الطوائف الدينية لا تتحاور فذلك يؤدي حتما إلى اندثارهما جميعا إن هي جعلت من العقل حَكَما عليها. فلكل طائفة ما يكفي و يزيد من الأدلة على بطلان عقيدة الطائفة الأخرى ،و كل منها مكتفية لدرجة الإشباع بوهمها و يستحيل عليها إضافة أوهام الآخرين إلى أوهامها.
لكن العلماء أيضا قد ينقسمون إلى طائفتين أثناء أزمات العلم.
و أشهر الإنقسامات كانت تصوّرُهم للضوء فطائفة نيوتن كانت تعتقد أن الضوء عبارة عن جسيمات و لديهم أدلتهم و طائفة هويغنز اعتقدت أن الضوء موجات و لهم أيضا ما يكفي من الأدلة على ذلك.
لحسن الحظ أن العلماء لا يتقاتلون بالسكاكين و الأسلحة لفرض رؤيتهم و إلا استأنف الناجون من الحروب الدينية تطاحنهم في حروب علمية لا تترك وقتا للإنسان ليجلس للتفكير بهدوء أبدا و لتَوقفَ العلم في طور بداياته الأولى في القرن السادس عشر و تكاثرت طوائفه.
لكن اختلاف العلماء يحرك البحث و يحفز التفكير فتحاول كل طائفة دعم نظريتها بتطويرها و إبراز نقط ضعف النظرية المنافسة.
زمنيا، أقرب طائفتين علميتين شهيرتين منا هي طائفة اينشتاين و طائفة بوهر.في بدايات القرن العشرين تقبل العلماء فكرة أن الضوء يتصرف أحيانا كموجة و أحيانا أخرى كجسيمات لكنهم انقسموا مع ذلك إلى طائفتين متناحرتين(فكريا) بسبب سلوك عالَم الذرة و ما دونها.
طبعا لم يتسلل إينشتاين إلى حيث يوجد بوهر لنحره من الوريد إلى الوريد و لم يحرض بوهر أتباعه لقتل إينشتاين و التمثيل بجثته.بل كان لاختلافهما دور كبير في تطور الفيزياء الحديثة و كل منهما استعان بأتباع شبان لهم قدرات حربية هائلة لكنها قدرات تعتمد على الأقلام و الأوراق و المعادلات الرياضية المعقدة.
أبرزُ أتباع إينشتاين كان هو شرودينغر و قد تمكن من إيجاد معادلة الموجة و هي معادلة شهيرة تعطي للذرة صورة ذهنية للذرة و هذا من الأمور المحببة لإينشتاين الذي يفكر بالصور الذهنية.فرغم أنها تُمكن من حساب الإحتمالات فقط إلا أن إينشتاين أعجب بها و دافع عنها لمواجهة خطر أكبر ألا و هو جنون طائفة بوهر التي تسخر من الصور الذهنية و تزعم أنه يستحيل تصور عالم صغير مثل الذرة فلا شيء يشبهه في العالم الذي نراه و قد كادت هذه المعادلة أن تعصف ببوهر و أتباعه.
أبرز أتباع بوهر هو هيزنبرغ .هذا الشاب لم يتخذ من شرودينغر عدوا له لا بد من كرهه و القضاء عليه.بل كانت معادلة هذا الأخير و التي لا تتجاوز نصف سطر هي خصمه و قرر تحديها بكل ما أوتي من مهارة رياضية.
بعد أيام من المواجهة مع هذه المعادلة اللعينة و البحث عن طريقة أخرى مختلفة عنها و تنسجم مع تصوراته و تصورات طائفة بوهر توصل إلى طريقة مختلفة تفسر سلوك الذرة بواسطة أعداد فقط و دون الحاجة لتصور شكل الذرة و سهر ليال خلال شهور مع صديقه بورن لوضع اللمسات الأخيرة على طريقته المبتكرة قبل أن يلحق ببوهر لإطلاعه على الأمر.
لكن أغلب العلماء مالوا إلى طائفة شرودينغر المدعومة من طرف إينشتاين فمعظمهم فضل قابلية الذرة للإدراك بصورة ذهنية على تخيلها مجرد أعداد في مصفوفات لا معنى لها. انحصرت هيبة طائفة بوهر و قل عدد أتباعها لكن هيزنبرغ و بوهر لم يستسلما و استمرا في دراسة و مناقشة ميكانيكا المصفوفات البديلة إلى أن توصل هيزنبرغ إلى مبدأ شهير هو مبدأ الإرتياب .
أخيرا تنفس بوهر الصعداء فتصوره الرياضي البحت لعالم الذرة لا زال قادرا على مواجهة إينشتاين و شرودينغرو أتباعهما.
و حان موعد المواجهة.طبعا لم يلتق بوهر و إينشتاين على شاشة الجزيرة ليصرخا على بعضهما البعض كي يخرج كل منهما منتصرا في نظر أتباعه .
لو قلد إينشتاين و بوهر زعماء طوائفنا فقد يبدؤون هكذا :
إ: أنتم في ضلال كيف تزعمون أن الذرة شيء مختلف عما نشاهده؟ ...
ب (مقاطعا): أنتم تكذبون على الأمة، تجرؤون على تصوير الذرة ! تعتقدون أن على الذرة أن تتبع أهواءكم.
إ: يضرب الطاولة
و ب: يضربها أكثر منه.
ثم نسمع: يا جماعة، يا جماعة !
بعيدا عن هذه المواجهات التي يلزم فتح عيادات نفسية لأصحابها ،التقى أبرز علماء الفيزياء آنذاك في مؤتمرعلمي في بروكسيل سنة 1927 كان أبرز مواضيعها فيزياء الكوانتوم و مبدأ الإرتياب تمكن خلاله بوهر من التغلب على كل اعتراض يتقدم به غريمه إينشتاين.
و رغم مكانة إينشتاين العلمية فقد انتصرت طائفة بوهر وأمكننا الإنتفاع بالترانزستور و اللازر ... و منتدى الفكر العربي.
إلا أن كل ذلك لم يحُل للأسف دون لجوء طوائفنا إلى استغلال كل ذلك لنشر الأوهام.
منذ نعومة الأظافر يتساءل الطفل عن سلوك الأجسام من حوله.يتصرف كعالم صغير، يمسك مثلا بأي شيء في متناوله بيده و يطلقه و عيناه تراقبان الشيء بانتباه فيلاحظ سقوطه و يكرر التجربة مرات عديدة فيتوصل إلى قانون كيفي لسقوط الأجسام و لو أطلقْت أمامه شيئا فارتفع عوض السقوط لارتسمت على وجهه علامات الدهشة و قد ينفجر ضاحكا من غرابة الموقف و لأجبرك على تركه يقوم بالمحاولة بنفسه.يلاحظ أن بعضها يتكسر و بعضها لا ،فيصنفها كأي عالم محترم فيتعامل مع الأشياء القابلة للكسر بحذر بينما يرمي غيرها بلامبالاة.
يستخلص الطفل خواص و قوانين الطبيعة بنفسه عندما يكون ذلك ممكنا و يحدث يوميا في بيئته المحيطة به فيتعرف على الأشياء و ألوانها و الحيوانات و أشكالها و يتجنب المخاطر كالنار و الأشواك و يحذر من السقوط من المرتفعات و من الحيوانات غير الأليفة...
و الطفل لا يكتفي بمعرفة ما حوله بل يتأمل الوجود أيضا كأنه فيلسوف صغير لكنه يحس بالعجز فيلجأ إلى الكبار ظنا منه أنهم يعلمون ما لا يعلم فتنهمر الأسئلة على الأبوين و يبدأ العد العكسي لتواري الطفل الفيلسوف و الطفل العالم ليترك مكانه للطفل الناقل لثراث الأسرة ثم المجتمع و يبدأ لجوء الطفل إلى البحث عن الأجوبة عند الآخر عوض البحث عليها في البيئة و الطبيعة كما كان يفعل من قبل. و كلما كان أبواه واثقين من معتقدهما الديني أو غيره كلما ابتعد الطفل عن التأمل الفلسفي و التفكير العلمي فلو سألهما مثلا عما إذا كان لأبويهما أبوان أيضا يكون من المنطقي أن يقوداه في النهاية إلى أول أب، آدم و أول أم، حواء ثم الخالق و تنتهي الحكاية و معها ينكمش التفكير الفلسفي و العلمي خصوصا عندما يتلقى معارف تؤثت فضاءه المحسوس بكائنات مزعومة أخرى هي المؤثرة في كل ما يحدث حوله من حدوث الزلازل و الأعاصير إلى سقوط الأمطار و توفير الأرزاق و منح الصحة و الأمراض.
إذا كان الأبوان (و المدرسة بعدهما) أقل إيمانا أو أقل زعما بمعرفة "الحقائق المطلقة" فإن الطفل يبقى أكثر تعطشا للمعرفة و تستمر تساؤلاته و رغم تعقد الظواهر فإنه يبقى واثقا في قدرة العقل على الإقتراب من التفسير الأكثر واقعية دون اللجوء إلى الغيبيات و قد يصير عالما في مجال ما أو على الأقل يبقى متحررا من التفسيرات غير العلمية و منفتحا على كل رأي قد يقربه من الحقيقة .
التفكير العلمي موحد للبشرية لأن له منهجا فيقلص من الإختلافات و يخففها بينما التفكير الديني يعدد الإختلافات و يعمقها لأن لا منهج له سوى تقبل ما يقوله السلف و هم متعددون و يزدادون عددا باستمرار.
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-26-2010, 11:22 PM بواسطة خاليد.)
12-26-2010, 11:14 PM
{myadvertisements[zone_3]}
بهجت
الحرية قدرنا.
المشاركات: 7,099
الانضمام: Mar 2002
الطوائف الدينية لا تتحاور فذلك يؤدي حتما إلى اندثارهما جميعا إن هي جعلت من العقل حَكَما عليها.
اقتباس:و الطفل لا يكتفي بمعرفة ما حوله بل يتأمل الوجود أيضا كأنه فيلسوف صغير لكنه يحس بالعجز فيلجأ إلى الكبار ظنا منه أنهم يعلمون ما لا يعلم فتنهمر الأسئلة على الأبوين و يبدأ العد العكسي لتواري الطفل الفيلسوف و الطفل العالم ليترك مكانه للطفل الناقل لثراث الأسرة ثم المجتمع و يبدأ لجوء الطفل إلى البحث عن الأجوبة عند الآخر عوض البحث عليها في البيئة و الطبيعة كما كان يفعل من قبل. و كلما كان أبواه واثقين من معتقدهما الديني أو غيره كلما ابتعد الطفل عن التأمل الفلسفي و التفكير العلمي
و لذلك قال "جون ديوي" أن التعليم يجب أن يعمل على "غربلة" المفاهيم و الأفكار التي استقاها العقل من المحيط.
كما قال محاضر أمريكي أن التعليم عندنا يعمل على تدمير الموهبة و تنمية الغباء و الببغاوية.
أحسنت يا خاليد
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-27-2010, 07:31 AM بواسطة هاله.)
الزملاء بهجت و خليل خليل و هالة.
يسعدني تقديركم لهذه التأملات و التي أعتقد أني مدين بجزء منها لما أقرأه هنا في نادي الفكر .
أستاذ بهجت،لقد قرأت لك أضعاف أضعاف ما تقرؤه لي بما لا يقارن و كنت لا أشارك في مواضيعك الدسمة تجنبا لتلويثها و الحط من مستواها. و قد قرأت لك و لزملاء آخرين سنين قبل تسجيلي و بعده، و كنت أفضل القراءة على "إضاعة" الوقت في الرد ، و لا أصدق أبدا أنه قد تكون مشاركتك هنا أقل فائدة .
الزميلة هالة، جزء كبير من التنشئة عندنا ترويض يسمونه تربية.
يبدأ الأطفال في استكشاف محيطهم، ثم يلجأون إلى اللعب بمحاكاة ما يشاهدونه في بيئتهم و في الطبيعة لكن الأسرة ثم المدرسة تطالبهم بالكف عن البحث و اللعب فكل ما يريدون معرفته يوجد لدى الكبار.
عدد قليل جدا من الأطفال يفلتون من الإنضمام إلى القطيع و يواصلون اللعب و منهم غاليلي على سبيل المثال:
عندما نتأمل صورة غاليلي و هو يدرس سقوط الأجسام يبدو لنا كطفل كبير سعيد بكراته .يقف أمام سطح مائل ، يضع الكرة تلو الأخرى على السطح في الأعلى و يتابع تدحرجها بعينين فاحصتين،ناسيا كل هموم الدنيا.كل اهتمامه منصب على كيفية انزلاق كرته على السطح الأملس.ما يهمه هو معرفة السلوك الذي تتبعه الكرة أثناء حركتها.يلاحظ أن السرعة تتزايد لكن لا أحد قبله يعلم مقدار تلك الزيادة و لا علاقتها بمدة انزلاقها و لا بالمسافة التي قطعتها و لو زعم أحد رفاقه بمعرفة ذلك لما قبل منه ذلك حتى يتأكد بنفسه.
هو طفل كبير مشاكس و واثق من قدراته ،مرتاب في معارف من سبقوه و لا يثق في الكلام المرسل كيفما اتفق و لو كان مقدسا.
عندما يطلق الأجسام من يده في الهواء تسقط الأجسام بسرعة و لا تلبث أن تصل إلى الأرض فيتحسر كطفل على عدم قدرته على قياس أزمنة السقوط بالدقة اللازمة فلم تكن الساعات دقيقة كفاية لذلك لجأ إلى لعبته المفضلة : ترْك كرات تتدحرج على سطح مائل و تتبعها بالملاحظة الدقيقة،بهذه الطريقة يستغرق سقوطها زمنا أطول و يكون لديه متسع من الوقت للملاحظة و أخذ القياسات ثم مقارنة النتائج.مع ذلك لجأ كما يحكي إلى الإستعانة بنبض معصمه عوض ساعات مطلع القرن السابع عشر كي يقارن مدات تدحرج الكرات على السطح المائل!
يحكي لنا غاليلي أنه ترك الكر ة البرونزية تتدحرج عشرات المرات ليقيس مدة قطعها السطح الخشبي الأملس من طرفها العلوي حتى طرفها السفلي ثم يعيد نفس اللعبة لكن يقيس مدة قطعها نصف طول السطح فقط و يكرر نفس الشيء مع رُبع المسافة أو أي قسمة أخرى ثم يستخرج لنا القانون الذي يقول أن المسافات تتغير مثل مربع المدات الزمنية.
لم يعتمد غاليلي على تخمين قانون ما بالتأمل المجرد كما فعل أرسطو و من اتبعوه و لم يسأل عنه السلف لأنه يعرف أنهم لا يعرفون لكنه سأل الطبيعة نفسها و أجبرها على الإعتراف بما تفعل.
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-28-2010, 01:57 AM بواسطة خاليد.)
12-28-2010, 01:55 AM
{myadvertisements[zone_3]}
فارس اللواء
باحث عن أصل المعارف
المشاركات: 3,243
الانضمام: Dec 2010