كان على ابنتيه ألا تدرسا في الجامعة، وأن تتسربا من المدرسة الابتدائية؟ وهل تمكنت إحداهما من أن تدرس الطب وتصبح طبيبة بفضل جهودها وتفوقها الدراسي، أم نتيجة «مفاضلة» خاصة بأبيها؟ تلك أسئلة جالت في نفسي وأنا أقرأ زاوية ياسين رفاعية «محمد الماغوط الى أين؟» وأرجح ألا أكون القارئ الوحيد الذي خطرت بباله هذه الأسئلة، تفسير مادي مبتسر للتراجعات من الملاحظ أن السيد رفاعية قد أعاد ما سماه تراجعاً في كتابات محمد الماغوط إلى التغيير الذي طرأ على أوضاعه المادية. ألا يتحكم الوجود المادي للإنسان في وعيه، وفقاً للمقولة الماركسية المعروفة؟ ألا تتحكم البنية التحتية للمجتمعات في بنيتها الفوقية؟ للوهلة الأولى يبدو هذا التفسير مقنعاً. ‏



‏

فمن الممكن أن تكون الأوضاع المادية لمحمد الماغوط قد تحسنت في المرحلة الأخيرة، ولكن هل ينعكس ذلك بالضرورة وبهذه السرعة، وبصورة مباشرة على كتاباته؟ وهل العلاقة بين الواقع المادي للأديب وبين إبداعه بهذه البساطة والميكانيكية؟؟ وهل كان كبار الأدباء العالميين فقراء معدمين؟ ‏

هل كان تولستوي عاملاً مياوماً؟ وهل كان غوته أجيراً في مطعم؟ وهل كان إرنست همنغواي فلاحاً فقيراً؟ ألم تتحسن أوضاع ماركيز المادية نتيجة مبيعات كتبه؟ وهل محمد الماغوط الأديب السوري الوحيد الذي تحسنت أوضاعه المادية؟ ألم تتحسن الأوضاع المادية لزكريا تامر وحنا مينه ووليد إخلاصي وسليمان العيسى؟ وماذا عن ياسين رفاعية نفسه؟ أما زال يعمل فراناً في حي القيمرية؟ ألم تتحسن أوضاعه المادية تحسناً كبيراً؟ وهل غاضت ينابيع الإبداع لدى هؤلاء الأدباء بمجرد أن تحسنت أوضاعهم المادية؟ ولماذا نؤاخذ محمد الماغوط بصورة ضمنية (رغم ورود عبارة: مبارك عليه) على أنه أصبح يسكن في أحد أحياء دمشق الراقية، وعلى أن ابنتيه قد درستا وأصبحت إحداهما طبيبة؟؟ أصحيح أن على الأديب أن يبقى فقيراً معدماً مشرداً ملاحقاً إلى آخر عمره كي تتوافر لديه أسباب غضبه من الحياة؟ حقاً: إذا اشترى الغني ثوباً جديداً يقول له كل الناس: مبروك!، أما إذا اشترى الفقير ثوباً جديداً¾ فيسأله الناس: من أين لك هذا؟.. نعم «الكثرة عند الشحاذ هجنة» كما يقول المثل، وكان على محمد الماغوط أن يبقى شحاذاً، من أجل أن تستمر أسباب غضبه من الحياة، وألا تفقد نصوصه تلك الروح ا لمتمردة الغاضبة، التي يقدرها الأستاذ رفاعية. وبالطبع فإننا لن نكون من الإسفاف بحيث نسأله: في أي حي يسكن، وما مقدار دخله السنوي، وماذا درّس أولاده، وما رصيده في البنك...! إلى آخر هذه الأسئلة الشخصية غير اللائقة، ولكننا نقول له جازمين: إن محمد الماغوط ليس من ذلك النوع الهش من الكتّاب الذين يغيرون قناعاتهم ومواقفهم وتتغير كتاباتهم بمجرد أن تتحسن أوضاعهم المادية، وها هو يقول في مقابلة جديدة أجرتها معه جريدة «الثورة» بتاريخ 10/8/2005: «أنا لست (حبيب قرش) الموت أهون عليّ من أن أكتب لأجمع مالاً. ‏

3­ المرحلة الجديدة تحتم ظهور ما غوط جديد ‏

إلا أن من المعروف أن الإبدع الأدبي لا يعبر عن الظروف الشخصية للأديب فحسب، بل يعبر عن أوضاع مجتمع بأكمله، وهذا ينطبق أيضاً على الكاتب محمد الماغوط، لقد تغيرت أوضاع المجتمع العربي السوري كثيراً منذ سبعينيات القرن الماضي الى اليوم، ومن ثم فإن التعبيرات الأدبية عند تلك الأوضاع ستتغير بالضرورة. وعليه فليس من المنطقي أن نطالب الأديب محمد الماغوط بأن تكون كتاباته في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ككتاباته في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فالتجارب الحياتية والاجتماعية الأساسية التي يمتح منها إبداع محمد الماغوط الأدبي ترجع الى تلك العقود الثلاثة لابل وإلى ماقبل ذلك. ولئن كانت كتاباته الجديدة «لا تعبر أبداً عن الماغوط القديم الذي أحببناه، كما يقول الأستاذ رفاعية، فإن ذلك أمر طبيعي جداً،لابل بدهي، فالمجتمع القديم الذي عبّر عنه الماغوط القديم أدبياً قد ولّى الى غير رجعة، وولى معه ماغوطه إلى غير رجعه أيضاً، وحل محل المجتمع السوري القديم مجتمع جديد يتطلب ما غوطاً جديداً ليعبر أدبياً عنه، لذا فإن ا لسؤال الجوهري الصحيح الذي يجب أن يطرح على أديب عاصر كل هذه التحولات الاجتماعية، بسلبياتها وإيجابياتها، بمرها وحلوها كمحمد الماغوط يجب أن يكون: هل تمكن محمد الماغوط (أو الماغوط الجديد) من أن يواكب التحولات التي شهدها المجتمع العربي السوري منذ الربع الأخير من القرن العشرين إلى يومنا هذا بالدرجة العالية من الكفاءة والتميز والتفرد التي عبر بها الماغوط القديم عن مجتمعنا في الربع الثالث من القرن العشرين؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تتم من خلال زاوية صحافية كزاوية ياسين رفاعية (محمد الماغوط الى أين؟) بل تقتضي الرجوع إلى كتابات محمد الماغوط في العقود الثلاثة الأخيرة لدراستها وتحليلها وتقويمها وتقييمها، و عدم الاكتفاء بالنصوص الماغوطية التي نشرتها جريدة (تشرين) خلال الشهور القليلة الأخيرة. إن تقديم إجابة مقنعة السؤال الآنف الذكر تقتضي دراسة مسرحية «خارج السرب» وكتب «سياف الزهور» و«سأخون وطني» و«شرق عدن غرب الله».. ونتيجة لتلك الدراسة النقدية نستطيع الحكم على مدى نجاح محمد الماغوط في التعبير أدبياً عن المرحلة الجديدة من تطور المجتمع العربي السوري. أما الحنين إلى الماغوط القديم فإنه لا يجدي فتيلاً ولا نقيراً ككل أشكال وأعمال الحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، ومهما طال انتظارنا فإن الماغوط القديم لن يعود. أما ضرب الماغوط القديم بالماغوط الجديد بغرض الحط من قدر الماغوط الجديد، فهو عمل لا أخلاقي، لا أعتقد أن الأستاذ ياسين رفاعية يمكن أن يلجأ إليه. ‏

4­ ليس لهذا الحكم القاسي ما يسوغه ‏

ولكن أصحيح أن محمد الماغوط في نصوصه التي نشرتها جريدة (تشرين) في الشهور الأخيرة سيء بالدرجة التي تسوغ للاستاذ رفاعية أن يقول عنه «لاحول ولا»؟ إن حكماً بالغ القسوة كهذا الحكم لا يجوز أن يسوغ من خلال ما سمعه مطلقه «من آراء سلبية عن هذه الكتابات، لاسيما من الجيل الجديد الذي لا يعرف ماضي الماغوط» بل يتطلب قراءة نقدية متأنية لتلك النصوص، التي اختلف مع الأستاذ رفاعية ومع «الجيل الجديد» الذي يتحدث باسمه في تقويمها. ‏

5­ «الأنشوطة» أم «الأرجوحة» عنوان رواية الماغوط؟ ‏

وبالمناسبة لقد ذكر الأستاذ رفاعية في زاويته أن لمحمد الماغوط رواية وحيدة عنوانها «الأنشوطة» وأنا أعرف أن عنوان تلك الرواية هو «الأرجوحة» وهذا ما جاء في «أعمال الماغوط» (دمشق: دار المدى، 1998، ص389­594) وفي كتاب لؤي آدم «محمد الماغوط وطن في وطن» (دمشق: دار المدى، 2001، ص187 و491) والفارق الدلالي بين الأنشوطة والأرجوحة كبير، فمن أين جاء الأستاذ رفاعية بعنوان «الأنشوطة»؟ ‏

6­ كبوة نأمل ألا تتكرر ‏

وعلى أية حال فإن قراءة الفاتحة على أديب عربي سوري كبير كمحمد الماغوط ليس أمراً سابقاً لأوانه فحسب، بل هو أمر غير مقبول وغير لائق، ولاسيما إذا صدر عن أديب عربي سوري كبير آخر كياسين رفاعية، وتم بالأسلوب الشديد القسوة الذي كتبت به زاوية «محمد الماغوط الى أين؟» فمن يقرأ هذه الزاوية يتولد لديه الانطباع بأن بين كاتبها وبين محمد الماغوط عداوة شخصية، أو عداوة كار»، وأن رواء هذه الزاوية دوافع شخصية، كالحسد و«ضيقة العين» أو نعرة مناطقية بغيضة. إن ما جاء في زاوية «محمد الماغوط إلى أين؟» يسيء إلى ياسين رفاعية أكثر مما يسيء الى محمد الماغوط، الذي يشكل النجاح الكبير الذي حققته كتبه الأربعة الأخيرة أبلغ رد على ما جاء في الزاوية الصحافية السابقة الذكر، التي نأمل أن تكون مجرد هفوة أو كبوة، لا تراجعاً إلى مستوى «المجلات الفنية» فياسين رفاعية علم بارز من أعلام أدبنا العربي السوري المعاصر، نُكّنُ له كل التقدير، ونحرص عليه تماماً كما نحرص على أديبنا الكبير محمد الماغوط. ‏

‏

(ہ)­ أستاذ الأدب المقارن في كلية الآداب في جامعة دمشق، ومقرر سابق لجمعية النقد الأدبي في اتحاد الكتاب العرب (t.abboud@ses-net.org) ‏

‏

البكداشية : زرقاوية / صدامية
رد علـى مهاجمـي د. عبد الرزاق عيد
د. نادر الأسعد : ( كلنا شركاء) 24/8/2005
سبق لي أن نشرت بتاريخ 7/1/2004 مقالا تحت عنوان "تهديد جديد للدكتور عيد" ردا على مقال الأستاذ فائز العمر المنشور في "كلنا شركاء" 7/12/2003، والتي أعاد نشره منذ شهور في جريدة السياسة الكويتية، اضاف له تهديدات جديدة لكنها ظلت في إطار التهديد المجازي (استعراضات الفراشة قرب النار التي لا تدري أنها تسير نحو نار لها لحظتها...) وهي من نوع التهديدات ذاتها التي أطلقها منذر موصلي في جريدة النهار بالدعوة إلى "سوقه إلى السجن" وأخيرا في ( كلنا شركاء ) 8/8/2005 يشتمه الموصلي ويسميه "كاتب حلبي مرذول ومعروف" والسلطة لا تقبض عليه لعدم "إثارة ضجة إعلامية خارجية تتصل بالحريات العامة ولإعطاء الأعداء أسلحة سياسية ضد البلد وبتحريض أمريكي مباشر أو غير مباشر مالم يعد سرا...".
طمأننا البرلماني المطرود من البرلمان والحالم بالعودة إليه ولو قام كل يوم بكتابة التقارير ضدعبد الرزاق عيد وبرهان غليون ، لكنه بأن السلطة بسبب حكمتها لن تعتقل عبد الرزاق عيد لكي لا تقع بالفخ الأمريكي وتعطيهم سلاحا سياسيا ضد البلد ، وأن الأمر لم يعد سرا، لكن ما كتبه الموصلي وما يكتب اليوم في بعض منتديات الانترنيت، يظهر أن ثمة حملة موجهة ضد د.عيد تتزامن مع حملة النظام على المعارضة، لكن المفاجأة التي تدعو إلى الذهول، أن يتقدم شخص -يفترض أنه ابن عائلة دمشقية محترمة (العظمة)- لم يكن له طوال حياته شأن في الكتابة، أو مع الكتابة، وفجأة يفتح الله على قلبه ويكتب، ما يعادل صفحة فولسكاب واحدة، في كلنا شركاء 18/8/2005 تت عنوان (أبو جرير الليبرالي)، وكاتب هذا التقرير هو حسني العظمة يرد فيه على مقال للدكتور عبد الرزاق عيد تحت عنوان: "هيكل العابر للشرعيات".
ولأن الأستاذ أيمن عبد النور يخص مقالات الدكتور عيد بالتقدير، فينشرها دائما كمقال رئيسي، فقد اعطى هذا التقرير ذات التقدير، ونشر كمقال رئيسي ببنط عريض : رد على عبد الرزاق عيد و(الليبرالية).
لقد قرأنا في 17/8/2005 في ( كلنا شركاء ) ردا لبرهان غليون على عبد الرزاق عيد، فكان حوارا لائقا ومتوازنا ومتكافئا بين مفكرين معروفين، ما لفت الانتباه ان يكون هناك رد في اليوم الثاني 18/7/2005 في ( كلنا شركاء ) على عبد الرزاق لكن في موضوع آخر، ولشخص آخر (حسني العظمة) لا صلة له بالكتابة، ولكن لكوننا نعرف الاثنين الدكتور عيد والسيد العظمة، فوجدنا تدخلنا ضروريا.
لقد سبق لي أن قدمت نفسي لـ"كلنا شركاءـ منذ سنتين ، بأني زميل لعبد الرزاق عيد منذ عهد الصبا في حي الكلاسة الشعبي الحلبي، إذ كنت وإياه في صبانا نحمل هذا المزاج الشعبي العام لحينا الحلبي الذي هو مزيج العروبة الناصرية والإسلامية الأخوانية، وكانت تنوس في داخلنا هاتان النزعتان طوال فترة الستينات، فإذا بالمربي الراحل كامل ناصيف مدرس اللغة العربية الشهير، ومؤلف كتاب البكالوريا لمراحل طويلة، يستولي على فؤاد عبد الرزاق في البكالوريا، فيندفع بحماسه العرمرم لقراءة الماركسية ، وهوب ! دفعة واحدة باتجاه الحزب الشيوعي ، وتركني على موقفي الناصري بدون تأثير لكامل ناصيف -رغم انبهاري به- سوى أني تلونت ناصريتي بنزعة يسارية علمانية كان سقفها ما مثله جمال الاتاسي في الفكر السياسي الناصري لكن دون التزام حزبي ، وكانت يساريتي وعلمانيتي -أيضا- نتاج تفاعل صداقتي مع عبد الرزاق الذي لم يستطع أن يجذبني إلى الحزب الشيوعي ، الذي مالبث في الجامعة- وخلال فترة وجيزة -أن يكون علما من أعلام الحزب الشيوعي طلابيا ، لكن يبدو أن صميمية علاقته بالثقافة والفكر والأدب ، كانت وراء هذه النزعة الكونية التي يشترطها بالشيوعية ، بل ووراء موقفه المؤيد لتيار خالد بكداش رغم راديكاليته السياسية التي كانت ترشحه لأن يكون أقرب إلى تيار المكتب السياسي (رياض الترك) ، بينما ناصريتي القومية جعلتني أقرب تعاطفا إلى تيار رياض الترك، رغم أني لم التزم حزبيا مع أي تنظيم ، كما ذكرت .
لقد ذكرت سابقا: أني عرفت عبد الرزاق أصوليا راديكاليا في كل انتماءاته ، إن كان في مرحلة الناصرية، أوالإسلامية -ولولا صدفة معرفته بكامل ناصيف لكان اسمه يتداول اليوم مع مروان حديد وعدنان عقلة- ومن ثم أصوليته الماركسية، وأخيرا الديموقراطية... ولذا فقد كان دائما يثير الغبار حوله ، مقتنعا باطروحة نيتشه بأن الفكر المحلق هو الذي يخون ذاته ، ولذا فهو دائم الخيانة -معرفيا- لأصدقائه ، فهوما أن يعلن صداقته لفكرة حتى يحلق بها ومعها، فعندما يعلو في طيرانه ، فإنه يبدو صغيرا في عيون أصدقائه الذين لا يجيدون الطيران ، الملتصقين في الارض، كما يعبر هو مستعيرا مقولة نيتشه عن الطيران و تعلم خيانة الأصدقاء الدائمة !
ولأني صديق الطفولة لهذا الرجل ، ورغم خياناته الفكرية الدائمة لي، لكن لم يخطر على بالي قط أنه غير صادق في خياراته أو خياناته ، ولذا كنت أغفر له خياناته الدائمة التي لم تكسبه -مصلحيا- سوى العناء، أو البطالة : الحرمان من العمل في كل المراحل ، والحصار من كل الجهات، بما فيها الحرب على لقمة عيشه وعيش عائلته ، وكل الأمراض والعلل بأنواعها ، فقد داهمته الأزمات القلبية منذ أكثر من عشر سنوات ...
لقد أطلت في هذه المقدمة لأقول بأني تعرفت على السيد حسني العظمة، وكنت بزمالة عبد الرزاق في سنة 1971 أو 1972 في أحد معسكرات اتحاد الطلبة في منطقة الساحل، اظن في (الباسوطة)، وكنت واحدا من الوفد الطلابي في حلب، وكان حسني من الوفد الطلابي الدمشقي!
كان عبد الرزاق وحسني طالبين يمثلان الحزب الشيوعي (جناح بكداش) وكنت ذا مزاج ناصري يساري قريبا من المكتب السياسي (رياض الترك) ، وكان عبد الرزاق على عادته مالئا الدنيا وشاغلا الناس بمناقشاته وصداماته وصراعاته، بينما السيد حسني لم يترك أثرا في خاطري سوى انه ابن رئيس الوزراء في عهد الانفصال (بشير العظمة)، تلك هي الهوية الخاصة الوحيدة التي بقيت في ذاكرتي عن هذا الشخص، الذي عايشته حوالي ثلاثة أسابيع كشيوعي (بكداشي) يستفزني شيخه خالد بكداش ، الذي هنأ قادة الانفصال بالانفصال في برقية شهيرة موجهة بوصفه " تحررا من الاستعمار المصري " ، و يستفزني -كناصري- أبوه الذي ساهم لفترة في رئاسة وزارة الانفصال .
لقد تعايشت مع شيوعية عبد الرزاق كناصري ، لأنه ظل أمينا لتلك الطبقة الوجدانية الناصرية في داخله، ولهذا كان يسعى دائما لـ(يسرنة) عبد الناصر بما يتلاءم مع أفكاره الشيوعية، وهو في كل تحولاته وانتقالاته -بين الماركسية المسفيته إلى الماركسية (البيروسترويكية) إلى الديموقراطية فالليبرالية ، أو ما يفضل أن يعتبره (يسار-ليبرال) فإنه ظل محافظا على هذه الانحيازات الناصرية القديمة ، سيما في مرحلة اكتشافه لياسين الحافظ صاحب المصالحة الشهيرة بين الماركسية والليبرالية والناصرية والديموقراطية ، وقد أظهر ابتهاجا فريدا في كتابه عن ياسين الحافظ /نقد حداثة التأخر/ لتلك المصالحة التاريخية التي عقدها ياسين الحافظ بين الشيوعية والناصرية، والتي عابها عليهما جورج طرابيشي ووصمها بالعلاقة الأبوية (الناصرية) التي برأ جورج نفسه منها ، وذلك في صدد مناقشة جورج لكتاب عبد الرزاق عن ياسين ، وذلك في كتابه : (من النهضة إلى الردة) .
لكن رغم شدة انقطاعه -أخيرا- مع وعن النموذج الناصري بوصفه المؤسس لوهم الشرعية الثورية ، لكن دائما كا يلتمس لعبد الناصر المخففات التي تبرر انحيازه العاطفي القديم له، فإذا لم يبق من مصفوفة عبد الناصر أي ركن لا يقصفه نقده ، لكنه يؤوب إلى الاعتراف بـ(النزاهة والطهرانية الناصرية) في زمن الاستنقاع والفساد.
لماذا هذا الحديث عن الناصرية وعبد الرزاق عيد؟
إنه بسبب هذا الرياء الذي يبديه بكداشي ابن رئيس وزراء انفصالي هرب من مصر نفورا من إدارة ناصر المركزية، التي لم تترك لوزير صحة الجمهورية المتحدة بشير العظمة دورا فاعلا ، حسب ما يرويه في مذكراته : (جيل الهزيمة )
يقوم السيد ابن الوزير العظمة - أي : حسني الذي لم يترك في نفسي انطباعا عن شخصيته منذ معسكرنا الطلابي سوى أنه ابن وزير- بهجمة تخوينية شرسة ضد عبد الرزاق عيد لأنه نقد هيكل بأنه صاحب فكرة تعديل مصطلح (هزيمة حزيران إلى نكسة ... ) فيتساءل ابن الوزير: أين هي "الهزيمة" التي يؤكد السيد عيد عليها؟
طبعا من حق ابن الوزير أن تفيض ذاكرته بكل الأهاريج والهليلات الطلائعية والشبيبية (الكومسمولية) عن حرب تشرين التحريرية التي نقلت مصر- (بطولات السادات في كل الأحوال )- من الهزيمة العسكرية إلى الهزيمة السياسية الاستراتيجية ، وهي (كامب ديفيد) وباعتباره (وطني شبيبي ثوري ) متحمس رغم كهولته ، فهو -لاشك- يعتبر أن كامب ديفيد كانت اتفاقات في خدمة الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية ! هذا على المستوى المصري .... ! أما على المستوى السوري : فقد قادت إلى تحول الجولان إلى ذكرى وطن مثل اسكندرون ! فأين هي الانتصارات ...!؟
مع ذلك فإن كل هذه الهتافات الشبيبية الطلائعية من حقه، لكن ليس من حقه أن يعتبر كل من ينظر إلى ما يسميه "نكسة" حزيران بأنها "هزيمة" ، بأنه "جاسوس يذكره بـ(أبو جرير) العميل الاسرائيلي من سكان قطاع غزة الذي تمكنت المقاومة الفلسطينية الباسلة من تصفيته لاحقا"! لو أن كل من يقيم 5 حزيران 1967 على أنها "هزيمة " ، بوصفه عميلا إسرائيليلا يجب تصفيته ، فعلينا والأمر كذلك أن نصفي ملايين الملايين وليس عبد الرزاق عيد وحده بوصفه العميل الوحيد في الأمة العربية والإسلامية الذي يصر على أن "نكسة" حزيران هي "أم الهزائم" التي لاتقل انهزامية عن كل أمهات معارك صدام حسين .!
وباعتبارأني ناصري قديم وأصيل لست مزورا كإبن الوزير ، فإن أول من ينبغي تصفيته على مقصلتي الوطنية والقومية هو السيد الوزير الأول نفسه (بشير العظمة) -وفق معايير ابنه- وذلك لأن العظمة الأب يسمي (نكسة) حزيران بـ(الهزيمة الكبرى) ص221 من المذكرات، بل إن الوزير الأول يكتب "حاول عبد الناصر تحقيق الوحدة بالخطابات والشعارات ... خدعته مخابراته السرطانية، حتى وصل الداء إلى رأس السلطة التي خلقتها وتعهدتها..!" راجع المذكرت ص 220-221.
بل لا يتردد الوزير الأول (العظمة الأب) بالتشكيك بنزاهة عبد الناصر، التي لا يقبل عبد الرزاق عيد فيها -أي نزاهة عبد الناصر- أي جدل ، وذلك عندما يتحدث عن عرض عبد الناصر عليه سيارة "هل تريد سيارة أو ينقصك أي شيء؟ ابتسمت مشفقا للمساومة..." ص 212 .
بل لا يتردد بالحديث عن دور الافساد وشراء الذمم للنظام الناصري فيتحدث عن محاولات لشراء مواقفه "إن القاهرة مستعدة لضمان مستقبلك برصيد رقمه على بياض في مصرف سويسري" ص 339.
ومع ذلك فإن شهامتي كناصري ابن بلد ، وشرفي الوطني وكرامتي القومية لا تسمح لي كناصري قديم -وليس بكداشيا انفصاليا (يتقومن ويتعربن) كابن الوزير- أن يتبادر ولا للحظة إلى ذاكرتي ولو (عفو الخاطر) أبو جرير العميل الاسرائيلي عندما أتحدث عن بشير العظمة ، مثلما حدث مع ابن الوزير عندما كما تذكره ، بمناسبة حديث عبد الرزاق عيد عن عبد الناصر ، رغم أن حديثه كان فيه احترام أكثر بكثير من حديث العظمة الأب !؟
هل يحق لابن الوزير (العظمة) أن تستدعي ذاكرته (أبو جرير العميل ) عند الحديث عن عبد الرزاق عيد ؟
أنا أعرف منذ تخرجنا من الجامعة أن الشيوعي (لبكداشي والستاليني المتشدد ) حسني العظمة فور تخرجه وقع عقدا مع شركة انكليزية في الساحل (اللاذقية أو بانياس أو طرطوس ... لست متأكدا) ، وهو اليوم يرفل بنعم وخيرات الانكليز، ونحن لا ننكر عليه ذلك ولا نتهمه في شرفه الوطني ... لكن أيحق لأمثاله أن يشككوا بـ(الدراويش والحرافيش المتصوفة) من أمثال عبد الرزاق عيد الذي لايزال يطار شبح الرغيف الكريم له ولعائلته، رغم الدعم الأمريكي المكشوف له حسب منذر موصللي ...!
هل يحق لأمثال ابن الوزير- الذي ليس له خصائص تميزه سوى أنه ابن وزيرأول - أن يكتب وللمرة الأولى في حياته ، ليتحدث عن عمالة رجل ارتضى أن يشتغل حارسا ليليا في فرنسا، ليرفض أن يكون عميلا لأي صحيفة عربية تقدمية كانت أم رجعية (ملكية أم جمهورية) أو أجنبية ، وأن يبيع اللبن والحليب في بلده ومدينته حلب مع ابنه وهو يتعرض يوميا لملاحقة البلدية والصحة والتموين، وكل الاشتقاقات الادارية الأمنية ليتمكنوا أخيرا من إغلاق باب رزقه ...
ابن الوزير يعرف جيدا أن عبد الرزاق عيد لو كان يملك ملكات وقيم وأخلاق (العميل) لكان أولى أن يكون عميلا لنظام بلاده المغرم بالعملاء ... ومستقبل عمالته - وأنا أعرف ذلك- مضمون وبسعر يتناسب مع حجمه ومكانته ، ومردود كبير أكثر بكثير-بالتأكيد- مما كان يحصله ابن الوزير من الشركة الانكليزية!؟
وعبد الرزاق عيد لو كان لديه روح العميل لما ترك مجلة الدستور اللندنية التي كانت مصدر دخله الرئيسي وهو يدرس في باريس، بعد أن اشتراها (بطلكم القومي صدام حسين) من المعارض السوداني (شريف الهندي) ، ليلتحق باليسار العربي (أسبوعية الحزي الشيوعي المصري) وعندما يكتشف أنها بالكاد تقوم بأود مجموعتها (ميشيل كامل- محمود أمين العالم- أديب ديمتري) انسحب ليعمل حارسا ليليا لدى شركة فيليبس ، ولم تتمكن سفارة (بطلكم القومي) من أن تشتريه ، ومع ذلك -ولأنه مع الشعب العراقي- فقد نام لدى الأمن العسكري عندكم على البحر عندما وقع على بيان الـ52 مثقفا المتضامن مع الشعب العراقي في حرب الخليج الأولى ، بينما كنت تصدح أنت مع قائدك خالد بكداش : بأن الحرب على العراق عادلة لأنها تنفيذ للشرعية الدولية ... وهاانتم اليوم -مع الافلاس النهائي للخطاب القومي- تهتفون مهللين للزرقاوي الذي لن يقود- مع مقاومته- العراق سوى إلى الحرب الأهلية والكوارث والهلاك ...
إنكم في الحالين إنما تنفذون-بحمية مضحكة- توجيهات النظام السوري-قائد الجبهة الوطنية التقدمية - التكتيكية لدواعيه التفاوضية ، فأنتم البكداشيون ، ومشتقات هذه المدرسة : عائليا وجبهويا ، تضعون أنفسكم في موقع العميل الذي يستخدم وفق حاجيات المستخدم المؤقتة ، ولا أظن إلا وأنكم ستهتفون للحكمة السورية ، إذا تحقق الحلم "الوهم" بقبول الأمريكان بصفقة مع النظام السوري!
انني أعرف أنك كالكثيرين من امثالك الذين بعد أن يشبعوا نهمهم للمال والثروة ، فإنهم يبدأون التطلع إلى منصب تقاعدي مهم -أي مكان عالي ولو على حساب المكانة الواطئة - عن طريق عرض خدماتهم بعد أن أدمنوا امتهان الاستبداد لكرامتهم الوطنية تحت شعارات قومية ، وبما أن السلطة تريد أن تستعيد مهابتها اليوم ، وتطمئن خوفها وقلقها وتعلل فشلها واخفاقها باللجوء إلى أداء حركات الهر إذ يصول صولة (النمر) ، وذلك من خلال الهجوم على المعارضة ، فوجد ابن الوزير الفرصة سانحة -مادامت الكلاب قد أطلقت من جديد- لتنبح على المعارضة والمعارضين ، فاختار أكثر المغضوب عليهم أمنيا ليقدم أوراق اعتماده بطريقة بخسة ، دنيئة ورخيصة لم يعهدها الحراك السياسي السوري حتى في ذروة استخدامات منذر موصلي التخوينية ، لكنها لم تصل يوما -مع ذلك - إلى درجة اتهام أحد بالعمالة لاسرائيل ...
عندما قرأت تقرير العمر لابن الوزير الذي أصبح كاتبا ولو لمرة واحدة ، شعرت بالحزن على عبد الرزاق وأوهامه عن المجتمع المدني وقيم الحداثة ومراهناته على إحيائها ، والذي يفترض أن ابن الوزير ينتمي عائليا لها، لا أعرف لماذا تذكرت - (عفو الخطر) تماما كما تذكر ابن الوزير - رواية (فخ الأسماء) للروائي خيري الذهبي ، وخاصة مشهد هديل الحمام وتزاوجها و"تمتع" أحد ذكورها وهو يشاهد أنثاه يطؤها ذكور آخرون ، ومن ثم تساؤل الراوي مندهشا هل يعقل أن يوجد في عالم الحمام " ديوث" ؟
وتساؤل الراوي هذا أحالني إلى تأملات وتساؤلات في عالم الخلق والاجتماع وطبائع العمران والانسان : هل يمكن للظواهر النفسية التي هي عادة ظواهر فردية ، كحالة "الديوث" أن تغدو ظواهر اجتماعية ؟
هل يمكن للحالة "الماسوشية" الفردية أن تتحول إلى حالة وراثية ؟ أي : إذا انتقلنا إلى المشخص ... هل يمكن لبيك مديني محدد معروف عنه أنه يجمع بين حالتي ( الديوث والماسوشي) الذي ماكان له أن ينتعظ دون مشاهدة (فلاحيه) يمتطون إناثه ...!
هل يمكن لهذه الحالة الفردية (الخاصة) أن تتحول إلى ظاهرة اجتماعية (عامة) ، حيث لا ترث شرائح اجتماعية بكاملها من قيم المدنية والتنور والحداثة ووطنية المواطنة وحقوق الانسان التي تمثلها هذه الشخصية بحق ، سوى ما فيه من خصائص (الديوث والماسوشي) التي لا يلتذ لها عيش أو تهنأ لها حياة دون فحولة أوباش وعوام ورعاع وحثالات العالم السفلي ... !؟ يبدو أن مجتمع ثقافة الاستبداد والخوف والصمت لايتيح سوى وراثة هذه الخصائص ( الديوث والماسوشي) على حد تعبير عبد الرزاق عيد !