-1-
بريئة...
هي، جرح الأنوثة النازف، هي تشييئُ الفراغ في جرح، إنها ببساطة أنثى تعثرت أقدام قدرها بمدينتنا. تحب كل ممنوع وحرام، تعشق الخوف والموت ولكنها تعبد الحياة، تعبد سوط آبائها وتخاف من الأيدي الفارغة، تخال عندها أن أصحابها يخبئون السم في شفاههم، لذلك انتمت دون وعي إلى عالم آخر غير الذي يظنون أنها تعيش به، جعلتهم ألعوبتها الصغيرة وضمتهم كلهم في كذبة من أكاذيب الحياة.
جسدها الصغير كان ملكا للهواء فقط وللمرايا، تخاطب دائما واحدة أخرى تظهر من العدم في أي مرآة، تعشقها وتشتهي جسدها، تمر بيديها على انحناءاته وتشبع عينيها من جمال عينيها، كانت عيونها سحرية. أصبح لديها حياة جديدة داخل المرايا، تتخيل نفسها تقوم بأشياء كثيرة حرمت منها، ولكن هنا لا خوف، ففي المرايا المخابئ كثيرة والظلام حالك؛ تستطيع الهرب بسرعة دون أن يراها أحد.
الطفولة تنضح من عيونها، تأخذ لونا من ألوانها الكثيرة وتلتف بتعرجات ناعمة حول البؤبؤ الأسود، تخبرك عن نفسها الرضيعة، تخبرك عن الخوف من كل شيء، تخبرك بأشياء كثيرة أخرى لا تستطيع أن تفهمها ولكنك تتعاطف معها، لا يمكنك أن تنظر إلى تلك العيون دون أن تشعر بالحنين، يغلف روحك ويحميها، لكن الأسى والضعف يجرحك ويدمي قلبك. مزيج من البراءة والألم... حين يجتمعان في العيون يسلبان الأرواح التي تتحول إلى عيون هي الأخرى تشي بالقهر والحرمان.
تضحك..
ضحكتها مسلوبة من مدن غريبة وبعيدة غير معروفة، لكنها تحلق بك نحو السماء إلى الشمس، ابتسامة طفلة في الخامسة والعشرين من عمرها، ندوب المجتمع وقوانينه تملأ الجسد الهش الطري، تحيطه بدماء سوداء، ودموع من أثير. تتحول تلك الدماء إلى أرواح سديمية تائهة في الفضاء اللامتناهي. اختارها الألم لباسا له، يمشي ويأكل ويضحك في عالم مفصول عن التاريخ يتشبث باللاشيء كي يخدع نفسه بأنه مازال موجود.
لا بد من الضحك كي تنسى... لا بد من الدموع كي تغسل أوساخهم العالقة في الهواء والشوارع والأبنية، في كل مكان. ضعيفة هي ووحيدة، أنثى منسية، تختلي بنفسها بعيدا تحاول الهرب، لكن القيود والحبال الملتفة حول جسدها، تثبتها، تجمدها، إن السكون اللعين يحيط بها...
-2-
في لحظة منشقة عن التاريخ والزمان، متمردة تسعى نحو موتها جلست قبالته، وتلك العيون الجامدة تحدق في نقطة تخترق جدار المكان والزمان، نقطة في فراغ هيولي لا يحوي شيء. هو لا يجرؤ على مناداتها.. إنها بعيدة، كانت دائما كذلك. حين تشعر أنها بحاجته تكلمه، وكان هو يفهمها ويحبها، لا يستطيع إلا أن يراها جرح نازف.. مفتوح يأبى الشفاء، تعود عليها وهي الأخرى اعتادت على نفسها. عارية تمشي أمامه، متشنجة ومرتعبة، ترتدي قميصا ما وتستر جسدها الصغير، تتجه نحو كتبه المرمية على الطاولة، لا تنطق بأي حرف، تفتح أحد هذه الكتب وتقلب صفحاته بأناة، تعيد إغلاقه ولكنها ترميه بعيدا، تمسك آخر وتفتح صفحة لا على التعيين، تجلس على الأرض وتجهش بالبكاء، يقترب منها ترفع يدها وتحركها بطريقة غريبة يعرف عندها أنها لا تريده أن يقترب منها، يقف في مكانه دون حراك. كانا وكأنهما يمثلان مشهدا إيمائي، كانا سطورا في كتاب ما تنطق وهما أخرسان، كانا شيئا ما غير كل الأشياء التي عرفها الناس وكذلك علاقتهما الغريبة تلك، تتجه إليه وتضمه بحنين آلاف السنين، بحنين لا يشبه الحنين، يشبه شيئا غريبا في بداية التاريخ والكون، نسيه الناس واعتادوا التعرف عليه كأسطورة أو حتى لم يتعرفوا عليه، لكنه كان يعرف كل شيء لأن قلبه هو الذي كانت نبضاته تتسارع وروحه تطفق من كل مسامة إليها تريد عناقها.
....... يتذكرها بعد سنين كثيرة، كأنها لم تكن يوما، أو كانت مجرد حلم.

نثر جميل جدا
أحييك على المشاعر المرهفة والكلمات البسيطة لكن ذات معاني عميقة
:98:

حلم؟ ربما

لقد جعلتني كلماتك أحلق معها في فضاءاتك السديمية .

وعادت بي ذاكرتي آلاف السنين ... إلى تلك الأسطورة المنسية... إلى ذلك العالم الهلامي

شكرا لك.

:97: