مؤشرات التغييرات المتوقعة في مؤتمر حزب البعث العام مخيبة للآمال .. واعادة جوازات السفر للمعارضين تحولت الي أفخاخ

باريس ـ القدس العربي من صبحي حديدي:




ليس من اليسير علي مراقبي الشأن السوري أن يتحلوا بروح الرصانة وحدها في تحليل وقائع البلد اليومية المحتدمة، إذ لا مناص من استخدام مصطلحات وتعابير قد لا تندرج في قاموس التحليل السياسي الرصين، ولكنها في الواقع هي التي تعبّر خير تعبير عن منطوق الحدث. خذوا، علي سبيل المثال الأول، هذه الواقعة التي جرت قبل أيام معدودات: كانت سيارة سجن تابعة للشرطة العسكرية تقترب من مشارف دمشق قادمة من اللاذقية وتحمل سجيناً يتوجب عرضه علي المحكمة، حين اعترضت طريقها ثلاث سيارات مرسيدس (من النوع الذي يعرف في سورية باسم الشبح )، نزل منها أشخاص مسلحون أطلقوا سراح السجين واصطحبوه معهم. تتمة الواقعة أن قائد المجموعة هو أحد ابناء عائلة الأسد وقريب مباشر للرئيس السوري، وسبق له أن تزعم عصابة قامت قبل أسابيع قليلة بالسطو علي شركة الهرم للحوالات في قلب دمشق وفي رابعة النهار. وقد تمّ توقيفه حينها، وليس من المعروف كيف ظهر ثانية حراً طليقاً وقاد عملية تحرير أحد عناصر عصابته.

هل يكفي استخدام تعبير المافيات العائلية كمصطلح سياسي لتوصيف هذه الواقــــعة، أم أن علي المراقب أن يلجأ أيضاً إلي أفلام الكاوبوي والعصابات والـ أكشن إجمالاً، كما فعل الكثيرون بالفعل، بحثاً عن مصطلح أكثر صلاحية؟ أو، في المثال الثاني التالي، كيف يمكن أن نتفادي روح الدراما إجمالاً والتراجيديا الشكسبيرية خصوصاً؟ في اجتماع لمجلس الشعب قبل أيام، طالب نوّاب محافظة حمص بتشكيل لجنة تحقيق مع المحافظ إياد غزال، الذي هدد أحدهم برفع حصانته والتنكيل به لأنه اجتمع مع بعض ناخبيه في أحد الأحياء الشعبية وحرّض ضدّ المحافظ. وحين رفض رئيس مجلس الوزراء النظر في الطلب، نهض النائب عن حمص زهير غنوم وهتف بأعلي صوته: وا بشاراه! وا بشاراه!

غير أنّ المصطلح الجيمس ـ بوندي ليس غائباً بدوره، وهو يتمثل في عمليات الاختفاء الغامضة لعدد من الناشطين في المعارضة ومنظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني والشخصيات العامة. آخر هؤلاء كان علي العبد الله، الناشط في لجان إحياء المجتمع المدني، والذي كان قد تجاسر قبل أيام، خلال ندوة حوارية أقامها منتدي جمال الأتاسي وشارك فيها 14 فريقاً من القوي السياسية والناشطة بما في ذلك حزب البعث الحاكم، فقرأ رسالة إلي الإجتماع ارسلها بالبريد الإلكتروني المحامي علي صدر الدين البيانوني المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين. أسرة العبد الله أعلنت أنّ مسلحين مجهولين داهموا بيته في بلدة قطنا جنوب دمشق قرابة منتصف ليل 15 الجاري، واقتادوه إلي جهة مجهولة، تبيّن فيما بعد أنها الأمن السياسي.

قبله اختفي الشيخ محمد معشوق الخزنوي، الشخصية الكردية المعروفة علي نطاق سورية والخارج والغرب عموماً، وذلك بعد أن تلقي اتصالاً علي هاتفه الجوّال، فخرج من مكتبه في مركز الدراسات الاسلامية في دمشق، ولم يعد! وقبله كان المهندس نزار رستناوي، عضو الجمعيّة العامّة للمنظّمة العربيّة لحقوق الإنسان، قد اختُطف في قلب مدينة حماه السورية، ثم اختفي هو وسيارته طيلة ثلاثة أسابيع قبل ان يفلـــح أهله بمعرفة أنه معتقل لدي أجهزة الأمن. وهذا العمليات، التي تكاد تنقلب إلي مسلسل، تشير علي الأرجح إلي تغيير دراماتيكي في أنماط الإعتقال التي سبق أن استخدمتها أجهزة الامن في الماضي، وثمة مَن يتهكم بالقول إنّ تقنية الاختطاف هذه تمثّل ردة عن آخر التقنيات المعتمدة، أي الاتصال الهاتفي والدعوة الي شرب فنجان قهوة!

غير أن الوقائع تؤشر، في جانب آخر، إلي تزايد احتمالات اندلاع حروب التصفات بين مراكز القوي، ليس عن طريق تصارع الرؤوس مباشرة، بل عن طريق تصفية أو حرق رجال الصف الثاني او الثالث. فبعد أن تداولت وسائل الإعلام السورية الرسمية ذاتها أخبار إفلاس مجموعة الديري للخيوط، ومزاعم تورط عدد من كبار رجال الدولة في استثماراتها (قيل مثلاً إن رئيس الوزراء السابق محمد مصطفي ميرو خسر مليار ليرة سورية (20 مليون دولار أمريكي جراء إفلاس الشركة)، ها هو فايز الصايغ المدير العام لمؤسسة الوحدة للطباعة والنشر والتوزيع (ناشرة صحيفة الثورة وعدد من صحف المحافظات الرسمية) والمدير العام السابق لوكالة الانباء السورية ـ سانا، يدخل معمعة شبيهة. ويتردد في دمشق أن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش طلبت من الحكومة إلقاء الحجز الاحتياطي علي الأموال المنقولة وغير المنقولة للصايغ وزوجته وشخص آخر كان يعمل تحت إمرته في سانا، إذا لم يدفعوا بالتضامن مبلغا يقارب 15 مليون ليرة سورية بسبب ما أسماه التقرير مسؤوليتهم عن إهدار هذا المبلغ من المال العام .

كذلك يري البعض في هذه الوقائع مظهراً جديداً من مظاهر متعددة تؤكد أن القرار المركزي السوري، السياسي والأمني والإقتصادي، لم يعد واحداً أو موحداً، وهو آخذ في الانهيار التدريجي والتبعثر بين عدد من الأجهزة والقوي والمراكز القابضة علي هذا او ذاك من مستويات القرار. ويضرب هؤلاء مثلاً سياسياً في الـ فياسكو الراهن علي صعيد التحضيرات لمؤتمر البعث القادم، حيث تبدو تركيبة المؤتمر أبعد ما تكون عن القفزة النوعية التي وعد بها الرئيس السوري بشار الأسد. ويضربون مثلاً أمنياً في أعمال الخطف، التي من الواضح انها تتم تنفيذاً لسياسات متضاربة أو اجندات متصارعة. وأما المثال السياسي ـ الأمني فهو فضيحة تعميم وزارة الخارجية السورية القاضي بمنح جوازات سفر للسوريين في الخارج، وكيف انقلب الإجراء (الذي أُريد منه تجميل صورة النظام) إلي ما يسميه المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية الأفخاخ التي تنصبها السلطة للسوريين كي يعودوا، ويكون مصير بعضهم الموت تحت التعذيب (أحمد المسالمة العائد من السعودية) أو الاعتقال، او المنع من السفر ثانية.


"القدس العربي"