الإسكندرية في صيف العام 1990

كنت انذاك منهمكا في الاستعداد لامتحانات السنة النهائية لي بالجامعة و رغم عشقي للساحرة المستديرة كما يسميها ميمي الشربيني الا انني اضطررت كارها لاعتزال العالم و التفرغ للمذاكرة و كان الفريق الوطنى المصري حينها كان يسمي بالفريق القومي فيما مضى) يخوض غمار مباريات كأس العالم بايطاليا حيث ادى الفريق اداء مذهلا امام الفريق الهولندي العريق و كاد ان يفوز عليه بعد ان لقنه درسا في فنون كرة القدم..... كنت معتكفا بحجرتي وقت المباراة و لا علم لي عما دار فيها قبل ان اسمع صراخا جنونيا متبعثا من جهاز التلفاز فهرعت الى حجرة المعيشة لاتفقد الامر فرأيت عجبا.....الاف مؤلفة من الجماهير المصرية تحتشد في ميادين القاهرة و تصرخ في هستيريا " جوهرييييي جوهريييي" وسط ضجيج هائل ....الجوهري هذا لمن لا يعرفه هو محمود الجوهري المدير الفني للفريق الوطني انذاك... و هذا الرجل الكاريزما بقى في مكانه لحقب متعددة في تاريخ كرة القدم المصرية و كلما تقدم باستقالته عاد الى منصبه مرة اخرى احدى هذه المرات كانت بقرار جمهوري!!! (ما
جمع الا اما وفق)

كانت الجماهير في حالة من النشوة العارمة نست خلالها حقائق اساسية عن الحالة المزرية التي تعاني منها الرياضة المصرية و كرة القدم بالاخص و ان هذا العرض الاستثنائي ليس معطى حقيقيا و خرج علينا رجال اتحاد كرة القدم المصري - وهم يشكلون تجسيدا حيا للفساد ان شئت ان تتخيل هيئاتهم- و هم منتفخون كالديوك الشركسية و يبرطمون بكلام فارغ عن الطفرات التي حققوها في مسار الكرة المصرية ... لم يمض وقت طويل حتى عادت ريما مرة اخرى لعادتها من الانتكاسات و الفضائح المتتالية التي تثير عجبك كيف ان دولة كبرى و قديمة مثل مصر لا يمكنها ان تحقق ما انجزته دولا لم نسمع عنها من قبل - كالكاميرون و نيجيريا - في القارة الافريقية التي تألقت فرقها في المحافل الدولية و حققت فوزا على اساطين كرة القدم في العالم بأسره


"العيب مش فيكم العيب في السيستم"
المدعو "برايز" في فيلم " فيلم ثقافي"

هذه المرة لم تنطلق هوجة الجوهري من غمار الناس و عامتهم و هم برأيي الشخصي اكثر وعيا من كثيرين من مدعى الثقافة- و لكنها جاءت من فئات من المثقفين و المهمومين بالشأن العام و المشتغلين بالسياسة ممن استقبلوا اعلان مبارك الاخير باجراء الانتخابات الرئاسية القادمة بنظام الاقتراع المباشر باحتفاء شديد و حتى الان شاهدت سيلا من المديح يكال للرجل على صفحات الجرائد و في برامج التلفاز بعض هؤلاء محسوبين على المعارضة....و كهوجة الجوهري السابقة ينسى الجميع حقائق اساسية عن التدمير المنظم و الممنهج الذي قام به نظام مبارك ضد اي افق للاصلاح الديمقراطي بدءا من تخريب النظام الانتخابي في النقابات المهنية العريقة كالمحامين و المهندسين و الاطباء بهدف السيطرة عليها حتى ان نقابة المهندسين العملاقة اوقفت الانتخابات بها لحقبة ممتدة كانت النقابة فيها تحت سيطرة حكومية مباشرة....مرورا بالانتخابات الطلابية و انتخابات عمداء الكليات التي ابطلتها الدولة بزعم ان العمادة منصب تنفيذي لا يحتاج الى انتخاب و ليس انتهاءا بانتخابات العمد و المشايخ فى القرى الصغيرة و التي الغيت هي الاخرى و استبدلت بالتعيين المباشر من دوائر الحكم

الانتخابات الوحيدة التي تجرى بمصر اذا هي الانتخابات البلدية و النيابية حيث تمسك الدولة بخيوط اللعبة بشكل كامل...و فيما مضى كان التزوير المباشر هو الاسلوب الذي اتبعته الدولة لضمان نجاح مرشيحها ....كان التزوير قديما يجرى في وضح النهار(على عينك يا تاجر) حيث يعكف الموظفين-باشراف مباشر من وزارة الداخلية و اجهزة الامن- على تسويد بطاقات الاقتراع لصالح المرشح المطلوب نجاحه و يضعونها في الصناديق و يروى أن المرحوم الدكتور نبيل هاشم استاذ جراحة المخ و الاعصاب بطب الاسكندرية- وكان هو ذاته مترشحا لانتخابات مجلس الشورى-سأل الموظفة في ذهول عما تفعله فقالت له الموظفة في صلف: "بانتخب" يا روح امك...روح ام الدكتور المحترم دمث الخلق صعدت لبارئها منذ سنوات طويلة فيما اظن اما روحه هو شخصيا فقد لحقت بها بعد هذه الواقعة بسنوات قليلة... ربما كان هذا افضل حالا من البقاء في و الاستمرار في هذا العبث الشامل الذي بتنا نعيشه

"مصر هي المركز الدولي للعبث"
حسام راغب في احدى المرات القليلة التي يتوقف فيها عن تعاطي عقاقير الهلوسة

يتصور البعض خطأ ان الدولة قد كفت عن التزوير و التلاعب في الانتخابات بتلك الاساليب البالية لمجرد ان الانتخابات النيابية الاخيرة تمت تحت " اشراف قضائي" كما يسمونه و انا اؤكد ان هذا مجرد وهم لا اصل له، ففي انتخابات الاعادة بحي الرمل بالاسكندرية - و انا هنا اتحدث عن حديقة منزلي الخلفية- تم ضرب كردون امني حول المقر الانتخابي و منع الاف المواطنين من النفاذ داخل هذا الحصار لممارسة حقهم الانتخابي في الوقت الذي سمح فيه لحشود منظمة تم تعبئتها في الباصات بالدلوف خلف هذا الحائط الامني للادلاء بصوتهم و سعادة القاضي الذي لا نختلف على نزاهته يجلس في قلب هذا الحصار لا يمكنه تسجيل مخالفة واحدة داخل اللجان الانتخابية...اما الاف الجماهير المحتشدة خلف هذا الحائط فالمسألة ليست الا اجراءت امنية لا شأن لسعادة القاضي بها فمن واجب الشرطة كما تعلمون "الحفاظ على الامن"

هكذا يجرى الحال في وطني المنكوب و استمرارا للعبة القط و الفأر يخرج مبارك بتصريحه الاخير الذي وقع كالقنبلة على بعض رموز المعارضة ذاتها يبدو انه افقدها توازنها و جعلهم يهفلطون بكلام ابله عن التطور الديمقراطي التاريخي و الهائل الذي يقوده سيادة الرئيس ( هذا التطور الهائل تعمل به السنغال و بوركينا فاسو منذ عقد من الزمان على الاقل) لن يمض وقت طويل حتى نستيقظ من غفوتنا لنرى مبارك(سنيور او جنيور لا فرق) يحلف اليمين للمرة الخامسه و حوله ذات الوجوه العكرة- الفاسدة-القميئة هي هي و لنغني جميعا حينها: جوهرييييي جوهريييي