من الانفصامية إلى الفصام
من الانفصامية إلى الفصام
بقلم المفكر التنموي .. إبراهيم بوزناد
*الانفصامية :
قال تعالى :'' فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها و الله سميع عليم ''
سورة البقرة
عروة وثقى لا انفصام لها :
.عروة وتقى.. حلقة متماسكة صلبة , كل ذرة فيها مرتبطة بالذرات المجاورة لها ارتباطا وثيقا .. إنهاروابط متينة تلصق الجزء بالجزء فتجعل الكل عروة وتقى لا انفصام لها .. أي لا انفلاج فيها .. لا تفكك .. لا انشطار .. لا تحلل .. لا انكسار .. إنها وحدة متكاملة لا يعرف البداية فيها و لا النهاية , لا يعرف الجزء بكونه جزء من الكل.. لا بكونه الأهم .. و لا يكونه أولا أو أخيرا .
. وثقى , موثوقة وميثاقا وتوثيقا.. حيث لا شك و لا ظن و لا تناقض و لا تيها و لا هواما . ... هكذا هو الدين الحنيف ... من القوة و المتانة ما يجعله حبلا غليضا لا يفل و لا يفتل , و حلقة متكاملة , متوازنة , منسجمة , لا تقبل أي شكل من الانفصامية .
ما الانفصامية ؟:
1) أثناء الحرب العالمية الثانية وجدت فرنسا نفسها حولة مستعمرة و مستعمرة في نفس الوقت . أي فاعلا و مفعولا به لنفس الفعل هو فعل الاحتلال ... و في الوقت الذي كان الجزائري يئن من ضلم الفرنسي كان هذا الاخير في الجهة المقابلة من البحر يطلقها نفس الأنات و الآهات تحت قهر النازية ... و بهذا فقد أحس الشعب الفرنسي التناقض و الانفصامية ... المضلوم و الضالم .. الضحية و الفريسة ... السجين و الجلاد في قلب رجل واحد ... فقد ذاق القهر و الغرور في نفس واحدة .. كان يضرب بالسياط بيده اليمنى و يتلقى على جنبه الأيسر لسعاتها المؤلمة ... كيف كان ذلك الإحساس ؟
لا أعرف.. لم أجرب.. و لكن ثمن تلك الانفصامية كان ثقيلا و في اليوم الثامن من ماي عام 1945 قتلت الدولة الانفصامية 45 ألف مواطن جزائري بغير ذنب.. غير أنه قال مقولة قالها الفرنسي ذاته '' أنا أتوق إلى الحرية '' .
و هكذا يتجلى التناقض في باحث عن الحرية عن طريق إلغاء حرية الآخرين .
و بهذا ندرك أن الحركات الاستعمارية ماهي في الحقيقة غير انفصامية جمعية مارستها الدول الامبريالية .
انفصامية أخرى يرويها التاريخ:
روايتها أن إمبراطورا أحب روما حد الجنون , و لأنه أرادها أن تكون كلها له بدورها و ناسها. استعبد البشر و حرّق المدينة التي أرادها ألأ تكون لأحد من بعده مهما على الثمن و للجريمة بشاعتها. نفس الارادة تجلت في صورة عشيقته, فسقاها حبا و سما .. ثم انتحر.. ليموت نيرون و تبقى الينرونية كضاهرة انفصامية تعيد نفسها في ذروة كل مدينة مادية .
هذه هي الرواية أما الدراية , فبحث في أغوار النفس, في الطبيعة البشرية , و تساؤل يأبى إلا أن يطرح في ساحة السؤال الملح .
ها الانسان كائن انفصامي بطبعه ؟
من الناحية الانتربولوجية أثبت أعلى و أنمى تجمع انساني عرفه التاريخ '' مجتمع القرية الصغيرة '' أنه الأكثر انفصامية على الاطلاق .
الفصام :
مرض بألف وجه ... بألف قناع .
بألف سبب أو عامل مسبب .
بألف طريقة يجب اجتماعها كلها لتحقق ما يشبه الشفاء
حالة ذات تاريخ طويل.
حياة بتاريخين للميلاد ... الأولى عند صرخة الوضع و الثانية عند صيحة الهلع الفصامي.
'' دوي رعد في سماء صافية '' ( ما غنان ) .. وهذا ما يبدو للملاحظ . ولكن الحقيقة ... أن الميلاد الثاني قد سبقته زمنيا حياة جنينية تشترك مع حياة الرحم في كونها صناعة لخلق آخر في كونهما منعزل فردي حيث يسمع و لا يدري , حيث ينفعل و لا يفعل .
و يختلفان في أن الأولى ميلاد لكائن يتعلم .
أما الثانية فميلاد لكائن ولد ليعلم الآخرين
قوانين منطق جديد و عقلانية خاصة و إن كانت غير معقولة.
الفصام :
مرحلة من مراحل الحياة الانسانية :
- تشترك مع المراهقة في كونها مرحلة للنمو
- تشترك مع العبقرية في كونها تحرير للعقل
- تشترك مع مصوف العارفين في كونهما سلوك في المدارج بعيدا عن عالم المشاهدة .
- تشترك مع الزهد لأنها تحلل من كل قناع و متعة .
- تشترك مع الرياضيات في تجريديتها و لرؤيتها الهندسية للأشياء.
- ومع الفن هي ابداعات متفجرة و أحلام الشاردين على بساط الريح .
و تتلخص في مسري التاريخ البشري المجمل في قول ذلك الحكيم الهندي '' عاشوا , و تعذبوا , وماتوا ''.
الفصامي ... ذلك المضلوم :
و في عالم مشوش , غريب , ذائب الحركة , يعاني التصدع و التمزق إربا إربا .
و بدل أن ترم الآراب إلى بعضها بتضميض الجراح ...نواجه المريض بأن نسميه شيطانا أحيانا ... و لسكنه رغما عنه كل الأرواح الشريرة ... كل لعنات الناس .
و لنسكنه الزنزانات الموحشة , لنعالجه بالحديد بين قدميه و يديه و حول عنقه ... لنجره في شوارع المدن المضلمة بالسياط و سياط البرد و لسعات الرطوبة و جفاف ألسنة النادين بإحراق ساحر أو مشعود لا يملك من تعاويذه غير هلوساته و أوهامه .وحيث أحلى عذاب ممكن ... منفى إلى حيث لا أحد .
ثم نلومه بم هو يحدث نفسه ؟بم هو يتسامر و يضحك بضله الرث كثيابه البالية ... ثم ندعي أننا نداوبه فنلفه في الفوط ... الفوط المبللة , أو نغرقه في أحواض المياه ... لنعيده إلى حيث البدء ... إلى رحمة رحم الأم ... او إلى رحمة الموت ... رحم الأم الكبرى .
و من زمن الحضارة الاسلامية في أحضان بيمارستاناتها – أذكر بيمارستان النوري خاصة – لم يذق الفصامي طعم الراحة حتى ظهور الرومنسية ...حتى ظهور بؤساء هيجو , ليتسامى الفنان الفرنسي حيريكو {القرن 19} بحسه و رأفته في رسم بورتريهات المجانين ليخفى فان جوج ما تبقى من أذنه وراء شاش أبيض عله يضمض آخر جراح الفصامي لينطلق عصر جديد لظهور المستشفيات التي تقبله نزيلا عندها .
و .!!!
و في العلاج بالكهرباء (1930) إلى الجراحة النفسية (و الدوف فيمان) إلى العلاج الكيميائي (1942) إلى العلاج بالعمل إلى مراكز الحياة التدعيمية و من وصمة العار المتلصقة به بأنه لعنة السماء و أنه سبب الذنب و أنه تدهور لا يقبل في التطويرية الداروينية .. ينتقل الفكر الانساني في القرن العشرين إلى إدراك أنه مجرد كبش فداء و ضحية لمجتمع فاسد و أسرة غير متوازنة .. و أنه أي الفصام لا يعدو كونه موض اجتماعي على الأقل من حيث منشئه (سيرالا) بأعراض نفسية .
لتتشكل الجمعيات المحلية و الدولية ضد وهم الفصامي ( لترفع كلمة – مهبول- من قاموس اللغة دالا و مدلولا )
مرض كنا نحن السبب فيه إلى جانب الكثير من العوامل المسببة منها الوراثي و التربوي و الكيموبيولوجي كذلك الشرياني و حتى من قال الفيروسي أيضا ... تعددت الأسباب فتعددت أساليب العلاج.
أبدا لا وجود له ذلك المجنون الممتع الفهلوي... فكل جنون هو آلام متعددة . متنوعة . متجمعة . متراصة في ضمن واحدة لكنها للأسف عنوان '' الجرح العميق البالغ '' .
و كما أن الفن و العلم هما المهربان اللذان اخترعهما الانسان ( أينشتين ) فإن الفصام رحمة إلهية للهروب من وضعية كارثية أليمة إلى استبصار ما أقل ألما... إنها وضعية مريحة طبعا ليست لنا و لكن لذلك الذي كان ينام و لا ينام و على السرير سرير من شوك إخفاقاته المتكررة في الحياة, ليتلقى ضربات الضغوط دزن أن يملك حلا للخلاص .
و !!!
و من هنري ميشو إلى روبار شومان و من ارسام إلى الموسيقار تستمر محاولات الفصامي الذي يحاول البحث عن حل للتخلص من المرض و الجسد معا...
و في أحد الأيام تصارعت الأحاسيس بين موسيقى سمفونية بديعة عنوانها الربيع و خنجر خيانة زوجية ... لتنتصر الأخيرة جسدا مرميا في نهر الراين ... ليفشل تارة أخرى حتى في محاولاته هاته لينقذه بعض الصيادين... لينقلوه من موت الآجل إلى موت قبل موت الآجل .
و محاولات و محاولات متكررة و كم كانت كثيرة .
لتنجح كثيرا أيضا و لكن هذه المرة... مع شاعر ترك بهجته جانبا بعد موت أمه ( الأم و الشعب و الذاكرة ) فاجعة قتلت الثلاثة في شخص واحدفعاش بول سلون بال حياة ليترك آخر كلماته المعبرة '' أحيانايذهب العبقري في الظلام ليذوق طعم قلبه المر '' .
حياة ثانية قد صنعها الامل ... و عبقرية جديدة تولدت .. لذهن وقاد.. يعرف يداعب الأرقام و معادلات الجبر بين الرياضيات و علم الاقتصاد... لتتوجه البطولة بجائزة نوبل لرجل يستحق كل الاعجاب لأنه استطاع أن يتغلب على المرض ...
جون ناش
لتتوجه هوليود أيضا بفيلم رائع لعقل مبدع بعنوان
تلك هي أيضا رسائل الفصامي
تلك عي أيضا حكمته '' خذ الحكمة من أفواه المجانين '' لا تنافسوه في حكمته .. لأنكم لن تستطيعوا معه صبرا .. و كيف ستصبرون و حكمته تكمن في كونه الانسان الوحيد الذي أحس بأعلى درجة العذاب النفسي .. و لو أحس بها غيره لكان فصاميا آخر .
حكيم و طيب أيضا
لا تقلدوه ... و إن كان من أحكم الناس .. فلكونه فكر في الطبيعة البشرية أكثر مما نتصور
و هو حكيم و لو لم يعرف كيف يتحدث عن حكمته و لكنها تبقى حكمة متطرفة و لو أصابت .
هو حكيم ... ولكنه لا يحتاج إلى تصفيق و لا إلى تدوين لما يقول ... حاجته الوحيدة .. يد حانية تشبه كثيرا يد الأم الحنون
يد الأم الحنون
يد الأم الحنون
BRAHIM BOUZENAD
|