في حين انشغل الإعلام العالمي بالمظاهرات المصرية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، لجأت اثنتان من كبرى الشركات المزودة لخدمة الإنترنت في الصين إلى حجب كلمة «مصر» في قوائم البحث، واضطرت خدمة «ويبوا» - الشبيهة بـ«تويتر» - إلى تعليق أي أخبار عن المظاهرات. الصين لديها حائط صد «firewall» هو الأكبر في العالم، بحيث إنه قادر على حجب مواقع خدمات مثل «فيسبوك»، «تويتر»، و«يوتيوب»، وغيرها. خلال الأسبوع الماضي نشرت
جريدة «غلوبال تايمز» الصينية افتتاحية تحت عنوان «الثورات الملونة لن تأتي بديمقراطية حقيقية»، حذرت فيها من أن الثورات التي تشهدها مصر ودول أخرى قد تأتي بقلاقل سياسية واقتصادية، وأن الديمقراطية الغربية - وإن كانت نجحت في الغرب - «فإن إمكانية تطبيقها في مجتمعات أخرى محل شك.. بعض الديمقراطيات الناشئة في آسيا وأفريقيا لا تزال تتلقى الضربة تلو الأخرى من الشارع الغاضب».
لا شك أن التخوف الصيني من انتشار العدوى «التونسية» و«المصرية» إلى آسيا له ما يبرره، فالسلطات الصينية تجادل بأن الأولوية ليست في استجلاب النموذج الديمقراطي الغربي،
بل في توفير التنمية والخدمات لأكثر من مليار إنسان. هناك الكثيرون بالطبع ممن يختلفون مع وجهة النظر الصينية التي تهمش الديمقراطية وحرية التعبير، ولكن المسؤولين الصينيين يجادلون بأن النهضة الصناعية قد انتشلت مئات الملايين من الفقر. في 1978 كانت نسبة الصينيين الذين يرزحون تحت خط الفقر تتجاوز 64 في المائة، وبفضل التنمية الاقتصادية، والانفتاح الاقتصادي الرأسمالي، انخفضت نسبة الفقراء إلى معدل 18 في المائة.
دائما ما يحب المسؤولون الصينيون أن يقارنوا بين النموذج الصيني والنموذج الهندي الديمقراطي، حيث إن الأخيرة، على الرغم من امتلاكها تجربة ديمقراطية عريقة فإن نسبة الفقراء فيها خلال الفترة نفسها من الستينات كانت مقاربة للصين، وأن الهند بسبب عوائق النقابات في نظامها الديمقراطي لا يزال الفقر فيها يتجاوز 41 في المائة، وفي حين أن الاقتصاد الصيني تجاوز هذا العام اليابان ليصبح الثاني في الترتيب العالمي، فإن الهند لم تبلغ إلا المرتبة 11 خلال الفترة ذاتها.
بإزاء النموذجين الصيني والهندي، فإن مصر وتونس أمام تحد صعب للغاية في ما يتعلق بالانتقال السلمي للسلطة، حيث ينبغي عليهما أن يعيدا تشكيل بنية الدولة في وقت تواجه فيه اقتصادياتهما تراجعا مقلقا. لقد أقدم الآلاف من النشطاء على صفحات «فيسبوك» في القاهرة على القيام بمظاهرات أشعلت احتجاجات شعبية، وحالة عصيان مدني غير مسبوقة، حيث انضمت غالبية قوى المعارضة إلى المحتجين في ميدان التحرير ليطالبوا بشكل حازم برحيل «النظام»، وعلى الرغم من كل التنازلات والتعديلات، والتعهدات التي قدمها الرئيس السابق، فإن المحتجين أصروا على رفض «الانتقال الدستوري»، ورحبوا بتعطيل الدستور وتسليم السلطة للمجلس العسكري الأعلى.
التاريخ وحده سيكون الحكم في ما إذا كان خيار المحتجين في الإصرار على إسقاط النظام بكامله في صالح المصريين سياسيا، واقتصاديا؟!
في الحالتين، التونسية والمصرية، قيل بشكل متكرر إن جدار الخوف قد كسر، ولكن للبعض أن يتساءل حول ما إذا كان جدار النظام - والأمن - قد كسر، بحيث بات المواطنون غير واثقين بأجهزة الأمن السابقة، وبحيث فتحت أبواب السجون للصوص والمخالفين للقانون. المأزق في حالات كهذه، أن انعدام الأمن، وضعف الحكومة الشديد، وعدم وجود سلطة نافذة للقانون تفتح الباب أمام سيل لا يتوقف من الاحتجاجات، والمظاهرات التي تبدأ من المطالبة بالديمقراطية، والحقوق السياسية، مرورا باحتجاجات قطاع البنوك والنقل والشرطة، حتى تصل لحد المطالبة بالتثبيت في الوظائف المؤقتة، أو تنفيذ الترقيات والعلاوات في القطاع العام. هذه الحالة من الفوضى، واللانظام، قد تعتبر أمرا طبيعيا في أي مرحلة انتقالية. بيد أن الخطورة تكمن في أن الاقتصاد، وهو سبب رئيسي في توفير المناخ الملائم لدعم الاحتجاجات الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية وارتفاع البطالة، وهما ظاهرتان عالميتان، معرض للتراجع الحاد خلال الفترة المقبلة.
لقد حقق جيل الشباب مطالب مهمة وتاريخية مستحقة في ما يتعلق بالمطالبة بالتعديلات الدستورية، ومكافحة الفساد،
ولكن العالم الافتراضي للإنترنت لا يعكس المعطيات الصعبة للواقع الاقتصادي على الأرض. ما بين عامي 2006 - 2008 حقق الاقتصاد المصري نموا يتجاوز 7 في المائة، وخلال الأزمة الاقتصادية العالمية حافظت مصر على نموها بواقع 4.7 في المائة. البعض يجادل بأن سياسة الانفتاح الاقتصادي قد زادت نسبة التفاوت الطبقي بين فئات المجتمع، هذا صحيح، ولكن الأكيد أيضا أن الإصلاحات الاقتصادية قد أسهمت نسبيا - بحسب آخر تقرير للبنك الدولي - في تحسين دخل ملايين المصريين البسطاء، حيث إن تلك السياسات أسهمت في المحافظة على نسبة الفقر دون حاجز الـ20 في المائة.
لا بد أن الكثيرين يحملون الرئيس السابق وحكوماته، التي امتدت لثلاثين عاما، المسؤولية، ولكن المقلق هو أن الاحتجاجات الأخيرة كلفت مصر حتى الآن 30 مليار دولار، بل إن القطاع السياحي الذي يمثل 10 في المائة من سوق القوى العاملة قد تعطل بشكل كبير. المشكلة ليست هنا فقط، بل إن دولة مثل تونس التي شهدت نموا اقتصاديا مميزا في السنوات الأخيرة قد تضاعفت فيها نسبة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، ويحذر الخبراء من أن نسبة النمو فد تنخفض إلى الصفر أو 1 في المائة في دول مثل مصر وتونس خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. هذه الدول تعتمد بشكل كبير على قطاع السياحة، وهذا القطاع معرض للتراجع،
ليس لأن السياح قد يعرضون عن قصد تلك الدول، هم قد يودون الذهاب، ولكن شركات السياحة والبنوك التي تمولها ستمتنع عن دعم تلك المشاريع لمخاوف تتعلق بالتغيير الذي قد يطال التشريعات والقوانين التي تتعلق بحق الملكيات والاستثمارات الأجنبية خلال مرحلة التحول الديمقراطي التي قد تتعرض لها تلك البلدان.
في موضوع غلاف لمجلة «نيوزويك»، جادل البروفسور فؤاد عجمي (14 فبراير/ شباط) بأن: «منظري الواقعية السياسية كانوا يقولون للعرب إنهم يلعبون بالنار، وأن وراء جدران السجن خطر الفوضى، ولكن طوبى للعرب الشباب، فإنهم لا يستمعون لذلك النداء». وفي مجلة «نيوستيسمن» البريطانية كتب أولفيه روا - مؤلف كتاب «نهاية الإسلام السياسي» - (14 فبراير): «عملية التغيير ستكون بلا شك طويلة وفوضوية، ولكن عهد الاستثناء العربي - المسلم في السياسة قد انتهى». كلاهما محق، ولكن الطريق سيكون طويلا، وفوضويا، وبغير استيعاب الدروس المنطقية لتأسيس الدولة المعتدلة والناجحة اقتصادية فإنهم قد لا ينجحون.
العبرة ليست في الحصول على الحرية، وحق المشاركة السياسية، ولكن الأهم هو تحقيق النهضة الاقتصادية، وانتشال ملايين الفقراء من وضعهم المزري، وهذا يستلزم البعد عن المثالية الخادعة، والأحلام الافتراضية لثوار الإنترنت، والعمل على أرض الواقع لتحقيق بناء الدولة بشكل عملي.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=608565&issueno=11768