وهذا عن محاضرة الدكتور نصر حامد ابوزيد في بيروت
صالح القرآن مع جميع الفنون داعياً الاخوان المسلمين إلي إعادة قراءة سيد قطب: نصر حامد أبو زيد يحاضر في مسرح دوّار الشمس عن الفن وخطاب التحريم
ناظم السيد
08/05/2008
بيروت ـ القدس العربي للمرة الثالثة خلال السنتين الأخيرتين يشكل حضور نصر حامد أبو زيد في بيروت حدثاً ثقافياً. المرتان الأوليان كانتا بدعوة من مسرح المدينة والجامعة الأميركية حيث ألقي محاضرتي نقد الفكر الإسلامي و التأويل الإنساني في القرآن هل هو ممكن؟ . هذه السنة حلَّ أبو زيد علي العاصمة اللبنانية بدعوة من مركز دوّار الشمس الثقافي ضمن مهرجان الربيع الذي افتتحت فاعلياته مسرحية خمسون لجليلة بكار والفاضل الجعايبي، ويشمل عروضاً موسيقية وغنائية وراقصة وأدبية من لبنان والدول العربية والعالم. برنامج مشذب، نظيف، في خياراته المنتقاة بدقة من غير مبالغة أو استعراض كما يحدث في برامج أنشطة ثقافية عدة باتت تشتهر بها بيروت، وذلك بفضل منظميه وعلي رأسهم المسرحيان روجيه عسّاف وحنان الحاج علي.
اختار صاحب فلسفة التأويل و مفهوم النص لمحاضرته هذه عنوان الفن وخطاب التحريم . محاضرة لم يخرج بها المفكر الديني الذي تمَّ تكفيره عن منهجه في قراءة القرآن والأحاديث. منهج يقوم في جزء منه علي التأويل رافضاً القراءة الحرفية للنص كما هي حال السلفيات الإسلامية أو المؤسسات الدينية. وهي قراءة تخرج علي تأبيد المعني بعد تأبيد اللفظ اللذين ثبتهما الشافعي قبل أن يضع درجات للتشريع يبدأ بالقرآن ثم السنة ثم الإجماع وانتهاء بالقياس. مع ذلك، فإن أبو زيد الذي يعيد قراءة التراث ناقداً وناقضاً، يستمد مشروعية عمله الفكري من التراث نفسه، بتبنيه فكر المعتزلة القائم علي العقل مقابل النقل ثم بالسير علي خطي التنويريين أمثال الشيخ محمد عبده والأزهري علي عبد الرازق وأمين الخولي وطه حسين وصولاً إلي سيد القمني وحسن حنفي وإن كان أكثر جذرية من هذين الأخيرين. إذن، بدا أبو زيد في محاضرته هذه منسجماً مع منهجه الذي يتناول الفكر الديني من داخل النص المقدّس، بعكس المحاولات السابقة عليه منذ النصف الثاني من القرن العشرين والتي انطلقت من فكر ماركسي أو من محاولة المواءمة ما بين الإسلام والاشتراكية أو بين الإسلام والقومية. وفي حين تمَّ نقد هذه المحاولات المؤدلجة فإن قليلين أمثال أبو زيد صمدوا بسبب عملهم من داخل الإسلام أو من خلال الأكاديميا ولا سيما مفكرو المغرب العربي أمثال محمد عابد الجابري وفاطمة المرنيسي وعبد الله العروي ومحمد أركون. ويقوم منهج أبو زيد علي إعادة تصنيف الآيات القرآنية إلي أنواع، مميزاً ما بين السور المكية والسور المدنية (كما فعل المستشرق الألماني نولدكه في كتابه الموسوم تاريخ القرآن ). هكذا يفصل المفكر المنفي ما بين سور لها سياق تاريخي وسور لا تفيد التشريع بل الوصف وسور تهدف إلي اتخاذ العبر كما في قصص الأولين وسور تفيد التخصيص وأخري تفيد العموم. وهذا المنهج ينطبق علي الأحاديث التي تبدو ضعيفة أو غير مثبتة أحياناً.
الذي هرب من الرهبنة
قدّم الكاتب والصحافي نصري الصايغ المفكر نصر حامد أبو زيد بمقدمة اختلط فيها الشخصي بالعام، والكلام عن الضيف بالكلام عن المجتمع. روي الصايغ خبرية دخوله سلك الكهنوت في سبيل أن يصبح راهباً (تحت اسم أرتاميوس)، وكيف أنه ذات مرة أصيب بالإغماء حين سمع رجل دين يتحدث عن عذاب النار وشوي الجلد وخوزقة الأجسام وأبدية العذاب. إلي أن همس له رجل دين شهير بأن النار غير موجودة لأن النار هي ضمير الإنسان. وسرد الصحافي الذي منعت كتب له في عدد من الدول العربية، مجموعة محرّمات إلي أن بات يعتقد أنه ابن حرام، معتبراً ـ بناء عليه ـ أننا من المحيط إلي الخليج أولاد حرام قبل أن يلتفت إلي أبو زيد سائلاً: هل شتمتُ أحداً؟ ليرفع المحاضر رأسه وحاجبيه بالنفي.
تحدث الصايغ أيضاً عن التحريم في المسيحية والإسلام، عن تحريم الموسيقي والأيقونات، عن تحريم النحت وتحليل الحفر، مشيراً إلي زيادة التحريمات من خلال سؤال مواطن أحد رجال الدين: هل يجوز شراء سيارة مستعملة كان صاحبها يشرب فيها الخمر ويستمع إلي الموسيقي؟ وختم الصايغ مقدمته باستشهاد من كتاب تقرير إلي غريكو للروائي اليوناني كانتزاكس الذي كفّرته الكنيسة ورفضت الصلاة عليه، عن متصوفة لا يتكلمون بل يرقصون طوال الوقت. وحين سألهم أحد رجال الدين: كيف تصلون؟ أجاب كبيرهم: الملائكة لا يتكلمون بل يصلون رقصاً. الرقص باب من أبواب الجنة.
بدافع الحماية
بدأ نصر حامد أبو زيد، المتخصص باللغة العربية والدراسات الإسلامية، محاضرته التي امتازت بالرصانة البحثية وخفة الدم معاً، بالحديث عن رغبته القديمة في أن يكون شاعراً، ولما لم يستطع إلي ذلك سبيلاً، اختار أن يكون مفكراً لأن التفكير أسهل من الشعر لكنه ألعن منه. الفن قمة التحرر . واحدة من الجمل الأولي التي استهلت المحاضرة. إنه تحرر من أسر اللغة القطعية، تحويل اللغة إلي موسيقي وإيقاع. الرقص تحرير الجسد من قوانين الجاذبية ومن ثقل الجسد نفسه. الرسم إعادة الألوان إلي أفق غير الذي تراه العين. الموسيقي تنظيم فوضي الأصوات. الفن حرية لهذا هو حرام . كانت هذه الجمل الشفوية الأولي التي شكلت مدخلاً لما سيقوله المفكر لاحقاً عبر محاضرة مكتوبة مع استطرادات هنا وهناك، معتبراً أن التحريم يتجلي في أكثر من أفق، ليس في الدين فقط، بل في الخطاب السياسي والاجتماعي والأسري، وهو يتحرك بدافع الحماية.
تصحيح سيد قطب
في البداية انطلق أبو زيد من مقدمتين ونتيجة. في المقدمة الأولي أشار إلي صعوبة الإجابة تاريخياً علي السؤال حول خروج الدين من الفن أم خروج الفن من الدين. السؤال نفسه ـ حتي بلا جواب يقيني ـ يضع الدين أمام مأزق وجودي. إذا كان الفن خرج من الدين تكون المشكلة محلولة، فالعلاقة بين المقدس والفن علاقة قديمة. أما إذا كان الدين خرج من الفن فهذا يطيح بالجانب الميتافيزيقي للدين. يطيح بالوحي. في كل حال، تجاوز المحاضر الجواب ليبدأ بالمقدمة الأولي المستمدة من كتاب التصوير الفني في القرآن لسيد قطب. لقد صدر هذا الكتاب (دار المعارف 1945) في الفترة التي تعد بداية الازدهار الفكري والأدبي في العالم العربي، خصوصاً في مصر، في فترة نشر نجيب محفوظ روايته أولاد حارتنا التي هي قراءة دينية بطريقة أدبية علي حد رأي المحاضرة. لم يكن استشهاد المحاضر بسيد قطب (دعا الاخوان المسلمين إلي إعادة قراءته) عبثاً. لقد اختار شخصاً يُعدُّ مؤسساً في خطاب التحريم والتكفير كما هو شائع من خلال طروحاته حول الحاكمية الإلهية والجاهلية الجديدة والولاء والبراء وتكفير النظام السياسي والمجتمع وسوي ذلك. هذا ما أعرفه شخصياً عن سيد قطب من خلال كتابه معالم في الطريق وإن كنت أعرف الرقة الخفية فيه من خلال سيرته طفل من القرية أو بداياته كناقد قبل ان يهاجر إلي الولايات المتحدة الأميركية ويعود منها متشدداً. لكنني فوجئت باستشهاد أبو زيد بهذا الكتاب كما في المقطع الآتي: التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسِّنة المتخيلة عن المعني الذهني والحالة النفسية وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور وعن النماذج الإنسانية والطبيعية. ثم يرتقي بالصورة التي رسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة... . هذا المقطع مضاف إليه مقاطع أخري تكشف علاقة القرآن بالفن كما يراها سيد قطب الذي ذكر مفردات في نص من نحو سبعة أسطر مثل لوحة ، التخييل ، العرض ، المسرح وغيرها، مستنتجاً- أي قطب- أن القرآن تصوير باللون وتصوير بالحركة وتصوير بالتخييل .
المقدمة الثانية كانت هي الأخري مستمدة من كتابات سيد قطب. تحدث أبو زيد عن ضجر قطب من الطريقة التي يتم بها تناول القرآن، متذكراً علاقته بالقرآن حين كان طفلاً في القرية، القرآن اللذيذ الجميل قبل أن يكتشف: لقد طُمست كل معالم الجمال فيه وخلا من اللذة والتشويق . لهذا ينتهي سيد قطب إلي القول: وعدت إلي القرآن أقرؤه في المصحف لا في كتب التفسير .
من هاتين المقدمتين اللتين صرّح فيهما أبو زيد بالاحترام الذي كان سيد قطب يكنّه لعبد القاهر الجرجاني (المؤسس في علم البلاغة)، ينتهي إلي نتيجة مفادها أننا يجب أن نبحث عن منبع السحر في القرآن قبل التشريع المحكم وقبل النبوءة الغيبية وقبل العلوم الكونية علي حد تعبير الشيخ أمين الخولي.
فنون القرآن
بعد هذا التقديم والاستنتاج، انتقل أبو زيد إلي عمق محاضرته. لنقل إنه انتقل إلي الجانب التطبيقي منها، أي ذهب من هذه العموميات إلي إجراء مطابقة للفكرة مع النص القرآني أو النبوي. وقد قسّم محاضرته إلي أقسام منها الدين والفنون ، الإسلام والفنون ، الفنون البصرية ، الفن والأخلاق و الفن في حضارة المسلمين . وقد عمل علي تفريع هذه العناوين أو تخصيص الحديث عن كل فن علي حدة.
في موضوع الشعر، اعتبر المحاضر أن الصلوات والأدعية والابتهالات هي أشكال في التعبير الفني يصاحبها الإيقاع. تلاوة القرآن ذات طابع فني في الإيقاع واللفظ . أما التصوير (الرسم) فهو موجود في القرآن من خلال التشبيه كما في الآية كل شيء هالك إلا وجهه ، رغم وجود ما يُسمّي التنزيل العالي كما في الآية لا تدركه الأبصار . لهذا كان المتصوفة يقولون إعبد الله كأنك تراه، فإن لم تره فهو يراك وأيضاً الله في قبلة المصلي . أما التماثيل فليس هناك تحريم قطعي لها في القرآن. ربما التحريم جاء بسبب الثقافة البدوية ـ بحسب المحاضر دائماً ـ التي لم تكن علي علاقة وطيدة بالتماثيل بسبب حياة الترحال. مع ذلك فإن المساجد ذات طابع فني . وإذا كان هذا الفن (النحت والزخرفة) حراماً ينبغي أن نهدم المساجد . الشعر يثير إشكالية أخري في القرآن. ثمة هجوم شنّه القرآن علي الشعراء كما في الآية الشعراء يتبعهم الغاوون رغم أن الآيات اللاحقة تستثني المؤمنين منهم. أبو زيد اعتبر أن طبيعة هذه الآيات سجالية وليست تحريمية، وذلك بسبب استخدام قريش الشعر ضد النبي، الذي بدوره استخدم الشعر ضد المشركين (حسان بن ثابت كان شاعر الرسول)، إلي جانب اتهام المشركين محمد بإتيان الشعر واتهام القرآن بأنه شكل أدبي. ثم هناك مفهوم الشر الموجود في الشعر، وهو مفهوم قديم سبق به العرب شعراء اللعنة الفرنسيين كما في القول الشعر نكد بابه الشر . ولهذا حين سمع الجاحظ أحدهم ينشد بيتاً شعرياً عن الزهد هو ليس من مات فاستراح بميت/ إنما الميت ميتُ الأحياءِ ، قال: هذا ليس بشعر، وصاحبه ليس بشاعر . وعليه، فإن الظاهرة القرآنية في استقبالها الأول قامت علي الشعر والسجع والكهانة . هذا ما ذهب إليه الشيخ أمين الخولي من قبل: عقد المسلم الأول مع الإسلام هو عقد أدبي . وهذا ما ذهب إليه قديماً عبد القادر الجرجاني: إذا سقط الشعر سقط إعجاز القرآن . ومن قبل الجرجاني كان ابن عباس يقول: إذا أعجم عليكم في القرآن إرجعوا إلي الشعر .
هكذا يستنتج أبو زيد من خلال حديث سيد قطب عن التصوير في القرآن، ومن خلال إجازة الشيخ محمد عبده التماثيل لأن أحداً لم يعد يعبد التماثيل اليوم (أسباب تحريمها في سياقها التاريخي)، ومن خلال آراء ابن عباس في الشعر، يستنتج أن القرآن لا يحرّم الفنون. حتي الموسيقي أو الغناء ليسا محرمين، لأن الآية التي تتحدث عن لغو الحديث لا تشير إلي الغناء بحسبه. وقد أشار في ذلك إلي مطربين كبار درسوا الغناء من خلال تجويد القرآن كعبده الحامولي وأم كلثوم وغيرهما، وكذلك كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بما يحويه من أخبار عن الغناء والمغنين.
حيوية المشركين تمثيلاً
التحريم الآخر الذي أشار إليه أبو زيد من غير تفصيل، إذ اقتصرت محاضرته علي الحديث عن علاقة الخطاب الديني التحريمي بالفن، ربما له مصادر أخري منها معاداة العرب للثقافة البصرية. في كل حال، ربما كان حرياً بالمفكر الذي عمل علي تطوير الفكر الديني عبر علوم أخري ليست دينية، التوسع في جذور التحريم غير الدينية، وإن كان قفز عن هذه الفكرة بسرد حادثة طريفة أخبره بها ممثلون سوريون عن ممثلين لعبا دورين تاريخيين، أحدهما مؤمن والآخر مشرك. أثناء زيارة هذين الممثلين إلي السعودية عانق رجال الأمن في المطار الممثل الذي لعب دور المؤمن، في حين انهالوا بالشتائم علي الآخر واصفين إياه بالكافر والزنديق. لكن ما غفر للممثل الكافر اتصال جاء من الأمير الذي كان وراء الدعوة. إنها المطابقة ما بين الممثل والممثول. لهذا سأل المحاضر مستغرباً عن عدم الجواز بتجسيد أدوار الصحابة، بإظهار وجوههم، في حين تظهر وجوه المشركين أمثال أبي لهب، قبل أن يختم بنكتة: لماذا يبدو المشركون في الأعمال السينمائية والتلفزيونية أكثر حيوية من المؤمنين؟
من هذا كله، ذهب نصر حامد أبو زيد إلي نقطة أعتقد أنها أساسية في محاضرته. لقد ذكر حادثة إنشاد حسان بن ثابت الشعر في المسجد. في القصيدة التي ألقاها ثمة بيت شعري فاحش (رفض ذكره لأنه يخجل من قوله بحسب تعبيره. وهذه مفارقة أخري حين يخجل أبو زيد من ذكر بيت فاحش في مسرح بينما يقوله حسان بن ثابت في مسجد).
حين سمع أحد الحاضرين البيت اعترض فقال له حسان: الفحش عند النساء، إنما الفحش في الفعل لا في القول . وهذا الفصل بين القول والفعل أساسي في معني المعصية إذا تمَّ القياس عليه. والحال، فإن شعر الخمرة وشعر الغزل، تحولت مفرداتهما عند الصوفيين إلي مفاهيم روحية.
محاضرة قيمة تلك التي ألقاها صاحب دوائر الخوف و المرأة في خطاب الأزمة و التفكير في زمن التكفير في مسرح دوّار الشمس لأنها تفتح ثغرة في خطاب التحريم والتكفير الذي بات أشبه بالموضة، هذا الخطاب الذي جعل الطلب علي الفتاوي يزداد بسبب تجريف العقل علي حد تعبير المؤلف الذي بدأ مشروعه النقدي بكتاب الاتجاه العقلي في التفسير .
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=to...mp;storytitlec=