ضيف
Unregistered
|
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية
و بعد ساعات, لم أعرف كيف أهتَدت عيناي إلى النوم, إلا أنني قد نمت لوقت طويل على ما أظن. أيقظتني المضيفة بصوتها الرخيم قائلة: المعذرة .. حان وقت الهبوط..حمداً لله على السلامة. تأملتها بعينين نصف مغلقتين, كانت حسناء بملامح كلدانية. أبتسمتُ و أجبتها بتراخٍ: شكراً. هبطت طائرة البوينغ فوق مطار بغداد الدولي- بالسابعة و النصف صباحا- الذي أحتل أطرافة ثمة نسيم شهي, كان قد أنقضّ عليَّ فور خروجي من باب الطائرة. و بلحظة واحدة, لحظة من التصور الخارق, خُيّلَ إليَّ بأن أنفي أستطاع أن يميز رائحة الكباب المشوي الذي يملأ الأسواق بمثل هذا الوقت من النهار, و أستطاعت أذني أن تلتقط هذر العجائز اللواتي يتسوقن باكرا قبل الزحام و الجلَبة. و هناك, في الأفق السحيق, بدى سربا من البط البري محلقا برحلة تبدو طويلة, و قد يرجع لوادي الرافدين بعد أن يعود للصيف شبابه.
السعادة أخطر ما يخيفني اللحظة, فلم أرغب بشيء آنها إلا بتقبيل كلّ من أرى دون تمييز. قررت أن أتجه لمحطات السيارات الموصلة بين المحافظات, فعند المساء سأكون بالنَجف "إن شاء الله". همهمت بإرتياح في الوقت الذي أمتدت فيه يدي لتوقف أول سيارة أجرة أصادفها عند باب المطار. كان سائق الأجرة سمينا و ذا لحية شوكية بدى العرق لزجا فوقها, رغم أن الحر لم يشتد بعد, و على ساعده الأيمن أثر جرح لم ينمو الشعر فوقه. فضلٌت الجلوس بالمقعد الخلفي كي أقلل من نسبة المجدالة التي لابد لها أن تبدأ. و فعلا, ماهيَ إلاّ ثوانٍ حتّى طرق صوتهُ اللاهث سمعي:
-حمدا لله على السلامة يا أستاذ.
-شكراً لك.
لذتُ بالصمت, شاغلاً نفسي بتأمل مباني العاصمة و الطرقات عبر النافذة اليُمنى- حيث أجلس- إلّا أن صوته عاد للتردُد سائلا:
-هل كانت رحلتك طويلة يا أستاذ؟
-نسبيا
-إذن لابد أن تكون متعبا؟
-قليلاً.
-أين كنت تعيش؟
لذتُ بالصمت لثواني, محاولاً التغلب على ضيقي الذي أستيقظ بمكان ما من ذاتي.
-بالولايات المتحدة.
-لتدرس؟
-نعم.
ضحك عندها, متجاهلا محاولاتي المكشوفة لتفادي النقاش, و كان صوته خبيثا:
-لاشك بأن النساء هناك جميلات.
-هناك الحسن و الدميم منهن.
-هل كانت لك عشيقة كالأفلام؟
-لا.
قلتها بإمتعاض تزايد بعد قهقهته الأشبه بالسعال, ثم رأيت عيناه ترنوان إلي من خلال المرآة الخلفية و هو يقول:
-تبدو متوحدا و متعبا, هل تحتاج لعشيقة لليلتك هنا يا أستاذ؟ أعرف امرأة رائعة و صغيرة بالعمر نسبيا.. ما رأيك؟
الشعور بالضيق ينمو أكثر في ذاتي, و ألفيتُ نفسي أمام قذارة لم أذكرها بسائقي الأجرة بعد, لجانب الحشريّة و التطفّل.
-قُد لمحطات النقل و ليس للمواخير يا هذا.
-و ما الذي قلته لتغضب؟
-لا تناقش أكثر و انسى الموضوع رجاءً.. لا أحب التحدث إلى الغرباء.
-و مالذي قلته لتغضب أنت؟ ها؟
صرخ بصوت عال هذه المرة- كصوت كحوذي- ثم أردف و هو يرشقني بنظرة حادة عبر المرآة:
-ياللقذارة يا رجل, أعتدت على الأمريكيات و لم تعد نساءنا يعجبنك, أم أن المصلحة الوطنية لا تهمك فتنٌفع الأمريكيين بدلا عنا؟
عندها أحتقنت الدماء بين عينيٌ و تبخٌر الصبر جراء الغضب. و كعادتي, حرصتُ على أن تكون مخارج حروفي نقيّة و صوتي هاديء إنما صارم.
-إبق فمك مغلقا يا كومة القذارة.. ليس هناك من يبحث عن السفالة إلا أمثالك في هذا البلد. نساؤنا أشرف من أن يدنسهن زنيم جلف مثلك.. شئت هذا أم أبيت.. مفهوم؟
لم يجب, فأعدتُ سؤالي له بلهجة أقوى:
-مفهوم؟
-حسنا حسنا يا أستاذ.. مفهوم للغاية.. لا داعي لأن تغضب.
صار يكرر جملته الأخيرة كعبد الذليل, و لقد نسيت- بعاصفة السخط- أن السائقين عيون عزيزة للمخابرات و الشرطة. كان السائق يرتجف حنقا, و بدى ذلك واضحا بضغطه على الفرامل عندما توقف أمام بوابة خلفية لأحدى البنايات, التي لم تضع على الباب سوى صورة الرئيس. و لا عجب, فصور سيادته تتبعنا حتى بالمراحيض, و ليست بيوت المومسات من صوره ببعيدة. نهرت السائق بغضب:
-قلت لك بأنني لا أريد أن تأخذنـ...
لم أكمل جراء صرخته المقاطعة:
-أنزل يابن الكلب.. أنزل يا حيوان.
أن من صفاتي, التي أكره الإعتراف بها, هي الجسارة و "طول اليد" كما كانت أمي تشكو لأبي بطفولتي. و لم يتغير الكثير بهذا اليوم رغم كوني أكثر كياسة و صبرا, إلا أنني فقدت كل هذا إثر صرخة السائق المتحفزة, و لم أجد نفسي سوى مطوقا رأسه بذراعيّ, ثم توالت منيٌ اللطمات و اللكمات على صدغيه و فكه. أندفع صراخي مختلطا مع صراخ السائق الذي وصل به الأمر للإستغاثة. كان صوته باكيا متهدجا و هو يصرخ: "خلصني يا محمد.. يامحمد.. يامحمـ..". أمسكته من حنجرته بأصابعي, و شعرت آنها بأنني أغوص عميقا بروحه بكل ضغطة على عنقه. أخيراً, عندما أمسى السخط عصيا على أن أختزله بين أصابعي, صرخت فيه بوجه محتقن الشرايين: كل التبن و أخرس.. إن محمداً بريء من أمثالك. و تابعت شده و لكمه, لا بل صرت أحاول خنقه أو كسر حنجرته بضغط أصابعي, الأمر الذي غيّب صوته تماما و أطغى على وجهه لون الموت الأزرق. كان غضبا عاتيا, لا أفهم مسوغاته المباشرة, بل أنه حالة ثأر لخيبة أمل سريعة بالواقع الذي كُنت أنشده على أرضي.
أستمر صراخه و أزدادت لكماتي, لكنما ببغتة, و دون أدنى شعور مني, أتتني ضربة مدوية على ظهري ثم تبعتها أخرى على مؤخرة رأسي تماما. كانت ضربة محكمة, مركزّة و عنيفة من عصا غليظة قاسية. فقدتُ وعيي بألم, و مال جسدي بعدها ليسقط خارج السيارة- التي فتح الضارب بابها دون أنتباه مني- لترتفع بعدها كارثة غير متوقعة بحياتي.
أستيقظت في غرفة مدلهمة خاوية, تساءلت بداخلي عن طبيعة المكان و نوعه: لا إجابة حالياً. تابعت تحريك رأسي ببطء متثاقل, لمستُ بأناملي مكان الألم؛ شجٌ صغير متورم عليه دماء متيبسة. مددت يدي اليسرى قريبا من عينيّ لقراءة الوقت, إلا أنني أكتشفت بأنهم جردوني من ساعتي, و كان هذا سخيفا على نحو ما إذ لم أتوقع بأنهم سيكترثون لساعة رخيصة كالتي أمتلك. تلمسّت جيوبي بحركات سريعة نسبيا, و لم أجد فيها من شيء: أخذوا الجواز و النقود و كل ما بحوزتي. بعد زهاء خمس ساعات, فَتح الباب رجل يرتدي ملابس مدنيٌة يحمل رشاشا روسيّ الصُنع. و جّه الكلاشينكوف نحوي و هو يأمرني ببرود متحفز: أرفع يديك و أمشي. فعلت ما أمرني و لكني حاورته قائلا: "لاشيء عندي فلم أرفع.." و بترت عبارتي فوراً إثر ركلته السريعة الممتزجة بنهرته: "بلا كلام", و لم يزد. كان صوته أجشاً لئيما و قاسيا أيضا, فكرت بأن اسأله عن وجهتنا إلا أنني تذكرت الشلوت العنيف, لا بل خفت أن يضربني بأخمص رشاشه حتى. كانت غرابة المكان تساهم ببُعد المسافة التي قطعناها, لم أتمكن من التلفّت لفحص ما حولي, فأوامره كانت واضحة: أن لا أحرك رأسي, أو أن أرفعه عن الأرض أصلاً. أنتهى المطاف بنا لحديقة واسعة ذات سياج مسوٌر بأسلاكٍ شائكة, قد سترت أشجار النخيل و الصفصاف الفراتي (الغُرّب) أغلبه.
بوسط الفناء تماما, كانت هناك طاولة متسخة من البلاستيك الأبيض, و حولها صُفٌت أربع كراسي, بينما أنتصب كرسي خيزراني قُبالة الطاولة بمترين. رمقت الأرضية المبلَطة ببلاط كبير جدا- و كان بعضه متصدعاً- و على بعض البلاطات كانت هناك بقع دماء جافة. "إجلس و بلا حركة", صرخ الرجل صاحب الرشاش, فجلست على الكرسي الخيزراني بحركة جامدة. لاحظت بأن هذا الرجل لم يكن متفاجئا بقدومي, بل كان يعاملني كم ألف هذه الحياة الغامضة. بعد إنتظار دام لعشر دقائق, دلف رجل بدين يكاد يختنق, أثار لُهاثَهُ ضجَة كتومة بالمكان, كان يمسح العرق من حول وجهه بمنديل متسخ, دون أن يعبأ بالبلل الذي يبٌقع عنق قميصه أو إبطيه. تأملني بهزء و حدثني بإبتسامة ساخرة:
-مالخبر يا حلو؟ هل تريد أن تكون زعيما لعصابة مثلا أو قاتلا محترفا؟
-لم أفعل شيئا يا سيدي..
لقد فاجأت نفسي لقولي "سيدي" فأنا لا أعرف الرجل, إلا أنني أشعر بأنه من ذاك النوع الوضيع الذي تعتمد عليه حكومتنا المرعبة. لعله لاحظ شرودي, فأعادني لرشدي بصفعة مباغتة و قوية, و الواقع أنني لم أعرف بأن هناك من له القدرة الدقيقة على الصفع مثله! كانت صفعة متيبسة كظاهر أصابعه و قد فجرت الدماء من باطن خدي. خاطبني ببرود بعد أن أشعل سيجارة "سومر" رفيعة:
-هل تعرف هذا المكان؟ ..لا.. و لكنك بالتأكيد تعرف سبب وجودك هنا, صح؟
-لقد كان حادثا عرَضيا قسما, و هو من..
-أخرس يا وقح.
قاطعني بصرخة ثم تابع ببرود و عجرفة:
-أنت في مديرية الأمن العامة ببغداد يا حيوان, و قد تجرأت على ضرب أحد رجال الأمن... هل تعرف من نحن يا وغد؟ هل تعرف ما يمكننا أن نفعله بك؟
-أنا سأشرح لك يا سيـ..
-إنكب.
صرخ بصوت أعلى عن سابقه, ثم تابع:
-لقد أخبرنا الرفيق بكلّ شيء و لم يذكر أي سوء من جهته.
أبتلعت ريقي دون تمييز جملته الأخيرة الممتزجة برمال الصراخ, كان قلبي يخفق لفكرة وجودي بأيدي رجال الأمن. سألته و أنا أبلع ريقي بصعوبة:
-أأنتم من جهاز الأمن حقا؟
-طبعا يا وغد
-يالسوء الحظ.
قلتها دون وعي, فترقبت صفعة منه أو ضربة من موس الحلاقة الذي أستلّه من جيبه, لكن رده كان أغرب من كلّ ما خطر على بالي إذ أنه قهقه ضاحكا و قال بلهجة منتشية:
-نعم, يالسوء الحظ هي أفضل جملة قلتها للآن, و سنسألك عدة أسئلة و ستجيبنا عليها قطعا, أو جعلتك تحلم بالموت.. مفهوم؟
=مفهوم.
و هنا رمقني بحدة و قد حملَت عيناه نذيرا مرعبا. عيناه صغيرتان و بيضويتا الشكل, كعيون الأفاعي, إذ أنهما ثابتتين و بلا حياة؛ فوهتان شرهتان ليطل رأس الشيطان منهما. تداركت هفوتي و صححت مسرعا "مفهوم يا سيدي", عندها أرتاحت معالم وجهه و أرخى حاجبيه الكثيفين, ثم رفع كميٌ قميصه و خاطبني كمن يخاطب ماسح أحذية: "علينا أن نتهيأ.. أنتظرنا يا وغد". قالها و مضى بخطوات ثقيلة و قد عزوت هذا لسمنته المدهشة, تلك التي تثير خوفي و شفقتي في آن معاً. بقيت وحيدا لساعة كاملة, خامرني شعور بأن هناك من يراقبني. كانت شمس الظهيرة قد أنخفضت عن وسط السماء, لتحل محلها أبخرة البرد, التي راحت أصابعها تلسع عنقي و كتفاي كذلك. فتحت ياقة قميصي الأبيض عن طويتها بشرود واجم, ثم أخفضت رأسي و أمتد بصري إلى بنطالي الرمادي القاتم, تذكرت فجأة بأنني تركت السُترة- ذات اللون المماثل- بسيارة الأجرة, و كذلك حقيبتيٌ. كانت مثانتي متقلصة على نحو مؤلم, و قد نمٌت عن ضرورة تبولي, إلا أنني لم أكن لأجرؤ على هذا و فضلت, مؤقتا, أن أضع راحتيٌ الدافئتين عليها لأتخلٌص من إعتصار الألم. أحاول أن أغمض عينيّ كما كانت الصيصان تفعل بحديقة دارنا الكبيرة, أن أسترق نوعا من الراحة, لكن جلَبَة البدين و رفاقه قد أعتقلت السكينة. كان أحدهما نحيفا شاحب اللون و ذا أنف طويل على نحو ملفت, أما الآخر فبدا متناقضا بشكل مضحك, فبالوقت الذي ألتمع رأسه جرٌاء الصلع, غطّى شاربه الكثّ شفته العليا. كان مظهر الثاني, بلحيته المحلوقة منذ يومين و عينه اليمنى المطفأة بسحبة موس, يثير فيٌ لون من التوجس و ربما الخوف حتى. و بدت نظراته المتدفقة من عينه اليسرى وقحة و عدائية, و لم يترك مجالا لصاحبيه إذ سرعان ما علٌق بأمري, و هو يحك بطنه الكبير, "أهذا هو حقا؟ .. أنه على وشك الولادة". قهقه على نحو صارخ, عندها أبعدت راحتيٌ بخجل و نظرت خلسة إلى بطنه الذي كاد أن يمزق حزامه و يتدلى أرضا. تقدم نحوي بعدها بخطوات متلعثمة, وضع فمه قبالة و جهي و همس بعين ثابتة: " حان وقت الحفلة.. و نريدك أن ترقص". لقد بردت الدماء في ساقيّ, إذ أدركت بأنه ثمل حتى النخاع. قيدوا يديّ إلى خلف الكرسي الخيزراني و بدأت الحفلة.
سأل شاحب اللون أول سؤال بعد أن حمل موس الحلاقة من الطاولة, و راح يقلبه بين أصابعه:
-هل عشت بأمريكا؟
=نعم سيدي؟
-هل حصلت على الجنسية الأمريكية؟
=لا بل أنا طالب هناك فقط.
-لكنك عشتَ بأمريكا.
=نعم سيدي.
مدّ شفتيه و رمقني ببرود و قال بتشفٍ:
-و قد حللت بأرض العراق و أول عمل قمت به هو الإعتداء على ضابط من قوات الأمن أليس كذلك؟ أيها المتأمرك الوضيع.
-سيدي, المسألة ستكون أوضح لو أتصلتم بالسائق و جعلتموني أواجهه لكي يشهد بما أعتدى به عليّ.
-أنت ستتصل بعزرائيل الذي سيخلصك منا.
قالها الأعور ثم هوى على فكي بصفعة دوى أصطفاقها بين الأشجار للحظة. تغلبت على الدوار بصعوبة و خاطبتهم بصوت جاهدت بأن يكون مقنعا: "لم أقصد أن أؤذي أحدا و أقسم لكم, أنا عراقي عربي مسلم... أحب بلدي و لست متأمركا.. أريد الذهاب لبيتي فأرحموني". سألني البدين الأول هذه المرة:
-طيب يا حلو, ما تريد من مهاجمة أحد رجالنا لو كُنت ذاهبا لبيتك هذا؟
-يا جماعة أنا لا أعرف بأنه أحد رجالكم, و لو عرفت أنه منكم لما....
بترت عبارتي بسرعة و قد أعقبتها بشهقة عالية, ذلك بعد أن صب الأعور عليّ ماء طفَت فيه مكعبات الثلج. المفاجأة تلدغني, أشهق بلا شعور, أتنفس الماء البارد مع شهقتي, أعطس بلا شعور, و أتبول ببنطالي دونما رغبة بذلك أو تحكم. أحقا أنني تبولت على نفسي بعقدي الثالث؟ طفقوا يضحكون على حالة الإرتجاف التي أعترتني, و أمسى أرتجاف فكيَ رغما عني باعثا آخر للضحك. أيقنت بأنني بين بشر لا رحمة لهم و لا دين يسيّرهم أو أخلاق تردعهم, بل بشر يحملون هذه التسمية للمجاز, فهم أردى من الحيوان سوء و بربرية.
أشعر برغبة في البكاء على حالي, أو بالصراخ رافضا لهذي الهمجية التي سمعت عنها لسنوات طويلة عن هؤلاء. "هؤلاء", الذين يدخنون لفائف الوطنيّة و يطلقون رصاص العدالة.. لا نعرف أي عدالة بالواقع. و الأنكى من كلّ ذلك هو أنهم يمتلكون الهواء الذي نتنفسه, و يصادرون الماء الذي نجترعه و يعتبرون النساء- كلّ النساء- منفعة لهم, و الرجال, كلهم, عبيد لهم. يقودوننا, فوق ذلك, لحروب حمقاء خاسرة, يتآمرون أثنائها مع من نحارب فنتساقط كالذباب, دونما أحترام لنا, فنحن كلاب و أبناء عواهر بنظرهم. و تتقافز الشعارات و العنتريات, و يجبروننا على تكرار كلمات القائد الملهم حتى تتحول لبراز روتيني نلوكه يوميا باحتفالاتنا المدرسية و مسيراتنا الجبريّة: "الموت أو النصر", "الأرض لنا و ليخسأ الخاسؤون" *. هاه حقا, الأرض لنا, مع أنهم من سملوا العيون و كسروا السيوف حينما سرق اللص الأرض. فعلوا كلّ ذلك لكي يسمح لهم اللص بإعتلاء كراسينا الزهيدة, و التجبر على بشر مساكين قد غلبوا على أمرهم منذ قرون. و ما إن ينهون حملات التصفية الدموية, حتى يجبرون تلاميذ المدارس للخروج لشوارعنا المتآكلة بعطن الموت و المهزلة, يخرجون على امتداد هذا الوطن الشاسع, الذي عجزت كلّ مخيلاتنا باحتوائه. الوطن الذي يغص بحدائق الموت الجرداء, بمقابرنا الجماعية, بمزابلنا و كلابنا الشاردة, و كذلك بالأمهات الثكالى و العذراوات الأرامل. لقد حولوا رجالنا لبذور مأساة بحقول المقابر, حقول لا تثمر سوى الشعور بالتقيؤ أو البصق سخطاً.
لم أفقه كم أستغرق الوقت الذي قضيته تفكيرا, و أنا أسند برأسي على صدري, و هل رافق ذلك كلمات غاضبة أو نحيب مسموع؟ رفعني الأعور من غرتي الطويلة- التي ألتصقت على جبهتي- ثم صفعني بشدة و تلتها أخرى و أخرى. صرخت بهم بحنق و قد برزت شرايين وجهي و رقبتي أثناء ذلك "أتركوني يا كلاب.. يا حقراء.. يا..", و هنا أخرسني البدين, الذي كان أسمه المساعد وليد, بضربة لاهبة من خرطوم ماء أحمر كان يتلوٌى بين يديه على جسدي. كانت ضرباته متوجهة لعاتقيّ و صدري و فخذيّ. لم يبدو أن الضرب المبرح قد أعجبه حتى اللحظة, فكني بجنون و هو يصرخ بشتائم قذرة, ركلني شاحب الوجه من على الكرسي فهويت لوجهي, و شعرت بإحتكاك صدغي بخشونة الأرض. تابع المساعد ضربي المسعور و قد ساعده الرجلان بركلاتهم الثقيلة. لم يغادروا ضربي إلا بعد أن وجدوا فيّ مخلوقا يحتضر. أبعدهم المساعد وليد مخافة أن أموت, فهم يريدونني حيا و بإصرار. صرخ بهم كمن يصرخ بكلاب حراسة مجنونة: "كفى", و صمت لوهلة ثم أكمل "نحن سنجعله يغرٌد قريبا.. لا تستعجلوا فالمتعة قد بدأت لتوها". مضوا عني و قد شعرت ببصقة أحدهم تسيل على رقبتي ببرود, و ما كان بوسعي مسحها جرّاء الهلاك الذي يعتريني. كنت ملقياً على جنبي الأيسر و قد تكومت حول نفسي كحلزون, لم أتمكن من رؤية وجهيّ اللذين تكفلا حملي و إلقائي لقاع عربة صغيرة ترتكز على أربع عجلات. ألقياني ككيس قمامة بالضبط. دفعني أحدهما للزنزانة و بقيت على أرضها لعشر ساعات, كنت بحالة هلامية من اللاوعي الممتزج باليقظة. أنتظرت أن يأتوني بأي شيء آكله, إذ لم أتذوق سوى كأس صغير من عصير التفاح, الذي إحتسيته على ظهر الطائرة التي غادرتني من روما أمس.
* * *
في الثامنة صباحا, فتح الباب شخص بملابس عسكرية, لوى ذراعي بعنف لا مبرر له و أجبرني على المسير, ذلك لأنني لم أكن لأملك أدنى قوة جرّاء التعب الذي يغلف عضلاتي كسائل شمعيّ متجمد. ركلني الحارس الهرم كي أستعيد نشاطي ثم همهم بضيق: "رجال آخر زمن.. متعب من ركلتين و بضع صفعات".
وصلنا لغرفة مختلفة ذات باب باستيلي لا يحوي سوى كوة مستطيلة بأقصى قاعدته. دفعني بركله ثم صفق الباب بغضب لم أفهم مبرره و لم أكترث. كنت متعب إذ أرتميت على السرير الوحيد في الغرفة ذات المترين و نصف طولا و المترين عرضا. بقيت راقدا على بطني لساعات تخللتها سُنات نوم خفيف, و أحلام يقظة عن الطعام الذي سيرطب أمعائي المتفطرة جفافا. مرت سبع ساعات كالقرون, حتى دخل علي ذات الحارس أخيرا و لوى ذراعي بطريقته الوحشية عينها, و دفعني إلى الحديقة من جديد. لم يأمرني بالجلوس بل نهرني كمن يحدٌث أصما "أبق مكانك و لا تتحرك". وضع الأصفاد حول معصميّ اللذين جذبهما لخلف ظهري بحركة خشنة, ثم وضع على كاحلي كلابتين تربطهما سلسلة قصيرة. و مرت دقيقة حتى قدم الأوغاد السابقون حاملين بضعة خراطيم و عصي خيزرانية رفيعة, و قد تقدمهم رجل نحيل و ذو قامة قصيرة, كان يسير كملك بينهم و لا يُخفى بأنه برتبة رائد طيّار. حدثني المساعد وليد ببهجة عصية على الفهم قائلا "حان وقت الأكل يا حمار". رشوني بالماء البارد لفترة ثم هوت الركلات التي طوحتني أرضا, و تغوص بمعدتي كالنصول. رفعوني بأذرع هرقليٌة ثم تسابقت قبضاتهم للفوز بلكمي, حتى صار النظر عصيا عليٌ لوهلة. خمستهم يضربون, خمستهم يصرخون, خمستهم يشتمون و يضحكون, و خمستهم يكفرون بكلٌ مقدس أعرفه. لقد شحنوا الجو بالجنون و الغضب, توترت أعصابي و صرت أذب عن نفسي بحركات عشوائية يائسة. كنت أنزل رأسي لأتخلص من صفعاتهم و لكماتهم, فكانوا يلهبون ظهري بالخراطيم و العصي, و عند رفعه لأخلٌص ظهري كانوا يدكون صدري بركلاتهم العالية المحترفة. تكومت على الأرض بشكل دائري ساخط, إلا أن شياطينهم قد أتقدت نارا و صاروا يصرخون بي "أنهض", "تحرك", و صرخ الأعور بأذني: "لا تعاند". لم أحرك عضلة واحدة, كنت غاضبا على الدنيا, حاقدا على كل شيء و مستعدا لقتل نفسي ذاتها. كان المساعد وليد أكثرهم هيستريا, إذ أحضر سلكاً كهربائيا غليظا و جلدني دونما كلمة. لقد صرخت من الجلدة الأولى جراء ألم السلك الذي يستقر على الجسد ثم يحدث إنفجارا نوويا لاهبا في أنسجته, و تبدأ الحرارة التي تفطّر العظام قبل أن تذيبها نهائيا. توقف عن ضربي فجأة و أبتعدوا كلهم عني, ساد صمت مريب لم يحطمه سوى الأعور بركلته لصدري. "يا أبن الكلب" قلتها بصوت واهن و أنا أحاول أن لا أبتلع الدماء الساخنة التي فاض بها فمي. لم يكترثوا لشتيمتي هذه و لم يعبأوا بالتحدي, كانوا يشتغلون بشيء لم أعرفه على الطاولة التي لم أرَ منها سوى شكلها العام جرّاء التعب. بعد دقيقة أو أكثر, تقدم المساعد وليد حاملا دلوا أصفرا, و كانت ابتسامته تحجب عينيه عن الناظر.
صبّ محتوى الدلو عليّ و هو يصرخ ضاحكا "أشبع يا روحي أشبع". و لم يكن السائل سوى ماء قد أذيبت فيه كمية من الملح, ذاك الذي كهرب جروحي بحرقة ناسفة لأي صبر. صرت أقفز هنا و أزحف هناك, أتمرغ على الأرض كسمكة معذَبة و أنا أشعر بجيوش نمل تأكل من جروحي و توٌسعها. قال الرائد بأن الألم لن يسكن ما لم يغسلونني بالماء العذب, عندها رجوتهم أن يفعلوا إلا أنهم صفقوا ضاحكين و كان المساعد وليد يهز وسطه راقصا كالنساء. صرخت بهم بكل ما للألم من نفوذ أن صبوا الماء يا أولاد الوضيعات, و فعلا فقد صبوا الماء إلا أنه حوى ضعف كمية الملح السابقة. جلسوا على الطاولة بأرجل ملفوفة و هم يتأملون نشيجي و تقلبي, و بلحظة غير متوقعة صبّ الرائد ما بكأسه من خمر فوقي و هو يقهقه بمجون. بكيت و أنا أرجوهم بأن يصبّوا علي ماء عذبا, و قلت لهم, دون وعي, بأنني سأعترف بكل ما يريدون. و هنا أخذ الرائد نفسا عميقا, بعد أن هدأت فيه عاصفة الضحك, و قال بأنه سينقذني من الملح هذه المرة لأنه يرى بنفسه إنسانا طيبا, لكنه سيشرّح لحمي و يضع فيه الملح إن تغابيت من جديد. كان على وشك الأمر بصب الماء البارد إلا أن المساعد وليد رجاه بأن ينتظر, و لما سأله عن السب قال " لهذا". ثم جلدني خمس جلدات حيوانية بالكابل الكهربائي الذي أفقدني ألمه وعيي, و لم أستفق إلا على الماء الذي صبوه على أذني مباشرة بواسطة خرطوم غليظ. تركوني على الأرض و باشروا التحقيق عندما سأل الرائد:
-ما أسمك؟
=واثق حسن التميمي.
و هنا صرخ المساعد وليد بمجون "حقا؟ ..واثق من ماذا يا عيوني؟ واثق من دخول حذائي بفمك ربما" و صفعني من ضحكة مجلجلة. ضحك الرائد معهم إلا أنه أمسك بالسانحة من جديد و أكمل أسئلته بصوته البارد الخفيض و هو يدور حولي:
-طيب يا واثق يا بعد عيني, لم سافرت لأمريكا؟
=للدراسة.
-متى حدث هذا؟
=في يوم 18 مارس من عام 1979.
-كيف تدبرت أمرك هناك؟
=لعائلتي أصدقاء عراقيين هناك, و قد ساعدوني و أمنوا لي العمل.
-في أي ولاية عشت؟
=في عدة ولايات..
و لما رأيته و قد قطب حاجبيه تدراكت هفوتي و صححت: "بولاية فلوريدا سيدي". مطّ الرائد شفتيه ببرود ثم سأل بغضب لم أعرف مصدره:
-ماذا كنت تفعل هناك بالتحديد؟ تكلم يا حقير.. قل كل شيء و إلا جعلتك تتمنى الموت قسما بمجد السيد الرئيس.. مفهوم؟
=مفهوم سيدي..
أجبته بهلع و قد توجست شرا من نظراته الشزرة, إلا أنه عاد لبروده بقوله:
-تكلم.
=أدرس الطيران المدني, و أنا بالمرحلة الرابعة و أعيش بمدينة تلهاسي.
و هنا سألني المساعد وليد و كان يدوّن كلّ كلمة أقولها بدفتر يحمله:
-هل ألتقيت بمواطنين عراقيين أو عرب أو ايرانيين بتلك المدينة؟ أو البلد حتى؟
=لا أبدا, كنت وحيدا.
سأل الأعور بعدها:
-قلت بأنك تعرف أؤلئك الذين ساعدوك, فمن هم؟
=أنهما زوج و زوجته و ليس لهما أطفال.
-أسماؤهم؟
=أبو سعد و أم سعد.
و بهذه اللحظة فقد المساعد وليد سيطرته على أعصابه, بعد أن أنفلت عليٌ ضربا حتى حطم ضرسي الأيمن. صرخت بأنني لا أعرف اسماءهم و أنني أعرفهم بهذا اللقب فقط, و لم أكمل إذ بادر أبو تحرير بخنقي بكابل رفيع من خلف رقبتي و لم ينقذني من الموت أختناقا سوى تدخل الرائد. كان الأخير يراقب الوضع بارتياح, و هو يسند بظهره للطاولة. خاطب الجلاوزة بلهجة جديدة قائلا "لقد حان وقت العشاء ياقوم و الرجل لم يأكل شيئا عندنا, لذا سنضيّفه كما علمنا الرئيس المناضل". لم يغيبوا لعشر دقائق, حيث جلس الرائد ببروده و تركني ممددا أرضا بعد حفلة الصفعات الأخيرة. عادوا بفخذ دجاجة مسلوق و ليترا من الحليب. شربت الليتر بسرعة و أكلت الفخذ بنهم, و كان الرائد يرمقني بابتسامة حسبتها رحيمة آنها. سألني الرائد إذا ما أحببت أن أشرب ماء أو عصير, فطلبت الماء و شربت منه نصف ليتر حتى أنتفخت. و هنا صفَر الرائد بصفير خاص فهجموا كلهم علي دفعة واحدة, أحكم المساعد وليد أمساك كتفاي بينما أمسك أبو تحرير و الرائد وسطي. أما أبو قصي, الأعور, فقد فتح حزامي بصلافة و فتح سحٌابه وسط صراخي ثم عقد عضويَ بمطاط ثخين, كالذي يستخدمونه بالمستشفيات لربط الذراع و سحب الدماء منها. خلت بأنه سيقطعه بسبب العقدة المؤلمة, و قد وهبني هذا الخاطر قوة ساحقة إذ ركلت وجهه بكلتا قدماي و أنا أصرخ بهيستريا و خوف. كانت ركلة فعالة بحق ذلك لأن أنف أبو قصي قد تصبب دما, و قد أشعل ألمه فيهم نار الإجرام. أستلوا مسدساتهم و صوبوها إلى رأسي و بدوا جادين بما يزمعون فعله. صمتنا كلنا و بقي أبو قصي يصرخ بصوت هائج "أعدموه.. أعدموا هذا العميل الجاسوس". هدأ أبو تحرير من روعه قائلا بأن إعدامي لن ينفع, لأن الموت سيكون رحمة بحقي لجانب ما يخططون فعله. ابتسم الأعور بدموية و قد وجل قلبي لهذه الإبتسامة, لأنها بدت وليدة الفرح بكراهيته الشديدة لي. صوب الرائد سميح, و هذا هو أسمه, مسدسه إلى صدغي و أمر أبو قصي بأن يكمل ما كان يؤديه, و لقد أدى أبو قصي عمله جيداً بحق, لا بل أنتقم مني مؤقتا بهذه العقدة التي سحبت روحي كلها لموضع الألم. ألقوني إلى الزنزانة من جديد و تركوني مقيد اليدين و الرجلين, و لم أقوى على الحركة أكثر فأرخيت جسدي المضعضع على الرمضاء الباردة. بكيت دونما شعور إثر سماعي لصراخات متقطعة كانت تتهادى إليٌ؛ كانوا يعذبون أحدهم. أغمضت عيني محاولا النوم إلا أن ألم المطاطة لم يكن بذاك الذي يتسع للمرء بأن يتناساه, و الحقيقة فأنني لم أفهم سر هذه الحركة حتى ساعتين أُخرَيتين عندما شعرت بالرغبة بالتبول. كتمت أنفاسي و عصرت قدر أستطاعتي لكي أتبول إلا أن المطاطة قد سدت كلٌ مجرى, و أزداد الألم و أزاد و أزداد, إذ لم أعد أطيق صبرا على الرغبة بالتبول. بقيت أحتضر طيلة الوقت المتبقي من الليل حيث أخذت إلى غرفة و اسعة جرداء, قد تناثرت داخلها كابلات و خراطيم و قطع من كراسي مكسرة. و بصدر الغرفة كان ثمة كرسي حديدي يحوي على كلٌابات تثبت اليدين و الرجلين أثناء الجلوس, و يغدو الوجه مكشوفا تماما للضرب. أجلسوني على الكرسي بخشونة ضاعفت من تمادي الألم بمثانتي المتورمة, لم يعبأوا بصراخي الذي أنطفأ بعد رحيلهم و تركي وحيدا وسط الغرفة. وحديتي كانت أقصر مما أفترضته, ذلك لأن أصوات لرجال يتحادثون كانت تقترب مني. دلف الرائد سميح و المساعد وليد و رجل ثالث بدى هرما و مهما لتبوئه رتبة عقيد ركن. وجهت نظراتي الشاكية للرائد و خاطبته بصوت محتقن "أريد أن أتبول.. أرجوك.. سأموت لو لم أفعل". ضحك الرائد سميح لجملتي الأخيرة و علٌق مستهزءً "إلى جهنم", و بالمقابل صفعني المساعد وليد على أذني و قد تقبلت صفعته كنوع من التحية. دمعت عيني على نحو مخجل و أنا أخاطب الرائد سميح بصوت مبحوح و مختفي "سأعترف بكلٌ شيء ترغبون فيه.. أرجوك صدقني", و عندها أغربوا كلهم بالضحك و رَنا العقيد أن يختبرني فقال بلهجة ساخرة:
-لقد حدثت سرقة قبل أسبوع, و يعتقد بأنك السارق.. ما رأيك؟
=أجل, أنا هو يا سيدي.. فكني أرجوك.
-كيف سرقت؟
=لقد قفزت من نافذة البيت الموازي يا سيدي.
لم يتمالك العقيد نفسه من شدة الإغراب بالضحك, و قال جملته متقطعة جراء القهقهة "يابن الكلب, لقد تمت السرقة بالطابق الثامن". تابع هز رأسه و التبسم بارتياح و هو يفتح ملفا أزرق كان بين يديه, و راح صوته يُطلى بالصرامة كلما أمعن بالقراءة التي ابتدأها بقوله "الإسم: واثق حسن التميمي.." و قاطعه المساعد وليد لا إراديا بفرقعة – عفطة – من فمه, الأمر الذي أزعج العقيد إذ رمقه الأخير بعينين شزرتين فأعتذر المساعد وليد بمذلة واضحة. أخفض العقيد رأسه بصرامة و أكمل القراءة "من مواليد عام 1963, العمر 23 سنة, طالب بجامعة فلوريدا للملاحة الجوية و مقيم بمدينة تلهسية", و هنا صححت بصوت خفيض "تلهاسي". صرخ بي بعد أن سحبني من ياقة قميصي المهتريء "لا تعلمني القراءة يا بني لأنني أعرفها قبل أن تضعك الماما.. و أنت يا وليد الحيوان, كيف تكتب اسم المدينة خطأ يا بغل؟". أعتذر المساعد وليد بتلعثم و لم ينس أن يصوب نظرات نارية نحوي. تابع العقيد القراءة: "أنت من مدينة النجف, حي الأمير, و الأب عسكري حاليا. هناك عدة تهم موجهة إليك أهمها مهاجمة عناصر الأمن و تكرار المهاجمة لضربك أبو قصي, و الأهم أننا نشتبه فيك كشخص قد تكون منتميا لأحزاب معارضة". أغلق العقيد الملف و قال كلماته بمكر مجرٌب بالترغيب و الترهيب:
-شخصيا, لا أحب أن أؤذيك فأنت شاب واعد و لذا فالإعتراف سيكون لمصلحتك لا مصلحتنا.
=صدقني يا سيدي.. لست منتميا لأي معارضة.. بل أنا وافد إلى بلدي كي أتزوج و أكوٌن عائلة محترمة. أرحموني من فضلكم إذ لا أود أن يُقلِق غيابي عائلتي أكثر من هذا.
أنهيت كلامي بحزن, الوقت يسبح بلجاج الصمت للحظة, عيونهم تنظر لبعضها بلغة غريبة, خلت فيها بأنهم لمسوا أخيرا الألم الذي أعيشه. و لكنهم لم يفعلوا شيئا عدا الضحك سخرية, و راح المساعد وليد يعيد كلماتي بصوت ساخر و هو يتصنع البكاء. الواقع فإن العقيد كان محترفا بمهنته, ذلك لأنه بدأ مناورته بحذر و دراية:
-لنعترف يا واثق, كلانا يعرف بأن العقدة التي عندك الآن تحجز كمية كبيرة من البول الذي قد يؤذيك أكثر لو بقي, و على هذا فإن أول عمل تقوم فيه لكي تخرج سليما من هنا هو أن تعطينا سببا وجيها كي نفك العقدة عنك.
=كيف ذلك سيدي؟
قرب وجهه لوجهي و أبتسم بخبث:
-أن توقع بالإعتراف على تهمة واحدة فقط... و سأكون معك لطيفا إذ أدفعك لأن تختار التهمة بنفسك.
وافقت على الإعتراف بضربي المتعمد للسائق, و بدت هذه أخفٌ التهم ثقلا و أذى. كانت العقدة قد حُلت و بقي عذاب خروج البول من الجسد, ثم تلتها موجات مغص عاتية. لم يكن الإعتراف بالتهمة الأولى سوى خطوة فعلية لمباشرة التعذيب و الإجبار على الإعتراف بباقي التهم, أو هذا ما فهمته بعد أن مزق الرائد سميح ما تبقى من قميصي المسود, و تقدم المساعد وليد بعدها حاملا لفرشاة عريضة تحوي سائلا كعصير التفاح. مررها على ظهري لثواني ثم ترك الجحيم لتستعر عليه و قد فهمت كل شيء, ذلك لأنه مسح ظهري بنوع من الأحماض الحارقة التي سلخت جلدي بألم فظيع أجبرني على الصراخ باكيا دونما دراية بما أقوله. لم يكترثوا لشتائمي بل أنتظروا غيابي عن الوعي لينقلونني للزنزانة. و بالرابعة عصرا, زج أحدهم صحنا بلاستيكيا من تحت الباب و تركه نصب عينيٌ المرتخيتان ألما. مددت يدي ببطء شديد إلى الصحن لأتبينه, و قد حوى على قطعة خبز و بيضة مسلوقة. دفعت الصحن بعيدا عن وجهي المستند إلى الأرض و همهمت داخلي "و من يفكر بالطعام؟". كنت منبطحا على بطني الممزقة بضربات الخراطيم و العصي, و هناك كانت ثمة جمرات تتقد على ظهري المسلوخ. أزداد ثقل التعب على عينيٌ حتى حسبت الزنزانة دامسة الظلام, و لم أحسب للحظة بأنني قد أكون مغلقا لعيوني فقط! و من بعد سحيق, هبت نسمات باردة و طرية لامست باطن قدماي برقة. لم أكن أدري أكان هذا حلما أم أن روحي قد فارقت جسدي و رفرفت فوق تلك الشوارع المقفرَة بالصباح الباكر, حيث كلٌ شيء مُثلَج بما في ذلك أوراق شجر الصَفصَاف العطرية. فكرت بالفطور الصباحي المعتاد الذي طالما أثار تبطري, بينما صارت نكهة القيمر المدخّن اللذيذ و طعم الشاي المغلي على الحطب رمزا لإثارة الحزن فيٌ. كنت أستعر حنقا بأعماقي, فماحدث لم يكن له أدنى مبرر و المشكلة التي زجت بي هنا قد تكون مشكلة شديدة البساطة, و لا يمكن أن نحطم حياة البشر وفق أخطاء أرتكبوها تحت ظروف قاهرة. لم أمعن بالتفكير أكثر لأن الحمى صارت تفتك بكل جسدي و ليس ظهري فحسب, و لقد سقطت إلى وجهي مع أول محاولة للنهوض و آخرها, ذلك لأنني فقدت وعيي.
* * *
تابع
|
|
04-04-2005, 09:05 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
ضيف
Unregistered
|
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية
أفقت على أرتجاج جسدي المؤلمة جرٌاء نقلي بالعربة المعتادة, و بعد خمس دقائق توقفت فجأة و جَفلت لصرخة الحارس الأصلع تماما و هو يصرخ "حرٌك نفسك يا خنزير". رفعت طرف عيني إليه ببطء و تعجب و حاولت النطق لأحدثه عن جسدي الممزق بالسحجات, و لكني عجزت عن النطق حتى و بقيت أرنو إليه بعينين محتضرتين, الأمر الذي دفعه لقلب العربة بعنف و مناداة حارس آخر لكي ينقلونني. قيدوني للكرسي الحديدي ذاته, أو كرسي الملوك كما يلقبونه مستهزئين, و أنتصبا قرب الباب و كأنهما يتوجسان مقدم أحدهم. دقق أحدهما بساعته و خاطب الآخر بارتياب:
-لقد قال بأنه سيحضر بالثانية عشرة تماما, و قد قاربت على الثانية عشرة و النصف.
=لعله بسهرة من سهراته الكثيرة.
أجاب الأصلع بلامبالاة و هو يبصق على الأرض الإسمنتية التريبة برذاذ الملح و الدماء الجافة. بعد دقائق تالية دلف المُنتظر على عُجالة صاخبة, و لم يضيٌع الوقت إذ هتف بالرجلين و هو يخلع سُترته السوداء المخططة "بسرعة هاتوا العدة.. ليس لدينا الكثير لنضيعه مع هذا الأجرب". كنت قد أدركت, و منذ الجلسة الأولى للتحقيق, بأن المساعد وليد ماهو إلا جلادي الخاص الموكل بتجريعي الموت غصة تلو أخرى بقلعة الموت و الدماء هذه. أحضروا "العدة" و هم يبتسمون بهزء وحشيٌ, فتح المساعد الصندوق بلامبالاة و صار يحدثني دون النظر إلي: "كما ترى أيها الوغد, فنحن هنا لكي نجبرك على الإعتراف بإنضمامك للمعارضة العراقية", و صمت لهنيئة و سأل ببرود: "فهل ستعترف من تلقاء ذاتك؟". أجبته بأنني لا أستطيع الإعتراف بما لا واقع له و لا أدلة, أبتسم المساعد بسخرية و قال بعد أن سلٌط عيناه على عينيٌ: "إذن, نوٌرت الحفلة يا واثق التميمي". صفعني بعدها بلؤم و هو يصرخ "كماشة الأظافر", ناوله أحد الرجلين كماشة ذات طرفين رفيعين و مدببين, و قد تصلح أن تكون كماشة للأسلاك الدقيقة. هز الكماشة بوجهي و همس "هل ستعترف؟", أشحت عنه بغضب و أنا أهمهم "يبدو أنكم لا تفهمون العربية". عندها دسٌَ نصل الكماشة السفلي تحت أظفر سبابتي و تركها مغروزة بيدي و سأل "هل هناك تقدم؟", و ما كان باستطاعتي إجابته ذلك لأنني كنت أتلوى من شدة الألم. "لا" أجاب نفسه على سؤاله و سحب أظفري بقوة بواسطة الكلابة. جحضت عيناي و أنا اتأمل بقع العرق على وجهه و من ثم صرخت بكل ما للألم من سلطة عليٌ. لوٌح بالأظفر الدامي- التي مازالت الكماشة تطبق عليه- و سأل ضاحكا "هل تمتعني أكثر أم ستعترف؟". صرخت به بكل الكراهية التي أكنها له و الكافية لتسميم الكون: "ماذا تريد يابن العاهرة؟ ماذا تريد يا مسخ؟ .. لست منهم.. لست منهم أقول لك.. أين الله؟ أين الله ليخلصنا من أمثالكم". حينها أقترب فم المساعد وليد من أذني و همس بصوت سادن بيت نار مجوسي "أنظر", أشار إلى صورة الجلاد الأكبر المطلة علينا, و الواقع أنني لم أستطع تمييز ملامحه للألم المعتري فيٌ إلا أنني عرفت صاحبها. أتاني صوته من جديد و بشكل آخر, شكل شيطاني ممتزج برائحة الخمرة النتنة التي تفوح من فمه "الله لن يخلصك من قبضته.. هو وحده من يخلصك لو آمنت به.. هو المتحكم بنا.. باعث أمجادنا.. هو ربنا اليوم", و أبتعد عني بحركة مسرحية و أنتصب أمام الكرسي ثم مد يده إليٌ هامسا بصوت عميق و شبه هامس "أنه هو.. هو..هو". و رغم تبريح آلامي و دُجنة تعاستي فقد رشقته بفرقعة مجلجلة من فمي, كانت طويلة و متقنة كما يطلقها أي حوذي رقيع. لم أكن أعي ما أفعله إذ وصلت لدرجة من الهيستريا العجيبة التي تحجب التفكير بأي شيء عدا دقيقة الحماقة التالية, و كان المساعد وليد قد ثأثر لقائده بأن قلع كل أظافر يديّ دون كلمة واحدة. كنت أفقد وعيي عند إستلال الأظفر الأول, و أستفيق بجنون بعدها على ألم الثاني و هكذا حتى أصطبغت مساند الكرسي الحديدي بالدماء. و بجلبة الصرخات الذبيحة التي أطلقها و قهقهات السفيه التي تتدفق من فمه, توجه إلى أصبع قدمي الأكبر و هو يدندن بألحان أغنية مائعة بفمه الثمل. قال و هو يقرب الكماشة لأصبعي "ستغرٌد بابن العاهرة", و هنا أغمضت عينيٌ بهدوء و خاطبت الله بهدوء ممتزج بالدموع المرّة, رجوته بصدق لم أعهده مع أي من البشر و لا مع الفتاة التي أحببتها لسنوات طويلة. رجوته أن لا اتألم أكثر, ذلك لأنني مستضعف بين جبابرة ظلَمة, رجوته أن يصبّرني على هذا الإمتحان المرير. "لن تخذلني يارب.. أليس كذلك؟" قلتها و أنا أفصد دمعتين ملتهبتين من عينيٌ. كان المساعد وليد قد قهقه ساخرا و بصق على وجهي الذي أعتلته سيماء التحدي, خاطبته بصوت متهدج و لكنه قوي: "ما أنت سوى حطب لجهنم أيها النذل.. أفعل ما شئت فموتي أقصى ما يمكنك فعله.. لكنك لن تفر إلى الأبد.. غدا سيكون العقاب الذي سيعيد حق كل دمعة سالت بسببك من المظلومين الكثر". وجه المساعد متبلد لوهلة, عيناه لا ترمشان و يبدو أن كلماتي قد شلّته دونما دراية. هزّ رأسه رافضا فكرة أن أتحداه, نهض من قرب قدمي و صفعني بطريقة غير متوازنة لغضبه. دمدم بسخط و هو يعود ليقتلع إظفر قدمي الأيمن: "سنرى من ينتصر يابن التميمي". كان أحد مرافقيه يرمقني بصمت, و لعل فكرة عجيبة قد طرأت عليه إذ أمسك يد المساعد وليد المتجهة لقدمي, و حدثه بصوت وقور لم يكن فيه منذ دقائق:
-لعله بريء يا حضرة المساعد, فلقد عذبته كثيراً دونما فائدة.
أزاح المساعد يد الرجل عنه بحركة عصبية و أنتصب مخاطبا إياه:
=أنا من يقرر من يتعذب كفاية أو لا, و أنا أقرر من سيعترف و من سيعاند.
-قراراتك خاطئة إذن يا حضرة المساعد.
قالها الرجل بحزم أدهش المساعد, و قد ابتسم الأخير بتحدي و هو يرفع سبابته محذرا:
-هل نسيت مع من تتحدث أيها العريف البائس؟ أنا المساعد أول وليد السرحان.
=طبعا طبعا, و هل هناك من ينسى مجازرك و حفلاتك يا سيدي؟
فغر المساعد وليد فمه بذهول غير مصدق, لا بل وجد صعوبة بتجميع مفرداته جراء الغضب, إذ لم يصرخ سوى بالشتائم و اللعائن و هو يحاول أن يستل مسدسه. لم يمكنه الآخر من الوصول لغايته, لكمه بفكه و من ثم ركله بين ساقيه, فأرتد المساعد البدين بألم وصل صداه إلى وجهه الذي أحتقن, و لما رفع المساعد عينيه إلى الآخر تفاجأ بأن غريمه قد أستل مسدسه و صوبه نحوه. همس المساعد بذهول:
-لابد و أنك فقدت عقلك يا مهند الأسدي.. اللعنة.. أنا وليد السرحان يا كلب.. أنا..
=أخرس يا زنيم فلقد أبرمتني بهذرك.. و الآن ستموت كأي كلب رخيص.
قلص عيناه مركزا على إبرة المسدس دون أن ينتبه لصرختي المحذرة, ذلك لأن الأصلع قد حسم أمره و قرر أن ينصر المساعد برصاصتين أستقرتا بخاصرة مهند الأسدي, الذي سقط لوجهه و عيونه تتقيأ الألم. نهض المساعد بوجه متجهم, رفع مهند حتى ساقيه رغما عنه و صار يعضه برقبته و يلكمه حتى دفعه للجدار, و هنا أخذ بندقية الكلاشينكوف من بين يدي الأصلع و خاطبني بوجه ضاحك هستيري "أنظر إلى بطلك", قالها و أطلق رصاصتين لوجه مهند الذي هوى للأرض و قد ترك أجزاء من دماغه تلتصق بالجدار المثقوب برصاصة الموت. أقترب المساعد وليد نحوي بتعب إثر المواجهة, ألصق فوهة البندقية الساخنة على فكي, بلَع ريقه ليستعد للكلام ثم همس: و كما ترى فإن سر بقاؤك على هذا الكوكب يعود لرغبتي أنا بذلك دون سواي. لطمني ثم مضى, تاركا إياي مع هداياه الكريهة؛ الدوار, الألم, الغثيان و كذلك الإغماء الزاحف إلى رأسي كسائل زئبقي محمّلا بروائح كريهة. نقلوني بالعربة ذاتها لزنزانتي و كان الهواء يبدو لزجا أثناء ملامسته لجلدي. أحاسيس موت تكتسحني, بمرارة القيح-السائل من شفاهي- فوق لساني, بوحشية الظلام الذي يبتلع إدراكي الباطن كرمال متحركة (ساخنة و حارقة) تقلٌني لعالم من الظلام و المجهول. ألقوني إلى وسط الزنزانة حيث بقيت مشغولا بالحلم و التعب, كان حلما يطارد ملاك, و ملاك هذه عالم آخر غير عالم المعتقل و الدماء و الأظافر المخلوعة. عرفتها و أهلي منذ طفولتي, كانت و عائلتها أقرب الجيران إلينا, و لم أتخيل بأن شريكتي باللعب ستتحول لشريكة أبدية تلعب بغدد القلب فتلهبه تارة و تغرقة تارة أخرى. لقد توفي والدها تاركا أربعة أولاد و بنتين, كانت ملاك أصغرهما, و كان على الأم أن تعمل بصنع الحلويات بمنزلها لتسد موقع زوجها الحداد المتوفي بلدغة عقرب صحراوي أصفر. إن ملاك هذه قد سدت علي كل منافذ الحياة و لم تترك سوى بابا واحدا يمرّ عبرها, أنها كنز يبعث على البهجة و الإفتخار و الخجل المنتشي. كان وجهها يحمل كل إمارات الطفولة و السكينة, و بعينيها السوداوتين و بقامتها اللدنة الرشيقة, كانت تفرض جوا سلطويا مشبعا ببخور حضورها. كثيرا ما أحاول إستذكار سني دراستنا معا ببهو دارهم بمرحلتنا الإبتدائية, كنت أريها سحجات ركبتي و جروحها بفخر بينما كانت تبرمني بالتحدث عن أقلامها الملونة و تفاخرها بحب المعلمات لها. و مما لاشك فيه-و وفق تقاليدنا الإجتماعية- فإن المرحلة الإعدادية كانت نهاية لتلك اللقاءات الدراسة الهزلية, و لكنها كانت حجر الأساس لحب فتي أيضا. لقد حدث ذلك بيوم ثلاثاء خريفي مشمس, كنت قد نفيت نفسي لسطحنا لغرض الدراسة؛ أنه تقليد شبه مقدس لكل تلميذ بآخر سنة من سنوات المرحلة الثانوية. و ككل بيوت المدينة, كانت أسوار السطوح شاهقة منيعة عن الإنظار, رغم أنها لم تكن منيعة عن الأصوات. و هكذا, أستطعت أن أسطو على أسرارها التي كانت تودعها عند صديقتها أثناء زيارتها بسطح دارهم, و لم أصدق أذني عندما سمعت تنهداتها عني و وصفها لمشيتي و الطريقة التي أخفض بها رأسي كلما رمقتها بالشارع. صمتتا للحظة ثم عاد صوت ملاك متنهدا بقولها: "أتعلمين؟ كلما رأيته خافضا لعينه حتى تنتابني رغبة نارية بأن أضربه". ضحكت الأخرى مستهجنة الفكرة, بينما عادت ملاك للحلم: "أضربه فقط.. بساطته تدفع الإنسان لأن يمزقه ضربا". سألتها صديقتها بأرتياب:
-هل تحسبينه يحبك أيضا؟
=بالطبع يا مجنونة.
-و لكنه يحبني.
طار عقل الأخرى, إذ أطبقت بيديها على عنق صديقتها و هي تصرخ متفجعة:
=كيف حصل هذا يا مجرمة؟ سأقتلك.. سأقتله.. سأقتل نفسي.
-أتركيني فكنت أمازحك.. يالوحشيتك.
ضحكتا معا و قد قالت الصديقة بعد أن سمعت أذان الظهر يعلو:
-علي الذهاب للمنزل كي أصلي و أنهي بعض الفروض.
=حسنا, و أبتعدي عنه ألف خطوة و إلا..
-يووه, كنت أمزح أيتها المستبدة.
=لا تمزحي إذن.
قالتها و هي ترفع يدها مودعة مع ضحكة قصيرة, و لما غابت صديقتها حتى قفزت لسطح ملاك و أنا أبتسم بخبث. صرخت صرخة قصيرة ثم أرتدت حجابها مستنكرة و هي تفلت جملة لا إرادية من جملِها القصيرة القاطعة:
-ما تريد أيها المجنون؟
=لقد سمعت كلٌ شيء..
-سمعت ماذا؟
أبتسمت و أنا أكرر بصوت بطيء "كلٌ شيء", عندها أمتقع لونها كأنني حقنتها بعصير الرمّان, و لم تدري الفتاة بأي زهرة تخبيء وجهها جراء الخجل الذي ضاعف جماله. قالت بلهجة متوترة في محاولة لتغيير الموضوع:
-أمضي إلى داركم يا واثق و إلا رأوك أخوتي فيؤذونك.. بل قل يقتلونك ربما.
=لا داعي فسألقي بنفسي من السطح لو أتوا.. سأوفر على نفسي عناء الموت ركلاً.
لم تتمكن من مدارات ابتسامتها فغطت وجهها بالعباءة, و لما أبعدتها كانت قد بدأت بالبكاء من فرط الإحراج. عندها شعرت بحماقة تصرفي فعدت متسلقا سطح دارنا و أنا أخاطبها جلوسا على السياج: أبحثي عن شيء سأتركه تحت خزان مياهكم غدا صباحا. و مضيت بعدها دون المقدرة التركيز على شيء قط.
* * *
في ذلك الصباح, دسّت ملاك يدها تحت خزان المياه المرفوع بأربع عواميد قصيرة, و أستلت رسالتي التي غلفتها بكيس بلاستيكي أصفر. كانت رسالة متعقلة قدر المستطاع, رسالة كشفت ودٌ الطفولة و إعجاب الشباب و أسفي على تلصصي عليها. تأخرت إجابتها لأربعة أيام, كدت أفقط خلالها عقلي من شدة الغضب و التوتر, و أنكشفت الغمة أخيرا بورقة قد كتبت عليها سطرين غامضين إلا أنهما أنتهيا بسؤال عن موقفي منها كفتاة ذات سُمعة حسنة؟ و من الطبيعي أن أجيب على سؤالها, بداعي الكياسة على الأقل, فأجبت بأنها لم ترتكب خطأ بالحب مادام هذا الحب عفيفا و ذو نهاية متفق عليها و صحيحة, و بناء على ما تقدم فإنها فتاة شريفة لم تخل بالآداب العامة و لا بأوامر دينها. كانت إجابتي قصيرة و مقتضبة في محاولة مني لألهب نار الغضب فيها جرّاء إقتضاب رسالتها. و ككل النساء, راقت لها اللعبة و لكنها أزادت بشكلها القاسي المدلل, إذ ردت بسؤال واحد عن قصدي بما أسميته "النهاية الصحيحة"؟ أجبتها بكلمة واحدة: الزواج. لم تجب فورا, بل تعطل ردها لأسبوعين عشت بهما أطول ليالي العمر إذا ما أستثنينا ليالي التعذيب بهذا المعتقل. لم توافق على الزواج رغم أعترافها الخفي بالحب, إلا انها لم تقصف جسور الأمل أيضا, إذ أقترحت أن يكون تعارفنا برضا عائلتها و بطريقة إجتماعية مقبولة؛ الخِطبَة مثلا. كنت أنا من أرتجف بعدها. إن فتح موضوع الزواج لهو ضرب من المحال عندي, و ليس ذلك للخجل و عدم الإستعداد فحسب, بل لإعتزامي على السفر لخارج العراق. حاولت أن أستثنيها برسالة متأخرة, إلا أن ردها كان سريعا و صارما هذه المرة: لن تقبل علاقة دون علم أهلي أو أهلها على الأقل, هذا إذا أستثنينا حدوث الخطبة. و رغم الإستياء الظاهر منها, و رغم تكبري عليها و بخلي المتعمد بمبادلتها للنظرات اللاهبة التي كنا نتقاسمها بالخفاء كلغة رمزية مقدسة, رغم كل ذلك, شعرت بالإحترام الدفين تجاهها و صار الحب أشد عمقا و أكثر عقلانية و أخف طيشا و أضعف نزوة. أخبرتها بأنني سأفاتح أمي بالأمر, مهما كلفت المغامرة من توبيخ أوسخرية مترقبتان, و لكني أشترطت أن أجتمع بها على السطح للتأكد من شيء وحيد. لم تجب بنعم و لكنها لم تجب بلا أيضا, و بدافع الجنون و التهور قفزت إلى سطحهم قبل أذان المغرب بست دقائق, حيث الشمس ضعيفة و عيون الفضوليين أشد ضعفا. شهقت مرعوبة حينما أمتد خيالي على كتفيها و أنا أنتصب أمامها على بعد متر واحد من مجلسها الحديدي, و دون تردد سألتني عما أريده؟ فأجبتها بتعالي لاخفاء رعشة الخوف الدفين:
-هو سؤال واحد فقط.
=تفضل.
-هل تحبينني حقا؟
تأملتني بخيبة مصطنعة و قالت كلماتها أثناء أنصرافها المستعجل: آه يا واثق حسن التميمي, و هل هناك من فتاة تحتمل كلٌ جنونك إن لم تكن تحبك؟ قالت ذلك و أنصرفت هاربة مع بسمة ناعمة على وجهها, و لم يكن مفهوما عندي أكانت أبتسامتها قد أكتسبت إلتماع الشمس الغاربة أم العكس؟
في العاشرة و الثلُث من صباح اليوم التالي, أنتهزتُ فرصة غياب والدي عن المنزل كي أحدث والدتي بأمر ملاك, و قد أستقبلت الأخيرة الأمر بابتسامة متفاجئة إلا أنها لم تزد من حرجي بأي جملة. قالت كلماتها برصانة حكيمة: "سنرى ما يُمكننا فعله". بعد أسبوع واحد فقط, كانت والدتي قد توصلت لأتفاقية ضمنية بجواز زواج ملاك بهذه المرحلة من عمرها, و خلال ثلاثة أيام تالية عَرفت والدة ملاك القصة كلها و كان ردها غامضا لوهلة. و رغم إصرار أبنها البكر الكريه, أكرم, على الرفض إلا أنها قد وجدتها فرصة ذهبية كي تكمل أبنتها الدراسة بعيدا عن أي مشاكل عاطفية بالجامعة, و الحُجة طبعا هو الخطيب الغائب بأمريكا, و الذي لن يشغلَ الابنة بقربه منها أصلاً. إن سنين الحرمان و الترَمُل قد علمتها طباع العجائز الماكرة و لؤمهن الدفين, الذي ظهر للعيان أمام عشرات الشروط الباهظة التكاليف. كانت ملاك تحتضر من شدة الحرج, أما أسرتي فأخفت استيائها بصعوبة. و بعد سجال شهر كامل من الزيارات و الشروط المجحفة, عُقد قراني على ملاك بحفلة صغيرة, أصرّت أمي على عقدها بين الأقارب و الأصدقاء. كان هذا قبل موعد سفري بثماني أيامٍ فقط, و لم نقل الكثير خلاله هذه الفترة عدا أتفاقنا على مراسلة نشِطة.
* * *
نيويورك, مدينة الجريمة و الإرهاب الإجتماعي, خيٌبت آماليَ دفعة واحدة. الوضع هنا مزريٍ, ليس لكثرة المزابل التي تغزوها الجرذان الجائعة فحسب, بل للإرهاب الذي يفرضه المجتمع على طبقاته ذاتها. النساء كن الأسوء حظا هنا, فالمجتمع قد نَحت الحريات و المفاهيم بغية التمتع بهن كبهائم. الحرية مجرى قاذورات بائس يمارسون فيه تجارتهم و خروقاتهم لكل ما يُخرق. قال أحد أساتذة الأخلاق ذات يوم بجامعة بريدجبورت, حيثُ درستُ لفترة و ألتقيت أحمد الخفاجي, أن الحرية مصطلح لا وجود له إلا بالذهنية الطوباوية, أما لو عدنا لأرضية الواقع فإن كلٌ مفاهيمنا خاضعة لمقاييس عقلية, أصابت أم أخطأت, و بالتالي فأننا لا ننشد الحرية بمفهومها المجرٌد, بل ننشد جوهر الحرية الذي يهبنا حق التفكير و التنفيذ وفق حدود معلومة سلفا. و إذا أُستنكرت هذه الفكرة, فإن الحرية ستتحول لسلوك فوضوي و لامسئول يقود المجتمع للمشاكل العويصة.
لم يتمكن من الإستمرار بعد أن قاطعه طالب قميء, بدى لي كمدمن مخدرات, الأمر الذي دفع الخفاجي لأن يتدخل. أنه عراقي هُجرت عائلته من العراق منذ سبع سنوات لإنتماء والده الإسلامي. لقد أعدموه بقاعة المحاضرات التي يحاضر فيها- أمام تلاميذه- و تركوا عائلته ترحل للمجهول. كانت معركة سريعة و دقيقة, من تلك المعارك التي لن تثمر ألا بعد سنوات طويلة إن كُتب لها النجاح. أعتقلوا مهند لخمس ساعات, على ذمة التحقيق, بعد أن وصف الآخر بالماسوني المعادي للفضيلة. و لعله سخر مني بأعماقه حينما خاطبته ناصحا بلهجتي الودية:
-لا أدري إن كانت ستنتهي أيامك لخير إن بقيت على هذا الوضوح بمواقفك.
=أتريدني أن أنافق؟
-لا.
=ماذا إذن؟
لم تكن عندي إجابة جاهزة, و لن تكون, فكل الفكرة من نصيحتي كانت متضمنة بكلماتها ذاتها, التي من المُفترض أن يفهمها بشكل شمولي. لكنه كان شخصا مملاً بدقته, إذ أعاد السؤال بلهجة نزقة:
-أنافقهم إذن؟
=لا.. قلت لك لا.
أجبته بصوت مقارب لصوته بعد أن ساورني شعور ضروري بأن أهرب من المواجهة, فآخر ما أنتظره هو مواجهة مع عنيد مثله. أنصرفت عنه بخطوات مستعجلة و غير مكترثة لهدير الأطلسي الذي يشرف عليه فناء الجامعة, تلك التي كان مدخلها و واجة الأطلسي تشكلان تناغم أكاديمي شفاف و أسطوري باعث على التأمل. عدت لمنزل خالتي, المنهمكة بكتابة أطروحة الدكتوراه بالعلوم السياسية برفقة زوجها, و هناك ألفيت رسالتين على مكتبي. كانت الأولى من أهلي, و بدت لهجتها مطمئنة, بينما كُتبت الأخرى بأنامل ملاك. كانت رسالة فتاة شرقية بكل المعايير, بلهجتها الخافتة فقط و ببثها للواعج صدرها الخفيف كذلك. كانت رسالتها معجزة إغراء فاضلة بحد ذاتها. و هكذا, بخضم جنون الحب, لم تمر السنة الثالثة حتى فقدت كل صبر, و آليت أن أعود للعراق كي آخذها للإقامة معي بالسَنة الدراسية المتبقية. لكن, ما حصل بعدها؟ هأنا ملقاً كحثالة بجوف زنزانة جرباء, بأصابع دامية و ظهر محروق و جسد مفتت. أعتملت فيٌ الأحزان فجأة حتى وجدتني أبكي بجوف الليل, و ما أستمر النحيب طويلاً إذ هويت بمستنقع الدموع و حرارة الذكريات.
"أنه يعاني من إصابات جدية, و بحاجة لعلاج مكثف يا سادة". أستفقت على هذه العبارة المنطوقة بحنجرة نقية. فتحت عينيَ أكثر لتغرقان بالمنظر الجديد, هناك إبر مغروسة بشرايين ذراعي اليسرى, فوق رأسي مباشرة ترددت خفقات قلبي من جهاز كُهربائي. و لجانب السرير الأيسر, أنتصب أبو قصي و أبو تحرير لجانب الطبيب الهرم. كانا يتأملاني بعيون متوعدة في الوقت الذي تابع فيه الطبيب ما ابتدأه منذ ثواني:
-لقد أستيقظ بشكل تام الآن, و أرجو أن يبقى بحالة نفسية مستقرة.
=أغلق فمك يا دكتور, فهذا الوغد يرقد منذ يومين بهذا المشفى اللعين. نحن نريده عندنا فمتى سيخرج من هنا؟
-ثلاثة أيام ربما.
=سنأخذه غداً ليلا.
أنهى أبو قصي كلامه و مضى مع رفيقه, بينما تابعتهما أنا بعينين مهمومتين. ألتفتُ للطبيب و قد فضت بشعور مفجوع و أنفجرت باكيا. خَفَض الرجل رأسه لوهلة ثم طوقتني نظراته الرحيمة و همس:
-لا بأس يا أبني.. لا بأس... الله أرحم الرحمين.
=لم أنا هنا يا دكتور؟
-أنت للعلاج يا ولدي.
قالها و خطى نحو النافذة المشرفة على المباني الشاهقة المحيطة بالمشفى, بمنطقة ما من بغداد, تشرّب بالمنظر الصارم للمدينة العظيمة و تمتم بصوت بدى أكثر هرما من هرمه. صوت مبحوح و مرهق بعكس طبيعته الفولاذية النقية:
-مجرد وجودك مع هذه الزمرة لهو دليل على تورطك بمشاكل ستسوقك لحتفك بكل الأحوال.
=الأمر سيان.. أنا ميت بالحياة.
لم يعقب فورا, بل جلدني بنظرة ذات تركيزٍ عالي بمساعدة من شاربه الخمسيني:
-سأنقذك.
=العفو؟
-سأنقذك من الموت.. سأحاول على الأقل.
=لم؟
تاه فمه للحظة, صمَت مفكرا, أخيرا قرر أن يحسم أمره:
-ربما سيغنيك هذا عن مصير ولدي علي.. الضابط الطيار علي.
=هل أُعدِم؟
-حدث هذا قبل ثماني سنوات من اليوم, عندما كان علي ملازما أول بسلاح الجو العراقي. لقد حمل ذهنية فذة قٌربته من ضباطٍ ذوي نفوذ, و بكل خطوة قُربٍ كان يخطوها نحوهم, كانت هناك إمتيازات كبيرة و مخاطر أكبر. كان ناصري الفكر, الأمر الذي لم يَرُق كثيراً لمرؤوسيه. لكنهم صبروا عليه بضعة أشهر على أية حال, فمن يدري؟ ربما عاد لرشده بينهم؟ بيوم الخميس, 28 مايو من عام 1978, تمادى علي برفضه للسياسة الحزبية و هرَب و زميل آخر بطائرتي فانتوم لقصف تل أبيب. لم يكن وحده, بل كان هناك طيارون عرب من دول أخرى قد أرتكبوا الفعل عينه, و كانت خُطة سرية لقيادة حرب لا مركزية ضد الصهاينة. الأمر جنون و لا شك, و مازلت متأكدا أن عليا و رفاقه لم يجهلوا هذا قط, لكنهم أرادوا أن يعيدوا كربلاء للذكرى.. أن يعيدوا الثورة على الصمت و السكينة.. الإنتفاضة ضد الإذلال و تغييب الإرادة الحقيقية للشعب.. شيء من هذا بكل تأكيد, و هذا ما أؤمن به يا واثق. لم يتمكن علي من الوصول لتل أبيب لقلة الوقود, و سمعت بأنه قصف معسكرات عند النقب بمساعدة طيارين أردنيين و مصريين, و قد نشبت بينهم و بين الصهاينة معركة جوية بعد القصف. علي و أغلب من معه مجردي الصواريخ الوقود تقريبا, بوجه طائرات أنطلقت للتو. أسقط الصهاينة منهم طائرتين و أسقطوا واحدة منهم في الوقت التي أستخلصتهم المقاتلات الأردنية و المصرية. فر الصهاينة لكن علي لم يعد, رغم أن رائد بسلاح الطيران العراقي قد أكد أن علي أسقط طائرة صهيونية و قصف ثكنات للعدو الإسرائيلي بصحراء النَقب, و لم يتمكن الصهاينة من أسقاط مقاتلته أبدا.. لكن الفرع الإستخباراتي لسلاح الطيران العراقي ببغداد أكدّ مقتل الملازم أول علي سلمان الليثي, و أغلب الظن أن المقاتلات العراقية قد أجبرته على الهبوط بقاعدة عسكرية بالأردن, و من هناك أقتادته المخابرات العراقية لبغداد. لا أعرف ما مصيره لكنه أُعدم بأغلب الظن, لست متأكدا بأي مصير أنتهى يا واثق. ما أعلمه أن علي سيولد فيك مرة أخرى, لن تُقتل إن شاء الله.
ساد صمت مرير بدى مقدسا لحضور ذكرى علي, و وجدتني أناديه قبل أن أسقط بغيبوبة التعب: يا أبي.
مرت ساعتين على إغمائي الذي رافقه إرتخاء شامل من إبرة المهديء التي حقنها الدكتور بكيس المغذي, وجدته يطالع كتاب ما و هو يجلس على كرسي قرب سريري. أبتسم عندما فتحتُ عينيّ و فسر جلوسه بجملة واحدة:
-ممنوع أن يتعامل معك أي إنسان سواي.. هذي أوامرهم.
شكرته بابتسامة مرهقة من مضجعي و بذلتُ جهداً لأستجمع الكلمات بفمي كي يُفتح:
-ما تقرأ؟
=آه.. أنه "فلسفتنا" لمحمد باقر الصدر.. كتاب ممنوع و لكني أخفي مُغلفه بورق بجِلادٍ سميك.
-ماذا فيه؟
=دراسة عن الفلسفة الجدلية الماركسية و الفلسفة الإسلامية.
-تبدو أشياء معقدة.
=هذه مسألة تعود لثقافة القاريء.
-لمَ تثق بي يا سيدي؟
=لأن الحال من بعضه يا ولدي.. سأرفع تقريرا يشهد بأنك تعاني من حالة عصبية تدفعك لأذية كل من يعترضك, و هكذا ستنجو من تهمة الإعتداء المتعمد على رجال الأمن.
=كيف عرفت بأمري؟
-كنت تهذي طيلة ليلك.. عن التعذيب.. ملاك.. أمك.. الطائرات.
=أنا طيار أيضا بالمناسبة.
-عرفتُ هذا من هذيانك أيضا.
أبتسم بطريقة أبوية و عالج حقنة بيده قد أفرغها بكيس المغذي خاصتي, و أتاني صوته موضحا بين بخار الدوار الذي تصاعد نحو رأسي: "أنه مهديء سينيمك لفترة تساعدك على الراحة أكثر". هذا كل ما سمعته بعد أن غصتُ برمال النوم المتحركة, و لأول مرة حلمت بأحلام سعيدة عن الطائرات, زوجتي, و أشياء أخرى كثيرة.
كانت تلك آخر مرة أرى بها الطبيب, اُخِذتُ بوقتٍ غير معلوم ليلا بينما كانت المهدئات تتجول بدمي, ألقوني بزنزانتي بخشونة و كانت هذه لحظة بداية الكابوس المتكرر هنا. عند الصباح, زارني المساعد وليد على غير عادته, كان حليق الذقن, الأمر الذي حذف معالم وجهه الذي بدى كقطعة عجين باردة. أشعل سيجارة "سومر" و نفث الدخان لأعلى رأسه, أقترب مني و قال بخبرة متمرس بأن علي الإعتراف و إلا أظهر وجهه الحقيقي, و عندها لن أكون راضيا. هذا كل ما قاله, داس على سيجارته فوق أرض الزنزانة و مضى.
أبتسمت بشحوب, بمرض, بمحاولة لكي لا أجهش بالبكاء, همهمت بصوت أبتلعته الزفرة: "و هل بقي شيء لم أعرفه فيك يا وغد"؟ و الحقيقة كانت هذه فكرة خاطئة, فهناك الكثير لأعرفه عن هذا الرجل, و الكثير الكثير لأعرفه عن زنزانتي ذاتها. الزنزانة مستطيلة بثلاثة أمتار طولا و مترين عرضا, فيها سريرٌ عسكري ضيق و ذا أحشاء مهترئة. بالسقف, كانت هناك ثمة مربعات زجاجية غير واضحة المعالم, لم أتوصل لمعرفة سر وجودها حتى الليلة التالية. نمت بصعوبة, المرة الأولى التي أستمر بنومي لساعة كاملة دون التعرض لرذاذ الكوابيس الناري. لم يستمر الأمر, لقد أنفجرت قنبلة, لاشك أنها كذلك, نعم أنه صوت أنفجار قنبلة تلته موسيقا عسكرية أنبعثت من السقف, كانت تشيد بإنتصارات القائد و حزبه المحبوب. و لكي أعيش الجحيم عينه بشكل أقرب للواقعية, أنيرت أضواء ساطعة من تلكم المربعات الصغيرة, التي أكتشفت بخضم الرعب أنها مصابيح عالية المقاومة, الأمر الذي يمكّنها من توليد حرارة قد تكفي لطبخي بعد أيام. حاولت تجاهل الموسيقا المدوية- المنبعثة من سماعتين قد ركبتا خلسة أثناء نومي ليلا- حاولت أن أغلق عقلي الباطن من سماع أي صخب, إلا أنني لم أجد سبيلا للعيش مع تلك المصابيح التي راحت تشوي ثيابي على جلدي. أستمر الحال طيلة الليل, لم تنقطع الموسيقا لثلاثة أيام, بينما كانوا يطفؤون المصابيح لساعتين و يشعلونها لساعتين أخريتيين طيلة الأيام الثلاثة. الشيء الوحيد الذي أطلبه هو لحظة خفوت, لأتأكد بأنني لم أصب بالطرش, و كذلك كميات أكبر من الماء بسبب التعرق الشديد الذي يعتريني. باليوم الثالث, الساعة العاشرة و الربع صباحا, فتح المساعد وليد و أبو قصي الباب و قد أمره الأول أن يصب علي الماء مباشرة من الخرطوم الممتد من خارج زنزانتي, و كان ذلك ضروريا لأستفيق من حالة الإنهيار التي شيدت جدرانها على جسدي. شربت الماء بقدر المستطاع, كان فمي يتبع رشقات الخرطوم لأشرب, بينما يبعده أبو قصي عامدا بعد جرعة واحدة, مجرد وغد يتسلى بتقطير الماء لمن يحتضر عطشا. لقد أتيا لإنذاري للمرة الأخيرة, كما شرح المساعد وليد, و أكمل: "إذا كنت عاشقا للمشاكل فلك ذلك, لكن عليك أن تتهيأ لنوع جديد منها". أجبته بأنني لا أستطيع أن أقبل إتهاماتهم ضدي, لأنني ببساطة لست من الذين يتصيدونهم. أبتسم المساعد وليد بإستهزاء بعد إجابتي, مد علبة السجائر نحوي متمتماً: سيجارة؟ حركت رأسي نفيا ببطيء, كنت أريد منه أن ينصرف, وجوده يفاقم من عذابي, لكنه بقي لساعة أخرى يحدثني عن قصص من "ركبوا رؤوسهم" مثلي, و كيف أهتدى بعضهم و عاش حياة سعيدة خارج قضبان السجن, بينما قضى الآخر بمستنقع دماء بعد أن رأى لحمه يتناثر حوله طيلة أشهر, و أختتم كلامه بجملة ساخرة: "و هل تظن أن الناس سيذكرونك بعد موتك؟ سيعتبرونك بطلا؟ أم ستشقق خطيبتك أو زوجتك خدودها ألما عليك؟ لاشيء من هذا سيحدث يا عزيزي, سيحزن بعضهم عليك لثواني فقط.. بعدها يعود الكل لمتاجرهم و تتزوج المعشوقة من رجل آخر دونما إحترام لذكراك.... لاحظ.. لن تمثّل لها مجرّد ذكرى حتى.. ستذوب و سيحولك الزمن لصورة رجل سعى للمشاكل.. بل سيكون نطقها لأسمك عارا عليها قبل أيا كان" و قهقه ساخرا. لم أعد أحتمل, قلتها بفم مرتجف: "أريد أن أنام.. أنصرف من فضلك". تأملني بطريقة مزعجة, نظرات أشبه كريهة و باعثة على القشعريرة, أبتسم موافقا ثم أنصرف و أبو قصي الذي ركلني بفخذي كيفما أتفق و مضى خلفه, بعد أن أوصد الباب بالأقفال الثلاثة الخارجية. سأله الحارس عند باب الزنزانة, المغلق, إن كان عليه ان يدير الموسيقا و يشعل المصابيح, لكنه هز رأسه نفيا, بل سمعت صوته يصلني عن سابق إصرار: دعه يفكر بهدوء.
عشرون يوما قد مضى على زيارة المساعد وليد, لم أتحدث مع مخلوق بعدها, تركوني كبهيمة تعاني الصمت المطبق و النفي. أدهش نفسي حقا, إلا أنني أشتهي قدومهم لضربي حتى, فهذا أفضل من هذا الصمت اللعين. في كل يوم, و بثلاث مرات, كانت هناك يدا تمتد لي بصحن الطعام, صحن بلاستيكي أخضر أشك أنهم يغسلونه حتى. بيضة مسلوقة كيفما أتفق و خبزة بمقدار كفة اليد, هذا كل ما يقدمونه مع كأس ماء علي أن أنتظره لأخذه قبل أن يلقي به الجلاد أرضا و يندلق, لا يكترث هو, و لمَ يفعل أصلا؟ في كل ليلة أيضا, كانت غواية البرد تزداد معلنة قدوم الشتاء, الزنزانة تبرد بسرعة عالية بسبب أرضيتها الإسمنتية الخضراء, أتكوم في كل ليلة كشحاذٍ يستجدي النوم, لا نوم مسموح هنا. أصوات التعذيب القريبة من زنزانتي تتعالى بأغلب الليالي, أصوات نساء مرعوبات, رجالٌ يتصارخون, لعنات و تهديدات فاقدة الصبر. قبل ليلتين فقط, أقترف أحدهم حماقة غناء نشيدٍ وطني, علي أن أعترف أن صوته كان قويا و هو ينشد "موطني", لم يكمل القفلة الختامية إثر رشة كلاشينكوف, نعم, أعدموه. بقي صوته يلاحقني طيلة اليومين المنصرمين, للمرة الأولى بدوت مهتما لمن يقطن بهذا العالم لجانبي. فكرت بعوالم المعتقلات بكل مكان, شرق المتوسط, جنوب المتوسط, شمال المتوسط, غرب المتوسط, لا بد أن لهم معتقلات أيضا, خصوصا أؤلئك القاطنين بغرب المتوسط, تلك الأراضي التي تلي سرير الأطلسي. بالتأكيد, هناك مسالخ بجنوب أمريكا, لكني أنشغلت أكثر بالشمال. عشت هناك, بلى, لكني أكتشفت بخضم المفاجئة أنني لم أفكر يوما بسياسة هذا البلد إلا بما يتعلق منها بمصيري, و أكتشفت – بذهول أكبر – أنني لم أفكر يوما أن أؤلئك الناس قد يكرهون حكوماتهم أيضا. سمعت كثيرا عن مغامرات إصطياد الشيوعيين هناك, كيف يحاصرون أحدهم كجرذ و يعتقلونه لفترة حتى يلفه النسيان, يعتقلون كل عائلته, يفرجون عنهم بعد حين مع علمهم أنهم أعدموهم بالحياة, من سيقبل أن يوظف من هو متهم بالشيوعية؟ "آسفون", يجيبونه بوجه تنافق بالحزن, هكذا إذن, سيعيشون كالشحاذين على مساعدات الإجتماعية البخيلة, سينتقلون للأحياء الفقيرة الغاصة إجراما, سيغتصب الزنوج بناتهم فور بلوغهن الرابعة عشرة, سيدمن الكبار على الميروانا و الويسكي, ستضيع أسرة بكاملها بسبب شيوعي واحد قد أختفى منذ سنوات. ماذا عنه؟ لا شيء, لا شيء سوى تلاوة خبر يشتمه بحجة نعيه: أنتحر, هاجم حارسا فأطلق النار عليه, حاول الفرار فأفترسه كلب دوبرمان, قتله مجرمين وطنيين بالمعتقل. لا فرق إذن, القتل هناك أكثر ذكاءً فحسب, لا فرق إطلاقا.
تابع
|
|
04-04-2005, 09:07 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
ضيف
Unregistered
|
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية
في المساء, فُتح الباب من قبل حارسٍ جديدٍ رافقه آخر, لكمني الأول دون سبب بينما أنهمك الآخر بتعصيبي و تقييد يدي بكلابتيه. "تحرك", سرت بخطوات متلمسة إلا أن لهيب الركلة بين إليتي أفهمني بأن أمشي بلا تواني. أستمعت لدوران المفاتيح الكبيرة في الأقفال, فُتِح باب ما, سحبتني يد قوية و دفعتني فوق خمسة عشرة درجة خشنة. نزلا خلفي بقفزات مسموعة وسط فراغ الصمت, أبعد أحدهم العصابة بينما فك الآخر الكلابتين. لم يكن المكان محدداً, لكنه يحمل رائحة قبو لاذعة بزيد الظلام الدامس من كثافتها. فتح أحدهما بيلاً يدويا و شق طريقه وسط الظلام العنيد. سلط ضوئه على شق طولي بالحائط بعمق نصف متر و طول مترين, كان يكفي لولوج شخص متوسط الوزن. حشرني فيه ثم أغلق الباب الفولاذي ذي القضبان الطويلة: زنزانة للوقوف الجبري إذن. بعد أن أغلق الحارسين الباب الذي دخلا منه, ساد صمت ثقيل, شيء جامد بكل فراغ, الأمر الذي يدفع الأذن للطنين كي تسلي نفسها. أشعر أنه مكان منعزل عن كل عناصر الحياة, حتى الهواء, كان رطبا و منتناً كأبخرة المجارير. الظلام يزداد كثافة و نفوذا للعين كلما أتسع البؤبؤ طلبا للرؤيا, سهام ليلية باردة تصفق نظري و تجبره على خلق أشباح متراقصة بالفضاء, أنفاسي تزداد حدة مع الظلام, العرق يفصد من وجهي كما الدماء القليلة من جبيني المخدوش, الزمن يتبخر أمام العين و تبقى بمواجهة همجية مع الفراغ. كل شيء بدا على أهبة الإنفجار عندما أنطلق صوت أغنية من مكان غير محدد, غير مرئي أو محسوس هو, و كأنه يتسرب من ثقوب إناء لعالم آخر . كانت أغنية "أراكَ عَصِيَ الدَمْع" التي راح يغنيها الصوت بشعور كارثي شديد الكثافة, لدرجة أن المرارة كانت هي سمة الأغنية و ليس الحزن وحده. لم يكمل, تبادرت صرخات غاضبة: ملعون, أخرس, أنكب. صَمت المُغني, بدا أشد رقة من أن يتصدى لهم, و من يميني أرتفع صوت مدافع و مؤنب, تحدث عن أحترام الحق بتقدير الأغنية الهادفة المهذبة, لكن الآخرون ردوا عليه ببعض الشتائم. حاولت أن أتحدث, أن اسأل, لكني لذتُ بالصَمت مخافة أن تكون كل هذه مسرحية مدبرة. مر وقتٌ طويل دون أن أشعر بما حولي, لقد أنشغلت بالتخلص من لُجاج سحابة تبلُد. صار محسوسا عندي أن خدراً موجعا قد باشر بتسلق قدمي كنباتٍ طفيلي ضار. أسندت رأسي إلى القضبان الحديدة, التي لا تبعد عني سوى مسافة شبر واحد, و أستسلمت لعالم الأحلام و الدوار المبتل بذكريات لزجة , غائمة, و ذات رائحة خضراء أشبه بروائح الأهوار ذات الزمن المتجمد بين قصب السكر, و بحفيف الزوارق الضيقة التي تدفعها نساء ضامرات بواسطة عيدان طويلة تغوص حتى قاع النهر الضحل.
* * *
ساعات مضت, القضبان تغوص بجبيني, بينما أتكيء عليها مستسلما لنوم مزعج و مخنوق بأنفاس مشبعة برائحة الرمل النهري الجاف, الذي كان يغزو جروف الأنهار و الجداول الفراتية الغارقة بحرارة الشمس و صمت غابات النخيل اللاهث. أستفقت من نومي تدريجيا إثر صلصلة أقفال و مزاليج و وقع بساطير ثقيلة, و بيقين سريع و أستعداد للجديد, ألفيت الأضواء قد فتحت لتهاجم عيني بحرابها لوهلة. أبعدتُ يدي عن وجهي تدريجيا, لأكتشف بأننا مسجون بمربع بمساحة أربعون مترا, و على أضلاعه أنتشرت تلك الزنازين التابوتية. كانت ممتلئة – برجال و نساء - إلا قليلا, و إلى اليمين كانت هناك درجات معلقة من البلاط المرقط و باب حديد بأعلى الجدار: أنه سرداب إذن. جال الحراس الأربعة بالمكان و هم يطلقون نظرات لئيمة للكل, بينما تأهبت سياطهم القصيرة بجلد أي شخص بحاجة لأن يستفيق من نومه. فُتح الباب مرة أخرى لينزل منه المساعد وليد و آخر بخطوات وئيدة, بالوقت الذي تعالت به صرخات أغلب السجناء المتوسلة به كرسول رحمة إلهية. جال بالمكان للحظة, ثم نهر الجميع بسعادة سادية صارخا: أخرسوا. و هنا أنتفض جلاوزته و راحوا يضربون هذا و ذاك إن هم تفوهوا بكلمة, و بغضون ثواني قليلة كانت القاعة صامتة, بل أن هناك من جُلِد لكحة مريضة أطلقها دون إرادة. أخذ المساعد وليد نفَسا عميقا ثم خاطب الكل بلهجة ساخرة:
"أيها السفلة و السافلات, يا أعداء التقدم و الحضارة و الإنسانية - قهقه ساخراً و أكمل – أن هذا المكان مملا للكثيرين منكم, كما أنه قاتل لآخرين, و كذلك هو جديدٌ على البعض هنا. رحبوا بواثق حسن التميمي, أنه قواد مثلكم, حقير مثلكم, خائن و متخلف مثلكم. أنت يا واثق بزنزانة قد تسبب لك إعاقة مزمنة بعد زمن, و هنا من يؤكد لك أنه لن يستطيع المشي لفترة طويلة, أو لن يستطيع المشي أبدا بعد كل هذه الأشهر التي قضوها هنا, غاطين ببرازهم و بولهم و عفونة أحلامهم. و هنا ستتعفن عظامك بهدوء و تجف و تضمر كبسكويتة هشة تحت الشمس, و إن كنت محظوظا فستخرج من المكان دون إصابتك بتعفن رئوي أو روماتزيم."
صمت و راح يتفرس الوجوه الباكي بعضها, بينما تقدم نحوي ببرود و همس بعد أن أسند جبينه حيث أسند أن الآخر جبيني, قال بلهجة باردة: كل هذا سينتهي لو أنك أكدت لنا إنتمائك لأحزاب و تيارات معارضة, و مساعدتك لنا ببعض الأسماء التي تعرف. لم أقل شيئا, بل لم أضع عيني بعينيه, و بقيتا شاخصتين للفراغ و أنا أقاوم رغبة عنيفة بالبكاء, لدرجة أن شفتي السفلى راحت ترتجف بشكل لا إرادي, الأمر الذي "أقرف" المساعد وليد و مضى تاركا إياي.
بعد خروجهم جميعا, أنسدل الظلام كستار حديدي ثقيل, أيقظت جَلَبته الأحزان المخدّرَة فيّ. أحاول جاهداً أن أجمد الزمن و الإدراك المحيط به, أن أقف على لوح جليدي هَش, أن أغوص لأعماقه لأنسى أي إتصال بعالم الحمى و حرارة الأحزان بالقلب. حرارة كاوية هي, تمر كشفرة محراث خاطفة بالقلب, تمزق أجزاء منه و تسحب أخرى لتبقى معلقة كدالية ألم. و أخيرا, تتركه ملقا بمستنقع من العرق و الأنفاس المبتورة. "هذا ما ستشعر به عندما تخيّب امرأة آمالك", تذكرتُ مقولة أحمد الخفاجي بشيء من الصدى. لقد بدى بعيدا عني, علما أنه شدّ على يدي مصافحا بالمطار و همس: أراك قريبا. كان ملكاً للإخفاقات العاطفية, و شديد الخبرة بأحوال القلب. بدى بعيداً للغاية, بعيداً بأعوام لدرجة أنني وجدت مشقة بتذكر كل ملامحه و طباعه الغريبة. بهذه اللحظة فحسب, أدركت بأنني أتهاوى على بعضي, أتهاوى كإنسان, كمباديء أيا كانت, و كحياة. حاولت أن لا أصرخ رافضا لواقعي, أن لا أترك حيوان الحزن يفترس دمي, هاه, سأصرخ, نعم سأصرخ. آخذ نفسا عميقا, أقلص حدقتاي و أعتصر قلبي لأدفعها, لكنها تنزلق من بلعومي ككحة باكية مع صوت عويل متردد. من مكان آخر, سمعت بكاء متأثرا أو مستثارا من دموعي, بكاء نساء أولا, ثم بكاء رجل بدا قريبا مني. صمتُ محاولا تجميع شجاعتي لأتحدث له, عشرات الأفكار الهمجية تمنعني بسياطها؛ المعتقل يحطم الإرادة قبل أي سنتيمترا واحدا بالجسد. عشرون دقيقة مرت دون إكتسابي لشجاعة التحدث, و لم أعد أفكر بالمحاولة أكثر, ذلك أنهم أناروا الأضواء و نزل رجلان ببرميلين متوسطي الحجم من البلاستيك الأخضر, كانا يسحبانهما بسهولة بسبب العجلات الأربعة بقاعدة كلا منهما. "أنها القُصعة", قالها الرجل القريب ذا النبرة الهرمة التي تميزه حتى بالبكاء, و أكمل "بيضة واحدة يوميا و كأسا من الماء". لم أجبه لأنهما أقتربا من عندنا, و بديا متجهمين و يديران حديثا عن نساء و سهر و خمور و مبالغ مالية. كنت ساهيا أسترق السمع للفُتاة المتساقط من حوارهما, و لم أدرك أنه قد وصل إليّ إلا بعد صرخته "إنتبه". فتحت عينيَ أكثر محاولا إفهامه بأنني أمتثل لأوامره, لكنه صرخ بي "دسّ هذا التبن بفمك و لا تمضغه", و دسَّ بيضة بفمي فوجدتني أبلعها بصعوبة. "إفتح فمك" صرخ بي الآخر صاحب البرميل الممتليء ماءً, و صبّ بفمي مقدارا من الماء بواسطة كأس ذا ذراع طويلة, تجعل منه مكيالة غريبة متسخة بالكلس المخضوضر على جوانبه.
كانت أكثر الأشياء مدعاة للتقزز هنا – لجانب العزلة اللئيمة – هي التبول و الإحداث ببنطالي, وقوفا, هكذا, بوضع أكثر إزراءً من البهائم. بعد أسبوع أحسست أن القمل يدبُّ بشعري, بينما طالت حكة مجنونة أخمص أقدامي و أرتفعت حتى رقبتي بعد أسبوعين آخرين هنا. بكل ليلة يقدم فيها الطعام, كان ذاك الصوت الرقيق يغني بأغنية قديمة يحفظها الجميع عادة, و كأنه يستحثنا للغناء معه؛ حسنا, قد يكون هذا ما تصورته يومها. بدأ يدندن بلحن "ميحانا", لناظم الغزالي, و وجدتني أغني معه بإنفعال لدرجة دفعت الصوت الهرم ليشاركنا و كذلك أصوات أخرى متحمسة, بل لم يكتفي البعض بالغناء, و أنما راح يضبط اللحن الموسيقي بفمه و ضربات خفيفة على القضبان. أزداد الجو مرحا على نحو غير متوقع, و سمعنا بعضهم يهتف مشجعا قيس – و هذا كان أسمه - و المغنين هاتفا: الله الله, بينما نزداد نحن حماسا لضبط اللحن و الأغنية بذاكرة قد أستفاقت فجأة من مورفين المعتقل. و بذروة الأغنية, وجدتني أبكي دون شعور و بدموع فاترة, إنما غزيرة. أشياء كثيرة أستفاقت إثر الغناء, أربعة أشهر بهذا المعتقل دون رؤية نور الشمس, بلا سماع ضحكة ملاك, آه, ملاك يا ملاك, ماذا تفعلين الآن؟ هل ترقدين على فراشك الجميل كأميرة باكية بنومها؟ هل أذبل الجوع و الحزن سواد عينيك؟ أم أن قلح الدموع قد تكلّس على وجنتيكِ الصافيتين؟ الحزن قطار يبتعد بصاحبه عن الواقع, و إن كان يستمد من فحم الأخير تلك النار التي تدفع صهاريجه المجنونة. العالم يمسي أشد ظُلمة, الوقت أقل قيمة, الوجود أكثر شحوبا, حالة إنفصال تام عن الواقع. هكذا إذن, أستفقت من رحلة الحُزن على سطوع المصابيح و نزول الحراس بكلاب مجنونة, و كابلات رهيبة طالت كل من رأوه. كلّ حارس يضرب كلّ سجين بثلاثة جلدات أو أربعة من كابله الأسود. "لو سمعتكم تنهقون لأطعمتكم نعلي", هكذا قالها زعيمهم بلباس نومه و مضى بعد أن بصق على الأرض مستهزءً بغضب.
عندما تلاشى صدى الباب الحديدي الذي ضربه خلفه, تغلغل الصمت بالفراغ كغاز للحُزن. لم أقل شيئا, إذ لم أجرؤ, لكني سمحت للقيء أن يتفجر من فمي بنحو مؤلم. ماء أخضر شديد المرارة, كان يسيل بدفقات تخنقني و تجبرني على الصراخ الخافت. الصمت غير حيادي هنا, الكلّ ينصت لما يحدث و كأنهم ينتظرون نهاية لا يجرأون على التسليم بها. "أنها القَرحة" قالها صوت من مكان قريب, و لما وجدني غير عابيء بشيء سوى قيئي المتقطع المؤلم, أوضح مرة أخرى: معدتك تفور كمرجل, وجهك يصفرّ, أعضاؤك تبرد, و تدفع القيء على نحو مؤلم.. أنها القرحة, و يبدو أنها نفسية الأسباب,, لا تسألني كيف عرفت.. أنا طبيب. كانت عيناي محتقنتان بدمع ساخن و حارق جرّاء القيء الذي يتقطع, لكنه لم يتوقف بعد, و لذا لم أجبه, بل كنت أسند رأسي للجدار بمحاولة لكي ألتقط نفسا يعيد لروحي السكينة. القيء يملأ صدري و عنقي و قميصي الممزق البالي – الذي ألبسونياه فور عودتي من المستشفى – المشبع برائحة القيء المرّ. كلمة واحدة كانت تتردد على لساني الثقيل المحتضر: "يمّه". هكذا, اقولها بلهجة شعبية صرفة, و أنا ألفظ آخر سوائل مرارتي و غددي المعلنة غضبها و عصيانها, و على من؟ عليّ أنا الذي لا يمتلك حولا و لا قوة. لحيتي تقطر قيئا, كانت طويلة حتى أنها أقتربت لقبضة اليد, بينما غطى شاربي شفتي العليا, و بدى شعر رأسي منفوشا و هو يقترب من كتفيّ. "هل أنت بخير؟", أتاني صوت الهرم متوجسا, فأجبته بعد أن هدأت ثورة القيء للحظة: أفضل.. دعني ألتقط أنفاسي. صمت لعشر دقائق, كنت خلالها هامدا على ذاتي بعد أن فقدت الإحساس بقدميّ منذ أيام. عاد صوته يسأل:
-هل أنت أفضل؟
=نعم.. لا بأس.
-الحمد لله, و سكَت لدقيقة ثم أكمل؛ هل تصاب بهذا كثيرا؟
=أنها المرة الأولى, بصقت كيفما أتفق و فسّرت له؛ أظنني لم أعد أطيق صبرا مع هؤلاء.
-كم لك معهم؟
= أربعة أشهر ربما... ثلاثة و نصف.. لا أدري, نسيت العدّ حتى.
-مازلت جديدا عليهم, سيتسلون بك لفترة. انا هنا منذ سنة, تنقلت بين عدة سجون و مديريات أمن حتى أنتهيت لبغداد.
=مالسبب؟ لو كنت تسمح بسؤال كهذا.
-لا داعي للتحذلق بالكلام يا ولدي... أنا هنا بسبب سلسلة من المشاكل و المآسي.. بدأت القصة بنزاع مع مسؤولين حزبيين أصرّوا على مصادرة أرضي الزراعية بالناصريّة بحجة متاخمتها لقاعدة عسكرية بحاجة للتوسّع. رفضت البيع, لا أريد بيع مصدر رزقي و التوجه للمدينة.. أنا أبن التربة و الماء و النخيل, لستُ معتادا على المدن و قوانينها و أساليبها.. عليك أن تفهمني.. رفضت, نعم, رفضت دون محايلة. جنّ جنونهم, بعثوا من يتحرش بابنتي لمياء و هي تمضي للمدرسة الإبتدائية كي تزاول عملها كمعلّمة.. يلاحقها ككلب راعي مسعور بسيارة "الرنجروفر" العسكرية.. يقذف عليها كلماته الرخيصة.. تتلفلف بعباءتها أكثر كلّما تمادى بحقارته, و تصمت بحزن. ضايقونا بتدفق الماء و الترع, سمموا الرز, و أحرقوا بضع نخلات على أطراف البستان. لم نستسلم.. هكذا تواعدنا, لكن أبني الأكبر خليل لم يطق صبرا بعد كلّ هذا, و أنتهى بمشادة بعد أن ضبط الملازم الشاب يحاول أن يجبر لمياء على ركوب سيارته. بعد شجار سريع, قتل خليل الملازم بضربة من مفك كان يحمله.. قتله..وصلت الطعنة للقلب كما قالوا.. بعد يومين من فرار خليل, و أعتقالنا, أمسكوا به عند قبر زوجته, و أقتيد لبغداد و لم أعرف عنه شيئا إلا بعد أربعة أشهر عندما وصلتني جثته لأدفنه بالسر, و قد أخذوا مني ثمن الرصاص الذي أعدموه به.
=الله أكبر!
-لمياء توقفت عن العمل, لكنهم أعتقلوها لسبعة أشهر بمديرية الأمن بالمحافظة, و لم يسمح لنا بزيارتها. كانت حامل عند عودتها و معضوضة الشفة بشكل بشع. لم تبقى طويلا بيننا, أربعة أيام و طعنت صدرها بسكين تقطيع اللحم. زوجتي فقدت بصرها بسبب البكاء الصامت, كانوا قد منعوا إقامة العزاء لخليل و كذلك لمياء, بل منعونا من التحدث للسائلين عنهما. و رغم هذا, طالت الشائعات لمياء – و بكى هنا بجزع – إذ قالوا عنها بأنها كانت تمارس البغاء بالمدينة و أنني قتلتها.. تخيّل.. أبنتي التي لا تفوّت فرض صلاة.. تعمل بالبغاء؟
-حسبي الله و نعم الوكيل.
= نعم.. كانوا يعبثون بشرفها و هي بالقبر.. القبر الذي مُنعنا من زيارته إلا مرة بكل شهر.. الكلاب.. لم أعد أطيق صبرا, ذهبت لمسؤول المنطقة لأناقشه, فصرخ بوجهي "أبتعد يا أبا العاهرة".. جن جنونني, فأخذت بتلابيبه و صرت أضربه و أنا أصرعه على الأرض. تكاثر علي الحرّاس, أبرحوني ضربا بأخمص بنادقهم, بكابلاتهم, ببساطيرهم, بأحزمتهم التي ترفع بناطيلهم حتى! سنة و نصف ينقلونني من معتقل لآخر.. الكلاب أبناء الكلاب.. الكلاب..
-أخفض صوتك.. ماذا دهاك؟
=ليذهبوا لجهنم كلهم, لم أعد خائفا من أي إنسان.. مللت الصمت.
حسنا, لقد ملّ الصمت, لكني لم أعرف أن بجعبته هذا الكم الهائل من الشتائم اللاذعة البتّارة, التي طالت الحكومة كلها من حزب و قيادات و زعامة و حتى أسماء جلاوزة هنا. أسماء أعرفها و أخرى مازالت مجهولة. صراخه لم ينقطع منذ عشر دقائق, المسجونين تململوا و خافوا, لكنهم يخشون فتح أفواههم مخافة أخذهم بجرمه. لم يكن يصغي لتوسلاتي, و لا لتوسلات الطبيب عمار, أو نصائح الشيخ مؤيَد لكي يسكت. نزل حارسين أول الأمر, و توجها نحوه بعد أن فتحا الأضواء كلها, و من بعدها تناوبا بضربه بالخراطيم, لكنه كان يصرخ شاتما بكل ضربة ألم. نزل المساعد وليد بلباسه الداخلي الكبير فقط – حافي القدمين – مع ثلاث حراس بحوزتهم كلاب. صرخ بصوت كهزيم الرعد بالمكان, لكن الرجل – و ياللعجب – لم يسكن, بل وجه شتائمه لوليد السرحان هذي المرة. حك الأخير شعره بنفاد صبر و صرخ بالحراس مع إشارة من سبابته نحوه: أخرجوا أبن العاهرة من جحره للحظة. فتحوا الباب فهوى لوجهه و هو يبكي بصوت مخلوط بالشتائم. رفعه من شعره الكث الأشيب و كال له لطمة دوى صوتها بقوة و لؤم شديدين. "أولاد الداعرات.. لا.. الداعرات أشرف من أمهاتكم.. أولاد الرجعيات أنتم.. من كان يشاركه الصراخ؟ ها؟ أنت يا دريد يا بطل الإجتماعات السرية؟ أم أنت يا عمّار يا أحقر أطباء الكلاب؟ أم لعله أنت يا أوسخ إنسان عرفته بحياتي؟ واثق حسن التميمي الذي سأسلخ جلدك عن لحمك قريبا؟ و ماذا عن نجلاء؟ متبجحة الوطنيات و الإلتزامات الدينية.. لقد مللت من نكاحك يا كلبة فكفي توسلاتك عني يا قطّة شباط ·– و هنا سُمع صوت امرأة تجهش بالبكاء, لكنه تابع دون أكتراث- من غيركم؟ أنطقوا.. يا جبناء يا خُنثات.. و أنت يا مصطفى الأنصاري؟ يابن العاهرة؟ منذ متى صار عندك لسان تنطق به؟ كان لسانك لتنظيف حذائي دوما و سيبقى". قالها و أشبعه ضربا بأقدامه العارية, و لما تعب أخذ بندقية حارس مدنيّ و ضربه على رأسه و صدره حتى تأكد بأنه هشم بضع أضلاع منه. لم يعد يُسمع بالمكان سوى لُهاث المساعد وليد السرحان, و كذلك تأوهات الحاج مصطفى الأنصاري. "سأحرقك.. هاتوا البنزين", و على الفور هرع أحد الحرس لجلب البنزين و النار, ذُهلنا جميعا و الحاج مصطفى أيضا, الذي راح يهذي بنحيب متعب: "لا.. لا.. أرجوك لا". لم يجبه بل بصق عليه و هو ينتظر الحارس الذي وافاه بما طلبه. دلق ليتر البنزين على وجهه و صدره – وسط صراخنا جميعا و صراخ الرجل – ثم أشعل عود ثقاب و شبّ به النار. كانت الألسنة تشتعل بشعر الحاج مصطفى الذي راح يصرخ و يبحث بالأرض بجسده, بينما صارت راحتيه الهرمتين تفركان النار بجزع. أنطفأت النار بعد دقيقيتين, و قد أتت على شعره و رموشه و حواجبه و حرقت جلده, و لقد أدركنا كلنا بأنه فقد بصره لأنه كان يمد يده نحو الفراغ أمامه و هو ملقا على بطنه, و وجهه يتصبب دما. و بلا إضاعة وقت, أطلق عليه الكلاب الثلاثة بصفير خاص, فراحت الكلاب المسعورة تمزق جسده و رقبته و بطنه, و بغضون دقائق كان مصطفى الأنصاري مبقور البطن و ممزق الجسد و الوجه. أعاد الحراس الكلاب, و قد قرف أحدهم من منظر أمعاء الحاج مصطفى الملقية أرضا فتقيأ, و كانت ذا زرقة صافية. ضحك المساعد وليد بمجون, و أصدر أوامره: أتركوه لثلاثة أيام هنا, و أجلبوا نجلاء .. نظفوها و ألحقوها لغرفتي. بقي متمسرا مكانه, بينما أقتاد الحراس فتاتا بالسادسة و العشرين من عمرها, كانت بثوب داخلي مسود فقط, و بدت ساحرة رغم آثار الكدمات, إذ بقي شعرها البني محافظا على عنفوانه فوق خصرها النحيل, و بقيت العينين العسليتين و البشرة الحنطية الغامقة بقوتهما رغم السحجات. عرّها أمامنا و قد أخفض أغلبنا رأسه, بينما أنفجرت باكية. ضحك بمتعة و جذبها من شعرها بقوة لكي يؤلمها و تمتم:" من أرجل أنا أم زوجك الذي قتلته ككلب؟" لم تجبه بداية, لكنه لكمها ببطنها فصرخت بصوت باكي:" أنت.. أنت". فرقع المساعد وليد بهزء و أجابها: "و هل حسبتِ أنني أنتظر منك إجابة غير هذي"؟ لم يحتمل الشيخ مؤيد أكثر فصاح به بصوت أجش: "أتركها يا جبان". ضحك الحرّاس مع زعيمهم, و صرخ المساعد وليد: "هاقد فتح شيخُ الإسلام فمه أخيرا.. أخرجوه". أخرجه الحرّاس سحبا من أكتافه و طعنه أحدهم – بأمر من المساعد وليد – بحربته بصدره, ثم طعنه الكلّ حتى فارق الحياة. قتلوه, هكذا, و تركوه ممزقا فوق جثة الحاج مصطفى, التي سالت دماؤه على الأرض الإسمنتية السوداء.
النوم مطرود و منبوذ اليوم, متأكد أنا, كلّ الأحداق مفتوحة داخل تلك الزنازين الأشبه بالقبور. الجثتين هناك, بمكان ما يبعد بضعة أمتار عن مركز السرداب. الظلمة تلدغ السكينة, صرخات بربرية تنبعث برأسي, أدير عنقي بالظلام و أفتح عيوني لأميز القبيلة التي تدور حول الجثتين, لا شيء, الظلام وحده مايبدو أشد وضوحا كلما حدّقت النظر, أصوات كمان روسي لرقصة شعبية, بيانو مرح, طبول أفريقية مجنونة تنقر على كل حبة هواء, العرق يرشح مني و رأسي يدور بدورات غير منتظمة, كأنني بحفل مقدّس للهلاك. أدور, العالم يدور, القبيلة الهمجية بجلود وحوشها المقتولة تدور, الزنازين تدور, و الطبول تستمر مع عشرات الأصوات المتناحرة, العالم كله يدور حول الجثتين.. يدور.. يدور.. يدور وسط العرَق و الأنفاس التي لا تدخل إلاّ لربع الرئة, لم أعد أحتمل, أصرخ بهستريا و بكلمات غارقة بالزبد الأبيض الذي يملأي فمي. أضرب القضبان, عيناي جاحضتان من محجرهما, ترنوان لجهتين مختلفتين لكن عقلي الباطن مازال يرصد الجثتين. الأضواء تفتح, ينزل حارسان غاضبان من نوبة جنوني و ربما خائفان, يفتحان بابي دون أن أشعر, أهوي لوجهي دون أن أشعر, يضرباني كحمار رخيص دون أن أشعر, لا شيء يؤلم, الجثتين أخيراً أمامي – ببرودتهما و الدماء اللزجة - فأتأكد أن القبيلة لا تدور, و يخمد مهرجان الهمجية داخلي تباعا لأغوص بدوامة ظلام و خمود أشبه بالموت.
* * *
عربة تقلّني, أصوات تعلو بمحادثة مرحة, أفتح عيوني فأرى منخارا هائلا لرجل يدفعني. لم أركز أكثر, الحديث كان مملاً للغاية, فلا يهمني لو فاز "الزوراء" على" الطلبة"· مثلا, أو سعر الموز الذي أنخفض؛ لم يعد هناك من شيء يهمني هنا سوى الخروج من "هُنا". دخلنا لغرفة ذات ممر مضلّع بأتجاهات عديدة, و من جهة ما فاحت رائحة البخار و الصابون الرخيص الذي يصادفه المرء بالمراحيض العامة, أو المطاعم المتواضعة. قلب العربة فيّ, فسقطت لجنبي دون أن يكترث أيا منّا نحن الثلاثة: أنها الطريقة الأمثل لكي لا يلمس جسدي القذر, و لكي لا يضغط على أحدى رضوضي أو سحجاتي فيؤلمني. أنه تعايش بين السجين و سجانه, ظالم و قاسي, إنما ضروري. قال بلهجة آمرة و لكنها أقلّ لؤما مما أعتدته: أسرع بالإغتسال بهذا الحوض, ثم أستخدم الرشاش المائي لتزيل المواد الكيماوية عن جسدك. أمتثلت لأمره بطاعة مهذبة, و كأنني أشكره على لهجته الأقرب للوداعة. كان شابا طويلا, بأنف رفيع كحد السيف و شعر بنّي مسترسل ينزل على جبينه, لكنه يتعمد أن يدفعه للجانب الأيمن – بحركة خفيفة من عنقه - بكل دقيقة أو أكثر. كان يرتدي بنطالا أسودا و قميصا رماديا. الأخر بدى نحيلا أيضا, لكنه أقصر و قد غزا الصلع أعلى جبهته, و أحتفظ بالزي العسكري مع رتبة نائب عريف على ساعده. ماذا تنتظر؟ نهرني الأخير بضيق بسبب تحديقي بهما, فتمتمت بتردد:
-هل أستحم أمامكما؟
=نعم يا حبيب أمك.
تدخل الشاب الطويل القامة:
-لننتظره عند البوابة.
=لكن يا ضاري...
-لا عليك... يبدو شابا عاقلا و لن يقترف حماقة.
رمقني متفحصاً بعينيه البدَويتين البنيتين, فأطرقت متمتما:
=بالتأكيد.
-جميل... هناك ستجد ملابس نظيفة و منشفة.. أرتدي السروال الداخلي فقط و نادنا عند إنتهاءك.. معك عشر دقائق..
=خمسة.
قالها صاحبه, لكن ضاري رشقه بنظرة عتاب و أعاد كلامه:
-عشرة يا مُناف.
أنصرفا على الفور ليكملا حديثهما, بينما عدّل مُناف مسدسه المدسوس بنطاقه العسكري, علامة على أنه سيستخدمه لو تهورت. خلعت ملابسي و جلست بالماء المشبع مواداً كيماوية شديدة الحرقة. لم يكن من الأمر بد, فهذا ما سيقضي على الجرب و القمل الذي يغزوني. عند نهوضي عن الحوض, كان ماؤه رماديا ضاربا للسواد, الأمر الذي دفعني لأن أرفع السدادة كي يزول عن وجهي؛ أنه يُحرجني. أخيرا, و تطبيقا لأوامرهما, غسلت جسدي و شعري بالصابون ذا الرائحة الرخيصة, و أستخدمت الرشاش كي تزول آثار الصابون ليبقى عطره الذي أعاد لي شيئا من تماسكي. أرتديت السروال الداخلي و ناديتهما, فأتيا على مهل و مازالت المحادثة لم تنتهي. أوصل مُناف آلة حلاقة كهربائية بمأخذ قريب, ثم أمرني وسط هدير الآلة: قف و أرفع يديك على الجانبين. جزّ شعر رأسي, ما تحت أبطي, شاربي و لحيتي, و حتى شعر صدري الكثّ. "أرتدي ثيابك", قالها و هو يضع الآلة بموضعها الأصلي على الرف الخشبي و يتناول ملابس كانت مرتبة فوقه. كان قميصا بلا أزرار, و بيجامة عريضة تربط بربّاط عند محزمها. القطعتين باردتين و بلون أزرق, رغم أنهما مغسلوتان, مما يدل على أستخدامهما قبلا. فتح ضاري خزانة جانبية و هو يسألني عن نمرة حذائي. "43" أجبته بتعاون أكبر, أما هو فراح ينّقي بين النعول البلاستيكية حتى وجده. قدم النعل بيده إليّ, و يالها من حركة نادرة هنا, فأخذته بأحترام شديد – و كأنه شهادة فخرية لقيمتي الإنسانية – و أنا أشكره بأدب.
=أنا من الرمادي, و أنت؟
-النَجَف... حيّ الأمير.
مطّ شفته كإشارة لمعرفته بالحيّ الشهير الراقي.
-لم أنتَ هنا؟
سألني ضاري بنبرة هادئة لا تنم عن كونها نبرة تحقيق, بينما زفر مُناف بضيق من سؤال صاحبه. أجبت:
=لضربي سائق أجرة.. و تهم أخرى لا علاقة لي بها.. لم أنتَ هنا؟
تفاجأ من سؤالي, بدى أشبه بتمرّد للحظة, لكنه أعاد هدوءه لنفسه بعد أن تذكر أنه من بدء نقاشا لا تحقيقا:
-أنا أقضي فترة الخدمة العسكرية برتبة عريف..
=أنت جامعي بخدمة جيش أم متطوع بالأمن؟
قطب مُناف أكثر هذه المرة, بينما أوقفه ضاري بإشارة من يده و أجابني:
-بكلاريوس فيزياء.. و أنت؟
=طيّار.... تقريبا.
رفع حاجبيه علامة على الإندهاش و ربما عدم التصديق, قال كلماته مع إبتسامة وديّة:
-هل أنت قادر على قيادة الطائرات حقا؟
هززت رأسي مع إبتسامة بريئة للموافقة, لكنها تلاشت فور تذكري لما حدث أمس. سألته بلهجة بطيئة لكنها ثابتة:
=هل كنت مع المساعد وليد بالسرداب أمس؟
فهمني تماما, كانت كلماته متأسفة حينها:
-لا لم أكن, و كانت حادثة مؤلمة بحق – صمت لبرهة ثم رفع رأسه بنظرة آمرة – ثم عليك أن تنسى ما حدث لأنه يحدث بشكل دائم هنا.. للأسف.
"أشششش" قالها مناف و هو يرمق ضاري بنظرات غاضبة, همس بعدها: هل جننت؟ أسكت قبل أن يسمعك أحدهم.. بقيت سنة على نهاية الخدمة يا أحمق و لا نريد مشاكل.. سنخرج كما دخلنا.. دون مشاكل. لم يجبه ضاري, لكن صمته كان علامة إتفاق ضمني. قال كلماته و هو يتجه بالحديث إلي:
-عذرا على ما فعلناه بك بالسرداب.. كنّا بحاجة لضربك.. نحن مأمورين.
=لا عليك.
أبتسمت, لكنه لم يرد الإبتسامة بل ربت على كتفي بجدية و تمتم بصوت موشّى بالحزن:
-شدّ حيلك.
هذا كل ما قاله, لأنه عصّب عيناي و قيد يداي للخلف و أمرني بأن أتوجه معه لزنزانتي.
كانت الزنزانة نظيفة نسبة للقبو المزبلة, رغم أن هناك مخاط و مني و بول مشبع بجوانبها الأربعةالمسودّة, مما يدل على وجود نزيل مستعجل أثناء غيابي. و عند المرحاض الصغير - القريب للسرير- كان هناك جيشا من النمل الأحمر. دلقت الماء القليل المتبقي بالإبريق البلاستيكي, و راقبته ببلاهة يطوف بغرق عارم إلى الفوهة. الظلال الأزرق يتأملني بمشاعر باردة, لئيمة و مستهزءة بعودتي. لم أسمح لتنهيدة الإرتياح بالولادة عند إضطجاعي على السرير الضيق الصديء القوائم, كنت بحالة تحدي مع واقعي. رغبة مجنونة صارت تقتحمني, شيء كشهوة, إنما هي شهوة للحياة خارج هذا المكان. لن أنتهي هنا, و لو كان لا بد من هذا فسأنتهي بقوة و ثورة, كالحاج مصطفى, الشيخ مؤيد و نجلاء حتى! سأخرج, هكذا بهذي البساطة المستحيلة إلاّ بخيالات محبطة, و سأجلس على ضفاف دجلة لأكتب الشعر و أطالع "السيّاب" و "بوشكين" و "المتنبي", في الوقت الذي أشرب به البلنغو المثلّج *. سأكتب يوما عن هذا المكان, قصيدة أو رواية, لا فرق, المهم أن أكتب لعنة ما تفضحهم. سأسافر, و لمَ لا؟ , مع ملاك لأرض لا تحوي حزبا همجيا, جلادين, سياط و أقبية, أو معتقلات أصلا. أنها تمطر الآن, أكاد أسمع صوت المطر على الإسفلت كأنه تصفيق حار لا ينقطع, شيء ما يثير فيّ رغبة بالبكاء عند سماع صوت الرعد ينكسر من بين صدوع السماء المحتقنة بالغيم. المطر, المطر الجميل ينهمر خارج هذه الدنيا الضيقة, بدنيا أخرى, يصلني صوته فقط. يالهذا الثلاثي الموغل بالإبتزاز؛ العراق و السيّاب و المطر. هل تُبتز العاطفة عطشا بموسم المطر؟ أصوات تتردد داخلي, أضطجع على سريري المتهالك لأسمعها أفضل و سط حفيف المطر.. العراق, السيّاب, المطر.. برومنسية يهطل, فتغرورق الدنيا به, تحتفل به, تلتمع بخنوع به: حقول الأرز المخضوضر السنابل, ريش العصافير الرمادية, أحداق الزرازير السوداء الكحيلة بالوجوم, و غابات النخيل المخدّرة بصمت مُريب و شهي. يهطل مطر السيّاب- بكبرياء هاديء و بلا رعود- على الشناشيل و السطوح الإسمنتية المقفرة لمدن أرض السواد, و كذلك ضفاف الطمي اليابس على الفرات. يهطل, إنما بهسيس خفي يهطل, ليثير زوبعة صامتة.. كما الدموع كما السحاب كما الموت.. ليف النَخلِ يقطر ماء نقيا برّاقا مجّ الطعم, الليل ينتشر تدريجيا معلنا قضاء يوم آخر على ذكريات المطر؛ إعتقالي, آلامي, دموعي, و كذلك أفكاري و أحلامي المتشرنقة بالخيال. تصغر عيوني, تتمدد عضلاتي, لأنام أخيرا على ذكرى كلمات تتسرب هي الأخرى- كما المطر- للقلب الرملي العطِش:
في كلّ قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
و كلّ دمعة من الجياع و العراة
و كلّ قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغذ الفتي واهب الحياة
مطر..
مطر..
مطر..
و يهطلُ المَطر ·
أنتهى الفصل الأول
|
|
04-04-2005, 09:09 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
|