الديمقراطية والتخلف في اللحظة الامبريالية: العراق نموذجا
2005/02/21
د. عبدالوهاب الافندي
في جنازة الفقيد الراحل رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الاسبق اثر حادث الاغتيال المأساوي الذي تعرض له الاسبوع الماضي، لفت انتباه المراقبين الهتاف المدوي الذي هتفت به طائفة من المشيعين: بالدم بالروح.. نفديك يا بهاء! والاشارة هنا بالفداء هي للنجل الاكبر للرئيس الحريري، وقد فسر المحللون هذا بانه تتويج ضمني لبهاء خلفا لوالده الراحل في الزعامة السياسية.
مثل هذا المسلك والتوقعات التي قام عليها ليس مستغربا في لبنان التي اصبح التوارث الاقطاعي للمكانة السياسية مألوفا في تركيبتها السياسية التي يشكل الاستقطاب الطائفي ركنها الاساسي.
الجديد في الامر هو ان السلالة السياسية المرتقبة تشكل الجانب الآخر من العملية الطائفية، وهو امكانية اختراقها من الخارج، وهو امر كان يتم في الغالب بالسلاح، واحيانا بالمال.
الحريري سلك طريق المال، واضاف اليه الثقل الدبلوماسي الخارجي، وهو امر مألوف ايضا في الحالة اللبنانية المخترقة خارجيا من كل حدب وصوب. وقد اضاف الحريري الي ثقله المالي والدبلوماسي غير المسبوق، مهارة سياسية مقدرة، نقلته من اطراف الساحة السياسية الي قلبها، وكاريزما جعلته يعطي المنصب ثقلا اكثر مما يأخذ منه، ويحتفظ بهالته حتي وهو خارج المنصب.
اهمية الحديث عن انضمام آل الحريري الي الارستقراطية الطائفية السياسية في لبنان تكتسب بعدا مضاعفا كونها تأتي في وقت تحول فيه الحريري الي رمز للمعسكر المطالب بالتحول الديمقراطي في لبنان. وهذا معسكر يقوده الان النائب والوزير السابق وليد جنبلاط، وهو بدوره وريث لمكانة سياسية استحقها بالنسب اولا وقبل كل شيء، ثم عبر الاستقطاب الطائفي ثانيا، وعبر السلاح ثالثا.
ويقف جنبلاط في مواجهة غريم له استحق منصبه عبر نفس المؤهلات: النسب والوراثة اولا، والاستقطاب الطائفي ثانيا والسلاح والقوة ثالثا، ألا وهو الرئيس بشار الاسد، فيما يرفع كل من الرجلين شعارات حول الاشتراكية والهم القومي ـ وهذا بدوره يشير الي عمق الاشكالية التي تواجه الشعارات السياسية الحداثية في العالم العربي من ديمقراطية واشتراكية وقومية وغيرها.
وليس لبنان هو وحده مسرح مثل هذه التناقضات، حيث نجد العراق ايضا يشهد عمليات فرز واستقطاب مماثلة، قوامها التمايز الطائفي والتوارث العائلي الملازم له. وحيث وجد الاستقطاب الطائفي فان الميليشيات تتبعه علي قيد خطوة او اثنتين. وهكذا نجد هذا التلازم من ثلاثي الطائفية ـ العسكرة ـ التوارث قائما عند الاكراد، وماثلا عند الشيعة، وغير غائب عن السنة. فالنفوذ الاكبر في الساحة السياسية هو لعائلات تتوارث النفوذ الطائفي المسلح، سواء اكان عائلة البارزاني او الحكيم او الصدر او الضاري، وغيرها. ويتداخل مع هذه العوامل نفوذ العشائر القائم اصلا علي الوراثة.
الملفت ايضا ان التحول القائم في العراق، والمرتقب في لبنان، يلقي دعما قويا من الجهات الدولية التي تتزعم هذه الايام الدعوة الي تعميم الديمقراطية في الصحاري السياسية العربية التي تخلو منها. ويجب انصافا ان نقول ان النتيجة التي خرجت بها الانتخابات العراقية لم تكن هي التي سعت لها او تحسبت لها الجهات التي دعمت التغيير في العراق.
الولايات المتحدة كانت في اول امرها تفضل ان تتولي زمام الامور شخصيات ليبرالية علمانية مثل احمد الجلبي الذي تزعم المعسكر الموالي للتدخل الامريكي في العراق، وزين لحلفائه الامريكان ان القوي العلمانية هي الغالبية هناك. وقد سعت امريكا لدعم بدائل اخري مثل اياد علاوي وغيره، ولكن الامور جاءت بغير ما تشتهي سفن بوش ورامسفيلد.
وهناك تطورات مماثلة شهدتها دول مثل السودان، حيث تلعب الطائفية دورا محوريا في العملية السياسية، ولكن في طابع سلمي في الغالب، وان لم تكن الميليشيات هنا غائبة تماما. وفي كل هذه الاحوال فان الطائفية مسلحة ام مسالمة تضع اعباء خاصة علي العملية الديمقراطية. فالطائفية تضيق الخيارات الديمقراطية اولا بفرض الهوية والولاء الطائفي علي الفرد، الذي تصبح الطائفة هي مدخله الوحيد الي المشاركة السياسية، وتحاصر وتلغي انسانيته وكل هوية اخري يود اختيارها. وتتعقد الامور اكثر حين تتلبس الطائفية بالدين وتتمترس بالسلاح. ذلك ان الزعامة الدينية، خاصة الصوفية منها، تتلبس بالقداسة، ولا تقبل المساءلة او المحاسبة. وبنفس القدر فان حامل السلاح لا يقبل المساءلة والمناقشة، ولا يخضع نفسه للانتخاب او المحاسبة.
وعليه فان العامل الطائفي بتجلياته المختلفة يدخل عملية تناقض جوهرية في لب العملية الديمقراطية. ففي العملية الديمقراطية تمثل المساواة الكاملة بين كل المواطنين، وخضوع المسؤولين للمحاسبة والمساءلة من قبل المواطنين مبادئ اساسية لا غني عنها. ولكن الطائفية السياسية اذ تقسم المواطنين الي كتل لا تداخل بينها، وتحصن المسؤولين عن المساءلة اما بتلبيسهم القداسة، او بتحصنهم بالسلاح، تلغي الديمقراطية عملياً.
ولقد كان رفض الطائفية دافعا لكثير من القوي التقدمية في الماضي للكفر بالديمقراطية واللجوء الي اساليب شمولية طمعاً في ان يؤدي ضرب الاسس السياسية والاقتصادية للطائفية وتعميم التعليم الحديث الي احداث تغيير جذري في المجتمعات ـ ولكن الذي حدث هو ان الدكتاتوريات التقدمية اياها اصبحت اكبر مصدر قوة للطائفية والعشائرية وغيرها من الانتماءات. وقد حدث هذا اولا لان اغلاق قنوات التواصل الاجتماعي الحر، وخاصة حرية تكوين الاحزاب والجمعيات والحريات الاعلامية، دفع بالكثيرين الي التماس العزاء والدعم في الصلات العشائرية والانتماءات الطائفية. وثانيا لأن الانظمة الشمولية بعد ان فشلت برامجها التحديثية اتجهت مباشرة الي احياء الطائفية والعشائرية كأدوات في معركتها للحفاظ علي السلطة. فالدكتاتوريات القومية وحتي الاشتراكية تحولت في احيان كثيرة الي مشاريع هيمنة طائفية او عشائرية او حتي اسرية. وقد انعكس هذا بدوره علي حركات المعارضة والمقاومة التي تحولت بدورها الي مشاريع طائفية مضادة.
الدكتاتوريات مهما تكن اذن ليست هي الترياق المضاد للمرض الطائفي او العلاج منه، وليس فقط لانها دواء اسوأ من الداء، بل لانها تعيد انتاج الطائفية في اشكال وتجليات اسوأ واكثر مرضية.
هناك اذن حاجة الي تفكير خلاق والي معالجات جديدة للأزمة السياسية العربية، ولعل الحل يكون في ايجاد مؤسسات توازن بعضها بعضا، كما حدث في الديمقراطية البريطانية مثلا، حيث قبلت القوي الديمقراطية هنا ولا زالت بشيء من التعايش بين النظام الملكي والارستقراطية التقليدية وبين النظام الديمقراطي الوليد. وقد تمثل هذا في الابقاء علي الملكية التي كانت تجمع بين دعوي السيادة السياسية والقيادة الروحية، ولكن مع تقليص سلطاتها الي ادني درجة، كما ابقي علي سلطة الارستقراطية عبر مجلس اللوردات، ايضا مع تقليص صلاحياته.
يمكن اذن ان تطور مؤسسات سياسية عربية تسلم بأن واقع العالم العربي لا يسمح حاليا بالغاء الطائفية والابقاء علي الديمقراطية في نفس الوقت. وهذا يستلزم ابداع ترتيبات تحد من اضرار وسلبيات الطائفية دون اللجوء الي قمع القطاعات الجماهيرية الواسعة التي ما تزال تجد في الانتماء الطائفي تعبيرا عن رؤيتها ومصالحها. وهذه الترتيبات تعتمد بالضرورة علي طبيعة التركيبة الاجتماعية في كل بلد، ولكن قد يكون من اهم ملامحها تقوية المؤسسات المستقلة مثل القضاء، والحفاظ علي قومية الجيش ومؤسسة الرئاسة، وانشاء غرفة برلمانية ثانية تنتخب علي اساس قومي لا طائفي، وعدم تجميد الترتيبات الطائفية، اضافة الي اعطاء المواطنين اكثر من خيار، بحيث لا يفرض الولاء الطائفي علي المواطن كمدخل وحيد للمشاركة السياسية.
خلاصة الأمر ان الطائفية في تجلياتها العربية المختلفة هي ظاهرة سلبية في مجملها، ومعوق اساسي للتطور الديمقراطي السليم، ولكنها أهون الشرين حين يصبح الخيار بينها وبين البدائل الدكتاتورية ـ وقد يكون الحل الافضل هو في ابتكار وسائل خلاقة للتعايش معها والتقليل من آثارها السلبية وخلق الظروف الصحية لتجاوزها. بمعني آخر ان الأمر يستدعي حلا ديمقراطيا للظاهرة الطائفية، وليس اي حل آخر.
http://www.alquds.co.uk/index.asp?code=qp19