-٣-
عام ١٩٦٤، وفي الحديث الصحفي الوحيد الذي قبل جينيه أن يعطيه طرحت عليه مجلة "بلاي بوي" هذا السؤال" "- إلى أين تقود حياتك؟.." فأجاب:
"- إلى النسيان. إن معظم نشاطاتنا تتصف بالإبهام البلادة اللذين يميزان حالة المتشرد. ومن النادر أن نبذل جهدا واعيا كي نتجاوز حالة البلادة تلك. أما أنا، فأتجاوزها بالكتابة."
آنذاك، كان قد تخطى، ولو جزئيا، "المحنة" التي سببتها له دراسة سارتر العملاقة "القديس جينيه، ممثلا وشهيدا". فبعد ظهور هذا الكتاب الذي نبش أخفى خفاياه، وسمره عاريا تحت أضواء فوسفورية باردة، صمت جينيه وتملكه يقين بأنه لن يستطيع الكتابة بعد ذلك أبدا. ويصف جان كوكتو أطروحة سارتر بعبارات لا تخفي نفوره، وقلقه على مستقبل جينيه الأدبي. "خلال خمسمائة وثلاث وسبعين صفحة، يشق سارتر، الذي كمم وجهه، وارتدى ثياب الجراح البيضاء، جينيه المخدر والممدد على طاولة العمليات. إنه يفك الجهاز، يعيد تركيبه، ثم يخيط الشق. وها هو جينيه يتنفس حرا، لن يتألم حين يصحو من البنج، ولكن عندما يغادر طاولة العمليات، فإن جينيه آخر يظل على الطاولة، وينهض بدوره على واحد منهما أن يتطابق مع الآخر، أو أن يهرب." ولم يكن الصمت الذي امتد أكثر من ست سنوات إلا هذا التهرب الذي توقعه كوكتو، أما جينيه نفسه فيعلق على كتاب سارتر قائلا: "في كل كتبي كنت أتعرى، وفي الوقت نفسه كنت أتنكر بالكلمات، بالخيارات، بالوضعيات، وبمشاهد السحر. كنت أرتب أموري بحيث لا أؤذي نفسي كثيرا. أما مع سارتر، فقد عريت دون أي لطف (...) أمضيت زمنا حتى استرددت عافيتي، تقريبا كنت غير قادر على مواصلة الكتابة. إن كتاب سارتر خلق - في داخلي - فراغا سمح بنوع من التلف النفسي وهذا التلف هو الذ أتاح لي التأملات التي قادتني إلى مسرحي."
حاولت مرارا أن أستدرجه للحديث عن كتاب سارتر وهذه الأزمة، لكنه كان يتملص مغيرا مجرى الحديث. مرة وجم بضع لحظات، ثم قال:
- ولكن سارتر انتهى منذ عشرين عاما. غرق في لعبته الشمولية، وضيعته رغبته الشبقة في أن يصبح كاتبا "شاملا" وعالميا. قبل أيام زرتهما، هو وسيمون دي بوفوار. حدثتني سيمون أن سارتر شرب سبعة عشر كأسا من الويسكي، وأنه أعلن في نهاية السهرة "أنه الله". أتدري ماذا كان تعقيب سارتر! قال لي: "فعلا لقد اعتقدت أني الله، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يسيطر علي مثل هذا الاعتقاد."
وبدءا من هذه الحكاية كنا ننتقل إلى موقف سارتر المتردد إزاء القضية الفلسطينية، والعداء المخزي الذي تظهره سيمون دي بوفوار للعرب. ويمند الحديث بعيدا عن دراسة سارتر، وأزمة الصمت التي تلته.
أكان الجرح هش الالتئام، ويخشى أن ينكأه الحديث؟ ربما.. إلا أنني سأجازف وأقول إن مسألة التوقف عن الكتابة، رغم اعتراف جينيه نفسه بالتلف النفسي الذي سببه له كتاب سارتر، تجد جذورها العميقة في التناقض الداخلي، الذي أشرت إليه في المقطع الأول. النوسان بين الرفض-الكلمة، والرفض-الفعل. ويبدو أن جينيه سيظل يتمزق حتى مماته، لأنه لم يواجه أبدا إمكانية أن يعد جسرا بين هذين المستويين من الرفض. بالنسبة له، الكلمة والفعالية مجالان متنافران يمكن أن يتناوب المرء بينهما، ولكن يتسحيل أن يدمجهما في سياق واحد. وهذا وثيق الصلة بمفهومه الخاص عن الكتابة. فالكتابة ليست لها أية وظيفة اجتماعية أو سياسية، وهي في كل الأحوال ليست فعالية يمكن أن تؤثر في الواقع، وتفعل التاريخ.
- يحار المرء إذا كنت في مسرحيتك "الخادمات" تدافع عن الخدم ضد سادتهم، وفيما إذا كنت تقف في مسرحية "الزنوج" إلى جانب السود في صراعهم مع البيض أم العكس؟ ما أحسسناه هو الشعور بالضيق.
- أردت فقط أن أكتب مسرحيات، وأن أبلور انفعالا مسرحيا ودراميا، فإذا كانت مسرحياتي تخدم السود فإن ذلك لا يهمني. وعلى أي حال فإني لا أظن ذلك. أعتقد أن الفعل، والصراع المباشر ضد الاستعمار يخدم السود أكثر مما تفيدهم مسرحية (...) يجوز أني كتبت هذه المسرحيات ضد ذاتي، يجوز أن أكون البيض، ورب العمل، وفرنسا في مسرحية "الحواجز" وأني حاولت الكشف عما هو عبي في هذه الصفات... لكن وظيفة - العمل الأدبي - لا تهمني.
ولهذا فإن جينيه ينوس بين أن يقاتل مع الفلسطينيين والفهود السود، أو أن يكتب. أما أن يساوق بين النشاطين فذلك متعثر. ومن هنا فإن الكتابة عند جينيه تظل مشروعا قلقا وممزقا بالانقطاعات.
لقد أجاب بلاي بوي عام ١٩٦٤ بأنه يتجاوز البلادة اليومية بالكتابة، ولكنه عمليا، لم ينشر منذ عام ١٩٦١ حين ظهرت آخر مسرحياته "الحواجز" سوى بضع مقالات صغيرة، وملاحظات حول كيفية تقديم مسرحياته، فهل هي أزمة أخرى، أم أنه توقف عن الكتابة؟ كنا في أواسط السبعينات، وكان السؤال يلح علي كلما ألتقيه.
* * *
أخذنا نتحدث عن الحلاج، وكان لا يمل ذكره.
- كل متاعي حقيبة صغيرة فيها بعض الملابس الضرورية، أوراق، وترجمة ماسينيون لطواسين الحلاج. (وأضيف إليها بعد ذلك أل ليلة وليلة بالعربية - طبعة بولاق. أهديتها له فتلقاها كأنها كنز، وصارت جزءا ثمينا من متاعه القليل.) إني لا أشبع من قراءته. وبعض المقاطع أجرب قراءتها بالعربية.
سألت بدهشة: أتقرأ العربية؟
ابتسم وأجاب: -شوية
أضاف: إني أحاول أن أتعلم العربية. آه كم يشغفني أن أقرأ الحلاج بلغته! (هز رأسه وبدا على وجهه الأسف) ولكن لا أعتقد أن ذلك سيتحقق. لقد تعمقت اللغة الفرنسية كثيرا، وهذا ما يجعل تعلم لغة أخرى عسيرا علي. من قبل حاولت أن أتعلم اليونانية، ولكن لم أستطع أن أقطع شوطا كبيرا.. والآن أحاول تعلم العربة، إلا أني أعرف أن فرنسيتي تقف حاجزا بيني وبين أي لغة أخرى..
حديثه عن تعمقه في اللغة الفرنسية وضح في ذهني ملاحظة كانت مبهمة:
- على ذكر اللغة، أود أن أستفسر عن نقطة. هل أخطئ إذا قلت إنك تنقد اللغة وأنت تكتب بها؟
- هذا صحيح. وكل كاتب يجب أن يكون موقفه من اللغة نقديا. (لم يشأ أن ينعطف به هذا الاستطراد بعيدا عن الحلاج.. أضاف فجأة) هل قرأت ترجمة ماسينيون للطواسين؟..
- لم أستطع قراءتها.
- إنها نص بديع، لكنها لا تغني عن الأصل. لا شك أن نصا كنص الحلاج يفقد الكثير حين يترجم، لكن من الواضح أن الحلاج يدفن اللغة وهو يبدعها. إنه يدفن الدلالة المتداولة، ثم يحييها دلالة جديدة ومدهشة.
- هذه الملاحظة يمكن أن تنطبق على النصوص المتصوفة بعامة.
وكانت هذه العبارة بداية لحديث عن التصوف يتوهج بالحرارة والإعجاب. أخذ يتحدث عن اللغة الشفافة، وأنساق الرموز، والاستعارات التي تدمج المتصوف بلا نهائية الكون، والماوراء.. حاول أن يحلل دلالة الوجد، وعشق الهو-الذكر، وهذا الفضاء السري من الشعر والسحر والشبق المتأجج.
عقبت بعد أن فرغ من كلامه:
- هل أقول إنك تبحث في التجربة الصوفية عن ملاذ، وإنك تكتشف عند المتصوفين القرابة الروحية التي افتقدتها طوال حياة من النفي والفضيحة؟
- التجربة الصوفية غنية جدا، ولا أخفي اهتمامي بها.
- ما عنيته أبعد من ذلك. يبدو لي أن اهتمامك بالصوفيين وآثارهم يضمر بحثا عن ملاذ روحي، ويتوخى استعادة دينية مفقودة.
احتضن ذقنه براحة يده اليمنى، وغاب في تأمل طويل. حين تكلم، بدا وكأنه حسم ترددا مربكا:
- سأخبرك شيئا لا يعرفه إلا نفر قليل من الأصدقاء. إني أكتب عمل عمري، يبدأ الكتاب من رحلة إلى اليابان. عندما اجتازت الطائرة القطب الشمالي، وانحدرت متجهة نحو اليابان، تأججت مشاعري، وأحسست أني أدخل إلى عالم جديد. كنت أغتسل متخلصا من تراكمات الديانة والثقافة "اليهو-مسيحية". طبعا لم تكن هذه التراكمات صلبة، ولذا انجرفت بسهولة كقشور من الوسخ السطحي. من هذه التجربة أبدأ كتابي، لكن صيغة العمل مركبة ومعقدة. هناك نص مركزي متتابع، وحوله متون تتضمن نصوصا أخرى تتقاطع مع النص المركزي، أو تتوازى معه، إنها تأملات وشروح يتكامل بها النص المركزي، وتغني امتداده ودلالته (بعد فترة أطلعني على البروفات التي حملها من دار غاليمار. هو الذي يصحح تجارب الصف، لا حرصا على دقة التصحيح فقط، وإنما لأنه يرفض أن يطلع أحد على كتابه. قطع الورق كبير، وطريقة الإخراج تذكر بالطريقة المتبعة في طباعة "تفسير الجلالين"، ففي وسط الصفحة وضمن إطار مستطيل ثمة نص، وحول المستطيل نصوص أخرى صفت بحرف مختلف).. إن الغاية الأساسية التي أتوخاها من هذا الكتاب هي نقد الديانة "اليهو-مسيحية" ورفضها. وفي السياق أتحدث عن تجارب الشعوب الأخرى، والثراء الذي يمكن أن يكتشفه المرء في استجاباتها الروحية والسلوكية. كذلك ثمة فصول عديدة عن الفلسطينيين، والفهود السود، وحركات التمرد التي تهز وتخلخل العالم اليهو-مسيحي. إني أجد متعة كبيرة في كتابة هذا العمل. إنها متعة ذاتية، ولهذا أريد أن يعمني الصمت وألا يتداول أحد اسمي، حتى أنتهي من هذا الكتاب.
- ومتى يمكن أن تفرغ منه؟
انسدلت على وجهه غلالة من أسى شفاف.
- لن أنتهي منه قبل موتي، أعتقد أنه سيظل ناقصا، وعلى كل لا يهمني الأمر. فأنا أكتب من أجل متعتي الشخصية.. منذ فترة سألني غاليمار الأب: ألن أقرأ كتابك قبل وفاتي؟.. فأجبته: لا أظن؛ إلا إذا حاباني الموت، واصطحبني قبلك.
تأملت شيخوخته الوديعة، وأثقلني حزن خانق.
* * *
فاصل قصير
روى لي، وكنا نتحدث عن كتابه، هذه الأسطورة الفارسية القديمة:
"- كان في بلاد فارس ملك، له ولد سيرث العرش بعده. وحين وافت الملك المنية، وتأهب الغلام وسط الحزن والحيرة للجلوس على عرش أبيه، جاءه ملاك وسأله:
- هل تعرف هذه البلاد التي ستحكمها؟
أجاب الغلام مذهولا:
- لا.. لا أعرفها جيدا. ولا أعرف كيف أمارس الحكم؟
فابتسم الملاك وقال له:
- إذن تعال معي.
نهض الغلام، مضى مع الملاك الذي قاده إلى الجحيم.. وهناك بدأ يعرض عليه صنوف العذاب التي يمتحن بها الناس.
- بدأ الشاب يرتعش، وسأل خائفا:
- ولكن من هؤلاء؟.. وكيف يتحملون هذا العذاب كله؟..
فأجاب الملاك:
- إنك الآن ترى شعبك. هذا هو حال الناس الذين ستكون ملكا عليهم.
سأل الشاب وهو يحس بالهول:
- وكيف يمكن أن أخلص شعبي من هذا الشقاء؟
قال له الملاك:
- السبيل الوحيد هو أن تتحمل وحدك كل هذه العذابات.
تردد الغلام قليلا، ثم قبل أن يتحمل كل الآلام وحده. عندئذ رحل الشقاء عن بلاد فارس، وعاش الناس في عهد ملكهم الجديد عيش رغد وفرح."
بعد أن أنهى قص الحكاية سألني:
- بمن يذكرك الغلام؟
- لا أدري.. ولكن القصة تبدو مألوفة بالنسبة لي.
قال:
- ألا ترى أن الغلام هو صيغة المسيح. إن الأسطورة الفارسية تصوغ المسيح، قبل المسيحية بقرون!!
* * *
ص٣٥