احتفال بالجسد الإنساني وما يحمل من جمال وخصوصا جسد الأنثي
صاغت الشاعرة التجربة في المكان .. المكان بما يحمل من عناصر الخلق المتمثلة في الماء والطين ولعبت علي العنصرين في علاقتهما بالجسد الأنثوي المستحم وأنتجت لنا بمجموعة من المفردات ذات البيئة اللفظية المتجاورة لوحة فنية من التصوير الرائع وإعلاء للعادي واليومي والمبتذل إلي أبعاد ميتافيزيقية .
ففي الحمام تتصاعد المستحمة وترق وتشف حين تتعامل مع عنصري الخلق الأول الماء والطين فترتد إلي البدايات وتخرج من حمامها ووكأنها مبتدأة الخلق لأول مرة وصيغت توا من يد البارئ
والحمام إذ يخلص الجسد الإنساني من أدرانه فكأن الجسد يبرز خالصا من كل دنس أصابه أثناء تلبسه بالعالم المادي وكأننا أمام الجدل الصاعد الأفلاطوني الذي يمضي إلي المثال من الجزئي والواقعي
جملتان صيغتان في شكل الحكم الذي لا يقبل نقضا لأنهما يتأسسان علي مقولات دينية تتجذر في العقل الإنساني ومنها تستمد القيمة لهذين العنصرين فهما أساس الخلق حين جبل الإنسان الأول منها ولذلك تتبعهما
المَـــاء..صُبِّي المَاءَ..زيدِي المَـاء
خَلـِّي المَاءَ يَندَفِـقُ
كَوْنٌ من الأسرار يَنفـَتِقُ
بَوَّابَة سِــريَّة
تـُـفـْضِي إلى
مَلكوتـِـهِ و أفيَاء السّماواتِ
فالخَـلقُ مُنـْبَعث من ماء عُنصُرِهِ
و الطّينُ في تَوْق إلى قدْس البِدَايَاتِ
هل رأيتم اللعب علي العنصرين وانفتاح الميتافزيقي الذي رشحت له بجملتي الحكم الأوليين ولكن نلاحظ في هذا الجزء إعلاء من شأن الماء وانظروا إلي التركيب ( خلي الماء يندفق ) التي تحيل بلقائيا إلي الوعي الديني ( خلق من ماء دافق ) والتماثل بين هذا الماء وذاك الماء برابط كلمة ( يندفق ) جمال القافية في يندفق مع ينفتق برابط الماء أيضا فصب الماء الدافق يعقبه انفتاق ( كون من الأسرار ) ترشح له بالملكوت وأفياء السماوات
ثم تأملوا حين تنفتح تلك المملكة بماذا تصفها
فهُنا خَوَابي الشّامِ دافقة
بـِخُمُـورها ورْديَّـة
و نبيذها بالضَّوْء مُـشْتَـبـه
و الحُــوريَّــاتُ
على ضفاف الدَّفـْـق مَرْتعُـهَا
فالعَاجُ بالأضواء مُلتـَبسٌ
و الوَرْدُ تحت الطلِّ شفـَّافٌ
و مُرْتعِشٌ
عالم يذكرنا بقية كوبلاخان للشاعر كولردج , عالم من المتعة الخالصة جاءت به كما سبق ووضحت مجموعة من الصور البراقة المتآلفة ذات المفرادت المتجانسة البيئة والتي تعبق بالحركة والمرح والجمال وتتشح الأوان والأضواء
و الطّينُ للخزَّافة الحَسْناء مِطْوَاعٌ
و مُندَهِشٌ
و النُّـورُ مُحتفل بالبَعْثِ مُنذَهِـل
و الجَمْرُ مُـتـَّـقدٌ
في المَـاء مُشتـَـعِلُ
فلكـلِّ بَارئَـة
منهنَّ مِطفَلة بماء الوَرْدِ قدْ
فَاحَـتْ و ماء العطرشاءْ
ملآى من الطـَّـفَـلِ المٌعَطّر و الشّذى
تطلي به جَسَدًا يَتوقُ إلى بدَايَته
طينا و مَــاءْ
هنا نري أن انفتاح هذا العالم يجعل العناصر تأخذ شكلا جديدا , أنظروا إلي كلمة ( مندهش ) التي تضعها صفة لكلمة الطين الذي تطلي به المستحمة جسدها والتي ترفعه إلي هذا البعد العلوي بهذه الاستعارة البسيطة , مازالت الحركة علي أشدها تبادل بين علاقة العناصر المادية بجسد المستحمة وتحول تلك العلاقة إلي العلو للعناصر حين تتعامل مع هذا الجسد المنفتح علي البدايات والأسرار
حتّى إذا الـْـتَبَسَتْ بالطّين ثانيَة
و توَحَّدَتْ بالمَاء غارقـَة
في صَـفـْـو عُنصُـرهَا
و تمَعَّـجَ الصَّلصَالُ بالنّيرَان مُشتاقا
و مُـلـْـتَهـِـبا
ثمّ اسْتـوَتْ
نـُـورًا..فضَاءَتْ في الدُّخان و أشرَقتْ
وَسَطَ الرُّخام مُضيئَة .. و تَـوَقـَّدَتْ
جَمْـرًا بحقل الورد وَلهَانا و مُحْتـَـفيَا
و غَدَتْ بُخَارًا في البُخَار و أدْرَكتْ
في الوَجْد جَوْهَـرَهَا ، بَـدَتْ
في جَذوَة الجَسَدِ النقـيِّ كأنّمـا
للتـَّـوِ قدْ جُـبـِـلـَتْ
مِنْ كـَـفِّ بَارئِــهَا
هنا تتابع عملية الخلق الأولي وتتمحض تلك الأنثي المستحمة إلي جوهرها الأول وكأنما تخرج من يد الله لحظة الخلق الأولي
ربما يهدر ما أقول جمال القصيدة ولكن لا مفر , وأخلص إلي أن جمال القصيدة ينبع من :
1 – الرؤية الذكية للشاعرة في لعبها بالعاصر البسيطة لكي تصوغ منها تجربة غنية وما ذلك إلا من الاجتهاد في إيجاد مجموعة من العلاقات الفكرية بين العناصر وربطها بأبعاد أكبر منها
2 – مقدرة طيبة علي إنتاج مجموعة من الصور تتناسب مع كل مرحلة تقطعها في القصيدة وإن كنت أري أنه يمكن بناء القصيدة بطريقة أكمل من ذلك ولعل النقد يجعل الشاعرة تدرك أن هناك تكرار أو أجزاء تحتاج إلي تقديم وتأخير
3 – احتفاء الشاعرة يالأنثوي وهو هم يشغلها في معظم قصائدها المطروحة هنا في النادي ولكن في هذه القصيدة إعلاء من شأن هذا الأنثوي عن طريق الاحتفاء بالجمال ليس الحسي لأننا لم نجد كلمة واحدة تصف أي جزء من جسد هذه المستحمة حتي أن الكلمة الوحيدة ( جسد ) جاءت وقد تبعتها صفة ( يتوق إلي بدايته ) في بيت وصفة ( النقي ) في البيت الآخر فالشاعرة تعلي الجسد إلي أقصي طاقته الروحية إن جاز لنا قول ذلك
4 – مقدرة الشاعرة علي جلب مجموعة من المفردات ذات البيئة اللفظية المتجانسة والتي تشكل جسم القصيدة المتآلف فلا تنافر بين الألفاظ و التي جاءت سلسلة وبسيطة دون تعقيد
5 – قدرة الشاعرة الموسيقية وواضح أنها دارسة ولكن تخطئ أحيانا بما يمكن تجاوزه , وتلك القدرة الموسيقية نلاحظها في اختيار الألفاظ في القافية فأحيانا تأتي منغلقة قاطعة مثل:(يَندَفِـقُ - يَنفـَتِقُ ) للتعبير عن صرامة الحكم كما سبق أن أوضحت وأيضا : ( مُندَهِشٌِ - مُنذَهِـل ) للتعبير عن التوقف أمام السر في حيرة وكأنما انعقد اللسان وأصيب بالحبسة
وأحيانا أخري تأتي القوافي ممدودة للتعبير عن الانفتاح والاتساع مثل : (المَـاء - السّماواتِ –البِدَايَاتِ )
شاعرة جيدة تمتلك الكثير وينتظر منها الكثير وأعد بأضواء أخري علي قصائد أخري حين يتسع الوقت لكي أحاول توضيح ما وصلني من تجربتها الكلية
كوكو
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 10-05-2008, 02:00 AM بواسطة coco.)