{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
سياسة ضد السياسة
Obama غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 347
الانضمام: May 2008
مشاركة: #1
سياسة ضد السياسة
حازم صاغيّة









دخل الشرق الأوسط إلى السياسة(*) من باب ضيّق وحيد هو الصراع مع الاستعمار. هكذا جاءت سياسته مفصولة عن الإصلاح الدينيّ أو التنوير أو الثورة الصناعيّة أو الثورة العلميّة. فطالبُ السياسة في الغرب يقرأ ماكيافيللي الذي أسّس عِلمها، أو يدرس معاهدة وستفاليا التي أطلقت في 1648 مبدأ الدولة ـ الأمة، من ضمن سياق عامّ يشمل صعود الحداثة ككلّ، أي سيرورة نزع السحر والتسحير عن العالم. لكن هذا ما تتعرّى منه السياسة في المنطقة الممتدّة من النيل إلى الفرات والتي يمكن أن نسمّيها الشرق الأوسط العربيّ. هكذا لا نتعرّف عليها إلا محكومةً بعدد من الملامح البُنيوية المختلفة إنّما الخاصّة بها.
فهناك، قبل كل شيء آخر، الافتقار إلى قيم إيجابيّة اجتماعيّة واقتصاديّة وايديولوجيّة، وتالياً تراجع الاكتراث بالتراكيب الداخليّة والمجتمعيّة القائمة وبضرورة نقدها. فأبناء المنطقة "ضدّ" الاستعمار، إلا أنهم لا يعرفون هم مع ماذا بالتحديد. وهذا طبعاً لا يكفي، خصوصاً وأن بلداناً لم يطأها الاستعمار، كأثيوبيا وأفغانستان وشمال اليمن، هي من أكثر بقاع الأرض تخلّفاً.
بالتأكيد فإن مصر، ذات الوحدة الترابيّة المديدة والتجانس السكانيّ الأعلى، لا تزال أقلّ تعرّضاً لتلك العوارض السلبيّة من العراق والأردن وسوريا وفلسطين ولبنان، من دون أن تنجو منها. لكن الشطر الآسيويّ من الشرق الأوسط العربيّ، حيث البُنى الطائفيّة والعشائريّة والإثنيّة أقوى بكثير، هو حيث تكاد الأيديولوجيّات الحديثة لا تكون سوى غطاء لنزعات أخرى تحتيّة ومتفاوتة الجهر بنفسها.
لكن مصر، على الأقلّ منذ نشأة جماعة الاخوان المسلمين في 1928، ثم خصوصاً مع انقلاب 1952 العسكريّ والشعبويّ، بدأت تقترب من النمط السائد لدى جيرانها الآسيويّين. وكان من نتائج ذلك فقدانها الدور الذي اكتسبته أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين كمهدٍ للتنوير العربيّ.
وعلى العموم، عرف الفكر السياسيّ العربيّ ضعف اهتمامٍ ملحوظ بالاقتصاد والتعليم والصحّة وعدم اكتراث واضح بالمعاني والمضامين كما بالنماذج الناجحة. ودائماً انجذبت غالبيّات النُخب عندنا إلى ما أسماه ماو تسي تونغ في وقت لاحق "التناقض الرئيسي"، حيث أن الأمور المتعلّقة بالقيم لا يحين وقتها أبداً، فيما الوقت كلّه يُعطى لمحاربة "العدو". وهو ما يفسّر تحوّل عدد هائل من ذوي الكفاءات المحدودة جدّاً "زعماء تاريخيّين" لمجرّد أنهم "يقاتلون الاستعمار" و"يقاومون الصهيونيّة". وقد صار هذا التفكير بمثابة خريطة طريق إلى تجنّب المسؤوليّة عن عدم صنع أي شيء: فالمهمّ المقاومة والتخلّص من العدوّ، والله يتكفّل بالباقي. فوق هذا، لم يمت الاستعمار في اللغة السياسيّة العربيّة رغم أنه انتهى في الواقع الفعليّ. فكأن كتابات معظم المثقّفين وخطابات بعض السياسيّين مصرّة على تأبيده وإدامته إلى ما لا نهاية. وهذا ناتج، بدوره، عن استمداد التعريف الذاتيّ من تعريف الخصم، بحيث يصير بقاء الخصم على قيد الحياة شرطاً لبقاء الذات. وهو ما حمل على المضيّ في شتم ذاك الخصم وخوض المعارك الدونكيشوتيّة، إنما المكلفة جدّاً، معه رغم انقضاء عشرات السنين على نزع الاستعمار. أما الاستعمارات المتوافرة فلم تعد واردة، للأسف، إلا في صيغة عرجاء وعوجاء كالتي نشهدها في العراق اليوم. وعلى النحو هذا صحّ، بموجب هذا الفهم اللاتاريخيّ للاستعمار، ما كان يقال عن اللاساميّة في بولندا: كلما نقص عدد اليهود تضاعفت الكراهيّة لهم.
وهنا لعبت النظريّات اللينينيّة عن الامبرياليّة ثم النظريّات السوفياتيّة عن "الاستعمار الجديد" دورها في تعزيز الوجهة هذه، كما وسّعت الهوّة التي تفصل شعوب الشرق الأوسط العربيّ وباقي "العالم الثالث" عن الاقتصاد العالميّ وحركة الاندماج في السوق، ما دام أن الامبرياليّة والاستعمار الجديد مفهومان اقتصاديّان بالدرجة الأولى. لقد كمّل التأثّر بأدبيّات اليسار الميل العربيّ العميق في ضدّيّته، خصوصاً أن الماركسيّة تقوم على نقد الرأسماليّة من غير أن تقدّم ما هو أكثر من أفكار ضبابيّة وغامضة عن البديل الاشتراكيّ المرتجى.
لكنْ ما لبث مثقّفو مدن المشرق، في ظل صعود اللغة السياسيّة البلشفيّة وانفتاح لينين على "شعوب الشرق"، في سياق انهيار الانتفاضات الاشتراكيّة في ألمانيا وهنغاريا، ومع بدايات "تبرجُز" الطبقة العاملة الأوروبيّة، أن أسبغوا على زعمائنا العشائريّين نعت القادة الوطنيّين والتحرريّين المناهضين للامبريالية. وهؤلاء لم يكونوا أكثر من رافضين للإصلاحات الزراعيّة ولتدخّل الدولة "الغربيّة" في حياتهم الحميمة وشؤون "مملوكيهم" من الفلاّحين. وكانت ذروة هذه السياسة مؤتمر باكو في 1920 وشيوع لغة يساريّة جديدة عن أمم مضطهِدة وأمم مضطهَدة بحيث تنعدم التمييزات الطبقيّة والايديولوجيّة داخل كل منهما. أما النتيجة، كما تبيّن لاحقاً وفي عديد التجارب، فإن قدرة الشيوعيّة على الاستفادة من التخلّف لمحاربة الامبرياليّة ونفوذ بلدانها أضعف كثيراً من قدرة التخلّف على الاستفادة من الشيوعيّة لمحاربة التقدّم.
والحقيقة أن قادة الشرق الأوسط العربيّ تخلّفوا حتى عن معظم قادة وروّاد النضالات الاستقلاليّة والتحرريّة على صعيد القيم: فثيوبالد ولف تون الايرلنديّ كان شديد الحماسة لإخراج بلده من حكم بريطانيا، لكنه كان متحمّساً بالقدر نفسه للتنوير وتعاليم الثورة الفرنسيّة، وفي الهند اقترنت جهود غاندي لتحرير بلده من بريطانيا بولائه لمبدأ اللاعنف، فيما طوّر زعيم الصين صن يات صن، منذ مطالع القرن العشرين، فلسفته البسيطة المعروفة بـ "المبادئ الثلاثة للشعب"، وهي القوميّة والديموقراطيّة والرفاه. وفي أواخر القرن العشرين ذاته، برز نيلسون مانديلا ليس فقط بوصفه رمز عمليّة إنهاء النظام العنصريّ في جنوب أفريقيا، بل أيضاً بوصفه الوجه المعبّر عن عديد القيم الإيجابيّة والمتنوّرة. وبدورها، كانت الحركة الصهيونيّة، وهي الخصم الأوّل للعرب منذ أواسط القرن العشرين، قد قدّمت نموذجاً عن الدمج بين الرغبة في إقامة الدولة ونموذج الكيبوتز، لا بوصفه وحدة اقتصاديّة فحسب بل أيضاً كمصنع لحياة شبابيّة بديل، حين كانت تلك التصوّرات الجماعيّة لا تزال رائجة. كذلك ظهر في موازاة "الصهيونيّة السياسيّة" التي أسّسها ثيودور هرتزل ما عُرف بـ "الصهيونيّة الثقافيّة" التي ارتبطت باسم آحاد هاعام وطوّرت رؤية مناهضة لرؤية الأولى.
وفي العالم الإسلاميّ نفسه، فإن معركة مصطفى كمال (أتاتورك) لتحرير تركيا من القوات الأجنبيّة إنما مهّدت لمعاركه التي لا تقلّ صعوبة في سبيل علمنة مجتمعه. وعرفت إيران في 1906 حركة دستوريّة شعبيّة سُمّيت "المشروطة" أو الدستوريّة وكان لها بعض مثقفيها حتى في أوساط رجال الدين الشيعة، وأهمّهم محمد حسين النائيني. وكان للحركة تلك أن أنشأت البرلمان من خلال الصراع مع النزعة الأخرى التي عُرفت بـ"المستبدّة" (التي استكملت، عبر الخمينيّة، ثأرها المتأخّر).
في هذه الحالات على تبايُنها وُجد دائماً ما يفيض عن الاستقلال والتحرّر إلى أهداف أخرى تكمّل الاستقلال والتحرّر وتسمّنهما، من دونها يفقد الاستقلال والتحرّر معناهما. وبقياس تلك الحالات، يمكن الحديث عن تجربة عربيّة واحدة حصلت خارج المنطقة التي نتناولها، هي التي رعاها الرئيس التونسيّ الراحل الحبيب بورقيبة الذي ناضل من أجل حقوق المرأة ومنع تعدّد الزيجات. إلا أن بورقيبة، ورغم قضائه سنوات طويلة في سجون فرنسا، لم يكن عنفيّاً في طلب الاستقلال، بل أراده سلميّاً وتدرّجياً، كما كان شديد الحرص على الاحتفاظ بالثقافة والقيم الفرنسيّة لبلده بعد استقلاله عن فرنسا.
أما جمال عبد الناصر، في المقابل، فمشروعه على هذا الصعيد ظلّ فقيراً جداً لا يصلح إطلاقاً للمقارنة مع دوره كـ"بطل" مناهض للاستعمار، وهو ما جلب له الشعبيّة الواسعة. فقد اعتمد على إجراءات بيروقراطيّة لا تواكبها ثقافة تشبهها، بل تبرّرها لغة شبه إسلاميّة يُراد من استخدامها نزع الإسلام من يد خصومه الإخوان المسلمين، لا سيما منذ أن حاولوا اغتياله في 1954. كذلك استعار الزعيم المصري "اشتراكيّةً" شعبويّة من التجارب السوفياتيّة والفاشيّة، هي أقرب إلى توسيع قاعدة السلطة وتعزيز سيطرتها على المجتمع من أيّ شيء آخر. ولئن لم يكن أتاتورك وبورقيبة بعيدين عن الاستبداد، إلا أنّهما حملا إلى جانبه برنامجين للقيم لم يملك عبد الناصر ـ الذي فاقهما استبداداً ـ مثلهما.
في المعنى هذا يمكن الزعم بأن التجربة الوطنيّة العربيّة ولدت على تعارض مع الحدثين السياسيّين الأهمّ في نشوء الغرب الحديث، أي الثورة الأميركيّة والثورة الفرنسيّة. فالثورة الأولى ربما كانت النمط البدئيّ prototype لدمج النزعة الاستقلاليّة بالنزعة الدستوريّة (ثوماس جيفرسون، جيمس ماديسون، الأوراق الفيدرالية...)، فضلاً عن تطوير مواقف عامّة من الحياة والسعادة والفرديّة. أما الثورة الفرنسيّة فكانت قوّة تثوير راديكاليّ لعموم جوانب الحياة، لا في فرنسا وحدها، بل في أوروبا وإلى حدّ ما في العالم. هكذا عوملت تلك الثورة في قارّتها بوصفها قوّة تدخّليّة من الخارج. وقد يصحّ القول إن القوميّة الألمانيّة، بوصفها ردّاً على الاحتلال النابوليونيّ، كانت الأقرب إلى تجسيد النمط البدئيّ للوطنيّات العربيّة. فهي عَلَم على الرجعيّة والنكوص، علماً بأن الوطنيّات العربيّة لم تملك شيئاً من المخزون الثقافيّ والفكريّ للرومنطيقيّة القوميّة الالمانيّة.
إلا أن الافتقار إلى القيم الإيجابيّة لا يقتصر على ميدان واحد وحصريّ. ذاك أن صورة الإسلام كما اعتمدتْها الحركات السياسيّة الجماهيريّة والمؤثّرة وقفت دائماً عند الإسلام الأوّل. فالسيرة النبويّة وعهد الخلفاء الراشدين يحتلاّن في رسم تلك الصورة، عند الإسلاميّين وعند القوميّين قبلهم، أضعاف أضعاف ما يحتلّه العصر العباسيّ بما شهده من ثراء ماديّ وثقافيّ. وباستثناء إشارات سريعة إلى بغداد العباسيّة، ودمشق الأمويّة، معظمُها خطابيّ وينطوي على تشاوُف قوميّ وشوفينيّ، صدر الاهتمام الفعليّ بالتاريخ الإسلاميّ عن بيئات أخرى، استشراقيّة أو أكاديميّة أو هامشيّة الحضور. فكأن ثمة ميلاً راسخاً وسائداً إلى فصل الإسلام، كحدث تأسيسيّ، عن سائر التجارب والمعاني التي اكتسبها في مساره الطويل، ومن ثمّ إلى تجميده في التاريخ عند محطة أولى.
والنظرة هذه ساعدت في رؤية "الآخر" بوصفه هو أيضاً لا يتزحزح عن ماضيه الدينيّ الثابت والراسخ. وهو التأويل الذي قوي كثيراً في العقود الأخيرة مع اشتداد ساعد الحركات الأصوليّة. فكما تمّ التمسّك بالاستعمار كما لو أنه واقع راهن، جرى التمسّك بالنظر إلى الغرب كعالَم مسيحيّ لم يخض غمار الإصلاحات الدينيّة والتنوير. وبالنتيجة تزايد ضعف المضمون في النظر إلى الكون الذي صار يبدو شكليّاً محضاً.

(*) مقتطف من مقدّمة كتاب يصدر قريباً.
09-17-2008, 09:32 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  قراءة في كتاب "الضروري في السياسة" لابن رشد إبراهيم عبد الله 5 1,944 09-08-2008, 03:00 AM
آخر رد: Awarfie

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS