سأطرح سؤالاً ربما أنه محرج، محرج لبعض الفئات التي رشحت نفسها ووضعتها في مكان يجعلها محل التساؤل. هذه الفئة هي الفئة التي تؤيد بلا تردد أو تحفظ الممارسات الأمريكية في المنطقة، وأعتقد أنه من المنطق في ظل الظروف والمعطيات التي أصبحت مكشوفة ولم تعد قابلة للتستر والاختفاء.. أنا أسأل تلك الفئة «الخاصة» التي نصبت أنفسهم في الصحافة والإعلام مدافعة عن الفلسفة الأمريكية والسياسة الأمريكية في المنطقة، فزعمت أول ما زعمت أنها ستجلب الديمقراطية والحرية، والأمن والبناء، وأنها لن تستعمل السلاح إلا مضطرة، وفي حدود ما يجعلها تضع أقدامها في المنطقة، ثم تبدأ فوراً في مشروعها الحضاري.. وأقول لها هل وجدتم ما قلتم وزعمتم حقاً..؟ أين أولئك الذين قالوا لنا وللناس في يوم من الأيام دعوا الأمر لنا فنحن أدرى، نحن أساتذة سياسة، ودرسنا فن السياسة، وربما فن السياسة في امريكا نفسها، نحن نعلم ظاهرها وباطنها وما تنطوي عليه من خير لنا ولكم..؟
كنا نضحك في دواخلنا من عنجهيتهم، وربما من طيبتهم، وربما من سذاجتهم، وأحياناً كثيرة من خبثهم.. وعلى كل الأحوال، وفي كل الأمور، وعلى كل أطراف التوافق والتناقض نقف معهم الآن ونقول من منا كان على حق..؟ وماذا تقولون..؟ وكيف تدافعون..؟ أين الحرية..؟ وأين الديمقراطية..؟ وأين حقوق الإنسان..؟ وأين فرص العمل..؟ وأين البنوك التي تفيض بالنقود، والأسواق التي تفيض بالخيرات، والأرض التي ستنبت بالقمح والنخل والاخضرار..؟ أين الغنى الذي لا فقر وراءه، والنعمة التي لا بؤس وراءها، والصحة التي لا مرض معها..؟ أين هذه الخيرات والنعم التي سوف يرفرف فوقها العلم الأمريكي، وسيحلق في سمائها النسر الأمريكي..؟
ما حصيلة الوجود الأمريكي في المنطقة..؟ قولوا بوضوح وصراحة.. خذوا أقلامكم، ودفاتركم، واكتبوا لنا جرداً إحصائياً بالعطاء الأمريكي المبارك، وأمامكم خبراتكم وشهاداتكم السياسية..
هل تستطيعون..؟ أظن مع يقيني بأنكم لن تخجلوا أبداً من الدفاع المستميت عن أمريكا فإنكم لن تستطيعوا أن تخطوا سطراً واحداً مقنعاً.. وأنكم في المقابل لن تتمكنوا من عد، ومن قراءة السجلات الضخمة، والقوائم الضخمة بكل الأعمال المخجلة، والفضائح الأخلاقية، والسياسية، والإنسانية التي سجلتها جحافل الأمريكان في المنطقة.
ستبسطون سجلات مليئة بأسماء ملايين الموتى، وسجلات مليئة بآلاف المعتقلين، وسجلات مليئة بملايين المشردين، والمصابين بالأمراض الخطيرة، والأمراض العصبية، والجنون، والهلوسة.
سجلات مليئة بمئات الآلاف من الفدادين التي تم إحراقها، وتخريبها، وتحويلها إلى خرائب وزرائب، ومقابر عامة للإنسان، والأشجار، والبهائم.. ستجدون عشرات البحيرات الملوثة التي لم تعد صالحة حتى لشرب الحمير..
ستجدون بقاعاً وصحارى شاسعة مليئة بمخلفات وبشظايا القنابل، ومدافن للأسلحة المشعة.
ستجدون عظاماً، وجثثاً على مفارق الطرق، ووراء الأسوار، وفي الصحارى الشاسعة.
ستجدون مئات القواعد الحربية تجثم بها مئات الطائرات المشحونة بالقنابل والصواريخ الفتاكة.
ستجدون مئات الآلاف من البيوت المدمرة، والمدارس المدمرة، والمساجد المدمرة، والمستشفيات المدمرة.. وستجدون آلاف المعتقلات المعمرة، والسجون المعمرة المعدة لأحدث ألوان التعذيب النفسي والبدني..
ستجدون أن الأنهار لم تعد تجري في مجاريها، وأن المواشي لم تعد تسرح في مسارحها، وأن العمال لم يعودوا يذهبون لحقولهم، وأن الشمس حين تشرق تشرق على غير أهلها، وغير قراها، وغير أشجارها..
ستجدون آلاف القبعات وآلاف الأحذية التي تدهس الناس وتدوسهم كما تدوس الجرذان الميتة..
ستجدون كيف تحول الشعب الواحد إلى فرق للموت.. بعضها يقتل بعضاً، وبعضها ينهب بعضاً، وبعضها يسفك دم الآخر حتى أصبح الأخ يخاف من أخيه، والجار يخاف من جاره، والابن يفرّ من أمه وأبيه..
ها أنتم ترون كيف تحول الشعب إلى شعوب، والوطن إلى أوطان محاصرة بالدود، والجنود، والجوع، والألم، والخوف.. ترون كيف تحول الأقارب إلى أعداء، والأصدقاء إلى خصماء، وحراس الأرض إلى لصوص، وقطاع طرق..
كل هذا بفعل البركات الأمريكية، وما تحمله الطائرات من مؤن إبادة، وما تحمله البارجات من عتاد تدمير.
ها أنتم ترون كيف تنهب الخيرات نهباً، فحتى مقتنيات وآثار العصور القديمة طارت إلى تل أبيب، وواشطن، وباريس، أو ما تسمونه مدن العلم والحب والحضارة الراقية.
أسألكم هل وجدتم ما كتبتم كان حقاً أم كذباً وبهتاناً وتزويراً..؟ إنني هنا أتحداكم مهما أوتيتم من قوة على المناورة، والمراوغة، والتبرير، والتعليل، أن تقنعوا أنفسكم قبل أن تقنعونا بأن أمريكا جلبت لنا الخير، والحب، والمحبة.. وأن العراق على يديها تحول إلى جنات تفيض بالعسل والسمن، وأن أهله ينعمون بالأمن والمحبة، والحرية، والديمقراطية.. وأن أطفالهم يذهبون في الصباح إلى مدارسهم وحقائبهم مليئة بالشكولاته، والمناديل المعطرة.. وأن سماء العراق تزدان بأجنحة الطيور، والشعر، وضفائر النساء..
كفوا واخرجوا من «غيتو» الرياء، والكذب، والكراهية، وعبادة أوثان الحضارة الغربية، والذين يذبحون أطفالنا بسكاكين الكراهية والبغضاء في العراق وغزة والقدس، دعوا أصحابكم يرحلون.. كي ينفق العراقيون ما بقي من أعمارهم في تنظيف أرضهم من الأوبئة، والأوجاع، والأحقاد الأمريكية.
http://www.alriyadh.com/2009/10/23/article468538.html