[CENTER]III
~~~
كان "وي" يرسم الحروف في عقله، معبرا ً بذلك عن اعتزازه بإتقانه لفن الكتابة الذهنية. في يوم من الأيام، قبل نقله إلى الحجز الانفرادي بأكثر من سنتين، وجد "وي" في صينية طعامه قلم حبر سائل. لعل زميلا ً في السجن أو حارسا ً متعاطفا ً هربه له.
ابتدأ "وي" بكتابة رسائل لعائلته على أوراق دورة المياه الخشنة التي يوفرها السجن للمساجين، إلا أن الحراس عثروا عليها. طالبوه بكشف المكان الذي يخبئ فيه القلم، إلا أن "وي" رفض ذلك. وبعد أن فشلوا في إيجاد القلم، الذي أخفاه "وي" بربطه بخيط وإنزاله في جوف قضبان سريره الحديدية، أمر كبير الحرس بنقله إلى زنزانة أخرى. فما كان من "وي" إلا أن أخذ قلمه معه خفية.
~~~[/CENTER]
منذ اختراعها، قام الناس بمحاربة وحدتهم وتكريس إحساسهم بذواتهم باستخدام الكتابة. في القرن الرابع قبل الميلاد، كان أرسطو يرى في الكتابة وسيلة للتعبير "عم يختلج في النفس". تؤكد دراسات حديثة دور التعبير عن العواطف بالكتابة في تخفيف الاكتئاب وتقوية جهاز المناعة وتخفيض ضغط الدم.
[CENTER]
قواجو[/CENTER]
ولكن، كيف يمكن لأفراد المجتمعات المفتقرة للكتابة التعبير عن أنفسهم؟ نسبة قليلة جدا ً، من عشرة ألاف لغة تكلمها البشر، مكتوبة. "نحن نكلم بعضنا، وننصت، ونتزاور، ونثق بالكلمة المنطوقة،" يقول "قوجاو" "Guujaaw"، زعيم شعب "الهايدا" "Haida"، "التعبير عن النفس من دون كتابة أمر طبيعي جدا ً"
[CENTER]
[/CENTER]
يعيش شعب "الهايدا" في "جزر الملكة شارلوت" "Queen Charlote Islands"، قرب ساحل "برتش كولومبيا" "British Columbia" في كندا، منذ أكثر من عشرة آلاف سنة. مشيت مع "قوجاو" في "سقان قواي" "Sgan Gwaii"، جزيرة جنوبية صغيرة، التي تحتوي على آخر الغابات المطرية المعتدلة في العالم. تلين الطحالب ونباتات مختلفة صلابة الأرض تحت أقدامنا. وفي المحيط، تغوص أسود البحر والطيور بحثا ً عن السمك.
"شعبكم، كمعظم شعوب نصف الكرة الأرضية الغربي، لم يخترع لنفسه نظام كتابة إلى أن أتاهم الغرباء ومعهم أنظمة كتابة خاصة بهم،" قلت له. "هل ترى أن سبب ذلك هو استغناؤكم عن الكتابة؟". بادرني "قواجو" بسؤال، "أترى أن الكتابة أفضل من التحدث؟".
قلت له أن الأمر واضح بالنسبة لي. الكلام يتعرض للتشويه والتحريف حين يتناقله الناس، خصوصا ً إن تم تناقله عبر فترات طويلة.
"الكلام المكتوب يتعرض للتشويه والتحريف أيضا ً،" قال لي. "تعود تواريخ شعوبنا الشفوية إلى آلاف السنين. إنها تاريخ حي يوفر حلقة وصل بين القاص والمستمعين تعجز عن توفيرها القصص المكتوبة. ومن البديهي أن التواصل الشفوي يجلب المودة والألفة ويكرسهما في المجتمع الإنساني."
اسند "قواجو" ظهره على صخرة. "سأروي لك قصة من قصص "الهايدا"،" قال لي. "لا تكتبها. أنصت إليها فقط. انشغالك بكتابتها سيجعلك تتجاهل نصف القصة، إذ أن القصة تتألف من عملية إيصالها إلى المستمع ومن الاستماع إليها في آن واحد."
تحفزت حواسي حين استمعت للقصة، التي تدور أحداثها حول حيوانات تحذر البشر من إفساد المياه. صوت "قوجاو"، ونسبة الهواء، والمحيط، والأشجار، كلها اجتمعت واخترقت كياني. لو قمت بقراءة القصة، لوجدت نفسي في عالم آخر، وفاقد لأي إحساس بما يحيط بي.
كان "أفلاطون" "Plato" سيقول لي في هذا الموقف، "ألم أقلك لك؟" فقد كان يعيش في عصر شكلت فيه الكتابة تحد ٍ لثقافة اليونان الشفوية. فحذر من أن الكتابة قد تجعل الناس "يضعون ثقتهم في رموز خارجية مكتوبة ويعجون عن التذكر.....سيسمعون أشياء كثيرة ولكنهم لن يتعلموا شيئا َ."
إلا أن "أفلاطون" عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، حين كانت القراءة متعذرة ماديا ً على السواد الأعظم من الناس. فقد كانت الكتب مجموعة من أوراق بردي يزيد طول أحدها على ثمانية عشر مترا ً؛ فكرة الصفحات، التي كان من أسباب بزوغها توفر نبات "البرشمان" "parchment"، لم تظهر في أوروبا إلا في القرن الثاني الميلادي. بل حتى الفراغات بين الكلمات لم تكن شائعة في كتابة الغربيين إلى في القرن السابع الميلادي. حتى بعد عصر "أفلاطون" بأجيال، بقي الناس ينظرون إلى الكتابة على أنها معاون للذاكرة ومحفز للكملة الشفوية. كان الناس يقرأن لبعضهم بصوت ٍ عال ٍ، وقد تلاشت هذه الممارسة بشكل بطئ.
تفاجأ القديس "أوغسطين" "St. Augustine"، أحد كبار مفكري العالم في القرن الرابع الميلادي، حين رأى أستاذه القديس "أمبروس" "St. Ambrose" يقرأ لنفسه بصمت. سبب هذا الانتقال من الكلمة الشفوية إلى الكملة المكتوبة كان سببه قدرة الكتابة على تلبية حاجات ٍ بشرية تعجز عنها الكلمة الشفوية. فمثلا ً، سبب علمي بأمر القديس "أوغسطين" واستاذه هو ذكره لها في أحد كتبه.
وبالرغم من ذلك، يظل أفلاطون على حق. المجتمعات ذات الثقافة الشفوية يحتاجون إلى ذاكرة قوية. أنا مثلا ً نسيت معظم قصة "قوجاو" حين بلغنا "نينستينتس" "Ninstints"، قرية من قرى "الهايدا" القديمة.
كانت "نينستينتس" تأوي المئات من عوائل "الهايدا" في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، قبل أن يصل إليها البيض. اليوم، لم تبق ً سوى أساسات بعض البيوت وبعض الأعمدة الطوطمية المتعفنة. وانخفض عدد "الهايدا" من أربعين ألفا ً إلى أربعة آلاف منذ ذلك الحين.
رغم هذا الانخفاض، يصر "قوجاو" على أن شعبه لم يُهزم أمام الغرباء لأنهم يفتقرون للكتابة بينما أعداؤهم يملكونها. "نحن هنا منذ آلاف السنين وما زلنا هنا،" قال لي. "الكتابة ليست ضرورة حياتية، وظهورها عندنا لا يمثل سوى فصل واحد من تاريخنا."
إلا أن ثقافة أهل أمريكا الأصليين الشفوية كانت مناسبة جدا ً في رحلات الصيد البرية والبحرية. إذ يجتمع الصيادون حول نار قرب مخيمهم كل ليلة. وسائل الترفيه الحديثة، كالتلفزيون، تقف حائلا ً اليوم أمام هذه التقاليد الشفوية.
بعد عدة أيام، ذكرت ذلك لـ"ـبانسي كوليسون" "Pansy Collison"، معلمة مرحلة ثانوية في إحدى مدارس مدينة "الأمير روبرت" "Prince Rupert" في "برتش كولومبيا" وهي من شعب "الهايدا". "لا تنسى أن التاريخ الشفوي جزء مهم من هوية طلابنا،" قالت لي.
تستعين "كوليسون" بالقصص لتمكن طلابها من معرفة تاريخهم والاعتزاز بهويتهم. فيقوم كل طالب بكتابة قصص ٍ من موروثاته الشفوية عن عائلته أو قبيلته. فهي هنا، تعتمد على الكتابة للحفاظ على تاريخ شعبها الشفوي.
بينما كانت "كوليسون" تشرح لي أثر هذه الدروس المكتوبة على إنعاش موروثات الطلاب الشفوية، وجدت فيما تفعله مثالا ً جديدا ً على مرونة الكتابة الاستثنائية. فقد معظم أهل أمريكا الأصليين لغرباء يملكون آلات وأسلحة لا تتوفر إلا للمجتمعات الكاتبة. إلا أن الكتابة باتت شرطا ً حيويا ً لإعادة إحياء شعب "الهايدا".
يتبع.....بإذن الله