مع المفكر الصادق النيهوم ( 7 )
السادة الكرام
تحية طيبة , و بعد
لا زالت النزهة في فكر الأديب المفكر الدكتور الفقيد الصادق النيهوم مستمرة .
يقول النيهوم في هذا المقال السابع :
.....إذا اجتمع خمسة محتالين في المحطة , و اقترح أحدهم أن يبيعوا القطار للعمدة , و تم قبول الأقتراح , بعد مناقشته , بأغلبية الأصوات , و قبل العمدة طائعا أن يشتري لنفسه قطارا , فإن ذلك اسمه ديموقراطية , لكنه ليس اسمه شورى , لأن المصطلح الأوربي مستمد من دستور رأسمالي لا يحمي المغفلين (1 ) . و المصطلح الأسلامي مستمد من دستور , موجه لحماية المغفلين قبل سواهم . فماذا يحدث عندما تخلط ثقافة ما بين هذين المصطلحين , كما فعلت – مثلا – ثقافتنا العربية المعاصرة ؟
في بلد راسمالي , لا يحدث ما يثير الفزع , لأن رأس المال , قوة قادرة في حد ذاتها , على ضمان بعض العدل , بتحرير الأدارة من سلطة الأقطاع , و توزيع السلطة بين المؤسسات , مما يضمن بالتالي , حرية القضاء , و حرية النشر و الأعلان . و هو دستور , ربما لا يستطيع أن يحمي جميع المواطنين لكنه – على الأقل – يستطيع أن يحمي بعضهم .
دون رأس المال , تحدث فاجعة :
فالتاريخ لا يعرف قوة أخرى , قادرة على ردع الأقطاع , سوى القوة العسكرية وحدها . و هي مجرد وجه آخر للأقطاع نفسه , و ليست بديلا مختلفا عنه , لأن كليهما نظام قائم على مبدأ تحكيم القوة , و ليس تحكيم الأغلبية مما يغلق الطريق من أوله , و يخرج الناس العزّل من المعركة قبل أن تبدأ ( 2 ) .
إن الجماعة الأنسانية , لا تملك سوى سلاح فعال واحد ضد الأقطاع , هو حرية رأس المال . لكن جوهر المشكلة , أن رأس المال نفسه , سلاح غير متوفر في أيدي جميع الناس . بل في أيدي الأوربيين الغربيين وحدهم , الذين كسبوا السباق على كنوز المحيط , و استوطنوا خمس قارات , و سيطروا على ممرات التجارة الدولية , و ينوون أن يحتفظوا بالسيطرة عليها إلى وقت طويل .
بقية أمم العالم , مجرد بلايين الفقراء , الذين تكدسوا وراء مضيق جبل طارق , في أراضي العالم القديم , بعضهم تحت مظلة رأس المال الغربي , و بعضهم يركض في الشمس دون مظلة . فأين تذهب هذه البلايين ؟
إنها تكتشف عجزها عن تقليد نظم الأوربيين الأغنياء , و عجزها عن تحرير نفسها من الأقطاع , بسلاح رأس المال الذي لا تملكه أصلا , و عجزها عن التفاهم بمصطلحات رأسمالية , لا تقول ما تريدها أن تقوله .
و بعد ذلك , ينقسم الطريق أمام شعوب العالم إلى طريقين : إحدهما يقوم على تفسير (( علمي )) للتاريخ , يمكن أن يستند غليه كل نظام إداري , من نظام الحزب الواحد في روسيا , إلى نظام الرجل الواحد في كوبا , و الآخر يقوم على تفسير (( إنساني )) للتاريخ , لا يعترف بغير نظام إداري واحد , تكون فيه الأدارة تحت سلطة الناس شخصيا . إن كلمة الشورى هي شعار هذا التفسير الأسلامي بالذات .
فالشورى مصطلح لا يفسر نفسه , في لغة الأدارات الراسمالية و العمالية المعاصرة . إنه لا يعني إنتخابات مجلس النواب , لأن الأسلام لا يعترف بالنيابة . و لا يعني إنتخابات الجمعية المركزية للحزب , لأن الأسلام لا يعترف بسلطة الحزب أصلا . و ليس هو (( التصويت )) على القرار , لأن المسلم مسؤول أيضا عن سلامة التنفيذ .
إن الشورى مصطلح آخر , من إدارة مختلفة أخرى , لا تقوم على التمثيل النيابي , أو الحزبي , بل تقوم على المشاركة الشخصية للمواطن في موعد محدد , لكي يضمن من خلاله , إشرافه المباشر على أداة الحكم .
إشراف المواطن شخصيا , لا ينوب عنه نائب , و لا يمثله حزب ؛ لأن غيابه يحرمه من حقه في التصويت على القرار , دون أن يعفيه من عواقب القرار نفسه , بما في ذلك – عادة – أن يصادروا بيته , و يرسلوا عياله إلى خط النار .
إشراف المواطن المستمر . دوريا , و دون إنقطاع , فالقرار الأداري الذي يلزم إصلاحه , يلزم إصلاحه فورا , و ليس في وقت لاحق , أو بعد إجراء الأنتخابات , أو إنتهاء فترة الرئاسة . لأنه خلل على نطاق واسع , ثمنه أحيانا , أن يموت مائة ألف مواطن –كما حدث لشعب الولايات المتحدة في فيتنام – قبل أن تبدأ الأنتخابات , و تنتهي فترة رئاسة جونسون .
إشراف المواطن المنظم . دائما , و باقصى رغبة في التدقيق . فالمؤتمر الجماعي ليس ندوة , بل جلسة عمل , بموجب دستور , و لائحة إدارية , و جدول أعمال , و لجنة صياغة , و أجهزة متابعة . إنه موقع إداري ملتزم بأداء مسؤوليات محددة , في زمن محدد . و دون هذا الألتزام , لا تصبح الأدارة الجماعية , بديلا جادا عن أي إدارة أخرى .
إن العلامة الفارقة بين مصطلح الشورى , و مصطلح الديموقراطية , هي أن الشورى , لا تتم بلقاء ممثلين عن الناس بل بلقاء الناس أنفسهم , مما يعني في لغة التطبيق , أن تخضع الأدارة مباشرة لسلطة الأغلبية , و تعاد صياغة القوانين بلغة الجماعة , فيظهر في بنودها للضعيف حق , و للمراة حق , و للطفل حق , وللمراهق حق , و للعجوز حق , و تبدو الحياة الدنيا – حتى دون أشجار- جنة على الأرض . إن الخلط بين معنى الشورى , و معنى الديموقراطية , خطا موجه , لحرمان الفقراء من هذه الجنة إلى الأبد .
فالمرأة و الطفل و المراهق و العامل و العجوز , قد يظفرون ببعض الحماية في بلدان راسمالية غنية , لديها ما يكفي لسد حاجة الناس في كل الأعمار , أما في بلدان الفقراء و فإن غياب الشرع الجماعي , يضع القانون تلقائيا , في أيدي رجال أقوياء , عراض الأكتاف , قادرين على القتال بالبنادق , و يطرد الباقون خارج مظلة القانون , و يخلقون واقعا , تكون فيه المرأة و الطفل و المراهق و العامل و العجوز , هم فقراء الفقراء , الذين يدفعون ثمن غياب الأدارة الجماعية نقدا , و كل يوم . أما الرجال الأقوياء المسلحون , فإنهم يستطيعون دائما , أن يلتقوا في مؤتمر ما , و يقتسموا الوطن بينهم ديموقراطيا , و يسلبوا حقوق الأغلبية الصامتة , بحجة أن القانون لا يحمي الساكتين , هذا ما يحدث عندما تخلط ثقافة ما , بين كلمة الشورى و كلمة الديموقراطية , كما فعلت مثلا ثقافتنا العربية المعاصرة .
إنها تضيع حق الضعيف و الفقير و المغفل , من دون أن تكفل للغني الحاذق ما يضمن حقه . فالديموقراطية الغربية , تبدأ بمعركة إنتخابية ضارية , يتصارع فيها عمالقة كبار جدا , من أصحاب رأ س المال , و الأتحادات العمالية . و هي معركة شرعية في الغرب , لأنها تجري بين خصوم متكافئين , داخل مجتمع فاحش الثراء , تزداد ثرواته ضخامة كل يوم .أما في مجتمع فقير – يزداد فقرا كل يوم – مثل مجتمعنا العربي , فإن هذه المعركة ليست شرعية أصلا , بسبب غياب الخصوم المتكافئين من جهة , و تدخل الأحتكارات الرأسمالية من جهة أخرى .
إن الأنتخابات البرلمانية و الحزبية دون مظلة الشرع الجماعي لا تعني في واقعنا العربي المعاصر , سوى مسرحية أوربية مترجمة , يحضرها جمهور محدود جدا من (( المثقفين )) . لكن ثقافتنا التي قامت على الخلط بين الشورى و الديموقراطية , لا تستطيع أن تقيس الفرق الهائل , بين مسرحية في وطن ما , و واقع في وطن سواه , و لا تملك حلا لأزمتها الهائلة , سوى أن تورط نفسها في الدعوة إلى ديموقراطية كلامية , هدفها أن تتجاهل الواقع المر , بالكلام الحلو عن واقع سواه . فمثلا :
قضية تحرير المرأة , قضية ساخنة في ثقافتنا العربية المعاصرة , منذ أن سمعت ثقافتنا بهذه القضية في عصر نابليون . إنها معركة كلامية يقاتل فيها محاربون تقدميون من طراز قاسم أمين , ضد محاربين رجعيين من كل طراز , في جبهة تقول إن الأسلام ينادي بتحرير المرأة , ضد جبهة تقول إنه لا ينادي , دون أن يلاحظ أحد من أطراف النزاع , أن الأسلام في الواقع , ينادي بتحرير الأدارة أولا , و قبل كل شيء . و أن تأهيل المرأة للعمل تحت إدارة إقطاعية , فكرة لم يقلها نابليون نفسه , لأنها لا تحرر امرأة , و لا رجلا , و لا تغير شيئا من واقع المرأة الأبدي , باعتبارها جارية – أو موظفة – مسخرة لخدمة طاغية ما .
إن المرأة تستطيع أن تخرج من بيتها إلى ميدان العمل , لكن ذلك لا يضمن لها العمل نفسه , و لا يعني أن زوجها لا يجلس عاطلا طوال عمره في البيت , و أن ولدها لا تعتقله المخابرات , و أن ابنتها لا تبيع جسدها للسياح , و أن أمها العجوز لا تموت من الوحدة و الجوع . ذلك كله لا تضمنه المرأة الحرة , بل الأدارة الحرة , و هي حقيقة تبدو بدهية جدا , لكن ثقافتنا الكلامية المعاصرة , أظهرت قدرة ملحوظة على تجاهل البدهيات . و مثلا :
الدفاع عن حقوق الطفل , لا يشمل الدفاع عن حقوق المراهق في ثقافتنا العربية . إن الطفل الذي لا يحتاج إلى من يشهد ببراءته , يظفر في ثقافتنا الكلامية , بمحامين متطوعين للمناداة برعايته من العقد النفسية . أما المراهق , الذي يواجه عقدا نفسية بالفعل , فإن أحدا لا يقول في حقه كلمة واحدة , و لا يشهد ببراءته , في وجه التزمت الديني المفتعل , و لا يقول إن المراهقة مرحلة شرعية مثل مرحلة الطفولة . إن قوانيننا تعادي الجسد الأنساني , و تعادي سنة الله في خلقه , و تعادي الشباب و الجمال , و تختفي وراء برقع خفيف من ادعاء الحياء , بحجج خيالية بحتة , و تجد في ذلك عذرا كافيا , لحشر ملايين المراهقين في الظلام , باسم العفة و الطهارة , لأن مهمة ثقافتنا الكلامية , أن تخفي وجه الواقع القبيح , بالكلام الجميل عن واقع سواه . و مثلا :
الدفاع عن الوطن , لا يشمل الدفاع عن المواطنين في ثقافتنا العربية المعاصرة , إن الوطن , الذي هو الأرض و الماعز , يصبح وطنا مقدسا , له حرية مقدسة . أما المواطن شخصيا , فلا أحد يقدس حريته , و لا أحد يعترف بهويته نفسها . (( فالشيوعي )) يريده أن يكون (( شيوعيا )) . و الرأسمالي يريده أن يكون رأسماليا . و الفقيه يريده أن يكون فقيها . لكن أحدا لا يلاحظ , أن المواطن العربي المسلم , يعيش في وطن عربي مسلم فقط . و أن تغيير التربة تحت قدميه , يجعله مجرد بيدق خشبي على رقعة من الأرض , قد يموت من أجلها , دون أن يعيش فيها . و مثلا :
الدعوة إلى إحياء الأسلام , لا تشمل الدعوة إلى إحياء الأسلام كله في ثقافتنا العربية , إن المواطن المسلم يتلقى سيلا لا ينقطع من المواعظ التي تدعوه إلى أن يلتزم بحدود الدين , و أن يكون مواطنا أمينا و صادقا و شجاعا و زاهدا , لكن أحدا لا يتذكر أن يشرح له , كيف يكون مواطنا أمينا في إدارة إقطاعية , و صادقا في وطن يعادي حرية الرأي , و شجاعا في مجتمع لا يحمي مواطنيه , و زاهدا في حضارة راسمالية , لا تفرق بين الزاهد و الدرويش . إن ثقافتنا العربية , تتكفل بإسداء النصح , و تبذل جهدا كلاميا هائلا , للقول بأن الأسلام , يستطيع أن يغير واقع المسلمين . أما كيف يحقق الأسلام هذه المعجزة دون نظامه الأداري , فذلك أمر لا يدخل في باب إسداء النصح .
في ظروف هذه الثقافة الكلامية , و لدت الدعوة إلى الوحدة العربية المعاصرة , في صيغة كلامية حقا . إنها لم تقصد أن يجتمع العرب تحت إدارة واحدة , بل أن تجتمع الدول العربية في جامعة واحدة و هي فكرة طائشة , كانت تشبه تجميع ملايين النحل , في خلية تحتلها عشر ملكات , كل ما حصده العرب من ورائها , في نهاية المطاف , هو أن أصبحت وحدتهم , مجرد دعوة كلامية في غدارات قائمة على سياسة اللدغ . و اصبحت هذه الدعوة بديلا كلاميا عن المنهج المطلوب , و خسر وطننا شرعه الجماعي , و خسر الجامع وظيفته الأدارية , و فقد الناس كل أمل في الوحدة , و هم يتحدثون عن الوحدة بالذات .
إن نظام الجامع – و ليس جامعة الدول العربية – هو الذي يوحد العرب , لأنه نظام يجمعهم بالفعل في مكان إداري واحد , تحت شريعة إدارية واحدة . لكن ثقافتنا العربية المعاصرة , تشغل نفسها بأنشاء جامعة الدول العربية , لأنها أصلا مجرد ثقافة كلامية ضارة نشأت في أحضان السلاطين مثل أي جارية , و سخرت نفسها لخدمة الحكام على حساب الأمة , و لم يعد بوسعها أن ترعى مصالح الناس , إلا إذا كان الناس نوعا من النحل .
هوامــــــــــــــــش :
---- ( 1 ) : القول بأن القانون لا يحمي المغفلين , مبدأ رأسمالي لا مفر منه , لضمان حرية الكسب . فالمغفل الذي يعنيه القانون , ليس هو العمدة الذي يشتري القطار فقط , بل هو كل مواطن لا يحمي حقه – أو لا يستطيع أن يحميه – ابتداء من سكان المستعمرات , إلى الزنوج و العمال و النساء و الطفال و كبار السن .
و بموجب هذه الشريعة , لم يتمكن مظلوم واحد في التاريخ , من أن ينال حقه سلميا , أمام محكمة رأسمالية . فلم يكن بوسع سكان المستعمرات , أن يستعيدوا أراضيهم , إلا بمعارك دامية . و لم يكن بوسع الزنوج و العمال و النساء , أن يظفروا بحق المساواة و العمل , إلا بحروب حقيقية , جرت داخل المدن الرأسمالية نفسها , تحت سمع القانون و بصره , و لا تزال تجري يوميا حتى الآن .
فالمغفلون أمام القانون الراسمالي , هم المستضعفون الذين فرض القرآن الجهاد من أجلهم , لأن رأس المال , ليس شريعة لتحرير الناس من الأقطاع , بل مرحلة متطورة من مراحل الأقطاع نفسه , لا تهمه شرعية الربح , بقدر ما يهمه الربح لذاته .
و الواقع , أن حي بروكلين في مدينة نيو يورك – قلعة الرأسمالية الحديثة – مقام على أرض , اشتراها المهاجرون الهولنديون من الهنود الحمر , بمبلغ قدره 15دولار فقط لا غير . و هي صفقة أسوأ من بيع القطار للعمدة , لأن أحفاد الهنود الحمر , الذين تقدموا إلى القضاء الأمريكي , مطالبين بتعويضهم من هذه الخدعة , لا يزالون يدفعون أتعاب المحامين حتى الآن .
---- ( 2 ) : الفرق بين الأقطاعي و الديكتاتور العسكري , أن أحدهما يدير إقطاعية يملكها , و الآخر يدير معسكرا يحكمه , مما يجعلهما يختلفان دائما , من حيث الشكل و اللغة و يلتقيان دائما في واقع مميت واحد .
فالأقطاعي لا يخاطب الناس باسم الثورة , بل باسم الدين . و العسكري لا يخاطب الناس باسم الدين , بل باسم الثورة . و هما منهجان , قد يختلفان إلى ما لا نهاية , حتى يصلا إلى الميزانية العامة .
إذ ذاك يلتقيان فجأة في نقطة مؤداها , أن مال الناس , ليس للناس حقا , و أن مشروعات التنمية , لا تحددها حاجة الأغلبية , بل يحددها الخبراء , و هي فكرة تبدو براقة في لغة الأقطاعي و العسكري معا , لكنها في لغة الواقع فكرة ضارة جدا .
فالخبير في العالم الرأسمالي , رجل مقيد بحاجة مشروعاته إلى تحقيق الربح . إنه لا يبيع خبرته , بل (( يستثمرها )) بقدر ما في حوزته من الأبداع و البراعة . و هو بعد ذلك مقيد بقانون العرض و الطلب , و قانون المنافسة الحرة . مما يضمن لكل مشروع على حدة , أن يكون مشروعا ضروريا حقا , و يكون الناس في حاجة إليه .
من دون سلطة راس المال , يصبح الخبير (( فنانا )) منطلقا من عقاله , و يطلق لخبرته العنان , لكي تفعل ما تشاء , في سوق مغلقة دون منافسة , لا يقيده قانون العرض و الطلب , و لا يردعه شرع جماعي , قادر على ضمان مصلحة الأغلبية . و في مجتمع يخطط له خبراء من هذا الطراز , تتوافر المشروعات , حيث تتوافر العمولة , فيبدأ رصف الطرق , قبل مد خطوط المياه و الهاتف , و تذهب الطرق نفسها إلى حيث لا يريدها أحد أن تذهب , و يبدأ في تسليح الجيش , قبل أن يوجد الجيش , و تقام المصانع دون المواد الخام , و ينشط الأستيراد , دون أن ينشط السوق , و تتكدس العمولات في جيوب نوع جديد من الأغنياء , لم يعرفه تاريخ الحضارة أبدا , في أي عصر من العصور .
فالثري العربي المعاصر – على سبيل المثال – ليس تاجرا جمع نقوده من سوق رأسمالية حرة . و ليس رجلا صناعيا مثل المخترعين الذين اعتمدوا على غزو السوق ببضائع جديدة , بل مجرد مترجم باهض الثمن جدا , بين الشركات الغربية و الأدارات الأقطاعية و العسكرية في الوطن العربي . و هو موقع لم يعرفه التاريخ قبل ذلك , لأن العمولة نفسها , فكرة طارئة على هذا التاريخ . فالشرط في حرفة التجارة , أن يتم البيع و الشراء بين اثنين من المحترفين للتجارة , و ليس بين دولة و شركة , و غياب هذا الشرط , يعني في لغة التطبيق , أن يفقد السوق علاقته بحاجات الناس , فيمتليء ببضائع لا يحتاجون إليها , و يخلو من بضائع , يبحثون عنها . و ترتفع أسعاره عن الأسعار الحقيقية , بمعدل ما يقبض موظفو الدولة من عمولات , و ما يدفعونه للمترجمين و الوسطاء .
أن الموظف الذي يمثل إدارات إقطاعية , مسؤول أمام أجهزة , لا تمثل مصالحه شخصيا , و لا يعترف بالولاء لها , و من المحتم أن يلجأ إلى تأمين مصالحه على حسابها , بقدر ما يتاح له من الفرص . و هي ظاهرة عملت الشركات الغربية على استغلالها بكل وسيلة ممكنة , لكي تغرق السوق العربي بكثير من البضائع الخاطئة , و المشروعات الخاطئة , منها أن وطننا العربي , يملك 22 شركة طيران تخسر سنويا أكثر من ألف مليون دولار , لكنه لا يملك شركة واحدة لصيد الأسماك . و رغم أن وطننا يمتد على سواحل أربعة بحار , هي البحران الأبيض و الأحمر و بحر العرب و الخليج , بالأضافة إلى شواطيء المغرب و موريتانيا المطلة على المحيط , فإن حصة المواطن العربي من السمك تقل بمقدار النصف عن حصة مواطن في بلد دون بحار , مثل سويسرا . و تقل بمقدار 72في المائة عن حصة مواطن في بلد صغير مثل اليونان .
و الواقع أن سيطرة (( الخبراء )) على الأقتصاد العربي – في غياب سلطة الأغلبية – سيطرة خلت من روح العدالة , و فشلت في مراعاة حاجة الناس , و فشلت في مراعاة بيئتنا الصحراوية . و بدلا من أن يقوم أقتصاد العرب على التعايش مع بيئتهم , و إيجاد صيغة جديدة , للمسكن المعاصر , و المدينة المعاصرة , اقتصر عمل (( الخبراء العرب )) على استدعاء معلميهم من الغرب , لكي يبنوا للمواطن العربي , مدنا كاملة دون ماء , و مطارات لا تغطي نفقاتها , و مصانع دون اسواق , و فنادق سياحية خالية من السياح .
إن الصحراء لها اقتصاد , يختلف عن سواه , بقدر ما تختلف الصحراء عن كل بيئة عداها . و لو ترك الخبراء أمر التخطيط إلى الناس , لظهرت خطط عربية أخرى , لأستغلال طاقة الشمس , و تنمية حرفة الرعي إلى صناعة حديثة لتوفير اللحوم و الجلود , و تنمية جمعيات صيادي السمك الفقراء , إلى شركات عالمية لتصدير السمك , و تسخير مناخ الصحراء , في زراعة نباتاته الطبيعية على نطاق واسع . و هو اقتصاد من شأنه , أن يحتكر أسواقا عالمية , لا يستطيع أحد أن ينافسه عليها , و يعطي العرب صوتا دائما في سوق الأقتصاد العالمي , و يجعلهم شركاء شرعيين في كوكب الأرض على الأقل .
أما (( قهر )) الصحراء , بتكديس الناس في مدن دون مجار , داخل شقق لا تختلف عن الأفران , في مجتمعات استهلاكية قائمة على بيع مخزونها من المعادن , فإن ذلك مجرد قهر لا مبرر له , لا يصيب الصحراء العظيمة الخالدة , بل يجعل الحياة فيها , مصيرا لا تطيقه حتى العقارب و الثعابين .
|