د. كامل النجار
لم يترك لنا عرب ما قبل الإسلام أي مخطوطات باللغة العربية التي كانت، كما يبدو، لغة غير مكتوبة، مثل عدة لغات في العالم استعملها أقوام قد اندثروا وما زال بعضهم يعيش في أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا، وهم يتحدثون لغات لا تُكتب حتى الآن. بل هناك الآن في العالم أكثر من ست آلاف لغة حية، أغلبها لا يُكتب، ومنها 473 لغة مهددة بالانقراض لأنها غير مكتوبة ولأن المتحدثين بها أصبحوا أقلية
http://www.ethnologue.com/nearly_extinct.asp المخطوطة التي ظهرت في الحلقة الأولى تُثبت لنا أن العربية لم تكن لغة مكتوبة بالحروف التي نعرفها الآن إلا في اليمن (دولة معين، وسبأ وحضرموت)، حتى قبل حوالي ثلاثمائة سنة من ظهور الإسلام. وبالتالي فإن ما زعمه الإسلاميون من أن الشعر الجاهلي كان يُكتب ويُعلق على جدران الكعبة، وسموه المعلقات، إنما هو اقتراع إسلامي لا دليل عليه فعلياً ولا عقلياً، كما قال بذلك الدكتور طه حسين. إذ كيف يُعقل أن يكتب الشعراء معلقاتهم الطويلة واللغة العربية المكتوبة لم تكن قد شبت عن الطوق حينها؟ وعلى ماذا كتبوها قبل أن يعلقوها على جدران الكعبة، إذا كان القرآن الذي جاء بعد فترة الجاهلية كان يُكتب على العظام والجريد؟ كم لوحاً من أكتاف الخراف تحتاجها معلقة أمريء القيس، وكيف علقوها على الكعبة؟
وحتى عندما بدأ محمد دعوته كان الذين يكتبون العربية يعدون على أصابع اليدين، وكانت الحروف غير منقطة ولم يكن التنوين قد عُرف وقتها، وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى القول إن العربية كانت تُكتب بحروف آرامية تعلموها من مسيحيي الشام (كما نفعل الآن عندما نرسل رسائل تكست على التلفون الجوال فنكتب alsalamu alaykum بالحروف الإنكليزية. ويزعم المسلمون أن محمداً كان يملي القرآن على كُتاب الوحي من أمثال زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان الذي لم يسلم إلا بعد فتح مكة في العام الثامن الهجري، أي قبل سنتين من موت محمد، ودخل الإسلام مكرهاً، ولذا لا نستبعد أن يكون قد كتب ما لم يقل به محمد، إذا كان فعلاً كاتباً. يخبرنا الرواة أن محمداً كان يملي عليهم آية ثم يقول لهم ضعوها مع الآيات التي تُذكر فيها البقرة أو النجم. فهل كانت لديهم طريقة آركايف archive يرجعون إليها ليجدوا العظام التي بها البقرة. وماذا يفعل المسلم الذي كان قد حفظ تلك الآيات منذ عدة سنوات ثم أدخلوا عليها آيات جديدة لم يحدد محمد موقعها من السورة؟
ثم زعم المؤرخون المسلمون أو "الإخباريون" كما يسميهم الدكتور جواد علي في كتابه عن تاريخ العرب قبل الإسلام، لأنهم نقلوا الأخبار كما سمعوها دون أي تمحيص، وسموها تاريخاً، زعم هؤلاء الإخباريون أن القرآن كله كان مكتوباً قبل وفاة محمد. ثم زعموا أن أبا بكر جمع تلك الكتابات في مصحف وأودعه عند حفصة بنت عمر، زوجة محمد. ثم أخبرونا أن الخليفة عثمان، وتحت إصرار معاذ بن جبل الذي سمع في العراق روايات عديدة مختلفة للسورة الواحدة من القرآن وخاف على المسلمين من الشقاق بسبب ذلك الخلاف، أوكل جمع القرآن إلى الشاب زيد بن ثابت الذي قال لعثمان "كيف أجمع ما لم يجمعه رسول الله في حياته". فإذا كان أبو بكر قد جمع القرآن، لماذا احتاج عثمان لجمعه مرة أخرى؟ ولماذا أوكل عثمان جمعه للشاب زيد بينما كان هناك فطاحل الصحابة من أمثال أُبي بن كعب الذي قال له محمد "إن ربي قد أمرني أن أقرئك القرآن، فقال: الله سماني لك، قال نعم، فذرفت عيناه" (صحيح البخاري، كتاب التفسير، حديث 4676)، وعبد الله بن مسعود الذي قال عنه أبو موسى الأشعري "لقد رأيتُ رسول الله وما أرى ابن مسعود إلا من أهله". فهذا الرجل الذي كان يصاحب محمد ليلاً ونهاراً وحفظ عنه أكثر من تسعين سورة، لماذا تركهم عثمان واختار الشاب زيد بن ثابت، إذا كان الله قد ذكر أبي بن كعب بالإسم؟
وإذا كان عثمان قد جمع القرآن في مصحف واحد وجعل منه ست نسخ وزعها على الأمصار، كما تقول الروايات، لماذا لم نعثر حتى الآن على أي نسخة من تلك المصاحف؟ هل يُعقل أن يتسابق المسلمون على نخامة محمد وبصاقه وشعر رأسه عندما يقصه الحلاق، ويفرطون في الاحتفاظ بأول مصحف يجمع القرآن في كتاب واحد؟ وهاهم في السعودية الآن يقيمون المزادات العلنية لبيع الآثار النبوية النادرة (وكشفت هناء الطويرقي، مديرة القسم النسائي بالمستودع الخيري في السعودية، أنه تم عرض أغلى قطعة في معرض المقتنيات الأثرية بـ17 مليون ريال (4.5 مليون دولار)، وهي عبارة عن سجادة كانت على القبر النبوي الشريف قبل إزالتها، وأوضحت أن المعرض يضم قطعا أثرية نبوية ودينية وتاريخية ثمينة وصلت التأمينات عليها إلى ملايين الريالات) (حليمة مظفر، الشرق الأوسط، 7/10/2005).
حقيقة الأمر أن تاريخ جمع القرآن ما هو إلا قصص خيالية ألّفها الإخباريون المسلمون في القرن الثاني الهجري. والمصحف الذي بين أيدينا اليوم مكتوب بالخط الكوفي الذي لم يكتمل في صورته النهائية التي كُتب بها القرآن إلا في نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، كما يقول خبراء اللغات (أنظر مارتن لنجس وياسين صفادي)
M Lings & Y H Safadi, The Qur’an: Catalogue of Exhibition of Quranic Manuscripts At The British Library
وإذا علمنا أن الكوفة نفسها لم يتم إنشاؤها إلا في العام السابع عشر من الهجرة بعد موت محمد وأبي بكر، وفي خلافة عمر بن الخطاب، لأيقنا أن الخط الكوفي نشأ بالتدريج وعلى عشرات السنين قبل أن يكتمل ويُعرف بالخط الكوفي تمييزاً له عن الخط الحجازي. وحتى الخط الكوفي لم يكن منقطاً وليس به علامات ترقيم كالتي بالمصحف المسمى "مصحف عثمان".
ونحن نعلم الآن من قصص الإخباريين أن الذين كتبوا القرآن بحياة محمد كانوا عدة أشخاص كان لكلٍ منهم مصحفه الخاص. فماذا حدث لمصحف أبن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف على بن أبي طالب ومصحف عائشة؟ لعل اكتشاف المخطوطات القرآنية في اليمن في عام 1965 عندما انهار جزء من الجامع الكبير في صنعاء يثبت لنا أن محاولة ضبط القرآن في مصحف واحد متفق عليه لم تكلل بالنجاح في القرن الأول الهجري. فلو اجتمع المسلمون على مصحف واحد جمعه عثمان، لماذا جعل البناؤون سقفاً إضافياً في مسجد صنعاء وأخفوا فيه مئات المخطوطات القرآنية ثم أحكموا بناء السقف وظلت تلك المخطوطات في حرزها لا يعلم بها أحد حتى انهار جزء من سقف ذلك الجامع في عام 1965؟ إخفاء المخطوطات في سقف الجامع يُثبت أن الذين أخفوها لم يكونوا مقتنعين بأن مصحف عثمان هو القرآن الصحيح، وخوفهم من مصادرة ما يعتبرونه القرآن الصحيح، جعلهم يخفون قرآنهم في سقف الجامع
هذه المخطوطات التي حاولت السلطات الدينية في اليمن التكتم عليها ومنعت الخبراء المستشرقين من الاطلاع عليها إلا بعد جهد جهيد، تثبت لنا الاختلاف في مخطوطات القرآن القديمة. وحتى هذه المخطوطات نفسها يظهر فيها بوضوح المجهود الذي قام به من نسخوها لإزالة بعض الآيات وكتابة آيات أخرى فوقها. وسوف أعرض صور يعض هذه المخطوطات في هذا المقال لتوضيح اختلافها عن "مصحف عثمان". ولنبدأ بنوعية الكتابة في أيام ولادة محمد بن عبد الله في القرن السادس
(نقلاً عن
www.islamic-awareness.org )
هذه المخطوطة العربية أرخها ليتمان Littmann بالقرن السادس الميلادي، ويظهر فيها غياب النقاط وعلامات التنوين، وهي تشبه تماماً ما كانت عليه الكتابة السريانية في ذلك الوقت. وبما أن أغلب الذين كانوا يكتبون في ذلك الوقت هم مسيحيو الشام الذين كانوا يتحدثون السريانية وكتبوا بها الإنجيل وكل الأدعية الدينية التي كان يصعب على القاريء العادي فك رموزها، فقد طلبوا من الأسقف يعقوب من مدينة أديسا في مقاطعة أنطاكية Jacob of Edessa (ت 708م) أن يخترع حروف علة vowels كما في اللغة اليونانية لتسهيل قراءة اللغة، وامتنع أولاً لخوفه من أن ذلك سوف يفسد كل الكتب الدينية التي كُتبت وقتها بدون حروف علة، وأخيراً وصل إلى حل وسط واخترع حروفاً تُكتب فوق السطر أي فوق حروف الكلمة حتى لا تؤثر في كتابة الكلمة نفسها. وقبل ذلك كانت الأصوات المختلفة يُعبر عنها بنقاط ملونة على الحروف لتميزها عن نقاط الحروف نفسها، وهذه الحروف الصغيرة المكتوبة فوق الكلمات هي نفس الطريقة المتبعة في كتابة المصحف بالخط الكوفي، وكذلك النقاط الملونة، فقد كان ناسخو القرآن بالخط الكوفي يضعون نقاط حمراء على يمين الحرف لتدل على الفتحة، وعلى يساره لتدل على الضمة.
وهذه مخطوطة عربية عُثر عليها في مصر، كُتبت عام أربع وعشرين هجرية
ويظهر من هذه المخطوطة أن اللغة العربية حتى في أيام عمر بن الخطاب لم يكن بها نقاط أو علامات تنوين. والحرف "ر" كُتب مثل الحرف "د" والحرف "ز" في كلمة زمن، كُنب مثل الحرف "ذ"، والحرف "ن" في كلمة عشرين، يشبه الحرف "ز". فكيف كانت كتابة القرآن في أيام محمد؟
نحن لا نعلم بالضبط من هو الشخص الذي أدخل النقاط في اللغة العربية، ولكنا نعرف أن المؤرخين العرب زعموا أنه أبو الأسود الدؤلي المتوفي عام 69 هجرية. وهذه النقاط لم تنتشر حتى نشرها يحيى بن يعمر المتوفي عام 90 هجرية وناصر بن عاصم الليثي المتوفي عام 100 هجرية. ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفي عام 170 هجرية وأدخل النحو وعلامات التنوين (الفتحة والضمة والكسرة). فإذاً "مصحف عثمان" الذي بين أيدينا الآن ويحتوي على النقاط وعلامات التنوين لابد أنه كُتب بعد موت الخليل بن أحمد، أي حوالي نهاية القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث الهجري، وهذا ما يقول به المستشرقون المتخصصون في الدراسات الإسلامية.
وسوف نبين في الحلقة القادمة بعض الاختلافات في كلمات القرآن الذي يزعم المسلمون أنه ذكر محفوظ.