إلى بهية ونورا وأبنائهما
بقلم سمير عطاالله
لم أكتب مرة في ذكرى 13 نيسان. لا أعتقد ان أحدا أراد ان يتذكرها. حتى الروائيون أبعدوا عن عيونهم ذلك المشهد الطويل من الكارثة المتوالدة، من الموت والموت المضاد، من الهمجية والهمجية المقابلة، من الثأر والثأر الاكبر، من السبوت السود والآحاد الدموية وأربعاءات الخطف وأيام وسنوات العذاب. ولكن لأنني مسافر ولن أستطيع المشاركة في المسيرة اليوم، فسوف أساهم مع بهية الحريري ونورا جنبلاط، في هذه السطور الاسبوعية.
ولكن أليست نورا جنبلاط هي التي تدير الشق الموسيقي في مهرجان التذكار؟ بلى، هي.
أليست سورية المولد والمنشأ؟ نعم. كذلك.
أليست زوجة وليد جنبلاط، الذي قادحرب الجبل ثم حرب بيروت؟ تماما.
ولكن ايضا، يا عزيزي، هذا هو لبنان. صورته الحقيقية هي 13 نيسان 2005 لا 1975: أن تكون سيدة سورية جزءا من روابطه العائلية، وان تكون المختارة وسيطا لا فريقا، وان تكون الجماهير اللبنانية خارجة الى الحياة وارادة الحياة وقفزات المستقبل، وليس الى الموت.
حاول اللبناني ان يتملص من الحرب. مرة يرفض ان يسميها "الحرب الاهلية"، ومرة يسميها "حرب السنتين" تمييزا للعامين الأولين عن تمديد سنوات اليأس. ومرة يقول انها "حرب من أجل الآخرين". ولما انتهت أطبق خلفها الباب، بسرعة أطبق الباب. أكثر من 155 الف قتيل ولا نصب واحدا للشهداء". لا تريد الناس للذكرى ان تدوم في النفوس. لا يريد أحد ان يسجل على انها كانت حقا حربا بين اللبنانيين. لقد كانت حربا غامضة ظل فيها القاتل مجهولا والخاطف بلا عنوان، والممول والمحرض بلا تسميات صريحة.
ما هي الحقيقة اذن؟ الحقيقة الكبرى، هي ان نورا جنبلاط، تقود التظاهرة الموسيقية ضد ذكرى 13 نيسان. ضد المجهول الذي اغتال معروف سعد، والمجهول الذي أرسل "البوسطة" الى عين الرمانة ومن ثم تركها ذكرى مرفوضة لا يريدها أحد، مرمية في خراج النبطية الى اليوم.
صحيفة "البيان" الاماراتية ذكرت في وصف لتظاهرة الاحد الماضي، ان شابا ضريرا كان يسير برفقة شقيقه وهو يرفع "يافطة" مكتوبة بخط اليد تقول: دعوا شعبي يعيش". لا يعرف الشاب البصير بالتأكيد ان هذا الشعار أطلقه غسان تويني عندما كان سفيرا لدى الامم المتحدة وأطلقه في اولى جلسات مجلس الامن في آذار 1978، عندما جرى اقتراح القرار الذي صار رقمه 425 باخراج الاسرائيليين من لبنان الذي اجتاحوه.
كان يريد ان يقول: هذا القتال، ليس نحن. ثم عاد فوضع كتابه عام 1984 (بالفرنسية وفي باريس ولم يترجم للعربية بعد، رغم مرور السنوات) بعنوان "حرب من أجل الآخرين". من هم "الآخرون"؟ فلنقرأ هذا المقطع من مقال في "الاندبندنت" صباح اول من امس بقلم روبرت فيسك، أشهر وأهم مراسل أجنبي في بيروت منذ بداية الثمانينات: "ومثل كل حرب أخرى تحولت الى شيء من الجنون. الاسرائيليون غزوا مرتين. المارينز جاؤوا ونُسفوا انتحاريا في قاعدة المطار. هكذا حدث للفرنسيين. الامم المتحدة وصلت العام 1978 ومعها المزيد من الجنود الفرنسيين، ومعها ايضا الهولنديون والنرويجيون والفيجيون والنيباليون والغانيون والايرلنديون والفنلنديون. لقد بدا ان الجميع انتهوا على شواطىء لبنان. والفلسطينيون انجروا واندفعوا شيئا فشيئا الى الصراع وتعرضوا لمجزرة بعد الاخرى على أيدي أعدائهم الذين تبين انهم الجميع".
لكن ايضا ماذا عن السوفيات؟ وماذا عن الاوروبيين الشرقيين؟ وماذا عن الليبيين والعراقيين والمليارات التي سفحت هنا، وماذا عن "المتطوعين" الليبيين والسودانيين والصوماليين وسواهم؟ يغضب كثيرون من اخواننا العرب عندما يقول بعضنا انها كانت "حرب الآخرين". ويأخذ آخرون على الرئيس الياس الهراوي انه يؤكد ذلك باستمرار. وينسون دائما ان الاموال والسلاح والمواقف والصراعات، كانت كلها اكبر من لبنان بكثير. وقد خاض بعض اللبنانيين الحرب بالتأكيد، وكان بعضهم أكثر شراسة وهمجية من الجميع، ولكن الاكثرية الساحقة من الناس إما كانت في الملاجىء او في الهرب ورفضت ان تحمل الرشاشات او الخناجر، والتقت الجاليات اللبنانية في الخارج وتعاونت وتساعدت وتصاهرت واقامت المدارس المشتركة في كل مكان، تاركة لتجار الجثث وسماسرة الموت ان يثروا وينعموا بين الارواح، والهياكل العظمية وبكاء الامهات.
لا نريد ان نتذكر. نحن، كنا ولا نزال وسنبقى، ضد امراء ولوردات الحرب. ضدهم جميعا. مهما كانت مواقعهم اومواقفهم او مبرراتهم او اقتناعاتهم او اسبابهم. ولن نغيّر أو نتغيّر. سواء كانوا في الحكم او في المعارضة او في الجنة. نحن، الناس، العاديون، المؤمنون، الطيبون، البشريون، نرفض ان يقتل بشري لأي سبب، او يخطف كائن بشري لأي سبب، او يحاكم مخلوق خارج بيت العدل والقانون، حتى لو ضعف. نحن لم نرفض الحرب الآن، بل رفضناها في الماضي ايضا. وهاجرنا كي لا نكون شهودا عليها. ولكي لا نرغم على التصفيق لأحد أو الهتاف لمتقدم في المتحاربين او لمُنظرِّ لفكرة الموت.
13 نيسان لم يعننا ولا يعنينا. نتذكره اليوم فقط إكراماً للرجل الأول في سلام لبنان. الرجل الذي سخّف مقتله مشاعر الفرقة وحقّر دعاة الاختلاف وألقم ابواق الدس والخراب والتدمير. ونمشي في المسيرة إكراماً لبهية الحريري ونورا جنبلاط. وإكراماً لمئات الالاف من الشبان، والشابات الذين لم يعرفوا الحرب ولم يخضعوا لصانعيها ولم يشاركوا في دمائها. اولئك هم الذين ننتظر ذات يوم وصولهم الى الحكم والمسؤولية. هم وضمائرهم وايديهم الناصعة غير الملوثة بشيء. أما هذه الدمى التي تتحرك أمامنا الآن متظللة العمل السياسي وزاعمة العمل الوطني ومدعيَّة الترفع عن سجلات الماضي السيىء، فهذه اصوات لا يمكن ان تخدعنا. لقد فرض علينا مرة ان صانعي الحرب والقتل هم صانعو السلام. ولسنا مخدوعين. ولا شيء يعنينا مما يحدث الآن. اننا ننتظر الانتخابات بعد 4 سنوات من اليوم حين يحل جيل الوطنية والنزاهة والورع محل الذين لم يقدموا لنا سوى الموت والعذاب او الوعد المستمر بهما.
http://www.annahar.com/Annahar/default.asp