على الرغم من التغييرات الكثيرة التي طرأت على الحياة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية فإن أوفر مؤلفي المسرح الأمريكي بعد الحرب نصيباً من الاحترام هو تنسي وليامز الذي أحرز أولى خطوات النجاح بمسرحيات كتبت في ظلال سنوات ما قبل الحرب. ولقد اعتبرت مسرحياته من روائع المسرح الأمريكي الذي أفرز خلال سنوات تطوره عدداً هائلاً من المسرحيات الجيدة، وهو من الكتّاب الذين أصبحت أعمالهم المسرحية مدارس في فن الكتابة للمسرح ولفهم التطور التاريخي لحركة المسرح الأمريكي، وتؤكد الدراسات والأبحاث بأن الدراما الأمريكية لم تصبح ذات موضوعات أمريكية خالصة إلا منذ أربعين عاماً، واستكملت أوج نضوجها في مسرحيات يوجين أونيل وروبرت شيرود وألمر رايس وسيدني هوارد وتنسي وليامز.
على الرغم من أن الدارما الأمريكية عكست منذ بدايتها تأثرها الشديد بالإنماط الأوروبية والبريطانية بوجه خاص التي كانت سائدة في تلك الفترة حيث كتب كتاب محترفون بوعي حاد وخبرة كبيرة في مجال الدراما المسرحية عالجوا فيها تقاليد ومواقف ومتاعب الجماهير وأزماتها في صيغة واقعية مفعمة بالمشاعر الإنسانية، ألا أن تلك المسرحيات لم تصمد على محك الزمن صموداً يكفل لها الحياة، فقد تغيرت الطباع والعادات والتقاليد الأمريكية بعد الحرب وباتت المسرحيات التي كتبت في فترات نشوء المسرح الأمريكي الأولى غريبة تماماً ومضحكة عندما تقدم على خشبة المسرح، إذ تبرز سذاجة الأفكار وقلة الخبرة في فنون الكتابة للمسرح قياساً إلى التطورات التي حصلت في المسرح الحديث. وفي بداية تكوين المسرح الأمريكي ساد موضوع حب الحرية والثورة على الطغيان وكانت تلك المسرحيات بسيطة التكوين الدرامي وهي شبه مرتجلة أحياناً وتعتمد في استخراج مادتها على بعض قصص المأثور الشعبي وحكايات البطولات في التاريخ الوطني الانساني عامة. وقد أكدت تلك المسرحيات على البطولات الفردية التي استمدت مادتها من أحداث الماضي، كما حصل عند تقديم مسرحية (سبارتكوس). وعندما أصبحت الحاجة ضرورية لتقديم أعمال ذات نمط يعالج شؤون الإنسان ويقترب من تفاصيل حياته اليومية بدأت محاولات الإعداد المسرحي عن الروايات ذات التأثير الشعبي الكبير، كما حصل بالنسبة لرواية (كوخ العم توم).
ولقد انعكست الحرب الأهلية ذاتها على الدراما الأمريكية حيث تمت معالجتها في مسرحيات عكست الرغبة في نسيان مآسي الحرب وآثارها السلبية والتفكير في صورة المستقبل والدعوة الشديدة إلى تأكيد مفاهيم الوحدة الأمريكية والاقتراب من قضية حب الحرية الفردية التي كانت سبباً في إلغاء الرق والتطلع إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية فأصبحت هذه الدعوة السبب الأساسي في وصول الموجات البشرية الكبيرة من المستوطنين وأنعكس وجودهم على حالة التطور في مجالات عديدة شملت الدعوة إلى الخروج من الدائرة الضيقة في مجال الآراء الدينية والسياسية واتاحة الفرصة أمام الأفراد لتنمية امكاناتهم المادية وتطويرها واستثمار أموالهم في مشاريع التنمية والبناء، وبذلك ظهرت مشاكل جديدة في التكوين الاجتماعي.
ظهرت أمام المسرح الأمريكي نماذج تستحق الكشف والمعالجة وعرضت المسرحيات التي تصور السماسرة والمفسدين في دراما شعبية تجذب الطبقات المختلفة بغض النظر عن مستوى تلك المسرحيات التي كان يغلب عليها الكوميديا والتضخيم الساذج للمشكلات التي يراد مناقشتها. وهكذا حصل المسرح الأمريكي في مرحلة مناقشة الأوضاع الجديدة على اهتمام جماهيري واسع. ان جهود رابطة المسرح، التي تم تشكيلها لتخطط مستقبل المسرح الأمريكي اقترنت منذ بدايتها ببداية انطلاقة المسرح الأمريكي الحديث وهي تبحث عن الينابيع في مجال الكتابة والاخراج لكي تمد الحركة المسرحية بالدم الجديد. لذلك فكرت رابطة المسرح منذ البداية بمد الجسور إلى المسرح الأوروبي الذي كان متقدماً كثيراً على المسرح الأمريكي، وبدأ التفكير بتقديم نماذج من مسرحيات أوروبية نالت شهرة واسعة لمناقشتها هموم العصر ومشاكل الانسان وكذلك لكونها جزءاً من تيارات ومدارس مهمة في المسرح العالمي الحديث، فقد اختيرت نماذج من المسرحيات التي تدعو إلى الحرية والثورة على المصطلح الاجتماعي المتخلف وعدم الاستكانة للقيم والأخلاق المتوارثة وكذلك الأهتمام بدراما الأفكار، أي المسرحيات التي لا تستهدف الامتاع والتسلية فقط بل تعنى بمناقشة الأفكار التي غالباً ما تتصل بالأوضاع الاجتماعية والسياسية المعاصرة، حيث كان لمسرحيات برناردشو النصيب الأكبر، وكذلك تقديم نماذج من المسرحيات الرمزية المهمة لهنريك أبسن وكارل تشابيك وفرانز بروفيل وجورج كيزر. كما يسجل تاريخ المسرح الأمريكي الاهتمام بتقديم نماذج من الكتاب الأمريكيين المبدعين أمثال يوجين أونيل وألمر رايس وروبرت شرود وماكسويل اندرسون وفيليب باري.
ويضاف إلى جهد رابطة المسرح محاولات عديدة حصلت في تجمعات ومسارح كثيرة كانت تهدف لخلق مسرح حديث حيوي القيمة كان جزءاً من حركة مسرحية واسعة النطاق في المدن الكبيرة.
وتأتي أهمية تلك الجهود من كونها منفتحة على تيارات الأدب والمسرح العالمي أكثر من كونها مهتمة بالجهود الاقليمية للمسرح الأمريكي ممّا أسهم في تطور تلك التجارب وتصاعد وتيرة المسرح الأمريكي ونضوج المضامين والأشكال التي تناولها كتَّاب عمالقة كان في مقدمتهم أوجين أونيل وآرثر ميللر وتنسي وليامز وغيرهم.
وصف "مالكوم جولنشتاين" كتَّاب مرحلة الثلاثينات في أمريكا بأنهم قلة من اهل الفكر ولكنهم قادرون على خلق دراما ذات أهداف جديدة، ومنشطة لحركة المسرح. وكان ثمة عامل مهم ساعد في تطور امكانيات الكتّاب هو ازدياد الاحتجاج الاجتماعي في أفق الواقع الأمريكي، حيث أصبحت قضايا الإنسان واهتماماته المحور الاساس للفكر المسرحي وكل موسم كان يحمل قدراً جديداً من التوجهات المفرغة في قالب مسرحي يتصف بالثورة على المادية والظلم ويرسم أكثر من علامة للمجتمع الجديد. ولنتوقف قليلاً عند ثلاثة من كتَّاب تلك المرحلة، هم ماكسويل اندرسون واس. إن. بيرمان وروبرت شيرود الذين عبروا خير تعبير عن الاتجاه التقليدي للطبقة الوسطى في المسرح، اذ تميزت مسرحياتهم بنكهة مأساوية وطابع جدي، وكان أغلب أبطالها شخصيات مختارة من الطبقة الوسطى وتعتبر تلك المسرحيات تطوراً للماسأة العائلية التي كانت معروفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث اعتبرت شخصيات الطبقة الوسطى صالحة لتحل محل نماذج طبقة النبلاء التي كانت تتميز بها تلك المسرحيات.
كتب اندرسون مسرحيات عديدة كوميدية وتراجيدية، غنائية وغير غنائية، وميلودراما، وتطور في الكتابة إلى اختيار أساليب خشنة في المسرح عندما كتب( كلا الدارين لك) التي يهاجم فيها سياسة الكونغرس، ثم كتب سلسلة من المسرحيات التي يحاول فيها تقديم المشاكل المعاصرة، كما في مسرحية( الليل فوق الفضيلة) و( حداد الوادي) و( العربة الممتازة).
أما بيرمان فيقترب أكثر من الإتجاه الكوميدي حيث حاول في مسرحياته الكشف عن التناقض بين أصحاب الثروات الكبيرة والمستأجرين وتناول إلى جانب ذلك السلوك والعادات في لمحات كاريكاتيرية مفزعة. ولعل أهم أعماله المسرحية (لاوقت للفكاهة) التي سجل فيها جانباً من حياته وتجاربه.
أما روبرت شيرود، فهو الكاتب المميز الذي استطاع الانتقال من الكوميديا الرفيعة إلى الدراما ذات الأثر الجاد التي تعالج مشكلة إنسانية، وكان قد كتب في عام 1931 كوميديات حظيت باهتمام كبير بتعرضها لنظريات التحليل النفسي، كما هو الحال في مسرحية (اجتماع عائلي في فينا)، وبعد أربع سنوات عالج شيرود بنظرة متشائمة موضوعات الأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف في أمريكا آنذاك، كما هو الحال في مسرحية (الغابة المتحجرة) التي تعتبر من أفضل المسرحيات التي كتبت عن المشاكل الاقتصادية وتتفق جميع الدراسات والآراء على أن اندرسون وبيرمان وشيرودكانوا أفضل مؤلفي المسرحيات الاجتماعية وأصحاب حرفة في مجال التأليف المسرحي. وتطورت الدراما الاجتماعية على يد الكتاب المسرحيين في مرحلة الثلاثينات التي شهدت مسرحيات تعالج قضايا العمال وظروف استغلالهم، كما هو الحال في مسرحية(في انتظار ليفتي) لكليفود اوديتس حيث انتزع الكاتب اعجاب الجمهور الأمريكي من خلال تصديه لمعالجة الأزمات الاقتصادية، كما واصل معالجة تلك الافكار في مسرحياته اللاحقة( استيقظوا وغنوا) ومسرحية( الفتى الذهبي) و(صاروخ إلى القمر). وتعتبر الكاتبة ليليان هيلمان أكثر واقعية في مسرحياتها التي تتحدث بها عن الآمال العريضة التي يتوقعها الجنس البشري من التقدم الصناعي والتكنولوجي. وفي مسرحيتيها (ساعة الاطفال) و( الثعالب الصغيرة) اللتين تعتبران اجمل ما كتبت والتي ناقشت فيهما نماذج اجتماعية لها ارتباط وثيق بفكر وفلسفة واتجاهات الحياة في تلك الفترة.
وبعد تجاوز مرحلة الحرب العالمية الثانية وظهور التطورات الكثيرة في حياة المجتمع الأمريكي. فإن الاحترام الكبير الذي حصلت عليه أعمال الكتّاب يوجين أونيل وآرثر ميللر وتنسي وليامز وأدوارد البي وضعتهم في مصاف المبدعين المتميزين. ولم يكن أونيل قبل الحرب كاتباً مسرحياً عالمياً لكنه كان كاتباً للمسرح من الطراز الأول في الولايات المتحدة ألأمريكية، ووجدت شهرته قبولاً في الخارج، فظفر ثلاث مرات بجائزة بولتيزر عن أحسن مسرحية أمريكية، وتلقى في سنة 1936 جائزة نوبل للآداب. اما آرثر ميللر فقد بدأت حياته المسرحية بميلودراما واقعية هي( كلهم أبنائي)، وبعد عامين قدم للمسرح مسرحية بهرت النظارة هي (موت بائع جوال) ومسرحية (الاختيار القاسي) وأخرى بعنوان (مشهد من الجسر). أما تنسي وليامز فهو نجم ذو بريق خاص يبرز في أفق المسرح الأمريكي ولعل مسرحيته (بيت الحيوانات الزجاجية) أهم مسرحية كتبت في العصر الحديث.
تنسي وليامز والمسرح الأمريكي ولد توماس لاينر وليامز عام 1914 في كولمبوس بولاية ميسوري وهو ينتمي إلى عائلة فقيرة. كان ابوه خشن الطباع جاف المعاملة يكسب قوته من عمله في محل بيع أحذية، وكانت أمه ابنة قسيس من الجنوب غرس في ذهن وليامز الصغير العديد من القصص الشعبية الفولكلورية والدينية. وفي عام 1931 التحق بجامعة ميسوري الا أنه فصُل منها بعد ثلاث سنوات لعجزه عن تسديد مبالغ الدراسة.، فالتحق بوظيفة كتابية في محل بيع الأحذية الذي يشتغل فيه والده. وازداد اهتمامه بالمسرح عندما شاهد مسرحية (الأشباح) لهنريك أبسن، ثم تأثر بنظرية فرويد وكتابات د. هـ.لورنس وتعمق كثيراً بعوالم فولكنر حيث الغموض والجو الشاعري الرمزي. ومن هنا بدأت تراود وليامز فكرة الكتابة للمسرح.على الرغم من الظروف الاقتصادية السيئة التي كانت تحاصره على الدوام، إذ يعمل في النهار ويكتب ويقرأ في الليل. وبعد اشتداد الأزمة الاقتصادية استغنت المصانع الصغيرة والكبيرة عن الأيدي العاملة فانتشرت البطالة وكان ضمن العاطلين وليامز الذي بدأ رحلته مع شبح الفقر. كان يبحث بشكل دائم عن عمل يحصل من خلاله على رغيف الخبز له ولأسرته فعمل بواباً في دار للسينما، واجتهد ليكتب السيناريو السينمائي لشركة " متروغولدين ماير". وبعد أن أتم السيناريو الأول الذي كان عبارة عن فكرة مبسطة لمسرحيته المشهورة (الحيوانات الزجاجية) واجهته الشركة بالرفض وامتنعت عن التعامل معه. وبعد ذلك الفشل القاسي عمل وليامز في مهن عديدة منها كاتب برقيات في دائرة البريد ونادلاً في مقهى ليلي ومنشد أغانٍ في تجمع للطبقة المترفة. كانت ذاكرة وليامز تسجل كل التفاصيل وتختزنها ألا أن ثمة انحرافاً خطيراً برز في حياته عندما صار يعاقر الخمر بنهم شديد ويتسكع في الشوارع العفنة حتى أصابه انهيار حاد ودخل مصح الأمراض العقلية. وبعد مغادرته المصح في عام 1936 التحق بجامعة أيوا، وهو يصف تلك المرحلة بأنها كانت صعبة للغاية، حيث كان تفكيره يتوزع بين استرجاع الذكريات ومحاولة تسجيلها في أعمال أدبية كالقصة أو المسرحية. وكانت البداية مع مسرحيات الفصل الواحد كما فعل يوجين أونيل في عام 1939 عندما حصلت مسرحيته الأولى (معركة الملائكة) على جائزة مالية. اقترح اعضاء مؤسسة روكفلر الأدبية منح وليامز العضوية وحصل بعد ذلك على منحة علمية أتاحت له دراسة فن الكتابة للمسرح بشكل متميز. وفي مجال الدراسة تعرف على الناقد جون جاسنر وتيريزا هلبيرن وعرض عليهما بعض كتاباته. وأظهرا أعجابهما بمسودة مسرحيته الطويلة( معركة الملائكة). ويرى وليامز آنئذ انها كانت الخطوة الأولى في عالم الكتابة للمسرح. وعندما نتأمل حياة الكاتب تنسي وليامز نجد ان ثلاث مراحل مهمة اتسمت بها تجربته ؛ الأولى التي اصر على تسميتها بمرحلة تجريب الأفكار الشعرية والغنائية بقوالب وصيغ مسرحية، والثانية التي ظهر فيها باحثاً ومتأثراً ومبدعاً في مجال استلهام المورثات الشعبية والأساطير والحكايات الخرافية وبرز فيها التأثير الديني وتأثره بالميثولوجيا اليونانية، وكذلك الإيمان بأفكار فرويد، والثالثة التي حاول فيها تنسي وليامز ابتكار صيغ وافكار جديدة للمسرح بقصص مألوفة ذات اتجاه جديد مؤكداً أن عذاب البشرية لايمكن ان ينتهي الا بتطوير تجارب الانسان باتجاه خلق وضع اجتماعي جديد يلغي كل أشكال التخلف والمعاناة. كما حاول ان يربط توجهات الإنسان نحو السمو الديني بالوعظ الخفي والتأكيد على ان الخالق كفيل بحل المشاكل المعقدة ووضع الحل الابدي لعذابات البشر. كتب وليامز مجموعة من المسرحيات القصيرة تحمل عنوان (أحزان الامريكيين).، صدرت بعد نجاح مسرحيتي (مجموعة الحيوانات الزجاجية) و(عربة أسمها الرغبة).وجاءت أفكار تلك المسرحيات سريعة قصيرة مقتضبة الا انها اعتمدت أساليب مبتكرة للمعالجة الدرامية في مسرحية( معركة الملائكة) التي صدرت عام 1940.استغل وليامز للمرة الثانية أحداث التشرد في حياته، وتبدو المسرحية كأنها فكرة مقدسة سيطرت على ذهن الكاتب فهو يتناولها في أكثر من مسرحية. ويقول وليامز عن مسرحية( معركة الملائكة) بأنها المسرحية التي استطاع من خلالها دخول عوالم هوليوود من أوسع الأبواب مع كونها مسرحية ذات بيئة محدودة لم يتجاوز تأثيرها حدود مدينة بوسطن. ويصفها في مذاكراته " كانت مسرحية يكثر فيها السرد وتمر بعمق فوق أحداث تبعث في النفس الوحشة والألم، عقدة المسرحية ترتكز على موضوع ذي جاذبية جنسية يشق طريقه إلى مدينة عتيقة الطراز في احدى ولايات الجنوب الأمريكي، فتتصاعد ضجة كبيرة تحتل مساحة واسعة في أحداث المسرحية" ويعتقد النقاد بأن وليامز كان متأثراً إلى حد بعيد بطريقة فولكنر في رسم الشخصيات من خلال تحديد المستويات الثقافية المتباينة في المسرحية. وهناك اعتقاد آخر بتأثر وليامز من خلال الموضوع الذي تبشر به المسرحية بكتابات الروائي د. هـ.لورنس. يقول الناقد هنري بوبكين في كتابه( مسرح تنسي وليامز): " ان الكاتب اضاف إلى اضطراب المسرحية صيغة رمزية تتشابك خطوطها ضمن الموضوع وضمن أفكار الشخصيات والعقد الثانوية الصغيرة حيث يمكن أن يقال أنها مستمدة من التوراة أو المثيولوجيا اليونانية القديمة.". ان تأثير أيام الشقاء والتعاسة والمصير المجهول ظل مسيطراً على وليامز في أعماله سواء في المسرح أو في القصة، وظلت تلك الافكار تتردد في حوار وليامز المسرحي، كذلك تبنّى افكاراً مقاربة لأفكار د. هـ. لورنس وحصل وليامز بفضل (معركة الملائكة) على جائزة روكفلر، وقد اشار الناقد جون جاسنر إلى فشل المسرحية في كتابه " المسرح في مفترق الطرق". كذلك أكد وليامز ذلك في مقدمة مسرحيته (الماضي والحاضر) ان اعماله ذات الأفكار التي تقترب من مناقشة الأزمات والمشاكل الجنسية لم يحالفها الحظ بل قاطعها المجتمع دائماً على الرغم من تضمينها افكاراً مهمة واساليب جديدة في الكتابة للمسرح. وقد تحولت هذه المسرحية إلى سيناريو سينمائي في عام 1958 واخرجته هوليوود فيلماً عنوانه( صنف المشردين). حاول وليامز تفسير آراء الكاتب الذي تأثر به كثيراً وهو د. هـ.لورنس، فكتب مسرحيته (هتفت العنقاء اصعد لهباً) وهي من مسرحيات الفصل الواحد في عام 1951. ولهذه المسرحية أهمية خاصة لأنها تروّج لعدة آراء كان يجاهر بها لورنس وتكرر ظهورها في أكثر مسرحيات وليامز. والجديد في المسرحية الأسلوب الدرامي الذي استخدمه وليامز في خلق شخصية على نمط شخصية أديب يأسف في اخر ايامه أن حياته أنتهت في مجال الكتابة ولم يتحرر من قيود الواقع المر حيث كان طموحه العيش في عالم يحقق فيه ذاته على النحو الذي يريد. وقد سادت هذه الأفكار جميع مسرحيات وليامز الأولى، والشخصية الرئيسة في المسرحية مكتوبة على نمط شخصية لورنس حيث كان اهتمام وليامز محصوراً بتصوير لورنس صاحب رواية (أبناء وعشاق) التي أستطاع بمهارة أن يصور فيها التضاد بين الجنسين في العلاقة ويلقي الضوء على الجنس بوصفه دافعاً اساسياً للحياة. وبعد نجاح مسرحية( الحيوانات الزجاجية) قدمت مسرحية لها نهج خاص في مسرح وليامز، هي (لقد أثرت عواطفي) التي عرضت على مسرح كليفلاند. والمسرحية، كما تشير أغلب الدراسات مستوحاة من إحدى القصص القصيرة للورانس كما أن طريقة البناء الدرامي في المسرحية تبدو مختلفة نوعاً ما في الشكل والأفكار والمضمون. وتكونت من ثلاثة محاور تتوزع بين الكوميديا وعرض الموضوعات الفكرية الجادة والمناقشة اللاذعة لمشاكل حياتية مهمة . وهي تطابق آراء العديد من النقاد السائدة آنذاك في المسرح الأمريكي والتي تهدف إلى بناء المسرحية الاستعراضية مع إشارة مهمة إلى أن مسرحية (لقد أثرت عواطفي) تحوي الكثير من عيوب التأليف المسرحي رغم محاولة الكاتب اللاهثة لتضمينها اشارات وافكاراً رمزية كثيرة. انها تجربة في مجال الكتابة المشتركة حيث كتبت المسرحية بالاشتراك مع الكاتب دافيد ويندهام بعد ظهور أعمال كثيرة أعتمدت مفهوم المشاركة في الكتابة أمثال مؤلفات الكاتب بوير، وبولتون، وهاريت فورد، ووليم دي ميل، وراسل كروز. ان من سمات التأليف المشترك تلك الرغبة التي تنتج عن اشتراك مؤلفين أحدهما يتطوع في ابتداع العقد المسرحية وخلق الموضوع، والآخر يهتم في بناء الحوار ويمتلك وعياً نظرياً في فن الكتابة. والتأليف المشترك لايخلو من المخاطرة وأوجه السوء حيث تواجه أحد الشريكين في الكتابة صعوبة تحقيق وحدة الانطباع وخلق الشخصيات وتوفير الجو والمزاج النفسي المطلوب. وهناك احتمال أختلاف وجهتي النظر في الفكرة، إذ يكمن الخطر في عدم وضوح الفكرة المراد مناقشتها، وغالباً ما تكون المسرحية عملاً فجاً وقد يعزى إلى هذا السبب فشل مسرحية (لقد اثرت عواطفي) وهي التجربة الوحيدة التي قام بها وليامز في مجال التأليف المشترك. وأهمية هذه المسرحية تتأتى من ان الكاتب حاول جاهداً رسم آرائه بنظرية الجنس التي كانت عقيدة لورنس في الكتابة، وهي مقتبسة عن قصة قصيرة كتبها لورنس في بداياته الأدبية، وهكذا حاول وليامز أن يجرب حظه في عدة اشكال من التأليف قبل ان يتقدم بخطوات أكيدة ويحرز نجاحه الباهر كاتباً مسرحياً مبدعاً. ان اغلب النقاد يعتقد أن تنسي وليامز لم يقدم شيئاً جديداً بعد مسرحياته التجريبية ألأولى بل فكر بشكل ذكي في كل ما كتب وسعى إلى تحوير تلك المسرحيات واضافة أفكار جديدة لها. كما أعاد رسم شخصياتها بعمق وشكل يتفق مع النضج الفكري والفني الذي وصل إليه، وبالتالي فقد عمد إلى طريق البناء الداخلي لأفكار مهمة سبق واختبرها في التأليف لعله يفيد من تجربة ترميم مسرحيات "الأسرار في الكنيسة" التي عرفت في العصور الوسطى وكانت موضوعاتها تستوحى من تعاليم الكتاب المقدس. وفي أمريكا، ابتدأت بعض الفرق المسرحية تعيد عرض مسرحيات شكسبير ودريدان التي أعادت نبض الحياة إلى المسرحية الشعرية وفتحت ابواباً واسعة أمام تجارب الكتاب الشباب في جيل وليامز لمحاولة الكتابة للمسرح الشعري. أن "المسرحية الشعرية" شكل خاص من اشكال المسرح العالمي حيث تقدم الواقع الذي ينعكس من خلال وعي الشاعر وأحاسيسه وأعادة الخلق المباشر لظواهر الحياة التي تحيط بالانسان. ويصف الشاعر الالماني "غوته" ابداع الشاعر في المسرح "بأنه يجسد ما يشغله بصورة الفرح والحزن بتكوينات يصفي بها الحساب مع نفسه". وتأتي مجموعة قصص قصيرة بعنوان (ذو الذراع الواحدة) لتؤكد تطور كاتب يشق طريقه بين عوالم الشعر والقصة والمسرح. ففي هذه القصة جميعاً يسترعي انتباه القارئ دقة الكاتب في أختيار الجمل والكلمات التي يرسم من خلالها الجو العام ليكون نسيجاً درامياً شائقاً ويضمن تلك القصص أفكاراً عن الانحرافات مع اضفاء الغموض على بعض أجواء تلك الروايات. وبعد فوز مجموعة مسرحياته القصيرة( أحزان الأمريكيين) بجائزة محلية، بدأ نجاح وليامز ككاتب درامي يتطور ويؤكد بعد كل عمل أدبي في المسرح أو في القصة بأنه يسير بالاتجاه المؤثر في تكوين المسرح الأمريكي.وقد قدمت جميع المسرحيات التي كان يتضمنها كتاب" أحزان الأمريكيين" على خشبة المسرح ومنها (ابنة موني لاتبكي) و( الغرفة المظلمة) و(وجبة العشاء غير المشبعة) و(قضية شجرة الطباق المهشمة) و(عشر بنات على الطريق الرئيسي). وتكاد تكون تلك المسرحيات ذات أجواء مختلفة وتناقش موضوعات شتى إلا أنها عالم واسع الأرجاء متصارع الأفكار والنظريات. ولقد اعترف تنسي وليامز ذات مرة بأن مسرحياته الطويلة المهمة التي كتبت في مراحل متعددة تنبع من المسرحيات الأولى ذات الفصل الواحد أو من قصصه القصيرة التي كتبها قبل شروعه بالكتابة للمسرح. وعموماً، كانت تلك المسرحيات والقصص غير ذات تأثير ولم تكن مهمة كذلك، وتأتي فكرة أعادة كتابة تلك الموضوعات لتؤكد بحث وليامز الدائم في الأفكار التي تمت تجربتها والتعامل معها بصيغ جديدة أكثر أبهاراً واقناعاً واقتراباً من مضامين العصر وفلسفة تطور الدراما. وهذا ما يتأكد فعلاً في مجموعة المسرحيات القصيرة بعنوان (سبع وعشرون عربة معبأة بالقطن) التي صدرت في وقت لاحق بعد صدور أعماله الأولى، حيث تعد تلك المسرحيات بداية دخول وليامز في عوالم التجريب الواقعي في المسرح حتى أن النقاد هللوا كثيراً بظهور اتجاه جديداً في المسرح الأمريكي له خصائص متميزة. وتعتبر هذه المسرحيات المفتاح لمعرفة موهبة الكاتب الذي استطاع أن يحتل مكانة متقدمة بعد رحيل يوجين أونيل. اذ طرح الأفكار التي عبرت عن القيم المسرحية القديمة بقوة وجرأة. إن اغلب مسرحيات وليامز. التي كتبها في بداياته الأولى كانت تتضمن مناظر كتبت بمهارة وحذق، يجري الحوار فيها بين الشخصيات بشكل دقيق ينم عن وعي كبير بالبناء الدرامي مع انها تضمنت اساليب حوت التحايل واصطناع بعض الحلول الجاهزة. لقد وضعت مسرحية( الحيوانات الزجاجية) وليامز في مقدمة الصف الأول من كتاب المسرح، وكانت المسرحية السابعة التي كتبها وليامز وصادفت النجاح على خشبة المسرح في شيكاغو في عام 1945، وفازت بجائزة الدوائر الأدبية للدراما في نيويورك عام 1956، وهي من مسرحيات الذاكرة ومكتوبة في سبعة مناظر تمثل السمات الأساسية لمسرح تنسي وليامز وتختلف عن مسرحياته السابقة. وعلى الرغم من وجود ايقاع هادئ ساد المسرحية فإنها تغرز الحاضر بسموم الماضي وتتداعى الذاكريات كالاحلام الوردية أو كأعواد قاسية مغروسة في الذاكرة للبحث عن الحلم والحقيقة. ويرتكز الحدث في المسرحية على تفاعل يقوم بين الشخصيات الثلاث الرئيسة أذ أن لكل منها مأساة ذاتية تقف متماسكة على أرضية الواقع السلبي المرير، كل شخصية تحاول الهروب من الأزمة إلى وضع يشبه أحلام اليقظة والتمسك بالصورة المثالية التي رسمتها كل شخصية من الشخصيات الثلاث لنفسها. اعترف وليامزفي مقدمة كتابه(خمسة شعراء امريكيين في مقتبل العمر) أنه اعتاد خلال السنوات التي عمل فيها موظفاً في مصنع الأحذية ان يختبئ في دورة مياه الرجال لكتابة قصائد مقفاة، وعندما اكتشف صاحب المصنع ذلك فصله من العمل. وبطل المسرحية ينتمي لفريق من الرجال انصرفوا إلى التجارة والسلطان ولم يهتموا بالعواطف الانسانية، ولم يفكروا لحظة بعواطف الحب وتكللت حياتهم بالنجاح الكبير في مجالات الصناعة والتجارة الا ان الفشل لاحقهم في علاقاتهم الزوجية. وعندما يذكر وليامز أن المسرحية ليست واقعية فهو يعطينا طابع الإثارة ويجعل المتفرج أو القارئ يفكر بأبعاد ثانية لموضوع المسرحية. وتبدو قدرة وليامز ككاتب في مسرحية( الحيوانات الزجاجية) ذات الحوار الذي يعد أجمل حوار تفتق عنه ذهن أي كاتب درامي أمريكي بابتداعه مناظر عاطفية رقيقة وشخصيات مؤثرة.
بعد وفاة الكاتب الأمريكي تنسي وليامز عام 1983 اهتمت المسارح العالمية وبعض المسارح الأكاديمية في الوطن العربي بتقديم مسرحياته، وكتبت الصحف والمجلات عنه، وكانت تلك الكتابات تشكل النزر اليسير عن كاتب كبير اصبح من اشهر الكتاب في المسرح الأمريكي المعاصر إلى جانب يوجين أونيل،- وقد اختلف النقاد في أميركا ودول أخرى حول أهمية مسرح تنسي وليامز وقيمته الدرامية.. وتأتي هذه المحاولة وهي الأولى في الوطن العربي لتقدم دراسة مستفيضة عن مسرح وليامز وتحليلاً لمعظم مسرحياته بحيث يشكل هذا الكتاب مصدراً لدراسة نتاج الكاتب الذي اتخذ لمسرحه اتجاهاً مختلفاً وفتح نافذة جديدة للمسرح الأمريكي عالج من خلالها هموم الإنسان وفق نظريات العلم الحديث.. (1) نشر الفصل الأول من الكتاب في مجلة آفاق عربية العدد(8) آب 1988.
03-11-2005, 02:24 AM
{myadvertisements[zone_3]}
نزار عثمان
Gramsci
المشاركات: 1,664
الانضمام: Dec 2004
لقد ظهر في مصر نوعان من الفنون الشعبية المسرحية :
أولاً: التشخيص المرتجل:
القائم على النص الشفهي غير المكتوب الذي يردده بعض الممثلين المحترفين ومن فوق مسارح متنقلة أو ثابتة، وعرف هذا النوع في مصر خلال القرن الثامن عشر ولقد سجل الرحالة الأجانب والمستشرقون خلال زياراتهم إلى مصر فلقد شاهدوا العروض الشخصية المرتجلة في البيئات الشعبية مثل الرحالة الإيطالي (بلزوني) الذي وصف هذه العروض في كتابه (قصة العمليات والإكتشافات الأخيرة في مصر وبلاد النوبة) ولقد ذكرها المستشرق الإنجليزي (ادوارد) في كتابه (المصريون المحدثون... شمائلهم وعاداتهم).
كانت هذه الفرق المتجولة تقيم عروضها التمثيلية في مدن مصر وقراها وذلك لتحيي مناسبات عامة أو خاصة وكانت تقيم مسارحها التي تشبهه السيرك في أماكن ثابتة وغير ثابتة وكانت تعتمد على الممثلين المحترفين.
ثانياً مسرح خيال الظل:
ويحكي في صوره أحداث وأو أفعال ولقد أثر هذا الفن (خيال الظل) في المسرح العربي الحديث بشكل واضح ولكن لسوء الحظ لم يعرف بالضبط تاريخ دخول فن خيال الظل إلى مصر لكن من المتفق عليه أنه كان معروفاً أثناء حكم الفاطميين لمصر حيث صار هذا الفن التمثيلي البسيط فناً شعبياً عامياً يعرض في المناسبات الدينية والاجتماعية رغم اتفاق الآراء أنه نشأ أولاً في قصور الحكام والطبقة الأرستقراطية من أجل الترفيه عن الأغنياء وتسليتهم.
كانت الشخوص تصنع من الورق المقوى أوالجلد أما الذين يحركون هذه الشخوص فكان يطلق عليهم (المخايلون) وكان المخايل يقلد الأصوات المختلفة سواء كانت أصوات نسائية أو أصوات رجال أو أطفال وهو في ذلك يستغل طبقات صوته، وكانت عروض خيال الظل تمثيليات بسيطة تتناول الحروب الصليبية في المشرق العربي مثل تمثيلية (حرب العجل) ولقد شاع فن خيال الظل التمثيلي واكتسب شعبية هامة ثم انتقل إلى بقية الأقطار الإسلامية كما انتقل بعد ذلك إلى غرب أوروبا. ذلك لأن الإغريق والرومان لم تكن لهم معرفة بهذا الفن التمثيلي الشعبي البسيط .
ظل هذا الفن معروفاً في مصر حتى الرابع عشر الهجري (أواخر الثامن عشر الميلادي) فكان يعرض في الأعراس وتسلية رواد المقاهي. ولم تضعف شعبية خيال الظل إلا عندما اخترع الأوروبيون الرسوم المتحركة .
وصف خيال الظل
كان هذا المسرح أشبه بالخيمة الكبيرة الواسعة وكان الدخول مجانياً قبل بدء العرض ولكن بعد عرض جزء من التمثيلية كان يخرج أحد المخايلين يخرج لييجمع بعض القطع النقدية من الجمهور كلاً حسب طاقته، وكانت منصة المسرح في الجزء المغلق من الخيمة وكان المسرح به شاشة بيضاء ناصعة مثبت ورائها مصباح كبير من مصابيح الزيت وكانت تتحرك بين الشاشة والمصباح الرسوم الجلدية أو الورقية (الشخوص) وكانت تتحرك على أسياخ حديدية ويظهر خيالها (ظلها) مكبراً أمام الجمهور، ولقد خصص اثنان من المخايلين لتحريك الشخوص على هذه الأسياخ ويعاونهما في ذلك اثنان آخران ويتبادل الأربعة الإنشاد والحديث. ولم تكن هناك امرأة ممثلة .
ولقد تخصص بعض الممثلين في تمثيل عروض خيال الظل وكان يطلق عليهم (المخايلون) أما كبيرهم فيسمى (الريس) أو (المعلم) ومهمته ربط سياق الأحداث وضبط حركة المخايلين كما كانت من مهامه الإعلان عن بداية التمثيلية ونهايتها، من جهة أخرى تخصص بعض المؤلفين لكتابة تمثيليات خيال الظل وكان أشهرهم (الشيخ مسعود) و(علي النحلة) في العصور الوسطى ولكن أشهر من كتب تمثيليات خيال الظل هو (ابن دانيال الكحال الموصلي) الذي أطلق على تمثيلياته اسم (بابات) فكان تسجيل هذه الأعمال هي البداية الحقيقية لهذا المسرح الشعبي غير المباشر.
لقد تميزت هذه التمثيليات بالزجل والسجع أما الشخوص فكانت لبسطاء الناس من أصحاب الحرف والطوائف مثل السقاة والنحاسين، لقد استطاع فن خيال الظل أن يصور البيئات الشرقية ويعبر عن ملامح العصر وعن مشاعر البسطاء وآمالهم وآلامهم ولهذا يرى البعض أن هذه الصور الفكاهية أحد المؤثرات التي أثرت على المسرحيات الكوميدية في العصر الحديث فالزوجة المشاكسة والزوج الضعيف والحماة سليطة اللسان قد ظهرت في عروض خيال الظل قبل أن تظهر في المسرح العربي في بداية القرن العشرين عند (نجيب الريحاني) و (علي الكسار).
لم يصلنا الكثير عن هذا الأدب التمثيلي، فقد وصلنا فقط ثلاث تمثيليات (لابن دانيال الموصلي)، الأمر الذي يجعل لدينا مسرح له شخصية مستقلة أصيلة. إذن كان التمثيل المرتجل وتمثيليات خيال الظل يمثلان ظواهر درامية تعكس غريزة التقليد والمحاكاة عند الإنسان ولكنهما لا يمتان بصلة إلى المسرح بمعناه الصحيح.
قدوم المسرح إلى مصر
قدم المسرح إلى مصر أول ما قدم مع الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م بقيادة نابليون بونابرت، فتكونت فرقة "الكوميدي فرانسيز" الكوميدية. والقائد الثالث (مينو) هو أول من أقام مسرح كبناء هو مسرح "الجمهوري والفنون" عام 1799م. ولهذا يعتبر هذا المسرح له أهمية في الذاكرة لكونه أول مسرح في الشرق الأوسط، إلا أنه قوبل بالرفض لأن لغته فرنسية والممثلين فرنسيين والجو فرنسي أضف إلى ذلك المعارضة الدينية ولذا فلم يؤثر كثيراً في الحياة الفنية في مصر.
وفي عام 1869م أقام الخديوي إسماعيل أول أوبرا في مصر وذلك لاستقبال أمراء أوروبا الذين يشاركون في افتتاح قناة السويس، وأول أوبرا عرضت هي أوبرا عايدة التي ألفها عالم الآثار الفرنسي (مارييت باشا) وقد استوحى هذه الأوبرا من التاريخ الفرعوني القديم، ولكن هذه المسرحية الغنائية لم تقدم في حفل الافتتاح لأسباب فنية فقدمت بدلاً منها أوبرا "روجوليتو" وفي العام التالي عرضت أوبرا "عايدة" وحازت على إعجاب الطبقة المثقفة في ذلك الوقت، وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ظهر (يعقوب صنوع) وبظهوره نستطيع أن نقول أن الحياة المسرحية في مصر قد خطت أولى خطواتها فقد كان ملماً بأكثر من لغة أجنبية ومن أهمها الإيطالية والفرنسية وقد أرسله الخديوي سعيد إلى إيطاليا لكي يدرس المسرح وهناك في إيطاليا عمل ممثلاً محترفاً في الفرق الأجنبية وبعض الفرق الإيطالية وبعدها عاد إلى مصر وأسس المسرح المصري.
عاش الكوميدي الموهوب نجيب الريحاني في الفترة (1889-1949) والذي لقب بموليير الشرق. ولد إلياس نجيب الريحاني ونشأ في أسرة من الطبقة المتوسطة بحي باب الشعرية بالقاهرة ، لأب من أصل عراقي وأم مصرية . انجذب نجيب الريحاني نحو المسرح منذ الصغر على الرغم من عدم ثقته من موهبته وقد درس بمدرسة الفرير بالخرنفش واشترك في تمثيل نصوص من المسرح الفرنسي ،هجر الدراسة قبل حصوله على البكالوريا . التحق في عام 1906 بالبنك الزراعي وهناك التقى بالفنان عزيز عيد والذى كان موظفا في نفس البنك حيث قامت بينهما الصداقة ، اشتركا في تمثيل أدوار صغيرة بعروض الفرق الفرنسية الزائرة وفي عام 1907 انضم لفرقة عزيز عيد الفودفيلية التي كونها ولكنه لم يستمر بها وفصل من البنك لعدم انتظامه فى العمل . انضم بعدها إلى فرق كثيرة منها فرقة سليم عطا الله ، عين بشركة السكر بنجع حمادي عام 1910 لكنه فصل منها بسبب مغامرة عاطفية ، التحق بعدها بفرقة الشيخ أحمد الشامي وتجول معها بأقاليم مصر والتي أكسبته خبرة طيبة بالرغم من المعيشة القاسية في المأكل والمبيت . بعدها أعادته والدته إلى شركة السكر وفضل بعدها الإقامة في القاهرة ليكون قريبا من الأنشطة المسرحية . في عام 1914 التحق بفرقة جورج أبيض ولكن الأخير وجده لا يصلح للتمثيل فاستغنى عنه ورجع مرة أخرى إلى فرقة عزيز عيد في يونيو 1915 ولم يستمر طويلا .
كانت بداية الريحاني كصاحب مشروع فني في صيف 1916 عندما فكر في تقديم عمل من خلقه ، تأليفا وتمثيلا وإخراجا ، بطله شخصية وثيقة الصلة بالواقع هي كشكش بك العمدة الريفي المتلاف عاشق النساء ، المحب للحياة ، الذي يفد للقاهرة ليغشى دور اللهو حيث ينفق أمواله على الحسان ويعود إلى قريته نادما تائبا . كان العرض الأول تعاليلي يابطة قدمها بكازينو آبيه دي روز في أول يوليو 1916 ، وتلتها بستة ريال ، بكره في المشمش ، خليك تقيل ، هز ياوز ، اديلو جامد ، بلاش أونطة ، كشكش بك في باريس ، أحلام كشكش بك... ، كانت أبرز الشخصيات كشكش التي مثلها الريحاني ، والحماة المزعجة أم شولح ، والخادم زغرب ، وكانت الفكاهة تعتمد على الهزل المحض من شخصيات مغلوطة ولهو خشن وسباب وسوء الفهم الناشئ عن إلتباس الألفاظ والحوار الذي يتضمن عبارات فرنسية .
قدم الريحاني أعمال استعراضية عام 1917 ، لينافس علي الكسار الذي كان يقدم هذا اللون بفرقة الأوبريت الشرقي بكازينو دي بار ، فقدم أم أحمد ، أم بكير ، حماتك بتحبك ، حمار وحلاوة (استمر عرضها ثلاثة أشهر 1918) ، على كيفك ، التي سادها الغناء والإستعراض وافتقدت للصراع والأحداث المترابطة والكوميديا وتميزت بالمشاعر الوطنية وأغانيها الحماسية وفقدت أهميتها عقب إنتهاء الثورة عام 1919 . توجه الريحاني إلى لون ارقى واكمل كالأوبريت لتوفر عناصر الدراما من قصة وشخصيات وأحداث مترابطة ومساحة للكوميديا ، وكانت البداية العشرة الطيبة التي قدمها 1920 اقتباس محمد تيمور وتلحين سيد درويش ، وكتب بالاشتراك مع بديع خيري خلال( 1923-1924) اوبريتات الليالي الملاح ، البرنسيس ، الشاطر حسن ، أيام العز ، الفلوس ، مجلس الإنس ، لو كنت ملك ، واعتمدت معظمها على قصص (ألف ليلة وليلة) واسند البطولة النسائية إلى زوجته الراقصة بديعة مصابني . هذه المسرحيات شكلت خطوة متقدمة لمسرح الريحاني .
تراجع الريحاني في الفترة بين (1926-1931) ، إذ حاول أن ينافس يوسف وهبي بتقديم مليودرامات وليؤكد على أنه قادر على أداء ألوان جادة غير الكوميدي ، فقدم مليودراما المتمردة عام 1929 ثم موفانا ، ولكن الجمهور لم يتقبل الريحاني ، نجم الكوميديا فقدم هزليات غنائية استعراضية بطلها كشكش بك ، وكان الرقص والغناء أبرز العرض في مسرحيات ليلة جان 1927 ، مملكة الحب ، الحظوظ ، يوم القيامة ، آه من النسوان ، ابقى اغمزني 1928 ، ياسمينه ، نجمة الصبح ، اتبحبح 1929 ، ليلة نغنغة ، مصر باريس نيويورك ، أموت في كده ، عباسية 1930 .
في المرحلة القادمة تطور فن الريحاني ، لأن الصراع لا يدور بين كشكش بك وحمته أم شولح بل بينه وبين أبناء الطبقة المتوسطة في المدينة ، كما تمتزج حيل الفارس بالسخرية اللاذعة والنقد في محاولة الخروج عن الهزل المحض ، واتخذ خطوات للإقلال من حجم الغناء والاستعراض ، واتى بشخصيات متنوعة من صميم المجتمع ، صبحت فيما بعد شخصيات أساسية في مرحلة النضج الفني 1932 -1949 مثل الإنسان الصغير الشريف ، الخادمة النشطة الشريفة ، الحماة المزعجة .
كانت الجنيه المصري نقطة تحول في حياة الريحاني اشترك فيها مع بديع عن نص توباز للكاتب الفرنسي مارسيل بانيول ، وهي كوميديا اجتماعية مثلتها فرقة الريحاني على مسرح الكورسال عام 1931 ، تكلمت على تأثير المال على الفرد والجماعات وكيف يفسد الضمائر وينتهك الأخلاق والمبادئ ، وقد مثلت الجنيه المصري بعد ذلك بنجاح تحت اسم الدنيا بتلف ، ثم السكرتير الفني ، ولكن الجمهور لم يتذوق هذه الكوميديا الساخرة عام1931 ، إلا أن الريحاني عاود التجربة عام 1935 بتقديم مسرحيات اجتماعية ناجحة ، التي شكلت مرحلة النضج الفني التي استمرت حتى وفاته .
في معظم مسرحيات تلك الفترة ظهر الريحاني كإنسان شريف نزيه متمسك بالقيم ، على درجة من الدهاء والثقافة ، ولكنه يائس مفلس وسيئ الحظ ، مؤمن بالقدر ، خفيف الظل ومتهكم ، ساخر من أوجه الزيف والفساد والمظهرية الجوفاء في المجتمع .ثم تدخل القدر وهبطت عليه ثروة ترفع من قدره ومكانته بفضل المسرحية "الدنيا لما تضحك" 1934 ، و" بندق أبو غزالة" الذي يسخر من قيادات الدولة المتخلفة في حكم قراقوش 1936 ، ثم تحسين المدرس البائس في مسرحية قسمتي 1936 ، " شحاتة " الكاتب الداهية في إدارة الوقف في " لو كنت حليوة " 1938 ، أنور الموظف الصغير في مواجهة فتاة ثرية رعناء أفسدها التدليل في " الدلوعة " 1939 ، ثم في دور " سليمان " المحامي المفلس الباحث عن كنز في قصر تتحكم في شؤونه عجوز تركية تعيش في الماضي و ذلك في " إلا خمسة" 1943 ، في عام 1945 مثل دور " عباس " في " حسن ومرقص وكوهين" .
في هذه المرحلة كثف الريحاني الخط الكوميدي الإنتقادي وأخذ ينهل من صيغ الكوميديا متعددة المستويات ابتداء من الكوميديا الراقية إلى الفارس والكوميديا الشعبية ، إلا أنه خفف قدر استطاعته من أساليب الهزل والهذر التي لا تخدم غايته وكانت سائدة في مراحل سابقة .
توفي نجيب الريحاني إثر إصابته بالتيفوئيد في 8 يونيو 1949 .
المراجع
1. د. فاطمة موسى ، قاموس المسرح ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
2. محمود تيمـور، طلائع المسرح العربي، مكتبة الآداب ومطـبعتها.
3. لانــدو ، تاريخ المسرح العربي، ت : يوسف نور عوض ، دار القلم - لبنان ، 1980.
إعــداد/ محـمد العــامري
...................................
يعقوب صنوع ( 1839 ـ 1912)
ولد يعقوب صنوع عام 1839 من أبوين يهوديين، وكان أبوه فى خدمة الأمير يكن حفيد محمد علي. وقد أتيح ليعقوب أن يطّلع على مختلف الثقافات ، حيث درس التوراة والانجيل والقـرآن ، وأجاد ثلاثة عشرة لغـة . وأتقن الموسيقى والرسم والرقص.
ذهب صنوع إلى إيطاليا لدراسة الفنون والأدب عام 1853 وعاد عام 1855 كي يعمل فى خدمة الأستقراطية والقصر . وقد أتيح له أن يتنقل بين فئات المجتمع المصري من الأوساط الشعبية من حرفيين وعمال وفلاحين إلى الطبقة المتوسطة التى ينتمي إليها هو نفسه إلى الطبقة الأرستقراطية وحياة القصور . كما كانت لصنوع صلاته الوثيقة بالجاليات الأوروربية . وقد كان لهذه المعايشتة لهذه الأوساط الاجتماعية المختلفة فى الواقع المصرى دورها وأثرها الفعال في التعرف على كل أفراد الشعب المصري . وعرف تفاصيل حياة أفراد هذه الطبقات والصراع الدائر بين هذه الطبقات أو بين أفراد كل طبقة بنفسها بين قويها وضعيفها ، ذكرها وأنثاها . مما صقل ذهنه واستفاد منه فى رسم شخصياته الاجتماعية فى المسرحيات الكوميدية الاجتماعية.
كتب صنوع العديد من المسرحيات ، ولكن أغلبها فقد ، وأنشأ العديد من الصحف مثل: ( أبو نظارة زرقاء) ، و ( أبو زمارة ) ، و ( الوطني المصـري ) ، و ( العالم الإسلامي ) ، و ( الثرثارة المصرية ). وهي فى أغلبها تنتقد السياسة المصرية فى ذلك الوقت.
أنشأ صنوع فرقته المسرحية الخاصة لتقديم مسرحياته . وتولى تدريبها بنفسه . وقد ساعده على ذلك الدراسة الأكاديمية للفنون واللغات؛ واطلاعه على أعمال الكتاب المسرحيين فى لغاتهم الأصلية وخاصةً موليـير وجولدوني وشريدان؛ والاشتـراك فى العروض المسرحيـة للفـرق الخاصـة بالجاليات الأوروبية . وكما قلنا فإن صنوع استطاع أن يكوّن المناخ الملائم لفرقته المسرحية واستطاع بمساعدة أصدقائه أن يعرض عروضه على مسرح ( قاعة الأزبكية ) فحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً لدرجة أن الخديوي إسماعيل نفسه طلب منه أن يعرض مسرحياته فى القصر، وأطلق عليه: (موليير مصر ). وفي فرقة صنوع ظهرت النساء لأول مرة على خشبة المسرح . وعرض صنوع مسرحياته لمدة سنتين فى القصر إلى أن قدم مسرحية: ( الوطن والحرية ) والتى سخر فيها من فساد القصر ، فغضب عليه الخديوي وأغلق مسرحه ثم نفاه الى فرنسا بعد ذلك ، نتيجة لتحريض أعداءه عند الخديوي ضده.
وكتب صنوع عدداً كبـيراً من المسرحـات منـها ما قـدم من خـلال فرقـه المسـرحية في الفترة: (1870 ـ 1872) أو التي نشرها فى صحافته . وعموماً فإن مسرحيات صنوع تنقسم الى قسمين رئيسيين هما:
1)الكوميديا ذات النزعه الاجتماعية.
2)المسرحية السياسية.
و في مجال السياسة فقد كان صنوع شغوفاً بالسياسة لدرجةٍ كبيرة ، وقد رأى فساد القصر وأهله وأنظمته المنهارة ، فتصدى فى جرأة لانتقاد سياسة الخديوي إسماعيل الفاشلة فى مسرحياتٍ كثيرة منها: مسرحية: " الوطن والحرية "، ومسرحية " الجهادي" وهى مسرحية مجهولة ليعقوب صنوع . ومسرحية: " شيخ الحارة " أيضاً.
كما استخدم صنوع أسلوب جديد فى كتابته للمسرحيات السياسية وهو أسلوب: ( اللعبات الثياترية ). وقد كتب العديد منها. ومنها: " القرداتي " ، و "حكم قراقوش" ، و " الدخاخيني " ، و " سلطان الكـنوز "، و" الواد " ، و " زمـزم المسكينة ".
وبالنسبة للمسرحيات الاجتماعية ، فقد كتب صنوع الكثير من هذه المسرحيات منتقداً فيها بعض الظواهر الشاذة والعادات السيئة في المجتمع المصري.
تطـرق صنوع الى قضية تحرير المرأة ، واهتم بهذه المسألـة التي كانت تؤرق الكثيـرين من أفراد المجتمـع المصري، ولهذا قـام بكتابة مسرحيـة:"راستور وشيخ البلد والقواص " وهي عبارة عن أوبريت هزلي يعتمد أساسا على الأغنية والموسيقى . ونظرا لكون هذه المسرحية مفقودة . فإنا لا نستطيع أن نعرف قصة المسرحية وبالتالي رأي صنوع الشخصي في هذه القضية وأسلوب تناوله لها.
وكتب صنوع العديد من المسرحيات ذات النقد الاجتماعي فى قالبٍ فكاهيٍ كوميدي ، ينتقد فيه ما لا يراه مناسباً فى المجتمع المصري، ومن المسرحيات التى كتبها صنوع فى هذا الشأن مسرحية: " أبو ريدة وكعب الخير" وفيها يقدم نموذجا للحب الرومانسي فى صورةٍ ساخرة . كما أنه تطرق الى قضايا الحب والزواج فى مسرحيات أخـرى منـها مسرحية: " العليل " ومسرحية: " بورصة مصر " ومسرحية: " الأميرة الاسكندرانية " ومسرحية " الصداقة " ... وغيرها.
المراجع
- د . مصطفى منصور . " الدراما ونقد الحياة في مسرح يعقوب صنوع " . مجلة المسرح . العدد 64 مارس 1994. ص 32 .
- د . نادية رءوف فرج . المرجع السابق . ص 46 .
- د . عبد الرحمن ياغي . المرجع السابق . ص 132، و136.
إنه الرائد الأكبر للمسرح الـحديث ، والكاتب الفنان العظيم الذي حاول أن ينقض مقولة كبرت بريفر القائلة: " إلى يومنا هذا لا توجد دراما عربية، بل توجد فقط دراما باللغة العربية. لأن جميع المسرحيات التي ظهرت في لغة محمد ليست إلا ترجمات، وعلى أحسن الفروض تقليدات تحاكي الأعمال الأوروبية ". إنه توفيق الحكيم الذي غذى الفن الدرامي و جعله فرعا هاما من فروع الأدب العربي ؛ وخير دليل على ذلك أعماله المسرحية التي تربو على الخمسين باختلاف أنواعها وشخصياتها ، لذا كان جديرا أن يطلق عليه اسم ( والد المسرح العربي ).([1])
أمـا عن السيرة الذاتيـة للحكيـم فنعرف أنه ولـد فـي مدينـة الإسكندريـة عـام 1898 مـن والـد مصـري فـي قريـة (الدلنجـات ) إحـدى قـرى مركـز ( ايتاي البـارود ) بمحافظـة البحـيرة.([2])
لكنَ هناك من يـؤرخ تاريخاً آخر لولادة توفيـق الحكيـم ـ رغم تأييد الحكيـم نفسه لهذا التاريخ ـ وذلك حسبما أورده الدكتور إسماعيـل أدهـم والدكتور إبراهيـم ناجي فـي دراستهمـا عـن الحكيـم حيث أرَخا تاريخ مولده عام 1903 بضاحية ( الرمل ) فـي مدينة الإسكندرية. لكنَ أرجح الآراء تأكد على أنّ تاريخ مولده كان عام 1898.([3])
اشتغل والد الحكيم بالسلك القضائي، وكان يعد من أثرياء الفلاحين، وكانت أمه سيدة متفاخرة لأنها من أصل تركي لذا كانت صارمة الطباع، تعتز بعنصرها التركي أمام زوجها المصري، وتشعر بكبرياء لا حد له أمام الفلاحين من أهله وذويه.
وكثير ما أقامت هذه الأم الحوائل بين الطفل توفيق وأهله من الفلاحين، فكانت تعزله عنهم وعن أترابه من الأطفال وتمنعهم من الوصول إليه، ولعل ذلك ما جعله يستدير إلى عالمه العقلي الداخلي، وبدأت تختلج في نفسه أنواع من الأحاسيس والمشاعر نتيجة لهذه العزلة التي فرضتها والدته عليه، فنشأت في نفسه بذور العزلة منذ صغره ، وقد مكّنه ذلك من أن يبلغ نضجاً ذهنياً مبكراً.
وقضى الطفل مرحلته الابتدائية بمحافظة البحيرة، ثم انتقل إلى القاهرة ليواصل دراسته الثانوية. وكان لتوفيق عَمّان بالقاهرة، يعمل أكبرهما معلماً بإحدى المدارس الابتدائية، بينما الأصغر طالباً بكلية الهندسة، وتقيم معهما أخت لهما. ورأى الوالد حفاظاً على ابنه أن يجعله يقيم مع عمّيه وعمتـه. لعل هؤلاء الأقارب يهيئون له المنـاخ المناسب للدراسة والتفرغ للدروس وتحصـيل العلم والتفرغ له.([4])
وفي أواخر دراسته الثانية من تعليمه الثانوي عرف الحكيم معنى الحب فكان له أكبر الأثر في حياته. وقصة هذا الحب أنه أحب فتاة من سنه كانت ابنة أحد الجيران، الذي اتصلت أسباب الصلة بين عائلتها وبين عمة توفيق، ونتيجة لزيارة هذه الفتاة لمنزل عمته فقد تعلق الحكيم بها إلى درجة كبيرة، إلا أنه للأسف فإن نهاية هذا الحب هو الفشل، حيث أن هذه الفتاة ساءت علاقتها بعمة توفيق أولاً، كما أنها أحبت شخصاً آخر غير توفيق. وكانت لهذه الصدمة وقعها في نفس الحكيم، الذي خرج بصورة غير طيبة عن المرأة من خلال هذه التجربة الفاشلة.([5])
وقد عاصر هذه العلاقة العاطفية بين الحكيم وفتاته اهتمامه بالموسيقى والعزف على آلة العود، وعنيّ بالتمثيل وراح يتردد على الفرق المختلفة التي كانت تقيم الحفلات التمثيلية في المسارح، ومن أهمها: ( فرقة عكاشة ) التي قدّم لها الحكيم العديد من أعماله.
وفي هذه المرحلة انفجرت ثورة 1919. وكان لها الأثر الكبير في نفوس الشباب لأنها تعادي الإنجليز الذين يستغلون بلادهم، وكانت بزعامة سعد زغلول، لذا اشترك فيها الكثير من الشبان آنذاك. ورغم أنها فشلت وتم القبض على سعد زغلول وعلى الحكيم ـ الذي هو أيضاً اشترك فيها ـ وغيرهم، إلا أنها كانت ينبوعاً لأعمال الكثير من الأدباء والفنانين، لأنها أشعـلت الروح القومية في قلوبهم فأسـرعوا يقدمون إنتاجهم الذي يفيـض بالوطنيـة، فكانت أولى أعمال الحكـيم " الضيف الثقيل ". وبعد انقضاء فترة السجن في المعتقل درس الحكيم القانون بناءً على رغبة والده الذي كان يهدف من تعليم ابنه أن يحصل على الدكتوراه في القانون.([6])
ونتيجة لاتصال الحكـيم بالمسرح العربي فقد كتب عدة مسرحيات كانت مواضيعها شرقية ويدل على ذلك عناوينها: " المرأة الجديدة " و " العريس " و " خاتم سليمان " و " علي بابا ".([7])
بعد ذلك عزم الحكـيم على السفر إلى فرنسا لدراسة الحقوق، فأرسله والده إلى فرنسا ليبتعد عن المسـرح والتمثيل ويتفرغ لدراسة القانـون هناك. وكان سفره إلى باريس عام 1925. وفي باريس تطلـع الحكـيم إلى آفاقٍ جديدة وحياةٍ أخرى تختلف عن حياة الشـرق فنهل من المسرح بالقدر الذي يروي ظمأه وشوقه إليه.([8])
وفي باريس عاصر الحكيم مرحلتين انتقاليتين هامتين في تاريخ المسرح هناك، وكان ذلك كالتالي:
1) المرحلة الأولى: وعاصر الحكيم فيها مرحلة المسرح بعد الحرب العالمية الأولى. عندما كانت ( المسارح الشعبية ) في الأحياء السكنية، أو (مسارح البوليفار) تقدم مسرحيات هنري باتاي، وهنري برنشتن، وشارل ميريه، ومسرحيات جورج فيدو الهزلية. وكانت هذه المسرحيات هي المصدر الذي يلجأ إليه الناقلون في مصر عن المسرح الغربي.
2) المرحلة الثانية: وتتمثل في الحركة الثقافية الجديدة التي ظهرت شيئاً فشيئاً في فرنسا. وتعتمد على مسرحيات ابسن وبراندللو وبرنارد شو وأندريه جيد وكوكتو وغيرهم .([9])
وكان هناك أيضاً مسرح الطليعة في مسارح ( ألفييه كولومبييه، والايفر، والاتلييه ). فاطّلع الحكيم على هذه المسارح واستفاد منها لمعرفة النصوص المعروضة وأساليب الإخراج فيها. وحاول الحكيم خلال إقامته في فرنسا التعرف على جميع المدارس الأدبية في باريس ومنها اللامعقول، إذ يقول الحكـيم عن ذلك: " إن اللامعقول والخوارق جزء لا يتجزأ من الحيـاة في الشرق ".([10])
وخلال إقامة الحكيم في فرنسا لمدة ثلاث سنوات استطاع أن يطلع على فنون الأدب هناك، وخاصة المسرح الذي كان شغله الشاغل، فكان نهار أيامه يقضيه في الإطلاع والقراءة والدراسة، وفي الليالي كان يتردد على المسارح والمحافل الموسيقية قاضياً فيها وقته بين الاستفادة والتسلية.
وفي فرنسا عرف الحكيم أن أوروبا بأكملها أسست مسرحها على أصول المسرح الإغريقي. فقام بدراسة المسرح اليوناني القديم وقام بقراءة المسرحيات اليونانية تراجيدية كانت أو كوميدية التي قام بكتابتها الشعراء المسرحيون اليونانييون. كما اطلع على الأساطير والملاحم اليونانية العظيمة.
وإضافة على اطلاعه على المسرح الأوروبي انصرف الحكيم إلى دراسة القصة الأوروبية ومضامينها الوطنية مما حدا به إلى كتابة قصة كفاح الشعب المصري في سبيل الحصول على حريته، فكتب قصة " عودة الروح " بالفرنسية، ثم حولها فيما بعد إلى العربية ونشرها عام 1933 في جزأين.
وفي عام 1928 عاد الحكـيم إلى مصر، وعيّن وكيلاً للنيابة عام 1930، وفي عام 1934 نقل مفتشاً للتحقيقات بوزارة المعارف، ثم نقل مديراً لإدارة الموسيقى والمسرح بالوزارة عام 1937، ثم مديراً للدعاية والإرشاد بوزارة الشؤون الاجتماعية. وخلال هذه الفترة لم يتوقف الحكيم عن الكتابة في مجالات المسرح والقصة والمقال الأدبي والاجتماعي والسياسي، إلى أن استقال من عمله الحكومي في عام 1944 وذلك ليتفرغ لكتاباته الأدبية والمسرحية.([11])
وفي نفس العام انضم إلى هيئة تحرير جريدة أخبار اليوم، وفي عام 1954 عيّن مديراً لدار الكتب المصرية، كما انتخب في نفس العام عضواً عاملاً بمجمع اللغة العربية. وفي عام 1956 عيّن عضواً متفرغاً بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدرجة وكيل وزارة. وفي عام 1959 عيّن مندوباً لمصر بمنظمة اليونيسكو بباريس، وبعد عودته عمل مستشاراً بجريدة الأهرام ثم عضواً بمجلس إدارتها في عام 1971، كما ترأس المركز المصري للهيئة الدولية للمسرح عام 1962 وحتى وفاته.([12])
وفاز توفيق الحكيم بالجوائز والشهادات التقديرية التالية:
1) قلادة الجمهورية عام 1957.
2) جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1960، ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى.
3) قلادة النيل عام 1975.
4) الدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام 1975.
كما أطلق اسمه على فرقة ( مسرح الحكيم ) في عام 1964 حتى عام 1972، وعلى مسرح محمد فريد اعتباراً من عام 1987.
وخلال حياة الحكيم في مصر ظهرت لنا كتاباته أدبية كانت أو مسرحية أو مقالات أو غيرها. وترك لنا الحكيم الكثير من الآثار الأدبية المتنوعة في أساليب كتاباتها، كما ترك لنا ذلك الرصيد الهائل من المسرحيات التي تنوعت بين ذهنية واجتماعية وأخرى تميل إلى طابع اللامعقول.
وفي يوليو من عام 1987 غربت شمس من شموس الأدب العربي الحديث ورمز من رموز النهضة الفكرية العربية، شمس سيبقى بريقها حاضراً في العقلية العربية جيلاً وراء جيل من خلال ذلك الإرث الأدبي والمسرحي الذي أضافته للمكتبة العربية. فقد رحل نائب الأرياف توفيق الحكيم عن عمر يزيد على الثمانين، بعد حياة حافلة بالعطاء عمادها الفكر وفلسفتها العقل وقوامها الذهن.
مسرح توفيق الحكيـم
بالنسبة للمسرح فقد كانت أول أعمال الحكيم المسرحية هي التي تحمل عنوان " الضيف الثقيل ". ويقول عنها في كتابه سجن العمر ما يلي:
" … كانـت أول تمثيليـة لي في الحجـم الكامل هي تـلك التي سميتها " الضيف الثقيل " … أظن أنها كتبت في أواخر سنة 1919. لست أذكر على وجه التحقيق … كل ما أذكر عنها ـ وقد فقدت منذ وقت طويل ـ هو أنها كانت من وحي الاحتلال البريطاني. وأنها كانت ترمز إلي إقامة ذلك الضيف الثقيل في بلادنا بدون دعوة منا " .([13])
وبالنسبة للمسرح عند الحكيم فقد قسم الحكيم أعماله المسرحية إلي ثلاثة أنماط رئيسية:
أولاً: المسرح الذهني ( مسرح الأفكار والعقل )
كتب الحكيم الكثير من المسرحيات الذهنية من أشهرها:
1) مسرحية " أهل الكهف ". ونشرت عام 1933.
تعتبر هذه المسرحية الذهنية من أشهر مسرحيات الحكيم على الإطلاق. وقد لاقت نجاحاً كبيراً وطبعت هذه المسرحية مرتين في عامها الأول كما ترجمت إلى الفرنسية والإيطالية والإنجليزية وهذا أكبر دليل على شهرتها.([14])
والجدير بالذكر أن المسرح القومي قد افتتح بها نشاطه المسرحي؛ فكانت أول الـعروض المسرحية المعروضة فيه هي: " أهل الكهف " وكان ذلك عام 1935 وكان مخرجها الفنان الكبير زكي طليمات. ولكن للأسف كان الفشل حليفها، واصطدم الجميع بذلك حتى الأستاذ توفيق الحـكيم نفسه الذي عزا السبب في ذلك إلى أنها كتبت فكرياً ومخاطبة للذهن ولا يصلح أن تعرض عملياً.([15])
إن محور هذه المسرحية يدور حول صراع الإنسان مع الزمن. وهذا الصراع بين الإنسان والزمن يتمثل في ثلاثة من البشر يبعثون إلى الحياة بعد نوم يستغرق أكثر من ثلاثة قرون ليجدوا أنفسهم في زمن غير الزمن الذي عاشوا فيه من قبل. وكانت لكل منهم علاقات وصلات اجتماعية تربطهم بالناس والحياة، تلك العلاقات والصلات التي كان كلاً منهم يرى فيها معنى حياته وجوهرها. وفي حينها وعندما يستيقظون مرة أخرى يسعى كل منهم ليعيش ويجرد هذه العلاقة الحياتية، لكنهم سرعان ما يدركون بأن هذه العلاقات قد انقضت بمضي الزمن؛ الأمر الذي يحملهم على الإحساس بالوحدة والغربة في عالم جديد لم يعد عالمهم القديم وبالتالي يفرون سريعاً إلى كهفهم مؤثرين موتهم على حياتهم.
2) مسرحية " بيجماليون ". ونشرت عام 1942.
وهي من المسرحيات الذهنية الشهيرة للحكيم، وهي من المسرحيات التي اعتمد فيها الحكيم على الأساطير، وخاصةً أساطير الإغريق القديمة.
والأساطير إدراك رمزي لحقائق الحياة الإنسانية التي قد تكون قاسية. وهدفها خلق نوع من الانسجام بين الحقائق الإنسانية حتى تستطيع أن تستجمع إرادتنا وتوحد قوانا ويتزن كياننا المضطرب.([16])
وحسب هذا المفهوم استغل الحكيم الأساطير وخاصةً الأساطير اليونانية، فكتب ثلاث مسرحيات أحداثها مستوحاة من التراث الإغريقي الأسطوري وهي: " براكسا " و" بيجماليون" و" الملك أوديب ". ولكنه بثّ في هذه المسرحيات أفكاره ورؤيته الخاصة في الموضوع الذي تتحدث عنه كل مسرحية.
3) مسرحية " براكسا " أو " مشكلة الحكم ". ونشرت عام 1939
وهي أيضاً مستقاة من التراث الإغريقي. ويظهر الحكيم من خلال هذه المسرحية وهو يسخر من الإطارالإغريقي من النظام السياسي القائم في مصر وهو الديموقراطية التي لم تكن في تقدير الحكيم تحمل سوى عنوانها. وفي هذه المسرحية التي تحمل الطابع الأريستوفاني جسدّ الحكيم آراؤه في نظام الأحزاب والتكالب على المغانم الشخصية والتضحية بالمصالح العامة في سبيل المنافع الخاصة.
4) مسرحية " محمد ". ونشرت عام 1936.
لم تتجلى الموهبة العبقرية للحكيم كما تجلت في مسرحيته " محمد " وهي أطول مسرحياته بل أطول مسرحية عربية. وربما بسبب طولها فإنه من الصعب وضعها على المسرح. وقد استقى الحكيم مادتها من المراجع الدينية المعروفة. والمسرحية بمثابة سيرة للرسول عليه السلام، إذ أنها تشمل فقرات من حياة الرسول تغطي أهم جوانب تلك الحياة.
وهناك الكثير غير هذه المسرحيات الآنفة الذكر كتبها الحكيم، ومن أشهر مسرحياته: " شهرزاد " و " سليمان الحكيم " و " الملك أوديب " و " إيزيس " و " السلطان الحائر" … وغيرها.
ثانياً: مسرح اللامعقول
يقول الحكيم في مجال اللامعقول:
" … إنّ اللامعقول عندي ليس هو ما يسمى بالعبث في المذاهب الأوروبية …ولكنه استكشاف لما في فننا وتفكيرنا الشعبي من تلاحم المعقول في اللامعقول … ولم يكن للتيارات الأوروبية الحديثة إلا مجرد التشجيع على ارتياد هذه المنابع فنياً دون خشية من سيطرة التفكير المنطقي الكلاسيكي الذي كان يحكم الفنون العالمية في العصور المختلفة… فما إن وجدنا تيارات ومذاهب تتحرر اليوم من ذلـك حتى شعرنا أننـا أحـق من غيرنا بالبحث عـن هـذه التيارات في أنفسنا … لأنها عندنا أقدم وأعمق وأشد ارتباطاً بشخصيتنا ".([17])
ولقد كتب الحكيم في هذا المجال العديد من المسرحيات ومن أشهرها:
1) مسرحية " الطعام لكل فـم ".
وهي مزيج من الواقعية والرمزية. ويدعوا الحكيم في هذه المسرحية إلى حل مشكلة الجوع في العالم عن طريق التفكير في مشروعات علمية خيالية لتوفير الطعام للجميع، فهو ينظر إلى هذه القضية الخطيرة نظرته المثالية نفسها التي تعزل قضية الجوع عن القضية السياسية. فالحكيم لا يتطرق هنا إلى علاقة الاستعمار والإمبريالية والاستغلال الطبقي بقضية الجوع ولا يخطر بباله أو أنه يتناسى عمداً أن القضاء على الجوع لا يتم إلا بالقضاء على الإمبريالية التي تنهب خيرات الشعوب نهباً، ولا يتم ذلك إلا بالقضاء على النظام الرأس مالي الاستغلالي وسيادة النظام الاشتراكي الذي يوفر الطعام للكل عن طريق زيادة الإنتاج والتوزيع العادل.
2) مسرحية " نهر الجنون ".
وهي مسرحية من فصل واحد، وتتضح فيها أيضاً رمزية الحكـيم. وفيها يعيد الحكيم علينا ذكر أسطورة قديمة عن ملك شرب جمـيع رعاياه من نهر كان ـ كما رأى الملك في منامه ـ مصدراً لجنون جميع الذين شربوا من مائه، ثمّ يعزف هو ورفيق له عن الشرب، وتتطور الأحداث حتى ليصّدق رعاياهم فعلاً أن هذين الاثنين الذين لم يشربا مثلهم ـ بما فيهما من اختلاف عنهم ـ لا بدّ وأنهما هما المجنونان إذاً. وعلى ذلك فإنّ عليهما أن يشربا أيضاً مثلما شربوا. وقد جردّ الحكيم مسرحيته من أي إشارة إلى الزمان والمكان. وهكذا فإننا نستطيع أن نشعر بصورة أكثر وضوحاً لاعترض الحكيم ضد هذا القسر الذي يزاوله المجتمع على الإنسان فيجبره على الإنسياق و التماثل.
وهناك العديد من المسرحيات الأخرى المتسمة بطابع اللامعقول، ومن أهمها: " رحلة إلى الغد " و " لو عرف الشباب ". وفي المسرحية الأولى منهما يسافر رجلان خمسمائة سنة في المستقبل. وفي الثانية يسترد رجل مسن شبابه. ويحاول هؤلاء جميعاً التكيف مع حياتهم الجديدة ولكنهم يخفقون.
ويخرج الحكيم من هذا بأنّ الزمن لا يقهر، والخلود لا ينال، لأنهما أبعد من متناول أيديّنا. وإلى جوار فكرة الزمن يشير الحكيم إلى النتائج الخطيرة التي يمكن أن تنجم عن البحث العلمي والتقدم فيه.
ثالثاً: المسرح الاجتماعي
( سوف نستكمل هذا الجزء في المرحلة القادمة )
خصائص مسرح توفيق الحكيم
يمكن أن نجمل أهم مميزات مسرح توفيق الحكيم فيما يلي:
1) التنوع في الشكل المسرحي عند الحكيم. حيث نجد في مسرحياته: الدراما الحديثة، والكوميديا، والتراجيوكوميديا، والكوميديا الاجتماعية.([18])
2) جمع الحكيم بين المذاهب الأدبية المسرحية في كتاباته المسرحية. حيث نلمس عنده: المذهب الطبيعي والواقعي والرومانسي والرمزي.
3) نتيجة لثقافة الحكيم الواسعة واطلاعه على الثقافات الأجنبية أثناء إقامته في فرنسا فقد استطاع أن يستفيد من هذه الثقافات على مختلف أنواعها. فاستفاد من التراث الأسطوري لبعض هذه الثقافات، ورجع إلى الأدب العربي أيضاً لينهل من تراثه الضخم ويوظفه في مسرحياته.
4) استطاع الحكيم في أسلوبه أن يتفادى المونولوج المحلي الذي كان سمة من سبقه. واستبدله بالحوار المشع والحبكة الواسعة.
5) تميزت مسرحيات الحكيم بجمال التعبير، إضافة إلى حيوية موضوعاتها.
6) تزخر مؤلفات الحكيم بالتناقض الأسلوبي. فهي تلفت النظر لأول وهلة بما فيها مـن واقعية التفصيلات وعمق الرمزية الفلسـفية بروحها الفكهة وعمق شاعريتها… بنزعة حديثة مقترنة في كثير من الأحيان بنزعة كلاسيكية.([19])
7) مما يؤخذ على المسرحيات الذهنية عند الحكيم مسألة خلق الشخصيات. فالشخصيات في مسرحه الذهني لا تبدوا حيةً نابضةً منفعلة بالصراع متأثرةً به ومؤثرةً فيه.([20])
8) تظهر البيئة المصرية بوضوح في المسرحيات الاجتماعية. ويَبرُز الحكيم فيها من خلال قدرته البارعة في تصوير مشاكل المجتمع المصري التي عاصرتها مسرحياته الاجتماعية في ذلك الوقت. وأسلوب الحكيم في معالجته لهذه المشاكل.
9) ظهرت المرأة في مسرح توفيق الحكيم على صورتين متناقضتين. كان في أولاهما معادياً لها، بينما كان في الأخرى مناصراً ومتعاطفاً معها.
10) يمكن أن نستنتج خاصية تميز مسرح الحكيم الذهني بصفة خاصة ومسرحه الاجتماعي ومسرحه المتصف بطابع اللامعقول بصفةٍ عامة وهي النظام الدقيق الذي اتبعه في اختياره لموضوعات مسرحياته وتفاصيلها، والبناء المحكم لهذه المسرحيات الذي توصل إلى أسراره بعد تمرس طويل بأشهر المسرحيات العالمية.([21])
الهوامش
([1]) د . نادية رءوف فرج . يوسف إدريس والمسرح المصري الحديث . ص 71 .
([2]) د . شوقي ضيف . الأدب العربي المعاصر . ص 288.
([3]) د . إسماعيل أد هم ، و د . إبراهيم ناجي . توفيق الحكيم . ص 57 .
([4]) د . مصطفى علي عمر . القصة وتطورها في الأدب المصري الحديث . ص 202.
([5]) د . إسماعيل أد هم ، ود . إبراهيم ناجي . المرجع السابق . ص66 وما بعدها.
([6]) يعقوب . م. لنذاو . دراسات في المسرح والسينما عند العرب . ترجمة أحمد المغازي . ص 235 .
([7]) بقلم . أ. بابادبولو . " توفيق الحكيم وعمله الأدبي " . مقالة ضمن مسرحية " السلطان الحائر" . ص 182 .
([8]) د . فاطمة موسى . قاموس المسرح ج (2) . ص 574 .
([9]) أحمد حمروش . خمس سنوات في المسرح . ص 99 وما بعدها .
([10]) أميرة أبو حجلة . في مسرح الكبار والصغار . ص43 .
([11]) د . فاطمة موسى . المرجع السابق . ص 574 .
([12]) د . فاطمة موسى . نفس المكان .
([13]) د . توفيق الحكيم . سجن العمر . ص 150 .
([14]) لاندو . تاريخ المسرح العربي . ترجمة د . يوسف نور عوض . ص 110 .
([15]) أحمد شوقي قاسم . المسرح الإسلامي روافده ومناهجه . ص 91 .
([16]) د . سامي منير . المسرح المصري بعد الحرب العالمية الثانية بين الفن و النقد السياسي والاجتماعي . ص 18 .
([17]) د . عبد الرحمن ياغي . في الجهود المسرحية ( الإغريقية الأوروبية العربية ( من النقّاش إلى الحكيم ) . ص 185 .
([18]) د . محمد مبارك الصوري . " في الذكرى الأولى لوفاة توفيق الحكيم " . مجلة البيان . العدد 270 سبتمبر 1988 . ص 13 .
([19] ) أ . بابا دوبولو . " توفيق الحكيم وعمله الأدبي " . المرجع السابق . ص 188 .
([20] ) د . محمد مندور . مسرح توفيق الحكيم . ص 39 .
([21]) د . فؤاد دوارة . في النقد المسرحي . ص 39 .
المراجع
1. د . نادية رءوف فرج . يوسف إدريس والمسرح المصري الحديث
2. د . شوقي ضيف . الأدب العربي المعاصر
3. د . إسماعيل أد هم ، و د . إبراهيم ناجي . توفيق الحكيم
4. د . مصطفى علي عمر . القصة وتطورها في الأدب المصري الحديث
5. يعقوب . م. لنذاو . دراسات في المسرح والسينما عند العرب . ترجمة أحمد المغازي
6. أ. بابادبولو . " توفيق الحكيم وعمله الأدبي " . مقالة ضمن مسرحية " السلطان الحائر"
7. د . فاطمة موسى . قاموس المسرح ج (2)
8. أحمد حمروش . خمس سنوات في المسرح
9. أميرة أبو حجلة . في مسرح الكبار والصغار
10. توفيق الحكيم . سجن العمر
11. لاندو . تاريخ المسرح العربي . ترجمة د . يوسف نور عوض
12. أحمد شوقي قاسم . المسرح الإسلامي روافده ومناهجه
13. د . سامي منير . المسرح المصري بعد الحرب العالمية الثانية بين الفن و النقد السياسي والاجتماعي
14. د . عبد الرحمن ياغي . في الجهود المسرحية ( الإغريقية الأوروبية العربية ( من النقّاش إلى الحكيم )
15. د . محمد مبارك الصوري . " في الذكرى الأولى لوفاة توفيق الحكيم " . مجلة البيان . العدد 270 سبتمبر 1988
16. د . محمد مندور . مسرح توفيق الحكيم
17. د . فؤاد دوارة . في النقد المسرحي
إعـداد/ أحمد بن سليمان الجـلنداني
...........................................
أحمد شوقي
يعد أحمد شوقي ، أمير الشعراء ، أول من ابتكر الشعر المسرحي ، فهو رائده الأول ـ رغم أن أبا خليل القباني قد كتب قبل شوقي مسرحيتين ، لكننا و للنثر المتراكم فيهما لا نستطيع ادراجهما في المسرح الشعري.
و أحمد شوقي ، مجدد الشعر العربي مع حافظ و البارودي من قبلهما ، قد كتب مسرحياته الشعرية في أواخر حياته ، بعد اعتلائه إمارة الشعر عام 1927م ، لكنه كان قد بدأ هذه الخطوة الجريئة قبل ذلك بسنوات عندما تم ابتعاثه إلى فرنسا لدراسة الحقوق بجامعة مونبلييه حيث رأى هناك ، في عاصمة النور كما تسمى ، ألوان الحضارة و الفنون ، و منها المسرح ؛ و المسرح الكلاسيكي الفرنسي بالذات ، فبدأ بكتابة مسرحيته " على بك الكبير " لكنه لم يتمها و أهملها ، ثم عاد إلى مصر لينخرط بالعمل الوطني و الدفاع عن مصر ضد المحتل الأجنبي ، رغم رعاية الخديوية له و مدحه لهم بقصائد غزيرة ، وقد نفي إلى الأندلس ثم عاد عام 1919م ليواصل مسيرته الشعرية و النضالية و السياسية ، حتى كان عام 1927م عندما تمت مبايعته على إمارة الشعر .
و يبدو أن المدارس الشعرية الحديثة و تقلبات العصر و ظروفه ، و محاولة البحث عن شيء جديد جعلته يتجه لتكملة مشروعه القديم " المسرح الشعري " ، فقام ـ خلال فترة مرضه ( 1930م ) ـ بتأليف عدد من المسرحيات : " مجنون ليلى " و " قمبيز " و " الست هدى " و " البخيلة " ، كما أتم مسرحيته " علي بك الكبير " التي بدأها قبل ذلك بسنوات .
و بالإضافة لهذه المسرحيات الشعرية ، كتب " مصرع كليوباترا " و " عنترة " ، و أيضا " أميرة الأندلس " و هي المسرحية النثرية الوحيدة التي كتبها شوقي ، و على ما يبدو أنه بدأها منذ مرحلة سابقة عندما كان منفيا إلى الأندلس .
في كل هذه النصوص المسرحية التي ألفها شوقي ، يتضح تأثره ـ كما أسلفنا ـ بالمسرح الفرنسي الكلاسيكي ، و ذلك باستثناء نصي " الست هدى " و " البخيلة " ، حيث استمد أحداث مسرحياته من وقائع تاريخية و تراثية .
و لعل أهم ما يميز مسرحيات شوقي ، أنها لم تأت لتروي أحداثا تاريخيا صرفة ، فقد توخى شوقى في مسرحياته البنية الدرامية من ترتيب منطقي للأحداث و قواعد درامية كالتشويق و العقدة و الحل مما جعله يبتعد عن الحقيقة التاريخية المؤكدة لتلك الشخوص ، كما فعل في مسرحيته " مصرع كليوباترا " ، و من المميزات الأخرى التي تميز مسرحيات شوقي ، تلك العاطفة " الحب " الكبيرة التي شحن بها قلوب أبطاله ، مما جعل من مسرحه يقترب من المدرسة الرومانسية كثيرا .
على أن السمة الأخيرة تتضح في فشل شوقي بعدم إيجادته رسم الشخصيات الدرامية و تصوير ملامحها ، كما هو الحال مع الرومانسيين .
و هذا مأخذ يتخذه النقاد المسرحيون على شوقي ، كما أن هناك مآخذ أخرى اتخذت عليه ، كتغييره الأحداث التاريخية ـ كما ذكرنا ـ و اتخاذه الفترات الضعيفة من تاريخ الأمم .
و هناك معاكسته للعادات العربية التي كانت موجودة ، عندما جعل ليلى ، في مجنون ليلى ، تقدم قيس لإحدى زميلاتها.
على العموم ، فشوقي هو رائد المسرح الشعري ، و قد جاء من بعده عزيز أباضه ليقدم المسرح الشعري في صورة أكمل من الصورة التي بدأها شوقي الذي قدم مجموعة من المآسي : مصرع كليوباترا ، عنترة ، مجنون ليلى ، قمبيز ، علي بك الكبير ، و ملهاتان عصريتان : الست هدى و البخيلة .
المراجع
1. المسرح العربي في مصر
2.أحمد شـوقي ( صفحة بموقع ESIS)
إعداد/ هلال بن سيف البادي
..........................................
عزيز أبــأظــة (1899-1973)
يعد عزيز أباظة رائد المسـرحية الشـعرية بعد أحمد شوقي. تخرج في كلية الحقوق عام 1923م . اختير عضواً بالمجمع اللغوي ورئيساً للجـنة الشـعر بالمجـلس الأعـلى لرعاية الفنون والآداب. حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1965.
نشـر ديوان " أنات حائرة" عام 1943م فلمع إثر ذلك اسمه كشاعر متميز. أنتج أباظـة عشر مسـرحيات شـعرية هي:
- قيس ولبـنى (1943): وهي أولى مسـرحياته وتعـتمد قصـتها على أحـداث قصة العاشـقين كما وردت في كتاب الأغاني للأصـفهاني.
- العباسة ( 1947) : يقدم فيها الصراعات السـياسية والشـخصية التى حفل بها عصر الرشيد من خلال العباسة أخت الخليفة وزوجة جعفر البرمكي.
- الناصـر( 1949) تناول فيها عصراً من عصور الأندلس الزاهرة في عهد عبدالرحمن الناصر لكنه ازدهار أعقبه صراع دموي بين ولديه الحكم وعبدالله.
- شجرة الدر( 1950) ويتناول فيها مأساة الملكة شجرة الدر بعد وفاة زوجها السلطان في أيام عصـيبة خلال الغزو الصليبي لمصـر.
- غروب الأندلس( 1952) : يتنـاول فيها الفساد السياسي والانحلال الخلقي وكيف يقوض العروش مصورا أفول حكم العرب في الأندلس نتيجة المصادمات الضارية بين أفراد الأسرة المالكة في غرناطة والصراع على ولاية العهد بين ابني السلطـان.
- شـهريار( 1955) يطرح فيها معالجـة جـديدة لقضـية شهريار فهو يضع إلى جوار شهرزاد أختها دنيازاد التي تنازعها حب شهريار. الأولى رمز المعرفة السامية والأخرى رمز الشـهوة المثيرة لتسـتمر المباراة ويخرج منها شـهريار بما يشابه التصـوف الأخلاقي.
- أوراق الخريف ( 1957) : وهي تدور في بلاد الحيرة في العام السابع للهجرة إذ اشـتد الصراع بين سكان الحيرة وولاة كسرى وجنده بعد دخول الإسلام. ويتصدى أهل الحيرة لجيش رسـتم الذي جاء لقمع الفتنة ويرفض الوثنيون الاعتداء على المسلمين لأن الرابطة القومية أقوى من رابطة الدين وهي الفكرة المحورية في المسرحية دون أن تلتزم معالجة الكاتب بالآحداث التاريخية كما فعل في مسرحياته السابقة لهـذه.
-قيصـر(1963) : يقدم فيها عزيز أباظة لحظة حاسمة من التاريخ الروماني استقى أحداثها من روايات بلوتارك لتاريخ يوليوس قيصـر ومحور الصـراع بروتس النبيل الذي كان في الحقيقة ابناً غير شرعي لقيصر. وحين يكتشف بروتس بنوته لقيصر يثور في نفسة صراع بين عاطفة البنوة والإيمان بالجـمهورية.
- زهـرة (1968) : وهي آخر مسـرحياته اسـتوحى فكرتها من موضوع فيدرا الإغريقية وجعلها في ثوب معاصر.
المراجع
- د. فاطـمة موسى ، موسوعة المسـرح ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
إعداد/ حمود بن سليمان الجوابري
............................................
مارون النقاش
كانت البداية شبيهة بالاسكندرية من ناحية كونها ثغرة ، تفد من خلالها الثقافة الأوروبية إلى سوريا ، وذلك ما أهلها لأن تكون أول بلدة تقام فيها عروض مسرحية حديثة .
ولعل الفضل في اقتناص البذور المسرحية من الغرب وزرعها في التربة العربية إلى ابن صيدا في لبنان ... ذلك التاجر المغامر المثقف مارون النقاش (1817-1855) الذي كان مشعلا متوهجا في مجالات الإدارة والتجارة إلى جانب ثقافته العربية والتركية والإيطالية والفرنسية .
قضى مارون النقاش سنوات في إيطاليا شاهد خلالها بعض العروض المسرحية وقد مكنته معرفته بالإيطالية والفرنسية إلى جانب العربية والتركية من متابعة قيادات المسرح الأوروبي وكان أول ما فعله تعريب مسرحية (البخيل) لموليير شعرا وقد عرضها لأول مرة في منزله لعام (1848) وحضرها نخبة ممتازة من الماشهدين
من بينهم قناصل الدولة الأجنبية و بعض الشخصيات المهمة في البلاد و قد تميز العرض ببعض الظواهر التي قيدت المسرح العربي لفترة طويلة من الزمن نوجزها فيما يلي :
1) لم يدخل النقاش أي تغيير على عقدة المسرحية و لكنه تصرف في تطويل بعض المشاهد و تقصير بعضها بما يلائم ذوق الرواد و ثقافتهم . كذلك قام بتعريب الأسماء و تغير المواقع التي دارت فيها الأحداث .
2) أدخل مارون بعض الألحان التركية على النص المسرح و لم يكن متقيدا بملاءمة ذلك مع أحداث المسرحية ، و لأجل ذلك أصبحت المسرحية وسطا بين الملهاة و الأوبريت و قد استمرت هذه الظاهرة الموسيقية في المسرح حتى هذه الأيام .
3) لم يكن يسمح بظهور نساء على خشبة المسرح و لم يكن الجمهور يوافق على ذلك . و قد قام الذكور بدور الإناث ، و مع أن هذه الظاهرة من مخلفات المسرحين الأفريقي والأزبيثي فإن للعرب في الشرق الأوسط أسبابهم الخاصة لذلك.
4) كان معظم الممثلين من أسرة النقاش نفسه ، رغم أن انتخاب الممثلين من الوسط الأسرى ليس قاعدة فإن الأخرين ضلوا ينتخبون ممثليهم من بين أفراد أسرهم .
وهكذا فان النجاح الذي حققه النقاش في عرضه هذه المسرحية شجعه على بناء صالة كبيرة للعرض إلى جانب منزله وقد حصل على فرمان يخوله العرض في تلك الصالة . وفي تلك الظروف كتب النقاش مسرحيته الثانية (أبو الحسن المغفل) سنة (1850) وهي المسرحية التي اعتبرها النقاد تعريبا لإحدى مسرحيات موليير، ولم يكن الأمر كذلك ، فعلى الرغم من أن أبا الحسن كان ساذجا ومخيلا ومدلها بالحب كبطل موليير فان عناصر الشبه بينهما تنتهي عند هذا الحد ...
كذلك أن النقاش استخدم في مسرحيته مادة من (ألف ليلة وليلة) أو هو صاغها على غرارها وتقوم فكرتها على أن أبا الحسن المغفل قد خول أن يصبح خليفة ليوم واحد بأمر من الخليفة هارون الرشيد إلا أنه لم يستطع أن يتأقلم مع وضعه الجديد فدخل في كثير من المفارقات .
وأما المسرحية الثالثة والأخيرة التي كتبها النقاش فهي تعريب لمسرحية موليير وقد عرضها النقاش تحت اسم (الحسود السليط) عام (1853) وقد اختلفت في بعض مواضعها عن النص الأصلي لمسرحية موليير .
كان موت النقاش وهو في سن والثامنة والثلاثين خلال رحلة تجارية إلى طرطوس ضربة قوية للحركة المسرحية العربية الحديثة وهي ما تزال في بدايتها ، وقد تأثرت الحركة المسرحية بذلك في أكثر من وجه فإلى جانب أن الحركة تأثرت بموت رائدها وحماسه وموهبته فإنها خسرت أيضا القاعة التي أنشأها لممارسة عروضه المسرحية والتي حولت من بعده إلى كنيسة تمارس فيها الطقوس الدينية وفي تلك الظروف بدأت تطل من جديد تلك المعارضة التقليدية لفن المسرح وكان المعارضون يتهمون الفنانين بضعف الوازع الديني .
بهذه الجهود الرائدة أرسى مارون النقاش أسس الفن المسرحي على قواعد متينة من فهم صحيح للعملية المسرحية ولكل ما يحيط بها من أبعاد على وجهها الصحيح ! ولا يعني هذا أن مسرحياته قد بلغت ذروة الإجادة ...بل يعني أن ما وراءها من تفهم فني كان صحيحا ...أما التطبيق فأمر صعب في هذه المرحلة .
المراجع
1. في الجهود المسرحية ( د. عبد الرحمن ياغي ) .
2. تاريخ المسرح العربي . ترجمة ( د. يوسف نور عوض ) .