ضيف
Unregistered
|
حفلة تعذيب (الفصل الثاني) / بقلم أحمد الكناني
الفصل الثاني
يومان متعاقبان على صوت المطر المتقطّع, الرومنسية الرطبة تحولت لعفونة تنخر طبقات رأسي القريبة للجلد, تصلَّب شرايين الرأس الحاضنة للجمجمة, تنهكها بألم كهربائي ينبض مع كل قطرة مطر تنفجر على الإسفلت و الجدران اللعينة. العفونة الخضراء تتحول لملاقط جراحية داخل الرأس المتهاوي ألما, عشرات منها تطبق على تلافيف دماغي و تعصرها, تنكمش على بعضها, تتجمد بألم صخري و تتحول لمادة أشبه بالصخور الخرساء الهشة, كما "الباجة" بالضبط *. العجز عن التفكير هو آخر محطات الألم, حاولت مرارا أن أعزوه للطعام, لشيء مادي- كما لقننا أستاذ الفيزياء البدين الاخرق بجامعة فلوريدا للملاحة الجوية- أو أي ألم جسدي. هراء, لا شيء من هذا أبدا, كنتُ أعرف عميقا أن الألم وليد الغضب الناقم, الشوق, الحرمان و ربما الرغبة لعناق امرأتي و البكاء على صدرها الوطن.
لا أكاد أبصر الباب و هو يُفتح جرّاء الألم المحيق بعينيّ, لكنما صوت صلصلة المزاليج الثلاثة أحدث زوبعة فوضى من الإبر برأسي. كان الداخل مناف, و بدى باسما و كأنه يزور صديق بمتجره بسوق النجف الكبير. لم أتركه يفتح فمه, كلّ كلمة سيقولها إنما ستكون مدفعية بهذا الرأس المحتقن سخطا. طلبت منه حبوب مهدئة للصداع, أو مهدئة من أي شيء و "بسرعة". تأملني للحظة بدى فيها أنه يعرف ما يفعله, وضع سبابته اليمنى تحت عيني و سحب الجلد قليلا ليرى حافتها المحمرّة بلون كامد. مضى عني دونما كلمة, و أغلق الباب بمزلاج واحد كي لا يفاقم الألم. عاد يحمل إبتسامة مهنية صغيرة؛ إبتسامة ضائعة.
-أنها من أقوى المسكنات المركزية.
=المركزية؟
-أي أنها تسكن الألم أينما كان عبر الأعصاب الناقلة له, و عادة ما تسبب نعاسا قويا. يستخدم كمضاد للإكتئاب أيضا.
=معلومات لا بأس بها..
-بل جيدة كفاية- و ابتسم بثقة المسيطر و أكمل- لأن الذي أمامك طبيب يا سيّد.
=مدهش..
-ماهو المدهش؟
قالها و هو يناولني الحبة الملفوفة بورقة بيضاء مسطّرة و كأس من الماء, كان من الفلين الرقيق المستعمل بالعيادات. أجبته بعد بلع الحبة و شرب الكأس كلّه, و كان له طعم ألذ بكثير من ما أعتدته هنا:
=المدهش أنك هنا بهذا المكان.
-لا شيء يستدعي الدهشة, أنني أمضي فترة التجنيد الإجباري برتبة تقديرية.. القدر وحده من قذفني بين هذه الجدران.
=و طبعا لا يحق لك أن ترفض.
هزّ كتفيه علامة الإستسلام و قد علَت وجهه إبتسامة ساخرة, في الوقت الذي أخذ الكأس الفارغ من يدي و كسّره بين أصابعه. تمتم و هو يتأمل الكأس بعيون شاردة عن وعيها: سيهشمونني هكذا إن رفضت. لحظات تمر على سُكر عينيه, لا حركة بالمكان سوى ضربات أمواج الأفكار الماورائية بجدران الرأس, رأسي و رأسه. تحدث أخيرا بهمس مثير للخوف بعد أن أغلق باب الزنزانة علينا:
-لقد سافر المساعد وليد لأمريكا برفقة امرأة من المخابرات.
أجبته بصوت لا يكاد يُسمع:
=جيد.. سأرتاح منه.
-لا أعتقد.. لقد سافر من أجلك, و معه تلك الحقيرة الشاذة جنسيا و المجرمة بحق كل ذكر بالعالم.. إلهام السالمي.
=ما هذا الكلام يا صاح؟ ... عيب..
-كفى أيها المغفل.. ستبقى رجلا شرقيا يرتجف خوفا عندما يتخيل للحظة أن المرأة ليست بالملاك الذي يفترضه.
=لكن..
-كن موضوعيا.. هذي المرأة تعتقد أن الجنس الأنثوي هو الأفضل بلا منازع, و تؤمن أن الذكور هم مخلوقات عنيفة متوحشة تستحق الموت أو النفي أو الإزدراء بأقل تقدير.. أنها شاذة بسبب عقد نفسية عانتها جرّاء والدها المتطرف شيوعيّا و المدمن على الخمرة. هربت من منزلها, أنضمت للبعثيين و حماها الرفاق.. هه.. و ماذا يعني؟ لعبوا بها قليلا, و مازالوا بين فينة و أخرى. أحتَملَت مقابل أن تأخذ مكانة جلادة هوايتها إطفاء أعقاب سجائرها بأجساد الرجال.. لا تندهش.. و لمَ الدهشة؟ أنها من الصنف الذي يفضله الرفاق.
=كفى.. كفى يا مُناف.. كيف عرفت كل هذا عنها؟ أنت تكذب..
أحتد صوته دون أن يفقد قسوة الهمس و رعبه:
-أنا أكذب يا مغفل؟ حسنا, أنتظر أياما و سترى كيف ستعاملك هذي المرأة و كيف سترش عليك بول أفكارها- و بصق بغضب و أكمل- لا بل قد تروي لك قصتها كلها بفخر.
=أنها ضحية.. التطرف بشيء كنقيضه بالضبط.
-هُراء ما تقوله عن كونها ضحية, رغم أنني أوافقك على فكرتك حول التطرف.. لو أعتبرنا كل مجرم و مجرمة ضحايا, لما وجدنا أي داعي للمحاكم بهذا العالم. هناك نقطة يستطيع أن ينقذ الإنسان فيها نفسه, أو أن يعدِم فيه الضمير ليبقى على ما أنتهى إليه.. أنه قراره بالنهاية.
لم أدري بمَ أجيبه, و هل عليّ أن أجيبه بشيء؟ أنه يذكرني بأحمد الخفاجي على نحو ما, و كان إكتشاف أفكاراً كهذه بالحياة عن النساء و المجتمع, يثير فيّ حشرجة قرف و غثيان باردين, كما لو شربت ليترا من الزيت البارد. صوت مُناف- المبحوح خوفا- يأتي مرة أخرى, متموجا بصبغة هدوء متأمل مع دخان سيجارته التي أشعل فتيلها بلا مقدمات:
-هل سمعت عن امرأة ماتت لأجل رجل؟ أو مرضت على الأقل؟ هل سمعت لقبا لإحداهن بالوفاء لمن تحب؟ "مجنونة قيس" أو "بثينة جميل"؟ هراء يا صاحبي هراء..
=هل آذتك امرأة بحياتك لتكون بهذي القسوة؟ مهما كان الماضي فلا يعني أن تقسو على النساء هكذا, أضف إلى أن مفهومك بالتعميم خاطيء.. هل تفهمني؟ خاااااااطيء.
-ربما, و لعل النساء خجولات بطبعهن دوما فيكتمن مشاعرهن أو يخفن أن يجاهرن بعواطفهن, لكني أتحدث عن امرأة اليوم, أو بالأحرى ذاك النوع الذي يعتقد أن الرجل عدوه اللدود... المرأة المتطرّفة فكريا لنوعها الجنسي...سمِها "المرأة الجنسَويّة".
=و رغم هذا, أعتقد أنك تبالغ بتجريد المرأة من العاطفة و إعتبارها مخلوقاً أنانياً.
-و هل أنكرت أن لهن عواطف و مشاعر؟ قلتُ لك أنهن يحتكرن فكرة كونهن الأعمق عاطفيا, و مع هذا لا تستطيع أي واحدة منهن أن تفسّر لنا سبب جهلنا بأي إنتاج تأريخي أو فني لامرأة هامت برجل و خلّدت حبها له.. من تأريخنا على الأقل.. همّ أغلبهن كان و مازال هو أنفسهن, بالأمس كان الذهب و الحلي و اليوم مناكفة الرجل بحياته و الإستيلاء على أدواره بالمجتمع. و أنتبه لأنني أتحدث عن نوع محدد من المرأة, عن نوع مؤمن بالجنسويّة و صراع الجنسين العنيف.
=واضح قصدك, لكن و دورهن؟ أقصد اللواتي ينادين بالجنسويّة هذي, هل يؤمنّ بدور المرأة التربوي للمجتمع؟
أبتسم مُناف بظفر و هو يرفع سبابته كأستاذ جامعي:
-دورهن محتقر برأيهن.. الأمومة أو الإندماج بالأسرة هو آخر ما يهم النسويات.
=النسويات؟ من هنّ؟
-نساء أغلبهن من المتطرفات أو الشاذات جنسيا, يعتقدن أن المرأة مظلومة دوما و أبدا و أن الرجل هو الذي يظلمها, و عليها الثأر ضده و العيش معه بمجتمع صراعي- حكّ أرنبة أنفه بطرف سبابته اليمنى و تمتم بينما يشاهد دخان سيجارته يعلو ببطء- و المجتمع الصراعي عند النسويات أو المتحررات أو المتطرفات.. سمّهن ما شئت.. يعتمد على نظرية آلية صراعية تشبه بجوهرها فكرة صراع البروليتارية و البرجوازية لكنها تختلف من ناحية التفاصيل و المراكز المُتصارع عليها, و النسويات يعتقدن أن مفهوم الصراع ليس وقتي حتى نيلهن حقوقهن التي لا يبدو أنها ستنتهي, بل قل هو حالة مستمرة مادام عنصري الصراع موجودين: الذكر و الأنثى.
=رحماك ربي.
-النسويات ضد الزواج غالبا, لأن المؤسسة الزوجية عندهن واجهة للعبودية للذكر, و هن أيضا ضد فكرة منع الدعارة.
=ماذا؟
-لأن الحرية عندهن يجب أن تكون شبه مطلقة بما يخص الفرد و من حق أي امرأة أن تتحكم بجسدها برأيهن.
=و المجتمع؟ الأسرة؟
-يا مغفل.. هنّ لا يعترفن بكل هذا, فالمهم هي المرأة و ليذهب العالم بعدها للجحيم. فهن أصلا ينادين لمجتمع آخر عن الذي نفهمه. مجتمع نسبي بكل حذافيره و مادي بتطرف عنيف. لا أنكر يا صديق, أنهنّ ينتهزن الكثير من أوضاعنا التعيسة لتمرير أفكارهن.
=رغم كلّ شيء, النساء رائعات و لهن عواطف رقيقة تجاه الرجال, لأن الأخيرين جزء ضروري بحياتهن.. كما هن لنا بالضبط يا صديقي.. صدقني يا مُناف, كثيرا ما تضحي المرأة بكل كيانها لأجل سلامة رجل أحبّته. لا يمكن لها أن تنساه, مهما تزوجت أو أبعدت عنه. تتحدى الجميع بروح حديدية و عالم له وحده. هل تنكر هذا؟ هل تنكر كم من امرأة ضحت لرجلها بهذي الحياة؟ خصوصاً بمجتمعاتنا اللعينة, التي تصادر أتفه حقوق الإنسان, و من جملة هذا الإنسان هي المرأة.
-مثل؟
=مثل حق تأسيس أسرة ناجحة مع رجل تريده زوجا.. عادة ما يختارون الزوج لها, يختارون المسكن و العمل و السنين التي ستعيشها كذلك. كلّه وفق نظام عشائري قذر يقمع أي رأي متنورٍ أو ديني حقيقي. إننا إن أردنا أن نحرر إنساننا من الظلم, فعلينا أن نحرر الأم أولا و قبل أي شيء, و لا يتم هذا إلّا بتثقيف صحيح و قمع ضروري لكل العقول اللئيمة المضربة عن العمل.
-أنك تتحدث مثلهن بالضبط..قمع..مناهضة..تحرير..هذي هي المفردات اللعينة المستخدمة عندهن.
=عزيزي, أعتقد أن هناك فرق واضحٌ بين محاربة الذكر لأنه ذكر و الحلم بسيطرة الجنس الأنثوي على العالم, و بين المناداة بتحرير هذا العالم من المعاناة وفق منطق معتدِل و مصلحة تعود على الجميع... هناك فرق بين امرأة شاذة جنسيا أو معقّدة نفسيا تريد أن تثأر من رجلٍ كلّ ذنبه أنه رجل, و بين امرأة تسلب حق التنفس أو الرأي أو الحوار. و الرجل ليس بعيداً عن الإضطهاد بالمناسبة..
-أعرف..
=و أحسب أنك تعرف أيضا أن الإسلام يعطي الرجل و المرأة حق العمل و تحديد المصير, فلماذا تجد المرأة ببلداننا ألف عائق أمامها عندما تقرر أن تعمل بظروف آمنة و محترمة؟ و لماذا ينظر للأنثى كإنسانة مهمشة فكريا و بلهاء أبداً؟ أو لماذا يلتصق الإنسان الشرقي العادي الفهم بحديث للرسول (ص) أراد به دعابة لا أكثر حول نقصان عقل النساء و دينهن؟ لم لا يذكر مثلا حديثا آخر يقول "ما أكرمهن سوى كريم و ما أهانهن سوى لئيم"؟ أو "رفقا بالقوارير"؟ لماذا يعتقد أن ضرب المرأة حقا إلهيا دون أن يتذكر أن هذا الضرب أتى لنوع واحد و لحالة واحدة متفردة من بين آلاف الحالات الحياتية؟ و أنه كضرب أتى ضمن حدود ردعية لا إتلافية؟ أنه حل مؤلم لكنه أيضا مرتبط بحالة مؤلمة, و الأهم أن الكل ليسوا مجبرين على تنفيذه بدليل أن الرسول (ص) لم ينفذه إطلاقا. و لماذا يعتقد رجل الشارع المتوسط الثقافة أن قوامته سلطوية بدلا من رعوية شورية؟ قلي لماذا؟
-لا أنكر التشويهات الكثيرة التي تقترف باسم الدين, أو باسم تقاليد لا علاقة لها بالعقل, و أشك أن من أوجدها يعرف هجاء أسمه.. لقد حفرها بعقول سلالاته عبر القمع و الهمجية البدائية.
=شيء آخر.
-و هو؟
=أعتقد أنك تبالغ كثيراً بما فعلته النساء قبلا, و بما سيفعلنه لاحقا. تماما كما يبالغ بعضهن بتقسيم التأريخ لأدوار جنسويّة و حقبات و إنجازات تتصل بنوع الجنس لا بطبيعة الإنسان. أننا نعود لذات النقطة القائلة أن التطرف لا يولّد إلا التطرف المضاد, و أنت مثال آخر على تطرف جنسَويّ يحاول حصد الإنجازات و الأهمية للذكر على حساب الأنثى.
أبتسم علامة الموافقة, نكث رماد سيجارته على الأرض و تمتم:
-و المطلوب؟
=المطلوب أن نكُف عن هذي السخافات يا صاحبي, و أن نتذكر أن الله خلق الإنسان من ذكر و أنثى, ثم جعلهما شعوبا و قبائل لتتعارف باسم الإنسانية و الدين الحقيقي الذي حرر الإنسان من عبودية أخيه الإنسان, و يرقيه إلى المسؤولية أمام الله و أمام ضميره و عقلانيته... ما أريد أن أقوله, أننا بحاجة لإصلاح حقيقي لكل المفاهيم. سمّها ثورة أو نهضة, لكنها بحاجة لأن تولد من رحم المعاناة لا أن تستورد من مقاهي باريس أو محاكم نيويورك المدنيّة.
-بالضبط, لكن النسويات يعتمدن على تلك الجزئيات الركيكة التي ذكرتها أنتَ في مجتمعنا لطرح ثقافة و فكر آخر تماما. الفكرة لا تعتمد على "الإصلاح" بل "التغيير", و الفرق واضح بين الإصلاح الذي يكون محاولة العودة لتشكيلة صحيحة قد تشوهت, و لا ننكر أنه نوع من أنواع التغيير لكنه ليس تغييرا كاملا. بينما التغيير الذي أقصده بالنقيض, هو تغيير كامل يهدف لنسف كل الموروث الحضاري و الفكري لإنسان المنطقة و إتباع فكر آخر لإنسان آخر بمنطقة أخرى, أو بأقل التقديرات: إتباع خطط لتجارب فلسفية من إنتاج شعوب أخرى. يردن تبعية فكرية كاملة لثقافة غربية أو شرقية لم تنتجها تجربتنا التأريخية.. هناك فرق بين الإصلاح و التغيير.. الا تلاحظه؟
=بلى.
أبتسم مُناف بسخرية و جلس على الأرض مقرفصا, فيما راح يطفيء سيجارته بأرضيتها النديّة الخشنة و هو يعيد النقاش لنقطة بدايته, و كأنه يبرر سبب مواقفه السلبية من إلهام السالمي:
-إلهام السالمي مصرّة على التغيير و مستعدة لفرضه بالقوة, سواء لرغباتها الجنسية أو تهتكها الأخلاقي أو أحلامها الطوباوية بمجتمع على مزاجها. وقريبا ستراها أمام ناظرك لتشبعك بأفكارها التي تنتشي بإلقائها بصوت عالٍ كما لو أنها ترطن قصيدة ما.
تسائلت بلهجة متقززة و ممتزجة بلزوجة الصداع الثقيل:
=ما شأنها بي؟
-لا أدري, لكن المساعد وليد يريد أن يثأر لأخيه, و لقد رفع أسمك للمخابرات العراقية كما يبدو, و هذا يفسر وجود هذه الجلادة معه بالرحلة.
=لحظة, من هو أخوه؟
-السائق الذي ضربته, أم تُراك نسيت؟
لم أقل شيئا, الكلمات تغوص برمال الدهشة المتحركة, فالآن أصبحت الأمور واضحة؛ المساعد وليد يمضي للولايات المتحدة كي يجمع المعلومات عني, لأنه و من معه يؤمن أنني أنتمي لتنظيم ما, إضافة لرغبته الدفينة بالثأر لشقيقه.
-بمَ تفكر؟
تردد صوت مُناف على أذني كمن ينادي من خلف أمواج كثيرة, أنتبهت بعد ثواني لضرورة إجابته بصوت خافت:
=أفكر بما حصل, و بما سيحصل... و ربما بما تناقشنا به. لا أنكر, لك مواضيع مشوّقة.
أبتسم بطفولية مقلداً شخصية منسية من أفلام الرسوم المتحركة- السندباد ربما- و قال بتعالي مختنق بصوت المزاح:
-طبعا يا رجل, و خصوصا عندما أكتشف فيلسوفا مثلك.
=القصة لا تحتاج للفلسفة يا صديقي بقدر إحتياجها لعقل متفتح و ضمير عادل.
-سعيدٌ بالتعرّف عليك.
أبتسمت بمشقة- رغم مودتي للإبتسام- و رأيته يخرج بعد أن أدرك أنه تأخر لعشر دقائق. أغلق المزاليج الثلاثة و تركني أفكر بما سيأتي. كانت هناك ثمة خواطر متمردة برأسي, تتجول بوقاحة و عدوانية, تجعل من مواجهتها أمرا مريعاً. لم أفقه كيف قفزت الساعات فوق جدار القلق, لكنني سقطت بهوة نوم مكروب و أحلام غير واضحة بسبب مقصّ المعتقل الشرس.
* * *
ثلاثة أسابيع أخرى تمر بهدوء, تدفع بي نحو القبر, نحو النهاية التي صارت تبدو وشيكة حقا, كان مُناف يفتح باب الزنزانة قدر المستطاع ليراني, ليقول كلمة ما كي لا أشعر بالرغبة بالموت لوحدتي, لكي لا تعصر صلابة الشتاء عظامي. أظافري آخذة بالنمو و التآكل, شفاهي متشققة بسبب البرودة و هناك زرقة تحت عيني: "نقص بالفيتامينات" كما يعلل الدكتور مُناف. لم أنتبه أن لحيتي أمست طويلة, كان مُناف ساهي أيضا عن هذي الصغائر- نعم هي كذلك هنا- كان مشغولا بالعالم خارج هذا البناء البارد. قال لي أن ضاري ألتحق بالجبهة و هو يقاتل قرب مدينة "ديزفول" الإيرانية. قال أيضا أنه يحارب كرامي دبابة, و أنه لم يعد يستطيع المراسلة طويلا بسبب تنقلاتهم الكثيرة. وجه مُناف يبدو أثقل مع إكتمال شهرٍ من إنتظار المساعد وليد و رفيقته, كانت الهموم تنتشر على وجهه كجلطات دم حمراء صغيرة معرّبدة, فوق أرنبة أنفه, تحت فكه و قريبا من أذنيه. بكل يوم كان يأتني بحبة مهدئة لأتناولها مع عطاء الماء اليومي. كنتُ أنام نوما تافها للغاية, بلا أحلامٍ أنام و دونما شعور حتى, كمن يهوي مستلقيا إلى فضاء بلا نهاية, ينحدر نحو الأسفل, حيث الظلام يزدحم مع الصمت, مع البرودة و الروائح البعيدة المتألمة: روائح قمع و حروب أغلبها ليست عادلة. رباه, هل للتأريخ رائحة؟ روائح كثيرة تزكم أنفي, كلّها ترمز لمعاناة ما, لأشلاء جنود رومانيين مقطّعة لأجل إرضاء غرور الإمبراطور, رؤوس رجال و نساء متدحرجة على رمال مدينة بحرية, لكي تسكُن مخاوف الملكة العظيمة. ملكة من هذا الزمان أو ذاك, لا فرق- صدقوني- فالمعاناة صفة يجب أن تلازم اللون الأزرق للأرض: كوكب المعاناة الأزرق.
بإحدى زيارات مُناف, بدت عيونه محمرّة و وجهه متجهّما. لم يكن هناك وقت لأفكر بسؤاله عما يحدث له أم لا, كنت بحاجة لأن اسأله فورا دونما تباطؤ, فوجهه يوحي بأنه سيرحل عمّا قريب. لا أعرف إلى أين, لكنه سيرحل لمكان سحيق.
-ماذا يجري هناك؟
تأملني بعيونه الناقمة على الدنيا, كانت نظرة ساخطة من خلف كتفه و هو يهم بالخروج, فتح فمه بسؤال متوتر أو ساخر, لا أدري:
=هناك؟
-نعم..هُناك.. خلف هذي الأسوار المشبعة دما.
=هه.."المشبعة دما" ها؟ .. ياله من تعبير بائس..
-هل أنت بخير؟
=لا.. لستُ بخير.
صرخ بوجهي بصوت رهيب, و تقدم نحوي و هو يهذر بعيون تريد أن تحرق وجهي:
=أنت تثير حنقي يا هذا.
-لكن...
=أنت تظن أن الدماء هنا فقط, فقط هنا ها؟ أنت مخطيء, فالجبهة تمزق آلاف الشباب يوميا, تنزل القذائف حارة لتهرس لحم شبان تزوجوا قبل ثلاثة أيام.. ضاري مثلا.. ضاري يا واثق.
حاولت أن أراوغه, أن اسأله عما يقصده, ليس لأنني لم أفهمه بل لأنني لا أريد التصديق. هل اسأله؟ لا, سيغضب, سيتحول لشيطان بصورة وحش. صوتي كان حزينا دونما تصنع, و قد شعرت بالتقدير و أنا أنطق الكلمات:
-ليرحم الله ضاري, كان بطلا يا مُناف. هل تفهمني؟ كان بطلا بعروبته العميقة و بتدينه اللطيف و نبل عينيه... شدّ حيلك.
رفع رأسه بسرعة و الدموع تسيل, تذكّر مقولة ضاري الدائمة: "شدّ حيلك". هكذا, بهذي الملائكية, كان يقولها لكل سجين يختلي به بعيدا عن أعين الحرّاس المتعاونين بصدق مع ضباط الأمن. ابتسم مُناف بمرارة و هو يمدّ يده نحوي لأصافحه:
=أستودعك الله يا واثق حسَن التَميمي.
-إلى أين؟
=لقد جاء قرار بنقلي للجبهة مع فوج كامل, هناك سأقاتل, ضاري ليس أقلّ بطولة مني.
-هه.. لا تقل هذا.. ضاري سبقك فقط, لا أستطيع أن أتخيل رجلا شريفا يجبن عن الدفاع عن وطنه و عرضه.. من المؤسف أن لا أقاتل أنا أيضا.
ضغط على كفي أثناء مصافحته و قال بتعالي عسكري و مهَنيّ:
=صدقني يا واثق, أنت بطل بكل مواقفك, ببكائك على آلام الآخرين, بصمودك و بحبك لوطنك مهما كانت الظروف.. ما أتعس الذي فعله بك الطغاة, لكن لا يبدو أنك تكره وطنك للحظة.. أنا أهنئك يا سيد واثق, وثِق- و ابتسم بلطف- بأن لدي شعور أن يومك سيأتي و ستدافع عن هذه الأرض بقضية أكثر عدالة.
بدت كلماته قافزة عن المفهوم, لاشيء يبدو منطقيا, أنه حدسه هو, لكنه حدس نبيل. رأيته يستدير ليمضي, فتمتمتُ بالكلمة الشعبية الصادقة:
-الله وياك.
لم يرد, بل أغلق الباب بهدوء كي لا يزعجني. و مضى.
بالصباح الرابع من رحيل مُناف, و بعد ليلة نوم لزج بالكوابس. كانت هناك ثمة يدٌ همجية تدفع باب زنزانتي, تجرّني من شعري وسط الركلات المرافقة للصرخات و اللعنات. أحاول أن أستجمع رفات أفكاري, أن أبعث فيها الحياة, أن أفهم ما يحدث بهذا الصباح اللعين؟ كان وجهه هو, محتقنا كعادته بدماء غضب جاهز للثوران بكل لحظة, بأنفه المتعرّج سخطا و عيونه الثعبانية. "هل أشتقت إلي يا خنزير؟", يسألني المساعد وليد و هو يبصق على وجهي و يجبرني على الوقوف, بينما يكبلني حارسه بالأصفاد لخلف ظهري و يضع على عينيّ عصابة سوداء. "خُذوه", صرخ بمن حوله بصوت مستعجل, فأمتدت أياديهم الهمجية لتسحبني من شعري و لحيتي, و جرّ أحدهم أذني حتى كاد يقتلعها. أسناني تصطك ألما و أنا أهرول معهم وسط حفل الركلات, صارخا بصوت ضائع بين جؤارهم الفاسق: "حرام عليكم".
أعادونني للزنزانة ذات الكرسي الشهير: كرسي الملوك. أكاد أشعر ببرودة معدنه تنتقم من عظامي بشماتة وضيعة, بسخرية, و بتأكيد على الإنتصار. قيدوني إليه بإحكام و فكوا العصابة عن عينيّ, ثم أنصرف حارسين بينما بقي آخرين قربي, يتأملاني بازدراء و يشتماني بغضب غير مفهوم. دلف المساعد وليد و خلفه سيدة قصيرة ذات بطن كبيرة, ترتدي تنورة سوداء حتى ركبتيها و قميص أحمر ذا ياقة و أكمام منفوشة. خلعت حذائها الجلدي المدبب المقدمة, جاربيها الحريريين المطاطين, ثم رمت كل هذا بوجهي و طفقت شاتمة. قالت بأنني "ذكر ساقط" و أنني "همجي" و "دموي", بينما صفعتني بيدها السمينة القصيرة الأصابع, و كانت تعلم أنها صفعة لا يكترث لها من ناحية الألم. "سنبدأ التحقيق", قالتها و خلعت تنورتها و قميصها, باقيةً بسروالها الداخلي الذي يبدو أنه سيتمزق تحت ضغط بطنها و خصرها. صدرها عملاق شبه مترهل, محمول بحمالة سوداء تغوص مطاطاتها بشحوم ظهرها الجانبية. رفعت شعرها البني المجعّد- القصير حتى كتفيها- بحمّالة شعر خاصة, و حينها لمحت أن شعر أبطيها كثيف و مفتول كالنوابض. كان هناك شعر غزير بساقيها أيضا, و لاشك بأنها لاحظت دهشتي, إذ تمتمت بسخرية و هي تقرّب وجهها إلي: "لا أحتاج لمكياج يا وغد.. أنا جميلة بدون مكياج". لم أكترث للعبارة و لم أرغب بأي توضيح, كلّ ما أردته هو أن تبعد فمها المنتن عن وجهي. كانت رائحته شبيهة برائحة دماء متعفنة بعلبة من الحديد الصديء البارد, المتعفن هو الآخر بطبقة من الطحلبيات البحرية الخضراء. و من خلف كلّ هذا المشهد الكريه لبداية حفلة ألم جديدة, وقف المساعد وليد مستمتعا بما يجري و متأملاً المرأة البدينة بشهوة حيوانية حقيرة. ما أحقر شهواتهم, ما أحقر البشرية عندما تأملها من جانب هؤلاء.
يبدو أنها أحسّت بعيونه تلاحق مؤخرتها العريضة, فبادرته بأمر حاسم: أخرج مع أحد الحارسين و ليبقى الآخر معي. أطاعها بابتسامة سافلة و هو يغمز و يهزّ رقبته بالوقت ذاته.
جالت بالزنزانة الواسعة عدة مرات و هي مطأطأة, توقفت أخيرا عند ملابسها, و أنحنت بمشقة على تنورتها المرمية أرضا. أستخرجت علبة سجائر "روثمان" و علبة ثقاب. أشعلت سيجارة و سحبت الدخان بنهم, تأملتني بعيون مرتخية ثم تقدمت نحوي بهدوء. كان الوقت ملكها, و العالم لا يعنيها إطلاقا. همست لي بصوتها المبحوح و هي تدير سيجارتها قرب شفتيّ:
-هل ستعترف؟
=بماذا؟
-أنت تعرف بماذا..
=لا علاقة لي بأيّ جهة.. و أنتِ تعرفين هذا أيضا.
غرزت عينيها بعينيّ لتتأكد أن الذي أمامها سجين حقا, و لعلها فهمت سبب التحدي الذي حوته إجابتي. قالت:
-أخبرك أحدهم عنيّ إذن..ممممم.. و لم الإنكار؟ أنا شاذة و أمي كذلك رغم أن أبي لم يلامسها بآخر خمسة عشرة سنة من عمره. كان يطارد بنات المدرسة الثانوية القريبة لمنزلنا و يتحرش بي أحيانا, بينما أنهمكت أمي بعلاقات جنسية مع خياطات و مصففات شعر.. واحدة تغري الأخرى.. بأكاذيب أو بتهديدات أو إستغلال لصداقة.. كنا نادي سري يتكاثر أعضاؤه بسرعة مرعبة لكنها خفية.. أنها الحياة يا فتى.
=لا أفهم ما تقصدينه.
-بل تفهم جيداً, و هذا ليس موضوعنا بكل الأحوال.. قلّ لي.. هل تعرف أحد باسم "أحمد الخفاجي"؟
أبتلعت ريقي بصعوبة, بينما جرفت أمواج الدهشة ضربات قلبي و إنتظامها. وجدتني أجيب بصوت مرتبك و أنفاس غير مسيطر عليها:
=لا..لا أعرفه.
هزّت رأسها موافقة و هي ترفع حاجبيها ببطء, متمتمة بخفوت كأنها تفكر:
-ممممم..قلت أنك لا تعرفه ها؟ .. أفهمك تماما..و أفهم أنك تقول الصدق..ألا تتفق معي؟
=نعم.. أتفق.
-سأعزمك على مفاجئة... حسّي الأنثوي السامي يحب المفاجأت.
قَهقَهَتْ بإعجاب لتعبير "حسّها الأنثوي السامي" هذا, ثم غمزت الحارس و هي تنهره بلهجة إستعبادية: "هاته". مضى بعد أن حياها بإيمائة صارمة من وجهه ذا الشوارب السميكة. لم تفعل هي شيئا أثناء غياب الحارس, سوى التعري كليا من ملابسها, و كذلك إنزال بيجامتي حتى كاحلي, و لم يكن شيء تحتها. تضرج وجهي خجلا و حنقا, ثم خطفته صفرة مرعبة بعد أن أخرجت من جيب تنورتها شفرة حلاقة مطوية. فتحتها في الوقت الذي أدخل الحارس عربة تحوي سجينا, مربوط راسه بشاش و ضمادات. ألقى به للأرض كما لو كان كومة تراب, بدى عاريا و ممزق الجسم بجروح طويلة, و كانت إحدى حلمات صدره مقشّرة بسكين. ركلت السجين ببطنه, بصقت عليه, أنقضت عليه مبعدة الضمادات عن رأسه, و صرخت فيّ بهستريا منتصرة: مازلت لا تعرفه يا خنزير؟ كان "أحمد الخفاجي" ذاته. فتح عينيه نحوي, حاول أن يتفوه بكلمة, لكنها عاجلته بضربة من شفرتها بفخذه, فتدفقت الدماء غزيرة مع صرخة منه كتومة. "لا تعرفه ها؟", قالتها ثم أعملت شفرتها ببطنه, صدره, ساعده, كتفه, و ضربت أنفه فطارت مقدمته و بقيت معلقة على طرف جلد. الدماء تتدفق و أحمد الخفاجي يصرخ بصوت خافت, إنما عميق الألم. قالت أنهم حقنوه بدواء يشلّ أطرافه و لن يستطيع فعل شيء, لن ينقذ نفسه من شفرتها الشبقة للدماء, وحدي أنا من يستطيع إنقاذه لو أعترفت. "إذن فاعترف", نهرتني و هي تطبق بأصابعها على عضو أحمد التناسلي الهامد, تمطه بغضب و تقرب منه الشفرة مع ضحكة منتشية. "أعترف .. أعترف.. أعترف أيها الذكر البائس", كانت تصرخ بهستريا, بلؤم, بحقد, و هي تنكث رأسها بلذة, بينما تطاير شرر الإنتقام من عينيها و أستقرت بقع بيضاء من لعابها على شفتها السفلى. أحداقي تتسع, أكاد أشعر أن عيناي ستسقطان على حضني لشدة الدهشة, رأسي يهتز بحركة لاإرادية, أحاول أن أطلب منها أن تتوقف عن تمزيق جسد أحمد الخفاجي, أن تكف عن تدمير شباب إنسان نبيل و شديد الصدق مع نفسه. لكن العكس ما أراه, أنها تزداد شراسة كلما هززت رأسي نفيا, ظنا منها أنني أرفض الإعتراف.
عندما أشارت لقطع عضو أحمد التناسلي صرخت فزعا بكلمة "لا". كانت هذه كلمة الإنعام لأن تبتر عضو أحمد الخفاجي, و لتلقي به نحوي. مزّقت شرايين معصميه أولا, و أحدثت جرحا وحشيا ببطنه بالموسى. كانت تصرخ بلذة: "هاهو كبده قد تمزق... هاهو حجابه الحاجز.. هاهي معدته", ثم تقهقه بإنفلات جنوني لا يُعرف ببني البشر. أخيرا, دفعت ذقن الشاب الممزق نحو الأعلى, فبرزت رقبته المسقية بدماء أنفه و وجهه, و بأربع ضربات مركزة, أستطاعت الرفيقة إلهام السالمي أن تقطع أوداج الفتى, و شخر لثواني ثم أنتهى كل شيء. بقي فمي ذابلا, فماذا يعني الصراخ أمام هذي الجريمة؟ كانت الدهشة قد فرت إثر حلول الهلع, بعد أن أحسست بأصابعها تسحب عضوي لتهدد بقطعه, صارخة "أعترف" بأعلى من صرخة الرعب التي أطلقتها, لكنها جمدت يدها فجأة و هجمت لعنقي و لسانها يبرز للأمام كأفعى, و وجدتني أصرخ بلا تفكير و بانهيار مطلق: "أعترف... أعرفه..أعترف.. أعرفه..أعرفه..أعرفه". ثم أنطلقت تموجات بكائي غزيرة مفجوعة بعنف, و رأيتها تبتسم من بين غلالة الدموع, ماضية نحو ملابسها برضا و هي تأمر الحارس- الذي تقيأ قرفا- أن ينظفوا المكان. كان هذا آخر ما سمعته منها, لأنني غصت بعالم الدموع الذي غشى عيوني بداية, ثم غشى عقلي و عمّ الظلام.
* * *
تابع
|
|
04-04-2005, 09:11 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
ضيف
Unregistered
|
حفلة تعذيب (الفصل الثاني) / بقلم أحمد الكناني
أفتح عينيّ بصعوبة, جسدي يرتج فوق العربة اللعينة أبدا, و الحرارة تصهر لساني و ما تبقى من شراييني. يكومونني على أرضية بورسلانية بيضاء ندية ببخار ساخن, يعرونني بأيدي ترتدي القفازات الجراحية, و يغدقون المياه اللاهبة على ظهري و صدري. "ليّف نفسك يا حيوان", يقولها صوت أجش و هو يلقي ليفة إلى وجهي, لكنما ملامحي تبقى جامدة و أنا أحدق بالسقف المشبع بالبخار, الذي يخالطه ضوء مصابيح صفراء بمكان ما. يتململ الحارسان, يستخرجان ليَف ذوات أذرع طويلة- كتلك التي تنظف فيها فوهات المراحيض- و يدلكان ظهري و صدري و إبطيّ. أشعر ببرودة الصابون السائل على جلدة رأسي, بينما يدلكه الآخر بسرعة ثم يصب رشاش الماء العنيف عليه, كان ماءً لاهبا يترك أثر شعورٍ بأن الدماء ستفصد من مسام الجلد المتّسعة. "هاقد نظُف هذا الخنزير..ضع عليه ملابس نظيفة و خذه للمقابلة", و على الفور وضعوا عليّ ملابس سجن نظيفة, دون الإكتراث لتبللها بأرضية الحمام. حملاني للعربة و سارا نحو مكان ما. كانت رحلة طويلة, و شعرت بأنهم يدخلونني لمصعد كهربائي, ثم يعاودان المسير مرة أخرى حتى توقفا عند نقطة مرادهما. أطبقت يديهما عليّ بقوة ليجلساني على كرسي جلدي وثير, و قد شعرت عندها بأنني مستعد للموت إثر الراحة التي أعترتني. أسندت برأسي على ظهر الكرسي الفخم و سمحت لعيناي بإكتشاف المكان. كان مكتبا فخما من الخشب الأسود, الذي ثُبتت عليه ألواح زجاجية مما أعطاه لمعة مميزة. نافذة واسعة خلف المكتب, و فوقها إطار كريستالي عملاق لصورة الجلاد. أمام المكتب الفخم, صفت ثمانِ كراسي وثيرة متقابلة بشكل عامودي, و بوسط المسافة وضعت خوانات سوداء لفناجين الشاي·. أبو نضال خلف مكتبه اللامع, و على الكراسي المتقابلة جلس المساعد وليد, إلهام السالمي, و كذلك الرائد سميح. و كان الأخير يبدو مرهقا بشكل ملحوظ.
-و أعترفتَ أخيراً.. بالطريقة المعتادة.
قالها أبو نضال بسخرية و هو يفتح ملفا أمامه, ثم عاد لمخاطبتي بجدية مختلطة بنوع من التشفي:
-أحمد الخفاجي.. كان منتميا لحزب الدعوة الإسلامي*, و كان يخطط للعودة للعراق بعد إنهاء دراسته. عندما أنطلقت الرفيقة إلهام السالمي و المساعد و ليد بمهمتهما, كان علينا أن نوهم أحمد الخفاجي بأنهما أقرباء بعيدين له, و لا ننكر فقد كان ذكيا كفاية ليكتشف اللعبة, لكنه سقط بالفخ التالي حينما قدم الرائد سميح نفسه إليه كناشط سياسي بحزب الدعوة الإسلامي, و لم يكن أمامنا سوى إستدراجه للعراق بخدعة إستدعائه من قبل جهات سرية بالتنظيم المعارض, و كانت سياطنا تنتظره هنا.
أبتسموا جميعهم بفخر, أو بنوع من الراحة النفسية لإنجاز واجب ما. تأملتهم بسخط و خرجت كلمتي كبصقة و دونما شعور:
=خدعتموه ها؟
-مممم.. لا خطأ بالخديعة ما دامت توصلنا لمرادنا.
قالت ذلك إلهام السالمي و هي تنهي ما تبقى من فنجان الشاي و تلوك الثُمالة بفمها. أكملت شارحة بمزاج طيب: "القضية أننا هُنا لا نعترف بما هو ثابت أخلاقياً يا صغيري, فالأخلاق تتحتم عندنا وفق الموقف و الزمان, و الخفاجي هذا هو عدو يستحق منا الإبادة, لأن منطق القوة لأشد فعالية من قوة المنطق, و لأن الأخيرة قد تأخذ منا وقتاً و طاقة على حساب إمتيازاتنا بالبلد, لذا كان علينا أن نستخدم كل السُبل لتهشيم أي معارض, دون الإلتفات لأي جانب آخر سوى فائدتنا المطلوبة بعد كل شيء".
أنهت كلامها وسط تصفيق حماسي للمساعد وليد, الذي إلتفت إليّ أخيراً و قال كلماته بلهجة أخفض مما أعتدتها منه:
-و للعلم فقط, نحن لسنا مجموعة جلادين كما يحب أمثالك أن يتصوروننا, بل نحن نؤمن حقاً بما نفعله كشيء طبيعي و "أخلاقي" حتى.. إن أرَدتَ تسميته كذلك.. أو لتسميه حقا فكريا و تنفيذيا لنا بحكم ثقافاتنا و قناعاتنا بالحياة. مثلا, الرفيقة إلهام السالمي تحمل بكلاريوس بفلسفة الحزب و بعض الدراسات النَسَويّة, الرائد سميح يحمل شهادة تخرّج من أكاديمية السلاح الجوي ببغداد, و قريبا سيُرفّع لرتبة مقدم. و الرفيق....
قاطعته بسخرية و بصوت متهالك, إنما برغبة عارمة لأن أسترد قوتي و أهشّمه ضربا بقبضتيَّ و ليكن ما يكون بعدها:
=و أنت؟ .. أقصد ماذا تكون أنت؟
نهض من مجلسه بهدوء, أقترب مني بخطوات هادئة- لا تكاد تسمع فوق السجاد الفاخر- و لطمني بلؤم, ملصقاً وجهه بوجهي ليعلو صوته بتشفي حاقد:
-أنا حائز على إجازة بتعليم مادة التربية الوطنية بثانويات القُطُر أيها الوضيع, و كذلك أعمل كرجل أمن لحماية السلطة و الوطن من أمثالك.
لم أجبه شيئا, الدوار يتدحرج بين زوايا رأسي, في الوقت الذي نفد صبري بهم و بنتانة أنفاسهم. توجهتُ بكلامي للعقيد أبو نضال, متجاهلا المساعد الوليد الواقف لجانبي- كأنه جلاد ينتظر أن ينفذ فيّ حكما بالإعدام- و حرصت على أن يكون صوتي متماسكا:
-ماذا بعد يا سيادة العقيد؟
لم يجب, نهض بهدوء من مجلسه, تأمل وجوه الكل أمامه بلامبالاة, ثم أستدار نحو النافذة العملاقة لتأمل شمس الصباح الشتوي المعتدل, و المتدثرة بغيوم قطنية ثقيلة. تحدث أخيرا و دون أن يزيل ناظره عن المشهد المتألق للشمس و الغيوم الساطعة البياض:
=لا شيء كثير إطلاقا.. أنتَ أعترفتَ بعلاقتك بناشط من المعارضة و هذا يعني أننا سنحقق معك و مع أهلك لنعرف إن كان لهم علاقة أيضا, و لنعرف علاقتك هي الأخرى بالمعارضة- و ألتفت نحوي عندها مكملا- إلّا إذا أعترفت و وفرت علينا و على أسرتك عناء تحقيقات مريرة, خصوصا و أنّ لك زوجة شابة كما فهمنا بالجلسات الأولى للتحقيق.
-و هذا يعني أنني سأجد رغبة حقيقية بجلبها للمديرية هنا أو زيارة مديرية الأمن العامة بالنجف كي أناقشها شخصيا, و بعدها سأجلب أصدقائي ليناقشونها أيضا و حتى الرفيقة إلهام السالمي. بإختصار, سنحول زوجتك لناشطة نقاشات بفنادق العاصمة بعد أن نرحل عنها. و لو وجدنا عندكم أخوات أو صبية صغار فسنناقشهم أيضا يا حبيب أمك.
قالها المساعد وليد قرب أذني, ثم أنفجر ضاحكا و هو يلقي بجسده الثقيل على كتفيّ متعمدا, ربما ليشعرني بلؤم جسده و نتانة عرقه الأشبه بمستنقع راكد. كان الرائد سميح صامتا طيلة الوقت, يدخن بنهم و بهدوء يكاد يكون أشبه بالموت, لولا تلك الحركة الجزئية بين شفتيه و السيجارة. قال أخيراً و هو يمضي على ملف بين يدي أبو نضال: "ستعمل زوجتك و أخواتك بفنادق العاصمة لفترة ثم سأقتلهن بنفسي", قالها و مضى خارج المكتب دون أن ينظر خلفه, في الوقت الذي بصقت إلهام السالمي لجهته عندما أغلق باب المكتب. " و ماذا يعني لو أنه ضبط زوجته مع رجل بالسرير؟ هل أرتكبت جريمة؟ تخلّف, ظلامية, سو...", قاطعها العقيد أبو نضال مذكراً إياها أن من تتحدث عنه هو ضابط بسلاح الطيران و المخابرات العراقية, فصمتت تماما و هي تكتم غيظها, بينما توجه نحوي بأذرع مفتوحة و لهجة وديّة:
-لاشيء من هذا سيحدث يا عزيزي لو أنك أعترفت بمعرفتك به, و سنحقق نحن لاحقا بحقيقة علاقتك بالحزب المعارض, و لو كنت بريئا حقا فلماذا الخوف؟
=ستفرجون عني بعدها؟
-طبعا طبعا.. و لماذا سنبقى نلاحقك يا عزيزي؟ سنختفي من حياتك تماما لو أنك تعاونت معنا الآن.
قال جملته بمراوغة و محاولة واضحة بالترغيب, ثم أمر المساعد وليد أن يأخذ الملف إليّ لأوقعه: "أنه متعب فخذ له الملف بنفسك يا رفيق". أمسكتُ القلم بأصابع متعرقة و ساخطة, إنما مستسلمة تماما لنظرات أبو نضال المشجعة و إبتسامته السعيدة. أمضيتُ على الفراغات التي أشار عليها المساعد وليد بأصبعه السمين.
شيء ما يتمطى بمعدتي, رغبة بالتقيؤ المرير, رغبة بأن أخترع آلة للزمن كي أعود به ستة أشهر للخلف, لكي لا أستقل الأجرة, أو أن أفكر بالعودة لعراق الجلاد هذا أبدا. لم يعد الندم نافعا اليوم. الحارس يعصّب عينيّ و يلقني إلى عربته, يدفعني بلا كلمات أو إكتراث, لأسمع كلمات أبو نضال ساخرة و هو يودعني وسط ضحكات المساعد وليد و إلهام السالمي: "تمنياتنا لك بحياة أفضل, بهذا العالم أو العالم الآخر". طبعا, و لم لا يضحكون ساخرين؟ ليس هم من تحملوا لظى السياط, دوار الركلات, ثورات القلق, دموع الوَحشَة و التفجُّع لفراق من يحبونهم. ليسوا هم من عانى من تفتق أطرافه بشفرات الشتاء, أو رؤية من يحترمهم يُمزّقون إرباً نُصبَ عينيه. تهافت تام يسيطر على حواسي, في الوقت الذي يجدّ فيه الحارس بالدفع و التوجه بمررات لا يهمني رؤيتها البتة, فسيان عندي لو أخذتُ للمسلخ بعد الآن. دفعني لزنزانتي و صرخ بلهجة آمرة: غدا ستُنقل لسجن أبو غرَيب فكن مستعداً. ضرب الباب خلفه و أختفى وجهه عن عالمي للأبد.
* * *
أسبوع يمرّ بلا مقاطعة لهدوء المقبرة الذي أعيشه. لا شيء يذكرني بعالم الأحياء سوى صحنٌ و كأس من الماء, إضافة لأصوات الجلدات و الشتائم في بعض الممرات القريبة. و أخيراً, بعد ليلة من الكوابيس المنهكة- كوابيس عن كلاب تلاحقني و عيون تلفظ سوائل حارقة على بشرتي- دفعت يدُ المساعد وليد السرحان باب زنزانتي بلا عجلة. قال, بعد أن أشعل سيجارة "سومر", بأنهم سيقلّونني لسجن أبو غريب بعد نصف ساعة, و أنه هُنا ليؤكد لي أن مامن شيء من هذا سيحصل لو أنني ألتزمت بروح المواطن الشريف. و أكمل: المواطن الذي لا يختلط بمعارضي حكومته, الذي لا يمدّ يده على رجال أمن بلده, و الذي لا يرفض لهم أمراً كذلك. لم أجبه بشيء, بقيت مفترشاً الأرض ببرود, ثانيا ركبتي اليمنى بشكل عامودي, و مسنداً ذقني عليها. قبل أن يرحل, سألته بما كنت سأسال به نفسي لاحقا:
-المساعد وليد.
-نعم؟
=هل تمنيت لو أنك لم تلد أبداً؟
لم يقهقه كما توقعت, لم يغضب, و لم يصفعني شامتاً. لا شيء من هذا كلّه, تأملني بعيون جادة لأول مرّة و مضى دون أن ينبس ببنت شفة. كان واجما, حزيناً, ذابل الشفاه و مشتت, حتى أنه قد نسي أن يمسح نقطة هلامية قرب عينه اليسرى. حاولت أن أخترق عالم الجلّاد, أن أفهم سرّ تلك القسوة و السخط. هل هو الخوف من الوقوع بمصير الضحية, فيتحولون لجلادين قتلة؟ أم أنها رغبات ساديّة بدخائلهم المريضة؟ أم لعلها مواقف فكرية متشددة, كتلك التي تعتبر الأديان أفيوناً للشعوب, الأمر الذي يهِب الجلاد الحق- أو المبرر- ليسلخ جلود من يراهم متدينيين مثلا؟ لا إجابة, و ربما كلّ هذي الإحتمالات أجوبة صحيحة! و ما المهم هنا إن عرفت الإجابة أم لا, فهاهي خطواتهم تقترب نحوي, لتكبلني إلى مصير آخر, إلى معاناة جديدة. قاسية, ضارية, موجعة و مليئة بالأسى من نوع جديد حتما. بقيت ثانيا ركبتي, موجها النظَر إلى باب الأسى ذاك, مفكراً أنه لن يفتح إطلاقا إلّا لحفلة تعذيب أو زنزانة أخرى. أطلّوا بوجوههم الصارمة, شواربهم الكثة المشبعة برائحة التبغ, و بتلك الأيدي المتيبسة التي تحمل كلّ وقاحة الدُنيا.
"أنتصب و أستدر نحو الجدار", أمرني أحدهم بصوت متسلط إنما هاديء الوتيرة. أمتثل له, فأشعر به يدفعني للجدار بقوة, يباعد مابين ساقي, أيادي رجال تدفع كتفيّ (كأن فيّ قوة لأقاومهم بها) و كلّابات تُغلق على معصمي من الخلف, لتُفتح من خلالها بابا آخرى لأشهر طويلة من المعاناة. يسحبونني بعنف من ياقتي بلا كلام, دون عصابات وجه أو أي شيء آخر, لا شيء يكفّن عينيّ سوى الدموع المريرة, التي حطّمت حصون الصمت و الموت على شواطيء الرؤيا. همست لذاتي بمرارة: هاهنا يبدأ ألم جديد.
"إتكئي أيتها الأحلام..
حزينة على نوافذ أهدابي" *
سجن أبو غرَيب, قلعة موت و أساطير مرعبة يتناقلها الشبان عن الكهول. لا أحد منّا يعرف متى أنشيء على وجه الدقة, لكن الجميع يؤكدون أنه قائم هناك منذ زمن السلاطين و الخوازيق و "الفرمانات العثمانية" الجائرة. و عندما أحتل الإنجليز الوطَن, زجوا به آلافاً من رجال الدين و العِلم و السلاح, محاولة منهم-بائسين- لأن يقمعوا الثورة. قالت لي جدتي أنهم أخذوا "سعيد" جد والدي إلى هناك, و أنهم بتروا سبابته اليمنى لكي لا يطلق أي زناد بعد أن قمعوا ثورة العشرين*, لكنه مضى لاحقا بأعوامه السبعة و الخسمين إلى فلسطين- بعد أن أتقن الرماية بالكف اليسرى- ليطرد اليهود من جنين بعام 1948 مع فصيلة الجيش العراقي, و ليُدفن هناك مع من أستشهد من رفاقه. و هكذا, كان أبو غرَيب ذكرى عائلية تدعو للفخر بأزمان كانت السجون فيها مفاخر الرجال. لكنهم اليوم- بعصر الجلاد و القمع المنتن- يتحول السجن لحظيرة تنكيل بأبناء الشعب, و بأحفاد من حرروهم. يأتون بأحد أحفاده ليمزقونه, بعد أن لاذ عنهم زناد جده بيوم مضى, بيوم كان الإنجليزي يلقي بالخبزة على جموع جائعة "ببلد الخير"·, و يفغَر فاه ضاحكا بتبجح.
أصعدوني لسيارة "رنجروفر" أمريكية, عصبّوا عيناي و أنطلقوا نحو قلعة الدم. كان السجن محاطاً بكثبان رملية و بريّة قاسية, إذ يبدو أنه معين الخلاص-رغم هوله- نسبة لوحشية البيئة المحيطة به. من بعيد, كانت ثلاثة ذئاب تقف بفروها الصحراوي الأصهب متأملة, ناظرة إلينا بوقاحة أو بأمل إلقاء سجين جديد لمخالبها. "إنه لا شيء لما ينتظرك هناك", قالها أحد الحرس و هو ينتزعني من صفنتي نحو الذئاب الثابتة بوقفتها. ألقاني إلى الأرض الصحراوية الجافة, وجدت صعوبة بالنهوض لولا إنقضاض يد قاسية- ككربة نخل- ترفعني, و صوت يردد عبارات ترحيب مستهزأة. ودعني الحرّاس اللذين رافقوني بالعربة بإستحقار, كانوا يمثلون مشهد مأتم ما وسط ضحكات ماجنة, بينما أنطلقت بهم السيارة مخلفة عاصفة غبار. "تحرّك", صرخ الرجل القاسي الملامح و هو يضغط بقوة على رقبتي, ثم دفعني أمامه راكضا وسط ضحكات مرافقين له. سبقه أحدهم لفتح باب غرفة قريبة لمدخل السجن, الأشبه بمبنى مؤسسة رسمية من مؤسسات الوطن, و دفعني بشلوت ساحق و هو يصرخ وسط الضحك: رحبوا بسمَر العاهرة.
ضجت الغرفة بالضحك إثر تعليقه. كانت الرؤيا عصيّة لهنيهة بسبب دخان سجائرهم الكثيف, و قد خمنّت أنهم أكثر من خمسة عشرة رجلاً محشويين بهذه الغرفة, الأشبه بقاعة مسامرة و سهر. كانوا بملابس نوم متسخة, يضيئهم مصباح أصفر باهت علّق بوسط الغرفة, و كانت رائحة الخمرة المقززة لصيقة بدخان سجائرهم, لتؤلف مزيجا مضاعفا من القرف. ضحكوا كلّهم على لقب "سمَر", و قالوا لصاحبهم أنه خيّب آمالهم لأنهم كانوا ينتظرون سمر الحقيقية و ليس هذا "الديوث", كما قال أحدهم, و هو يتوجه نحوي بلكمة. تراجعت بقوتها وسط إحساس مرهف بان الدماء ستنفجر الآن تماما, و فعلاً فقد طفقت الدماء تسيل من فمي و شعرت بطعمها الصديء يسيل حتى معدتي. صرخ أحدهم بي بصوت شيطاني بأن أنهض, لم أجبه, كنت محطما و بحالة تواصل مع الألم الذي أختفى عني لأيام سبقت. حملني كحيوان هائج, صفعني عدة مرات وسط ضحكهم, ثم غاصت ركبته بمعدتي. هويت للأرض بعيون جاحضة, كنت أود البكاء لكنما الدموع محصورة بسبب تلطخ عينيّ بالدماء المتفجرة من فمي و خداي. أنهضني أحدهم من جديد, أنفرجوا عني دونما سبب, و فجأة أندفع أحدهم بكرسي وسط كثافة الدخان ليهشمه على رأسي. كان هذا آخر ما شعرت به, إذ أرتخيت وسط وجوههم المائعة إثر الدموع و الأسى, و أحسست بنفسي أنحني ببطيء- إنما بألم فظيع- أقرب لإنحناء شموع شحميّة تحت الشمس. تلاشت الوقائع من رأسي كغيوم تتفتت بسماء هائلة, و حلّ الظلام مرة أخرى.
* * *
و مرّة أخرى يتكرر المشهد. زنزانة مظلمة و صرخات تعذيب تأتي من مكان ما. لكنما المفارقة الوحيدة أنني كنت وسط مجموعة من المعتقلين, كلّهم كانوا غرباء في ذواتهم, كالحي الوجوه, مريضي العيون, لحى طويلة تخبيء ذكريات شباب متألق, و وجوم أشبه بصمت فرسان يؤخذون لساحة الإعدام. أحدهم يدندن باللغة الروسيّة, مالعلّة يقول يا تُرى؟ "عندما يرحل موسم السبات..سنحطم السجون.. سنبني أصص الزهر.. سنلوّن السماء بالزرقة و دماء الرفاق المضحين.. سنبني المجد.. و سنعيش في أبديّة الشعب... لأجل أبديّة الشعب".. أنهى الترجمة رفيقه و هو يتفحص أثرها في مسرح عيني الغاص بالغبار و الأحزان. قلت أنها كلمات جميلة, ابتسَم بخجل, ابتسمتُ أنا أيضا بجهد كأنني اسأله عن سبب البسمة المفاجئة؟ قال أنها كلماته, و أنه خريج كلية الآداب الروسيّة, متيّم بجيفارا و عازف "فلامنغو"·. يقصد, مهووس "فلامنغو". قال ذلك بينما راحت أصابعه تعزف على "فلامنغو" وهمي يحمله بطيّات الذكرى.
=هنا يعدمون بعضاً منا بكلّ صباح؟
تابع عزف مقطوعة بخياله و هو يهزّ رأسه بتلذذ.
=مالك صمتّ و أمتقع وجهك؟ نعم يعدمون بعضنا كل يوم؟
-كيف يعدمونهم؟
=و كيف يعني؟ بالرصاص طبعا.. إثنان يصوبان لصدرك, و بعد إنهاء رمي المعدومين يتأكدون من موتك برصاصة برأسك بواسطة مسدس.
لم أنبس ببنت شفة, بقيت متكوما حول ذاتي و أنا أعيش حالة وجوم غير محدودة الأبعاد. كلّ شيء كان متداخلا بدماغي, و لكن الخاطر الأوضح كان "ملاك". لن تبقى عزباء طبعا, و ستتزوج من أحدهم. "أحدهم", بهذه المرارة أهمس لنفسي, فسيان لو عرفته أو لم أعرفه, أنه سينكحها بأية حال. هنا- و بلا أدنى قصد- وجدتني أفكّر بأحاديث مُناف عن النساء و تفاهة مشاعرهن. هززت رأسي نافيا فكرة أن تنساني ملاك فور موتي, و أن تهرع للتزوير عقد الزواج لتنهيه قبل تأريخ إعدامي, هكذا لتجد عريسا لا يعرف بأنها أرملة واثق المنحوس الحظ. يردونها هكذا, امرأة بلا حب و لا معرفة برجل, كأنها يجب أن تنتظره هو بين رجال الدنيا ليأتها لتحبه و تجن به بعدها. و الأدعى للسخرية أنه يعتقد أن الحب سيولد فجأة, هكذا بلا مبررات, و أنها تحبه حقا لمجرد تعريها له و موافقتها على أن ينكحها, كأنها تمتلك الخيار حقا, أو لتبسمها و إياه على مرأى حادثة سخيفة: يا للعقول المهزلة. الجسم البشري مقرف بأخلاقيته, لأنه- ببساطة- لا يمتلك أدنى شيء منها. مقرف أن يقوم عدو بإغتصاب عدوته مراراً, حتى تستيقظ تلك الغدد داخلها, حتى تتفاعل أطرافها- لا روحها- بشكل تافه مع لحم العدو, لتبكي قذارة جسدها و لعنة الشعور السخيف المجرد من الإنسانية. ليت ذاك الزوج يفهم أن ملاك ستبقى لفترة طويلة تحس بهذا الإحساس, إحساس امرأة يغتصبها رجل من الشارع, لكنها كلما أغتصبها زاد تطويعها لبنانه, حتى تغدو سعيدة معه بعد عقد من الزمن. لكن, من يؤكد أنها ستبقى لعقد بحالة أسى و ذكرى علي؟ من يجزم بأنها صادقة بمشاعرها؟ من يقل أنها تكترث حقا لمن يضاجعها ما دام يحمل لقب "زوج" أمام الدنيا؟ "تبا لك يا مُناف.. ما كانت هذي الشكوك ستوجد لولاك". تمتمت بهذا و أنا أهوي للنوم, مستعداً ليوم قد أعدم به رميا بالرصاص. لم تكن حرارة الرصاصة ما يشغلني, لم تكن لسعة الألم ما ترجف شراييني, بل تأوهات ملاك مع رجل آخر. يالقلب الرجل المجنون فيّ, أراه مصلوبا فوق هضبة نهديها, يرفض أن ينزلونه عن عرشه.
أيتها المطرية الشفاه
يا فمك المرسوم من أجمل دهشة
يا صدركِ المتكوّر من تلّ الحنان
يا بحرك..
هناك.. زرعتُ شفتيّ فوق حبّات المطر
حبّة حبّة
لأقبّل بها كل زهرة يشبه عطرها فمك
أيتها المطريّة... من ليلك
من ليالي فمك
قطفتُ النجوم بأصابع فمي
ليل.. ليال نزل على فمك المساء
يقبّل نجمة الرحيل
ليال.. جئتُك كمدينة تُحسن الانتظار
جئتك و لم أجد سوى الآثار
أيتها المطرية
يذوب من جمالك المساء
و يشرب من فمك المطر دفء في الشتاء
و يسبح في عمق روحك البحر
ينبوعك المطر...
يرفعك العصفور في منقاره
زقزقة تغسل عشّ أساه
أيتها المطرية...
كبقايا قبلة لعاشقين
سقطت على حافة الجدول... أحبّك
كزهرة نبتت على بقايا قبلة... أحبّك
كبقايا زهرة
لم تكتمل في فمها استدارة الشفتين... أحبّك
كبقايا قبلة تلملم ينبوعها
و زهرة مقطوعة الشفاه
و بقايا قبلة... و ترحل
أحبّك أحبّك... أيتها الـ...
أحبّك مثل النهر من نبعه
مثل الصبح من فمه
مثل الليل لو غاب القمر
ليل... ليالٍ تسرّب إلي أنفاسك
فألملم الحنان من أصابعك العشر و الرمان
و أغطّيك بحرير أحلامي
أيتها المطرية الشفاه
أيتها المطرية
أيتها... ليل.. ليالٍ. ·
أنته ى الفصل الثاني
|
|
04-04-2005, 09:13 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
|