«السفير» ترصد مواقف من الزيارة غير المسبوقة
«خصوصية» حماه ... السفراء و«لبننة» سوريا !
جانب من تظاهرات حماه أمس نقلا عن قناة «اوغاريت» (أ ف ب)
لؤي حسين في دمشق
غدي فرنسيس
حين بدأت الأزمة السورية السياسية، أصبح للبنان رمزية خاصة على الألسنة وفي التصاريح والشاشات. لبنان في السياسة السورية، هو تلك الخاصرة الخاضعة لانتهاكات الخارج. لبنان هو المحاصصة الطائفية السافرة والخطاب التحريضي والفتنة... والسفارات المتآمرة! السفير الأميركي روبرت فورد في حماه، فهل بدأت «لبننة سوريا»؟
في «لبنان المخاوف»، يستطيع السفير الأميركي أن يزور أي منطقة وأي زعيم يريد، ويصرّح ويطلق توجيهات دولته. في «لبنان المخاوف» الرأي العام يهادن التدخّل بينما تتعامل بعض الجهات السياسية مع الخارج بعلانية وقحة إلى حد الاستقواء بأميركا.
هنا في دمشق، السياسة فتحت عهدها الجديد، المعارضة تجتمع وتصرّح، الخارج يبدي رأيه، التغيير الدستوري في طريقه... سوريا مقبلة على جمهورية جديدة. على باب هذه الجمهورية الجديدة في ساحة التظاهر الأكبر. قرع السفير الأميركي جرس الإنذار الأول، حمل نفسه وزميله الفرنسي اريك شوفالييه إلى حماه...
صبيحة رحلة انتهاك السيادة تلك، تباينت المواقف. لؤي حسين، باسم معارضة سميراميس «المستقلّة»، غازل في السياسة ولم يندّد. بدوره، «المعارض المستقل» ميشيل كيلو اعتبر أن النظام يحمّل زيارة السفراء أكثر من حجمها. حسن عبد العظيم متكلّماً باسم الأحزاب المعارضة حافظ على النفس الرافض في مخاطبة التدخّل الخارجي، أما النظام، فأخذها ذريعة أخرى، وقوة مضافة لمحاربة من يريد إسقاطه: «أرأيتم التدخّل سافر... المؤامرة... التواطؤ»....
في السياسة، ماذا فعلت زيارة الأميركي؟
الحموي الذي لا يحق لأحد سواه أن يتكلّم عن حماه ومنها، رفع لافتة في مدينته تقول: «الحرية تبدأ في حماه وتنتهي بتحرير فلسطين»...
كيلو ولؤي حسين:
معارضة غير ممانِعة
منذ أن سطع نجم لؤي حسين في مؤتمر «سميراميس» للمعارضين المسقلّين، سادت دمشق همسات متنوعة وإشاعات، إما عن علاقته بالنظام وإما عن علاقته بالخارج. دكتور الجامعة لم يكتفِ باعتبارها علاقة بل بوضوح قال: لؤي حسين هاتف بثينة شعبان فقالت له إنها مشغولة، ثم اتصل السفير الأميركي بها مستنكراً وطالبها بلقاء حسين.
تلك شائعات، ومثلها شائعات كثيرة وتخوين كثير يطال كل من يقول لا للنظام السوري. لكن وائل السوّاح، موظف في السفارة الأميركية علناً... وصديق لؤي حسين علناً. ربما هذا سبب من أسباب الشائعات. وبالأمس في مكتبه الصغير في شارع العابد، سألت لؤي حسين «من هو أهم مسؤول زارك في هذا المكتب المتواضع؟»، فأجاب سريعاً: «سفراء»...
تعليقاً على زيارة السفير الأميركي وخليله الفرنسي إلى حماه، يرفض لؤي أن يقدم جواباً واضحاً سريعاً بالتنديد أو الترحيب، ويسلّم موقفه نصّاً على ورقة تقول: «كان من الأجدى لو ذهب إلى حماه عدد أكبر من السفراء، وليكن بينهم أكثر من سفير عربي، ليشهدوا على أن تظاهراتنا سلمية وأنها تظاهرات سياسية وليست أعمال شغب. طالبنا دوماً بأن يتاح للصحافيين تغطية ساحات الاحتجاج، وبتواجد مراقبين حياديين لمراقبة ما يجري على الأرض لتأكيد قولنا بأن ما تشهده ساحاتنا هي تظاهرات شعبية، ولتفنيد ادعاءات السلطة بأننا مجموعات شغب قليلة. لكن ربما رغبة الأميركيين والفرنسيين بإبراز دورهم أدت إلى محاولة النظام، كعادته، اتهام انتفاضتنا بالتآمر. وهذا كلام مناف للحقيقة والمنطق، فأهلنا في حماه لن يستجيبوا إطلاقاً لأي دعوة من الولايات المتحدة»... يفسّر لؤي موقفه: «يهمني من كل هذه الزيارة أنها وفّرت شهودا مهمين على سلمية التظاهر في حماه».
وفي اتصال هاتفي، بصم ميشيل كيلو على موقف لؤي حسين مضيفاً: «النظام يحمّل الموضوع اكبر من حجمه، فهؤلاء السفراء ذهبوا إما بصلاحية وإما بموافقة، وإما أنهم زاروا تلك المناطق في السابق من دون أن يستنكر أحد». لا رفض مباشرا في حديثه، إلا أن كيلو يختم: لا نحن ولا الحمويون نريد أن يتدخّل احد في شؤوننا.
رلى ركبي التي سبق لها ان شاركت في تظاهرات حماه، بدورها بَصَمَت على حديث ميشيل كيلو. إبنة البيت الحموي التاريخي علمانية، لا نقاب فوق رأسها، تدخّن سيجارها الثائر وتقول: نحن لا نريد دعماً خارجياً. نريد من الخارج أن يتوقّف عن دعم النظام وربما الزيارة تريهم أرض الواقع.
حسن عبد العظيم والأحزاب
في حماه: ممانعة ممانعة
في حماه حيث إرث السياسة لا يمكن لأحد أن يصبغ الحراك صبغة إخوانية. رغم جرح الثمانينيات الذي لم يغب من ذاكرة الحقد الحموي على النظام، إلا أن الإخوان المسلمين كتنظيم، لا ارض لهم. المستشفى اسمه أكرم الحوراني، والاشتراكيون العرب موجودون على الأرض. لهم حقوق مغيبة وأرض مسلوبة ومعارضة تاريخية مع النظام. هؤلاء لن يقبلوا بالسفير الأميركي.
القوميون السوريون رغم سقوط تنظيمهم، لا يزالون في بيوتهم في جميع الأحياء الحموية... في ليلة ذكرى استشهاد قائدهم أنطون سعاده، هؤلاء لن يقبلوا بالسفير الأميركي. الشيوعيون واليساريون، على أنواعم وتفرّعاتهم المعارضة والموالية يقرأون الصحف ويتغلغلون في المجتمع المتشدد الحموي فنّاً وعلماً ويوميات، هؤلاء لن يقبلوا بالسفير الأميركي... الناصريون رغم ترهّل أحزابهم وغبار السنين فوق هيكلياتهم، لا يزالون يعلقون صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في بيوتهم، هؤلاء لن يقبلوا بالسفير الأميركي... لذلك فلا خوف على حماه.
حتى الآن، قيل إن أحداً من الحمويين لم يسمعه كلمة تعجب خاطره. السفير التقى الناس. بعضهم رفع لافتة تقول له إنهم لم ينسوا فلسطين.. وبعضهم الآخر أجاب بوقاحة: «روح ساعد النظام، ما تجي تساعدنا».
ويفيد أحد الناشطين الصامتين في حماه أن السفير الفرنسي زار المدينة ثلاث أو أربع مرّات من قبل... لكن احداً لا يعوّل عليه، لان الحمويين ليسوا نعاجاً.
بدوره، الاشتراكي العربي الأول في سوريا اليوم، قائد ما تبقى من أحزاب معارضة بعد عقود الطمس والسجن، حسن عبد العظيم لا يزال يصرّح، لا بل يقاوم هجمة إعلامية حوله. المعارض السياسي الأبرز على أرض التظاهر يعزف على حماه من دمشق. في اتصال هاتفي مع «السفير» أمس صرّح باسم المعارضة: زيارة السفراء هي نوع من الضغط.. دفع للنظام باتجاه حل سياسي. فهناك شعور بأن أميركا والغرب لا يعطون مواقف حاسمة. لكننا اعلنّا من قبل: نحن ضد التدخل الخارجي ولا نعوّل عليه كثيراً، نعوّل على أن الشعب السوري مصمم على التغيير. هؤلاء السفراء يتصرفون وفق مشاريعهم. مواقفهم ترتبط بمصالحهم الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية.
في السياسة:
مدينة نهر العاصي
في السياسة وحديث السياسة يوم أمس، اختلفت تقديرات العقول المعارضة والموالية، اللّماعة والصامتة، لزيارة السفراء إلى حماه. حماه هي نموذج ثورة الريف السوري. وفي زيارة سابقة إلى مناطق الشمال، كان البعض في حمص يرمي رائحة طائفية الخطر المذهبي، والبعض في جسر الشغور يحمل سلاح «الجهاد» ضد النظام هذه المرة، حلب كانت صامتة لأسبابها الخاصة الكثيرة، وبانياس كانت مقسومة «شرقية وغربية»... لكن حماه مختلفة!
حماه، ليست تظاهرات عشرات المندسين في جامع ما من فائض الجوامع التي أثمرها عهد البعث، وليست امتدادا للمشروع السني المسلّح من شمال لبنان، وليست امتدادا لمصالح الأتراك من جنوب تركيا.. حماه هي الذاكرة والجرح، وهي المدينة الكبرى التي ليس فيها احد معجب بالنظام. إذا كان حديث المعارضة في مقاهي اللاذقية يعرّض صاحبه لاضطهاد الأكثرية الموالية، فحديث الموالاة في مقهى حماه ومكاتبها هو الذي سيعرّض صاحبه للاضطهاد. في حماه، حين نزلت مسيرة تأييد، كسّر الأهالي سياراتها. في حماه، حين تنزل تظاهرة لإسقاط النظام، تنزل الآلاف المؤلّفة. ينظّم الأكل والمياه، يفرز الشارع قيادة تنظّمه وتحميه... في حماه، انتفاضة حقيقية يعرفها النظام جيّداً ويدرك طبيعتها... وعلى حماه، وصمة الإخوان المسلمين واغتيالاتهم... لذلك، لا الشارع حمل سلاحه القديم، ولا النظام اعتمد قسوته المعهودة معها. في اللحظة العاطفية الكبرى، قد توضع حماه في أي إطار سياسي، فلا حزب معارض أساسي بعد عليها. الخيار عند النظام. إذا أرادوا تسمية حماه «حزب نهر العاصي» أو «حزب الإخوان المســلمين»، ذاك رهن بذكاء اللاعب والأوراق. حماه هي الساحة.
اليوم، يزورها السفير، فيرى محلل سياسي «من بطن النظام السوري»، أن في ذلك إفادة كبيرة: قدّم بزيارته خدمة كبيرة للنظام وكشف عن دور أميركي ما وبالتالي غذى وضعنا هذا الجزء في سياق الأحداث حيث سنرى أن النظام يستفيد من أخطاء خصومه:
جسر الشغور وسلاحه كرّس صورة «مجرمين قتلة»، وهذه ورقة في يد النظام.
التدخل التركي شد عصب الوطنية السورية، وهذه ورقة في يد النظام.
العرعور كرّس صورة «إسلاميين ظلاميين»، وهذه ورقة في يد النظام.
واليوم، السفير الأميركي كرّس التدخّل الخارجي، وهذه ورقة مضافة في يد النظام.
لهذا السبب، قوة النظام السوري في أخطاء خصومه، وضعفه في أخطاء فريقه.
عشية مؤتمر الحوار الوطني الأول، الذي لن تحضره المعارضة... ذلك كان الحديث السياسي، السفير وزيارته إلى أرض المشكلة. هناك من مانع وهناك من رحّب وهناك من غازل وهناك من رفض... دمشق لا تعرف معالم حلّها بعد، كل ما تعرف أنها باتجاه مرحلة تغيير حزب البعث بالشكل الذي هو عليه.. يحكى عن بعث «البعث» من جديد بحلّة مختلفة، يحكى عن تعيينات جديدة في القصر بدءاً من موقع المستشارة السياسية والإعلامية في الرئاسة السورية بثينة شعبان، يحكى عن تغيير ما.
وتحت صور ذلك التغيير، ما بين صورة تونس ومصر وليبيا واليمن، هناك سفير غربي يتدخّل في ما لا يعنيه. بعين بيروتية في دمشق، الخوف ليس من مشهد ليبي في حماه، الخوف من مشهد سياسي على الطريقة اللبنانية.
«السفير» في حماه:
للحرية غضبها ومواجعها!
احد شوارع حماه «مغلق» بالحجارة والإطارات («السفير»)
غدي فرنسيس
منذ شهر، حضنتنا حماه، بتعاضدها الاجتماعي حول جراحها. كانت التظاهرات السلمية في أوجها، وكانت المطالب المحقة تقرع الحق في كل النفوس. لم يكن باستطاعة الزائر ألا يعود مغرماً بهذه النهضة الحموية.
أمس، بعد جولة ست ساعات في المدينة، كانت طريق العودة ترسمها الدموع والقلق: حماه تحت حصار أهلها... نوافذ البيوت مقفلة... مئات العائلات فرّت خوفاً من المجهول الآتي. السواطير تلف المدينة... وهذه ليست أي مدينة. هذه حماه، وجراح حماه وذاكرة إبادة جماعية. هذه حماه وآلاف حماه وزيارة حماه الدبلوماسية. هذه حماه التي تتذرع بتاريخها... لتعزف لحناً خاصاً من دون قيود.. كانت في عقاب منذ 30 عاما، وخرجت من العقاب بفائض حقد يكفي لإشعال ثورة، ويدوس على بوصلتها.
في البيت الذي كان يدافع بغضب عن الثورة الحموية منذ شهر، ثمة شاب لا يريد أن يترك أهله وحدهم. لم يعد يعلم ممن يخاف على من.. يرى الحرية التي انتفض معها، تشوّه حياته ومدينته ومستقبله وعمله، ولا يستطيع ان يدعو للقوة او لقمعهم، فهو يفهم جراحهم... «الوضع سيئ... الوضع سيئ جداً، وقد خرجوا عن السيطرة».
في بيوت أخرى، أقفلت الأبواب ولجأت العائلات إلى تخوم المدينة أو المحافظات القريبة. ولم يقتصر النزوح على «الأقليات الطائفية»، بل إن أهل حارة «الشريعة» و«غرب المشتل» أغلقوا النوافذ الحديد والخشب وخرجوا من المدينة هم أيضا. فلم يعد مسموحاً أن تفتح المتاجر، ولم يعد مسموحاً أن تتجول، ولم يعد مسموحاً أن تقصد المقهى، ولم يعد مسموحاً أن تعيش... حماه تمارس هوايتها الجديدة وتلبس ثوب «قندهار» سوريا، كما يردد البعض لوصف بعض احيائها، وتحيّي السفير الأميركي وتلف عنقه بالزهور.
بعد قيام الجهاز الأمني باعتقالات في المدينة، نزلوا وأغلقوا الطرق لمنع الأمن من الدخول. «عصيان مدني» في عرض الطرق، جميعها. يقولون إنهم لن يخرجوا قبل إطلاق سراح هؤلاء، لكنهم لم يقولوا أسماءهم أو أعدادهم. اللجان الشعبية تستمتع بالسلطة الجديدة المكتسبة وتتعرّف إلى لباسها الجديد: «شبيحة ضد النظام». وفي هذا الوقت، تتصاعد علامات الاستفهام الحموية: إن أحدا لا يفهم ما الذي يجري...
من سيارة حموية إلى أخرى، هنا رحلة الساعات الست في مدينة الغضب المحرر.
حامل الساطور الصغير
تحت إبطه ساطور أضخم من زنده. ينظر من فوق لحية سوداء من دون شاربين إلى لائحة بأرقام السيارات المسموحة... يتفقّد السيارة، فيطلق المراهق سراح الأسرة الحموية في طريقها نزوحاً إلى السلمية. هذا حاجز من أصل الحواجز الكثيرة. أحجار وحديد وسواتر وسكاكين وسيارات محترقة في كل الشوارع... من أول المدينة وصولاً إلى حي الجراجمة، تكاد لا تستطيع السيارة أن تعبر في خط مستقيم واحد. كأنها ميدان لعبة جديدة مفادها: حصار أهل حماه المفروض بالقوة والترهيب على حماه.
هناك أكثر من مئة حاجز في كل أنحاء المدينة، وعشرات الشبان والرجال يتكوّمون حول السيارات والأفراد لتفقّد الهويات. سلاح أبيض، لكنه سلاح، وتحت ذراع شاب لم يبلغ العشرين من العمر، عصي في أيادي الأطفال والمراهقين. الأكبر سناً يجلسون على كنباتهم أو يفترشون الأرصفة... بينما ينهمك الشبان في مهمتهم الجديدة: لعب دور الأمن السوري البشع، وهذه المرّة بلحى طويلة ومن دون صفة رسمية ولكن بتهذيب.
وصولاً إلى الجراجمة، يفرض «العراعرة» البسّامون حاجزا مغلقا قرب بيت شيخ الفتنة الذي يحاضر في الثورة من منفاه السعودي. «عد أدراجك» مع ضحكة حموية بسيطة...
نعود صعوداً في احد الأحياء البائسة في الجراجمة. ولد صغير في خلاء الشارع يلعب تحت حرّ الظهر بالمياه. يهددنا «بالرش» ممازحاً. تقترب منه السيارة، فيرفع إبهامه من يمناه على شكل مسدس ويصرخ ضاحكاً «حرية».
بعد لعبة «الحرية» نصل إلى مفرق أسود بآثار العصيان المدني المستمر منذ الاثنين الماضي. هنا الطريق ليس مسدودا بالرجال أو الحجارة، بل عملت «اللجان الشعبية» على غرز رؤوس الحديد في الطريق لإتلاف أي سيارة تحاول المرور. شتائم لآل الأسد وحزب البعث طبعت على كل الحواجز. العلم السوري يظهر هنا او هناك... والذقون الطويلة تلبس «جلابياتها» وتفترش الطريق... حواجز «سوداء» عند كل المفارق... وتفقّد مستمر لبطاقة الهوية الحموية. يمازح السائق «لو قلنا له معنا السفير الأميركي، لما أوقفنا».
«كوماندوس»
للقاء شباب التنسيقية
هنا، الخوف بالمقلوب. إن كنت صحافيا في دمشق، ستكوّن ملاحظاتك على النظام وسيعيش في رأسك رجل استخبارات صغير. ستخاف من أي كلمة تكتبها في انتقاده. أما في حماه، ستخاف من أي ردة فعل ثأرية إذا انتقدت الثورة. وسيكون رجل الاستخبارات الصغير في رأس»التنسيقية»، سيقول لك «هذه ليست للنشر»، «وهذه ستكشف لهم من أنا»... سيعطيك إسماً «وهمياً».. وسيكذب كثيراً في تصريحه...
في إحدى سيارات الثورة الحموية، نلتقي بمسؤول الإمدادات في احد أحياء العصيان الحموي. عند السؤال يفيد أن الإمدادات هي الأكل والشرب والمواد التموينية والطبية... إلخ. وطبعاً لدى السؤال عن مصدر التمويل يقول «معك 200 ليرة، نأخذها، معك مليون نأخذه... وإلخ».
يقول الحاج الأربعيني، الجميل بعينيه الخضراوين وكلماته البسيطة، «لقد ولدت على كره حافظ الأسد ثم حين أتى إبنه أحببته لأنه مختلف. ما كنا نحلم يكون عنا «موبايل» بسوريا، وسيارات من الوكالة، ومشاريع سكنية... بعدين طلع الموبايل لقرايبينو (اقاربه) مو إلنا، والسيارات مو إلنا، والشقة مو إلنا... انا مسجّل عشقة وما طلعلي شقة لأن ما عندي واسطة».
كيف تخرجون من الشارع؟ يجيب الحاج أن مطالب الحمويين هي الإفراج عن المعتقلين وضمانة بعدم اعتقال غيرهم. من هم أولئك المعتقلون؟ هنا يجيب «فليفرجوا عمن لديهم في الاول ثم نتحدث عمن لا يزال لديهم».
كيف يسقط النظام؟ يتخيل الحاج ان ذلك بتسليم السلطة إلى نائب الرئيس وتشكيل حكومة جديدة... يترجّل قرب بيته.. فنرمي عليه سؤالاً أخيراً بالمزاح «ماذا لو لم يسقط النظام؟»...فيجيب سريعاً بالضحك «بلى سيسقط».
في سيارة حموية أخرى، ننطلق من حي «الشريعة» حيث الأغنياء. هنا للحصار شخصية خاصة تليق بسكان الشارع. فلم تغلق بعد أواصر كل المفارق وما زال «العصيان المدني» على المداخل الأساسية. صعوداً إلى إحدى ضواحي المدينة، نصل إلى حيث «اللقاء الأمني المرتقب مع ثلاث من قيادات الثورة الحموية».
حوالى 10 دقائق تفتح للعقل أن يتخيّل اشكالهم. يسأل نفسه المترقب «هل يسلّمون باليد او انهم إسلاميون؟ هل انظر في عيونهم أو أن ذلك «حرام»؟ هل «التنسيقية» هي حقاً تملك أن تتكلم باسم الثورة ام أنهم مجموعة ناشطين على الإنترنت؟ كيف ينشطون ولا إنترنت في كل المحافظة؟ يستمر السؤال في طبخة العقل إلى أن تصل إلى «المكان السري» سيارة التنسيقية بوجوهها الثلاثة. تكاد تضحك من أسئلتك لدى رؤية نموذجهم.
فالتنسيقية الحموية تلك، ثلاثي شبابي يكثر استخدام «الفايسبوك» وما زال يتعلّم الحياة السياسية. أكبرهم يبرر لهم أخطاءهم الدائمة ويقطّبها «نحن كنا في موت سياسي منذ 30 سنة لذا لا نعتب على الشباب... إذاً ماذا يمثّل هؤلاء الشباب الذين سمّوا أنفسهم اسماء مستعارة أجملها «سعيد».
يجيب «سعيد» العشريني: نحن في التنسيقية نقوم بدور التشاور مع الكتل والمجموعات التي على الأرض، نصوغ البيان، ونعرضه على الباقين.
والكتل تلك هي مجموعات الحارات الحموية. وهنا يعددها سعيد ويشرح انتماء كل واحدة:
«كتلة أحرار حماه» تشكّلت بداية في حي الجراجمة، «أحرار حماه» و«تجمّع نادي الحرية» و«فجر الثوار الأحرار» للمنطقة الشمالية أي شارع الحاضر وحوله، و«أحرار مدينة حماه» في المنطقة الغربية.
يقر الشباب بأنهم لا يمثلون الشارع، كما يقول احدهم إن هناك تجمعات كبيرة لا اسماء لها، ولا يمكن لاحد سوى امراء الشوارع ان يجيّروا الناس إلا ان «مهامنا تنسيقية بحتة، برسم الخطط وإعداد البيانات»....
واحد له خال مقتول في الثمانينيات وواحد له أعمام قتلوا، وواحد قتلوا والد زوجته... الجرح الحموي القديم متفش في جميع العائلات... والحقد نفسه حتى في صفوف الشباب الذين ولدوا بعد الأحداث. ماذا تهتفون في التظاهرات؟: «يلعن روحك يا حافظ»، أهذه هي قضيتكم؟ يضحكون!!! لا ولكن الهتاف طيّب. أطيب شيء أن تصعد في التاكسي وتقول «خذني على التظاهرة».
حين تسأل التنسيقية عن رؤيتها حول سقوط النظام، يسرع واحدها للإجابة «سينهار الاقتصاد، ويفقد شرعيته الدولية، وهكذا. أما العرعور، فيعتبرونه مهما ويلقبونه «بوق الثورة» إلا انهم حين رأوا صورته في التظاهرة، منعوها سريعاً: «قلنا له منخلص من صورة منعلّق صورة!».
حين يسألون عن مدى صحة مزاعمهم «الحرة» تحت غيمة العصيان المدني السوداء الذي أخرج ما لا يقل عن مئات العائلات الحموية من المدينة تكون الإجابة... «لن تستمر الأحوال هكذا، الجمعة ستكون تظاهرة كبيرة لأجل أن نبرهن أننا لم ننزل من اجل السفير أو سواه. والسبت ستبدأ الأسواق بحياتها... وربما تبدأ اللجان الشعبية بتقليص عصيانها إلى الإحياء السكنية».
في حديثهم تقرع الأخطار الاجتماعية على أنواعها: أولها العرعور وثانيها السلفيون الأتراك الجميلون، وثالثها تصنيف الطوائف وفرزها، ورابعها الاستعداد للفوضى. لكنهم شباب بأحلام قيد البناء، ليسوا تركيا وليسوا اميركا وليسوا العرعور. حلمهم بحاجة لامر من إثنين: إحباط كبير... أو نصر. وإحباط احلامهم لن يكون سوى لغم مؤقت ينفجر حين تولد احلام اولادهم.
فيلم حموي طويل
فقط في حماه، تطلب سيارة أجرة، فيأتي السائق بأمه وإبنته وإبنه الصغير لإمتاعك في الرحلة. انطلقنا باتجاه دمشق، عبوراً بالحواجز الكثيرة، لنعرّج اولاً إلى «الضاحية» حيث بيت الحجة الوالدة. تنزل الستينية بنقابها الأسود وولدين صغيرين. السائق، يداوم نصف نهار في «اللجان الشعبية»... والدته محللة سياسية تداوم على تلفزيون «الوصال» دواما كاملا، وأولاده: حماسة طفلين جميلين، «آلاء» و«محمد» سيشاهدان الشام للمرة الاولى في حياتهما.
تبدأ الحاجة في «تذاكيها السياسي» بتقييم زيارة السفير الأميركي روبرت فورد: لو لم نستقبله هكذا لكانوا قالوا إن الحمويين قاتلون ومجرمون... ثم لولا السفير الأميركي لنزلوا علينا بالدبابات، الله لا يوفقهم... والسفير كريم وجميل و.... يستمر الدرس السياسي ثم تبدأ المساءلة الطائفية: من أين من لبنان...
بعد العبور من حماه والرستن قرب آثار تمثالين أزيلا... نصل إلى تلة عالية يقف فوقها تمثال لحافظ الأسد يحيي القرية من اليسار، فتدل الطفلة بأصابعها لتلفت نظر جدّتها «أنظري يا تيتي»، لترد الحاجة «لسه ما شالوه من هون؟ وين هون يا عمر؟ فيرد السائق: دير عطية».
بعد دقائق طويلة من هذا السرد والحوار الملتبس ببساطة الأسرة الحموية المحببة... يعلو صوت «أليسا» تغني: لو ما تجي عنوم عينيي... كيف لهذه الحاجة التي حرصت على تغطية معظم وجهها باستثناء النظارات ان تحلل لنفسها سماع الأغاني وبصوت مرتفع، ما هو هذا الإسلام الحموي المنفصم الشخصية. متشدد ومنفتح في الوقت نفسه.
ننسى تحت الموسيقى وجود بعضنا البعض، فتنزلق للحديث عن حصص الاكل والتموين الذي حصل عليها «عندي 20 كيلو بالثلاجة» يشتكي عمر من فائض باذنجان وبندورة... تسعل الحاجة، لترد بصوت مرتفع «لو بتشوف الرز عم يبيعونا ياه اغلى 10 ليرات ليه؟» فيرد إبنها «استغلال». السكر.... فيرد الإبن «استغلال»... ونعود إلى الدرس السياسي على لسان الحاجة التي زارت دمشق ثلاث مرات طيلة سنوات حياتها الستين. هناك بطل للثورة، تؤكد الحاجة ولكن «في حدا كبير أكيد بس ما منعرفو...» نسأل «هل هو العرعور؟» فترد: أكيد لا، العرعور ما منعرفو ولا بدنا ياه.
«هل ستحررني انا هذه الحاجة؟» وصولاً إلى دمشق، يثقل انفصام حماه كاهل الزائر... إسلامية لا إسلامية، سلمية لا سلمية، حرية لا حرية، أميركية لا أميركية، يدخل علينا الجيش او لا يدخل؟
يحكى عن وفد حموي قابل «آصف شوكت»، وتفيد المصادر المطّلعة عن لقاء جمع مجموعة تجّار بأحد المقربين من الرئيس. يحكى عن دور المحافظ الجديد ومحاولة إفشاله، ويحكى عن تغيير ما بعد يوم الجمعة. وتحت كل ما يقال، ليس في وجه حماه ما يدلّ على قدرة التحاور أو الإقناع... فربما ما زال التحاور في المكان الخطأ. لم يكن في حماه وحواجزها أي ممنوع من رؤوس الدولة ولم توقّر احدا...لكنها تخاف كثيراً لانها تشعر للمرة الثانية في التاريخ، انها قد تدفع الثمن وحدها. تنظر إلى الشام وحلب، فتشعر بوحدتها اكثر.
هكذا هي حماه اليوم، لا تشبه أحداً سواها في سوريا، وعلى وجهها ملامح «قندهار». بعد قهر عقود ثلاثة، تذوّقت ما يشبه طعم الحرية، وقد تسيء استخدامها. بعد قمع عقود ثلاثة، تذوقت طعم السياسة، وقد تنزلق البوصلة... وبعد جرح العقود الثلاثة مهما فعلوا، لا يستطيع النظام أن يفتح جراح الحمويين من جديد، ولكن إلى متى يستطيع ان يشاهدها تبتعد وتخرج من القلب؟!
وبينما يستفيق المجهول في عيون الشباب على الحواجز، تستطيع بكلمتين ان تطيّب خاطرهم وتقلب «الغضب» الذي فوق الساطور إلى ابتسامة. الحموي أكثر من صارع الأنظمة في تاريخ سوريا، ولذلك هو أكثر اللاعبين مهارة... ولكنّه لم يربح يوماً.. بل دفع جراحه عن كل سوريا.
خطاب معارض في دار النظام: ارتفاع السقف بغياب الأعمدة
آلاف المتظاهرين المؤيدين للأسد يرفعون علما سوريا طوله 16 كيلومترا في اللاذقية أمس (أ ب)
رامي عمران
غدي فرنسيس
لم يعد هناك من جديد في المشهد السوري، لا الحوار ولا طاولاته تضيف شيئاً إلى اللغة السياسية السائدة: الحل الأمني خاطئ، البطل كسر الخوف، لكنه ليس طاهراً بالكامل، المؤامرة ليست هاجساً فقط، السلطة تغرق في الأخطاء، المعارضة خالية من البرامج. شارع الاحتجاج أكبر من أن يتسع في إطار أحد. السقف في ارتفاع، والأعمدة غائبة.
الخطاب يكاد يصبح واحداً، والاختلاف هو في موقع المنبر والوجوه... اللعب السياسي في أشدّ مواسمه والأقنعة وفيرة، ولا قائد أو بطل من أرض الغضب. ولا ملامح واضحة لآلية التغيير. التلفزيون السوري عرض «مطالبة بتفكيك النظام الأمني» على مسامع المواطن من جلسة الحوار أمس... إذن دخلنا في مرحلة اللعب بالخطوط الحمراء.
الخطوط الحمراء
حين تتبادل «دكاكين النظام» التهم، نكون في مرحلة الخطوط الحمراء. حين يدور حديث الكواليس عن أسماء «المبعَدين» من النظام... حين تصبح مناصب النفوذ المتعددة كالدوائر الصغيرة... كديكتاتوريات صغرى تخاف من العاصفة. حين تصبح «الدبلوماسية الخبيثة» خطاباً من الداخل معارضة وموالاة... حين يبدأ صراع انفصام الشخصية في العلن... حين يرتدي الفاسد قناع «الإصلاحي»... حين يلبس «العسكري» حلّة «الفيلسوف»... حين تصبح اللعبة مرتكزة على الأقنعة، نكون تجاوزنا الخطوط الحمراء، أصبحنا نلعب في المنطقة الحمراء.
تغيرت سوريا في آذار. بعد أربعة أشهر تكاد تلتاع حريقاً.. شهوة.. صراخاً.. نشوةً، ولا يزال ناظرها يفتّش عن إطار وبراغماتية وتذاكٍ في الحلول والتفاصيل. يصنع أبطالاً في الإعلام والاعتقال والسياسة، يصنع من «الأدوات» نجوماً قبل أن يعترف بنجومية الشعب السوري الصارخ. هي تغيّرت، وهو لا يزال في مرحلة تأطير تغييرها قبل إدراكه.
في موسم السياسة السورية الكل يكيل الانتقادات نفسها، والكل يجلس مع السلطة. البعض يجلس معها في قاعاتها الكبيرة وحول موائدها المستديرة، والبعض الآخر يحرّم هذه القاعات ويجلس معها على الطاولات المنفردة الصغيرة. المعارضون السياسيون جميعهم باستثناء القلة، يعيشون «نشوة» أحلامهم السياسية فوق أزهار الربيع العربي، تصريحات ومواقف وآراء واتصالات هاتفية...
وتحت كل هذا المشهد، ثمة «خدمة» دبلوماسية حصلت في حماه.. وثمة تغيير حصل: للمرة الأولى منذ سنوات يأتي النظام لحماه بمحافظ حموي. «أنس عبد الرزاق ناعم» كان قد عيِّن أميناً عاماً لفرع حزب البعث في حماه منذ شهر ونصف الشهر. اليوم، نقيب الأطباء السابق أصبح محافظاً، ويُحكى عن رواجه «شعبياً»... تعليقاً على التعيين الجديد يقول الحموي: كأنهم يقولون لنا «حلّوها بين بعضكم يا حمويّي»! حمويّ نعم، لكنه بعثي. بعثي نعم، ولكن محبوب. ومن يدري، امتحانه الأول لن يتأخر، ففي كل أسبوع هناك يوم جمعة.
وفي كل يوم جمعة هناك بطل ومندسّ ومجرم وفاسد وثائر وطائفي وعلماني وعميل وخائن ووطني ومثقف وجاهل ومتشدد ومنفتح وانتهازي وصادق ومؤمن ومنافق في ساحة حماه، وفي كل سوريا. في كل جمعة هناك أرض، وفي كل حوار وتصريح هناك تصعيد... لكن أياً من المصرّحين لم يطرح بعد ملامح الغد.
متابعة الحوار من الخارج مع المعارضين
رغم أن اللقاء التشاوري الأول للحوار الوطني بضيافة النظام خلى من وجوه المعارضة «النجومية»، إلا أن الخطاب بكليّته حمل لغتها. في منزله بينما يتناول قهوته مع رئيس تحرير صحيفة «لوموند» الفرنسية آلان غريش، ميشيل كيلو كان حائراً بجهاز التحكم بالتلفاز. يرى الطيب تيزيني، فيرفع الصوت. تنتهي مداخلة تيزيني، فيهزّ رأسه موافقاً. يرى ذاك الناطق الفصيح الخطيب باسم الشباب «يعلك»، فيخفض الصوت معلّقاً «ما الجديد في أننا سوريون؟». يلمح «قدري جميل» و«علي حيدر»، فيسمع موافقاً... لا بد من الخلاص من الحل الأمني: «طلع الشعر على لساننا». يتابع نقاش ربيع التغيير العربي مع الصحافي الفرنسي على ضفاف «حوار وطني ينقل كل مطالبه بوجوه مختلفة».
فلعلّ أبرز ما حدث، سياسياً، ولادة «جبهة شعبية للتغيير والتحرير» بين الشيوعي المنشق «قدري جميل» والسوري القومي الاجتماعي المنشق «علي حيدر» بخطاب معارض واعٍ.
فبعد مداخلة حيدر اقتنص جميل الفرصة الاعلامية للاعلان عن هذه الجبهة بين الحزبين مضيفا بذلك شرعية لفرع الحزب المنشق. فانتفض مسؤول الفرع في الحزب القومي في الجبهة صفوان سلمان، حيث قصد سلمان «الدكتورة بثينة» شعبان معاتباً: عملياً، اعطى فرع الحزب المعارض مع علي حيدر، شرعية تفوق شرعية فرعه الجبهاوي مع صفوان سلمان ممثلاً عصام المحايري التسعيني. فجأة هوى حزب وصعد آخر امام الاعلام. هكذا الجبهة وعقليتها الخائفة على الدور والحصة بينما تنزف سوريا.
بالعودة من فروع الأحزاب إلى فروع المعارضة. لو قبل ميشيل كيلو الدعوة، لكان نجم الحوار ربما، لكنه جلس مستمعاً في منزله. وفي الخلاصة قال معلّقاً: «ما قيل في المؤتمر ليس لغة حل وسط بل هو فعلياً لغة المعارضة بأشكال مختلفة. كان واضحاً في المؤتمر أثر ومعنى غياب المعارضة عندهم. أنا أعتقد أن المشكلة الفعلية، أن المعارضة لم تكن هناك. حكى لغتنا وأفكارنا... غيابنا كان ظاهراً. لكن الواضح أن مطلب التغيير الديموقراطي أصبح مطلب الجميع، ولا يمكن القفز من فوقه».
أما سلامة كيلة، الموقّع على «سميراميس 1» في المعارضة المستقلة، يدير ظهره لشاشة الإخبارية السورية في مقهى الشعلان إذ يتابع نظريته الاقتصادية السياسية: «الاميركان تخوفوا من انحراف النظام في حل عسكري على حماه، حاولوا إيصال رسائلهم للنظام وليس للشارع: لا تتهوّر. التنسيقية في حماه أخرجت بياناً يؤكد أنها ضد التدخل الخارجي».
الزيارة رغم ترحيب الأهالي هنا أو هناك، وتهليلهم لفرنسا أحياناً في بعض الأحياء، هي «استثارة لتشويه الوضع» برأي كيلة. ويضيف: الحراك يتطوّر، السلطة تحمل أزمات، إحداها اقتصادية، بدأت تظهر بوضوح. القوة العسكرية لن تبقى بهذه الفعالية. إنها مرحلة تغيّر ميزان القوى. لا يستبعد كيلة أن يبدأ ظهور شخصيات تغيّر مواقفها. لا شيء يكبح هذا سوى عنصر مفاجئ ما. طبقة التغيير الذي طرأ على سوريا أثمرت «رؤوس الأموال الجدد» راكموا أموالهم، وأصبح الجهاز الأمني يجيّر مصالحهم. الفساد المستشري في السلطة ودكاكينها من يزيله؟ الحل الوحيد خارج الحوارات واللجان والتمييع السياسي للتغيير: الحل الوحيد بالقرار الرئاسي. فليأتِ برئيس حكومة تكنوقراط ويقول له: تفضّل نظّف البلد.
مساء الجمعة، جلس لؤي حسين وفايز سارة الى يسار الطاولة، وحسان سلّوم ورامي عمران على يمينها. معارضتان، واحدة تحاور النظام في العلن، وواحدة تحاور النظام بالهواتف والتصعيد والتصريح فوق الشارع. حين احتدم النقاش عن حماه، رد حسان سلوم على فايز سارة «أنا معارض قبلك». هكذا هو شعورهم، أولئك الذين ولد وعيهم السياسي بالمطالبة بدولة مدنية وضعت لها أسس وهوية وعقيدة.
رامي عمران، الذي خرج من حزبه السوري القومي الاجتماعي حين دخل إلى الجبهة خلف البعثيين، له قوة ما في النظام نواتها عمله في الشأن العام. فهذه القوة وضعت اسمه على لائحتي فاروق الشرع وبثينة شعبان للحضور إلى الحوار. في مكتبه، وخلف حاسوبه، رامي قاد حملة «أنا سوري» الإعلانية.. منذ اللحظة الأولى هو المختلف عن حزبه وعن النظام وعن المعارضة. انتهت السهرة بأن رامي حسم بالحديث مع لؤي: «انا أرى ان الذهاب إلى الحوار سيوصل رأيي وإن اختلف، يختلف هناك» فيرد لؤي حسين: «أنا أعضّ على أصابع النظام ليأتي هو إلى طاولتي».
وبالأمس ذهب رامي إلى الطاولة في فندق صحارى. جلس واستمع إلى خطاب أعجبه، وغاب المضمون والبرنامج، فخرج منتقداً اللمحة الأولى من الحل السياسي.
رامي عمران في طريقه إلى الخارج:
لم آتِ بحثاً عن منبر!
خلع رامي سترته الرسمية ظهر الأحد، وعاد إلى مكتبه بعد الاستراحة الأولى من الحوار في فندق صحارى. لم يكمل جلسة اليوم الأول. لكنّه لم يحدث «انسحاباً درامياً».
في مكتبه العصري في المنطقة الحرة يعقّب رامي على انسحابه «الصامت» بالقول «في هذا الزمن حيث تزداد وتيرة الأزمة خنقاً على عنق الوطن... كان على اللقاء التشاوري أن يخلص أولاً بمهمته الوظيفية بالتحضير لمؤتمر حوار وطني».
يوافق عمران على ما قاله ميشيل كيلو إن بعض النقاط التي قيلت في الجلسة الافتتاحية كانت مهمة وصارمة، لكنه يضيف إنها كلمات كان من الممكن تشاركها وتداولها مع الرأي العام قبل المؤتمر، عبر فتح أي منبر صحافي في سوريا لكل الآراء مهما تنوّعت ومهما ارتفع سقفها. وبالتالي لا يكون اللقاء التشاوري المعني بالتحضير لمؤتمر حواري منبراً لإعلان المواقف، على أهميتها.
«أثبت اللقاء التشاوري في جلسته الافتتاحية أن معظم أسباب الخلاف في الرأي السياسي السوري تعود إلى المنابر واللافتات، لا إلى المحتوى والمضمون. حيث تصنّف المعارضة والموالاة على قياس المكان، لا على قياس الرأي».
في «صحارى» قيل ما يشابه ويزيد عمّا قيل في «سميراميس» وفي بيان الأحزاب المعارضة، فهل ينتقل الرأي السياسي السوري باتجاه البناء على الرؤى بدلاً من احتكار المنابر؟
أعفى اللقاء التشاوري نفسه من المهمة الأساسية التي كان عليه أن يناقشها ويسددها، حيث إن الغرض الوظيفي من اللقاء التشاوري هو تحديد ماهية مؤتمر الحوار الوطني وماهية الهيئة التأسيسية المالكة لأدائه وإيقاعه وتفاصيله، فهل ستكون ملكاً لأصحاب الدعوة أو تكون كما يجب عليها، ملكاً للمجتمع السوري بكامله، عبر هيئة تجمع فيها كل أطيافه السياسية التي تمتلك مساحة ندية من قرارها؟ هل سيكون مؤتمر الحوار الوطني استشاري الطبيعة أو تقريري الوظيفة. هذا ما يدعو إلى السؤال الأساس، هل يذهب النظام السوري حقاً إلى شراكة مع الأطياف السياسية السورية كافة لإنتاج شكل الدولة الجديد أم أنها شراكة يحتفظ فيها لنفسه بحق النقد.
إذا كان غرض مؤتمر الحوار الوطني، الاتفاق على شكل الدولة السورية المدنية التعددية الحديثة، فكيف يناقش اللقاء مجموع القوانين التفصيلية المؤدية لبناء هذه الدولة قبل أن يتفق على شكلها في مؤتمر وطني شامل.
إن معظم القوى السياسية في سوريا تشترك في شعاراتها ومواقفها تجاه الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة التعددية، وتنأى بنفسها عن التفاصيل المؤدية إلى هذه الدولة.
لا أجد قيمة في أن أضيف خطاباً أو موقفاً إلى الخطابات والمواقف التي قيلت. سيما أن في العناوين العامة نلتقي مع مجمل الآراء داخل اللقاء وخارجه. لكن إذا لم يتم التدارك السريع لمنهج إيجاد خطة عمل لتحقيق هذه الشعارات، فيمكن الاتفاق على أن يكون الشعار لغماً مؤجلاً يختبئ في التفاصيل.
وتحت الحوار وفوقه وقبله وبعده... أجمل ما في شوارع دمشق ومقاهيها اليوم، أن كل شيء، بما فيه الطاولة، عرضة للبحث فوق الطاولات.. والأقنعة تهوي سريعاً... وكذلك الأحزاب. وريثما تعطى الحرية السريعة للشارع أن يفرز نفسه تيارات وأحزاباً جديدة، يبقى الحلم السياسي السوري بسقفه العالي من دون أعمدة... كبالون الهواء.
«السفير» داخل مطبخ قانون الإعلام الجديد
معركة سوريا لفك الحصار عن الكلام
ابراهيم ياخور في نقاش حاد
وضاح عبد ربه يضع ملاحظاته («السفير»)
غدي فرنسيس
بينما تنشر هذه الكلمات عن الحرية المقبلة، ثمة رقيب إعلامي يقرر ما إذا كانت «السفير»، او غيرها من الصحف، ستدخل اليوم دمشق أم لا...سيقرأ ويحكم، وقد يحجبها عن «السوق». بموجب «اللاقانون»، له أن يمنع ما يشاء ويسمح بما يشاء. ثمة إعلامي سوري من حاشية النظام، يحاول أن يفكك المؤامرة في المقال ليكتشف: أهذا قلم «لنا» أم «علينا»؟. تستمر الأجهزة الأمنية والإعلامية السورية بمؤامراتها المزدوجة على حرية التعبير... ويحكى في كفرسوسة عن التغيير!
بينما يعيش جهاز الاستخبارات داخل عقل الصحافي السوري، تصرخ له لجنة إعداد قانون الإعلام: أنا سأنتزعه من عقلك... وها قد جهزت المسودة الأولى من القانون... للعبور إلى الحرية، فيجيب الصحافي: حين يعتقلني الأمن، أين ستكون أنت؟
طبّاخ قانون الإعلام
في كفرسوسة
بعد متابعة حواراتهم لثلاثة أيام على التوالي، تظهر شخصيات لأسماء اللجنة. الإعلامي طالب أمين يدير الجلسة ويضبطها، وهو الخبير الذي تابع شؤون وزارة الإعلام مع خمسة وزراء سابقين. بالتصنيف، سيتسلل السؤال أوتوماتيكيّاً: كيف لمعاون خمسة وزراء سابقين، أن يصنع التغيير؟.
لكن في المتابعة، سترى أن لا سلطة لاحد سوى الأفكار. مثلاً، بين الجمع وأصغرهم، لكلام عبد السلام هيكل دائماً صبغته الخاصة، فهو يمثّل الابن الثري، المتخرج من الجامعة الأميركية الذي اشتغل على نفسه وقدراته تحت جناح النفوذ والمال في خطاب «شبابي عصري»، حين يبدي رأيه واقتراحه بمواضيع الحصص من المؤسسات الإعلامية الخاصة، يكون له عبد الفتاح عوض في المرصاد: أنت تقول هذا لأنك رجل أعمال... يضحكون، لكن تسجّل الملاحظة في المحضر!
كل شيء مباح، والحديث يتراوح من الملاحظات الساخرة في محور علي جمالو إلى المبارزات الحادة في محور ثابت سالم إلى المداخلات العقلانية في محور اساتذة الجامعات مثل يحيى العريضي. كما يلفت دور دكتور صامت في غالبية الأحيان، يبدي رأيه عند الضرورة، اسمه ليس مسجلا في لائحة اللجنة ولا في لائحة شباب الـ«undp» المشرفين. فلعميد الجامعة، الدكتور سام دلّة، مهمة معنوية استشارية في القوانين وشكلها.. وحين يدخل القاعة، يضفي بصمة حضوره على وقع النقاش.
حين يبدي إبراهيم ياخور رأيه بأن الإعلام سلطة مجتمعية، يسارع علي جمالو في ملاحظاته ليصار إلى إلغاء كلمة «سلطة». وهكذا تصبح المادة الثانية: «الإعلام حر ومستقل ولا تقيد حريته إلا بالقانون»... حين تعرض تفاصيل إنشاء وكالات الأنباء وحصصها وامتدادها، يدور التنظير بتنوع حاد... بين محور «اقتصاد الإعلام» ومحور «دوره المجتمعي». حين يحكى عن محطّات صغيرة مخصصة لثلاث محافظات على الأقل، تثور الأديبة ناديا خوست من خلف نظاراتها الستينية: الجمع تحت العناوين الوطنية. يرد طالب أمين من كرسيه: ما دام هم المواطن سيكون أساس الإعلام، فهناك بعض الأمور الحياتية الصغيرة التي يمكن له أن يغطيها على صعيد مناطقي. وحين يختلفون يطول النقاش إلى أن ترسو التسوية نهائياً بإتباع مبدأ التصويت.
وهكذا دواليك، لكل منهم حديثه ورأيه وخلفيته. منهم الليبرالي واليساري واليميني والماركسي من شتى المحافظات السورية. في جلستهم ونقاشهم الحر، تبدو أكثر الكلمات دقة في الوصف هي تلك التي يستخدمها علي جمالو عنوانا لسلسلة مقالات ينشرها هجوماً على «البعث»: «تمارين ديموقراطية».
نحن في عهد «ما قبل القانون»
لو دخلت قاعة اللجنة صبيحة حجب الصحيفة وسألت «كيف تعدّون قانونا يحرر الإعلام وقد حجبت جريدة اليوم؟»، سيجيبك المجتمعون باستنكار بأن القانون لم يبدأ العمل به، وأن وزارة الإعلام التي تقوم بهذه الممارسات، سيقطع نفوذها بعد القانون. «مهلاً علينا، فقد أعددنا قانونا يليق بالمعايير العالمية، لا وجود لوزارة الإعلام بعد اليوم، ولا منع ولا اعتقال. لكن ريثما يمشي القانون، اصبروا!».
وبعد انتهاء الحديث ورفع جلسة اللجنة، سيقوم أحد المجتمعين بمجهود إضافي عبر نفوذه واتصالاته الهاتفية، لمتابعة إدخال الصحيفة بعد الظهر إلى السوق، ساخراً من «الرقيب الإعلامي»... سيعتذر عن القمع ويجيب «نحن نريد العبور إلى الديموقراطية، ولا يمكننا التمسّك بهذه الممارسات. أمامنا حرب مع العقلية القديمة، ومعركة الحرية لن تكون سهلة، فالعقلية الشمولية قائمة منذ سنوات، والمشكلة متجذرة في الجسد ولا احد يساند طريق الحرية سوى الجسم الإعلامي. علينا أن نبث حماسة القول وإبداء الرأي ونصونها للانتقال من القول إلى الفعل».
إذاً، رغم أننا لا نزال في عهد «ما قبل القانون»، إلا أن صراع الرؤى في النفوذ الإعلامي السوري بدأ يعلو. هناك من يريد فتح الأبواب، وهناك من يخاف من الآخر. بينما ترسل قنوات الأمن تحذيراتها للإعلاميين وضغطها المعنوي، ثمة إعلاميون في داخل اللجان يعكسون آراء المعارضين ويدافعون عمّن يستهدفهم التضييق، بغض النظر عن انتماءاتهم ومؤسساتهم وموقع خبراتهم، وبصرف النظر عن ثقل الأحكام المسبقة الكثيرة التي ربما تليق بأسماء اللجنة، الموجودة على طاولتها مسودة قانون. وقد حصلت «السفير»على نسخة من ذلك القانون.
في المحصلة مفاجأة كبيرة: قانون إعلام حر، وسؤال أكبر: ماذا عن الأرض الآن هنا؟
نظرة على قانون الإعلام الجديد
حصلت «السفير» على نظرة خاصة بقانون الإعلام الجديد المقترح. بموجب المسودة التي أصبحت في عهدة رئاسة الحكومة السورية:
ـ لا سلطان أو وصاية على الإعلاميين في أداء عملهم لغير القانون.
ـ لا يجوز أن تكون المعلومة والرأي الذي ينشره الإعلامي سبباً للمساس بأمنه وحريته.
- لا يحق لأي جهة مطالبة الإعلامي بإفشاء مصدر معلوماته إلا أمام القضاء، وفي جلسة سرية.
ـ يكفل القانون حصول الصحافي على أي معلومة يطلبها من الجهات العامة.
ـ أي إهانة أو اعتداء على إعلامي أثناء أو بسبب قيامه بعمله يعتبر اعتداء على موظف رسمي حسب القوانين النافذة.
ـ حرية إصدار رخص وسائل الإعلام للأحزاب السياسية والأشخاص، ويمنح الترخيص للناشر من المجلس الوطني الأعلى للإعلام.
ـ لا تزيد ملكية أي شريك في وسيلة إعلامية عن 20 في المئة للإعلام البصري السياسي.
ـ لا تزيد ملكية أي شريك في وسيلة إعلامية عن 49 في المئة للإعلام البصري غير السياسي.
ـ يكتفي الإلكتروني بتقديم «إخطار» إلى المجلس الوطني.
ـ يلتزم المجلس بإعطاء وثيقة الاعتماد للموقع الإلكتروني بمهلة 15 يوم عمل من تاريخ الاستلام.
وقد أنجزت اللجنة مسودتها الأولى، وسلّمتها يوم الثلاثاء إلى رئاسة الحكومة. وتستكمل جلسات البحث والنقاش والإعداد اليومي في مركز التدريب الإذاعي في كفرسوسة حيث تفصّل دور مهام المجلس الوطني للإعلام ومهامه، وتناقش شأن الشركات التي تخدم الإعلام. مهمتها الثانية في جدول الأعمال: إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية القائمة مثل وكالة الأنباء السورية (سانا) والتلفزيون... إلخ.
تباين الوعود!
في مسألة التغيير الحقيقي، يجيب علي جمالو: هذا أكثر من قانون منطقي طبقاً للمواصفات الدولية ويناسب المجتمع... لا نستطيع أن نضع العربة أمام الحصان... علينا الفصل بين الأفق الذي نعمل به والممارسات التي تعتمدها وزارة الإعلام. أخطاء وزارة الإعلام تنتمي إلى سوريا القديمة. «ما في وزارة إعلام بالأفق: هناك مجلس وطني» يتبع للبرلمان، ونحن باتجاه التعددية السياسية، وبالتالي سيكون هناك برلمان حقيقي.
لمستشار مجلس الإدارة السابق في «lbc» ومدير مكتب كل من «السفير» و«الجزيرة» و«أبو ظبي» السابق في دمشق، قدرة على صوغ التصريح بما يناسب الظرف ويراعي الرأي العام. يعترف بالصعوبة لكن يدفع للأمام، بناء على معطياته ومعلوماته وتوقعاته: خاض التجربة الإعلامية نفسها اليمن، وكذلك الأردن ودولة الإمارات... في الفترة الأولى أتوقّع فورة جنونية لوسائل الإعلام وستكون فورة موقتة ثم تستقر. علينا أن نفهمها ونستعد لها لأنها تكون فوضوية في الانطلاقة ريثما تستحدث تقاليدها وتأخذ شخصيتها.
يفيد جمالو أن بعض أسماء اللجنة ستكون جزءا من الحوار الوطني. ورغم قربهم من النظام، يبررون بأن ذلك لا يعني انعدام الرؤى الإصلاحية. يتابع علي جمالو: «في شرطي مركّب على عنق كل صحافي، وظيفتنا إخراج الشرطي وتحرير الصحافي... سنخطئ لكن سنتعلم من أخطائنا».
من ناحيته، يسرع إبراهيم ياخور بالإجابة حاسماً: «لم يتغيّر شيء حتى الآن، ولا تزال الحياة الإعلامية كما هي، وعليها ملاحظات، وما زال الوقت مبكرا لنحصد ثمار ما نفعله. القانون له مراحل أخرى ليصدر ويطبّق ويعمل به. وحتى حين يصدر القانون، ستمضي سنوات بينما تتكيّف البيئة الإعلامية معه».
يتابع ياخور، المعروف بقربه وصداقته من بعض شخصيات المعارضة: «دعونا ميشيل كيلو ولؤي حسين وحسين عويدات. أتانا مازن درويش ودار نقاش مهم، موجود في سجلات اللجنة على الموقع الإلكتروني. درويش هو رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ودار نقاش عميق جداً وحر حول الإعلام في الجلسة الثالثة. للمعارضين اعتبارات أخرى للتغيب، كالموقف السياسي، لكن ذلك لا يعني موقفا من القانون».
... يشرح «مايسترو» اللجنة، الإعلامي طالب قاضي أمين من مكتبه في مركز التدريب، بعد أن رفعت اللجنة جلستها، أن «اللجنة لا علاقة لها مع السلطة التنفيذية... أنا معاون وزير سابق لكن أعمل في منظمة عربية. في أمور اللجنة لم يتدخّل أحد: لا وزير الإعلام ولا رئيس الوزراء ولا السلطة الأمنية. وكل شخص في الاجتماع لا يمثل سوى نفسه، مهما كان منصبه».
وعن الغد، يقر أمين أن لا بيئة متوافرة للقانون الآن، ويضيف «على كل الناس المعنيين أن يساهموا في صناعة بيئة لهذا القانون، فما تمّت صياغته يعالج ما كنّا نعانيه في الإعلام».
لطالب أمين خبرة في العمل الإعلامي القانوني يفصّلها باختصار: كنت عضوا ورئيس مجموعة من اللجان التي عملت على قانون المطبوعات الجديد. في العام 1949 ورثنا قانون المطبوعات الفرنسي، ومع ثورة البعث صدر فرمان العام 1963 وألغى قانون المطبوعات وصادرها، والتزمت سوريا الإعلام الحكومي إلى أن عملنا في 2001 على تعديل القانون القديم واستحداث قطاع خاص في الإعلام، وعملت بموجب قانون المنطقة الحرّة، فمثلاً جريدة الوطن، تلفزيون الدنيا، وسواهما من المؤسسات الإعلامية... تلك تصدر من مناطق حرّة تعفى من العمل وفق الشروط القديمة.
يختم أمين عند السؤال عن التحدي الأكبر: «الهاجس ألا يتم اعتماد القانون كما أصدرته اللجنة، وان تتم تعديلات تنسف المبدأين الأساسيين في القانون: الحرية والمسؤولية».
من جانبه، لصاحب الرأي المختلف دوماً عبد السلام هيكل انتقاده الخاص، «إذا أردت انتقاد اللجنة فيمكن أن أقول انه كان بإمكاننا اختصار الوقت وأن تجري الأمور بطريقة أخرى، أي بتحديد المبادئ العامة: حرية الصحافي وحرية النشر، وثم ترك الأمور للقانونيين لصياغة الموضوع. ما لدينا اليوم نتيجة لعمل شهر ونصف الشهر، كان بإمكانه أن يأخذ أسبوعين. قانون الأحزاب الذي هو مسألة اعقد، أنجز بأسبوع... فبسبب كثرة النقاشات في لجنة الإعلام، تحوّلت إلى مؤتمر حوار حول الإعلام.. إلا أن العلنية والشفافية أدتا إلى بناء مصداقية معيّنة ومؤشر على أشياء أخرى. أهم ما أنجزته اللجنة هو إيمانها بأنها تصوغ قانون إعلام للمستقبل في جمهورية جديدة.
على الأرض المعركة!
مهما كانت فحوى القانون ومهما بدت ثمار اللجان منطقية وجيدة، فثمة من يصعّد خطابه ليوازي الشارع ويوازنه. ذلك قال في اليوم الأول، أطلقوا حرياتنا الإعلامية، ولمّا يستجب له النظام بعد. على سبيل المثال، في نقاش لاحق مع المعارض لؤي حسين، رفض حتى الاطّلاع أو البحث في القانون أو نصّه أو متابعة ما يحصل في اللجان. «بقول واضح، لن نقبل بأي قانون يصدر عن السلطة الآنية وسنغيّر كتابة كل قوانيننا لاحقاً بما تمليه علينا إراداتنا الحرّة». هذا رأي رافض، وغيره كثر. منهم من يعارض أن الإعلاميين يأخذون دور التشريع والقانونيين يأخذون دوراً استشاريا، عوضاً عن أن تكون الأدوار مقلوبة. هناك من لا يكفيهم إصدار قانون. في مكتبه في «تشرين»، ثمة شخص ما يقول: آمل أن يتحقق القانون، فمتى كان الأمن يتبّع القوانين؟ ومن سيردعه عنّي؟
لهؤلاء الصحافيين الشباب الذين ينتظرون فك الحصار عن الكلام، وعليهم المسؤولية، فلن تأتي الحرية الإعلامية بين ليلة وضحاها، وما دام الأمن في الشوارع، وريثما يتم «الحوار الوطني»، فلا يزال السؤال الصباحي الأبرز في دمشق: «هل دخلت الجريدة؟».
*************************************************************
ماذا تفعل... لو كنت بشار الأسد؟
ميشال كيلو(«السفير»)
عبد العظيم(«السفير»)
غدي فرنسيس
في مكتب الأمن الدمشقي حيث اعتقلت لأنك تفكر أو تكتب أو تتحزب ـ أو ربما عن طريق الخطأ ـ للرئيس بشار الأسد صورة مكتوب تحتها «قائد مسيرة الحزب والشعب». في غرفة نوم، وفوق سرير طفلة حلبية، للأسد صورة كتب عليها «حامي سوريانا». فوق مكتب رئيس تحرير جريدة «الثورة»، للأسد صورة وأبيات شعر نشرت في الجريدة احتفالاً بـ«المبايعة للقائد والخالد المفدى بالدماء والعروق». تستيقظ دمشق القديمة على أصوات موالاته وتختتم سهرات المطاعم تحت صورته بأغنية «منحبك» مرّة أخرى.
بشار الأسد خطاب على لسان المقاومة ضد العدو الصهيوني، ودمعة على خد والد شهيد الثورة السورية. بشار الأسد ابن لوالد، ابن لحزب، ابن لعائلة، وابن لمنظومة أمنية ومسيرة سياسية عمرها 50 سنة محفوفة بالأخطاء والقمع والقوة. بشار الأسد وجوه لا تحصى لرجل واحد. فماذا تفعل أنت لو كنت مكانه اليوم؟
من كرسيه، تبدو سوريا غاضبة ومستيقظة وملوّنة كعادتها. ينزل إلى الشارع ليتفقّدها، فتحجب عنه الحاشية غضب الأرض. يخنقه المرافقون والمصفقون، من عينيه، سوريا تعبر بهم أولاً. يعود إلى كرسيه، يتّصل به الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فيرفض أن يجيب.. يخرج في كلمة للسوريين فيقول: أنا مستعد لأن أغيّر كل الدولة وأن أقلب الدستور رأساً على عقب، ولكن كل شيء يمر عبر اللجان والحوار. تترقب عيناه الشارع، فتخرج له شخصيات معارضة داخلية من قلب العاصمة وترفع السقف: «لا أصدّق الحوار في ظروف كهذه»... يوم الجمعة، تنتفض حماه بآلافها الكثيرة، «الشعب يريد إسقاط النظام»، فيستجيب النظام بعزل الشخص الوحيد الذي كانت حماه راضية عنه: المحافظ... تضحك المعارضة بغضب: أهذه هي خطواتكم؟ بالمناسبة، نحن لن نخرج من الشارع هكذا.
إذا كان لأحد ما أن يروّض غضب الشارع بالسياسة، فالأولوية لمن هم على أرض سوريا، سياسياً وميدانياً واجتماعياً، من أصحاب الفكر منذ سنوات. منهم الوجوه الإعلامية المعارضة كالمؤتمرين في «سميراميس»، والكتّاب والمفكّرون وأسماؤهم التي تلمع اليوم، ومنهم الأحزاب التاريخية المعارضة التي انضوت تحت لواء هيئة تنسيق في بيان حسن عبد العظيم، المناضل والحزبي القديم الذي عادت لمعته اليوم. ومنهم من لم يلمع في العلن ولا يزال يعمل على أرضه.
لو كان هؤلاء بشار الأسد، فماذا كانوا ليفعلون؟
حسن عبد العظيم: بطل بين جمال عبد الناصر وفلسطين
يلاقيك بجريدة تحت إبطه أمام محطة الحجاز، و«يسايرك» في السياسة سيراً إلى مكتبه. كأنه معلم آخر من معالم الشارع القديم.. شرق محطة قطار تاريخية كانت تصل سوريا ببقية بلاد العرب، مبنى ستيني قديم، يحضن رئيس اتحاد الأحزاب المعارضة. تبدو ملامح إعادة الحياة إلى نضاله السياسي على هاتف مشغول وفناجين قهوة كثيرة. لا جرس لينادي لأحد ما ليخدمه كما في مكاتب البعثيين، بل فنجان يغسله بيديه مستخدماً مياه الشرب، وقهوة ساخنة في «ترمس» مناضل مثل صاحبه.. إلى يساره خريطة فلسطين قبل غزوة الصهاينة، وفوقه صورة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وبين يديه، هيكلية حزبية قديمة يعاد ضخ الدماء في شبابها مع كل تظاهرة، وأرض وإرث في حماه وسواها من الشارع الاحتجاجي يبنى عليه. وهيئة تنسيقية أعلن عنها مؤخراً. رأس الأحزاب المعارضة السورية الاشتراكي العربي يرفض التحاور مع أحد قبل وقف القتل.
«ماذا تفعل لو كنت بشار الأسد؟»
من خلف نظاراته، وبيد ترتجف قليلاً، بين هاتف مع برهان غليون للتنسيق في أمور هيئتهما الجديدة التي رفضت التحاور قبل وقف العنف، وآخر مع إعلامية سورية رفض مقابلتها، يباشر حسن عبد العظيم في مقابلته الخاصة:
لو كنت أنا بشار الأسد، لتوافرت لدي القناعة بعمق الأزمة الوطنية وعجز السلطة عن حلّها، وتصاعد الغضب الشعبي إلى حد المطالبة بإسقاط النظام بسبب استمرار الحلول الأمنية والتهرّب من حلول سياسية وعدم الاستجابة للمطالب. لو كنت بشار الأسد، لسارعت إلى معاقبة الذين هاجموا المتظاهرين السلميين بالنار والاعتقالات الواسعة... لاعتذرت للشعب وذوي الشهداء وأصدرت عفواً عاماً لكل المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والمنفيين.
ومن ثم لعقدت مؤتمراً للحوار الوطني تحضره الأحزاب والقوى والشخصيات المعارضة وممثلون عن الانتفاضة الشعبية السلمية والشبابية، وذلك لوضع ميثاق وطني واختيار هيئة لوضع مشروع دستور لنظام برلماني وديموقراطي يؤسس لبناء دولة مدنية لا احتكار فيها لحزب أو جهة، ويتم فيها تغيير ديموقراطي شامل سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي... وانتخابات ديموقراطية شفافة، لا مثل الانتخابات الشكلية المعلّبة.
ولعملت على حلّ الجبهة وقيادة حزب البعث وإعادة بنائه بصورة ديموقراطية، وفصله عن السلطة، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتحديد صلاحياتها. وفي الختام، لو كنت بشار الأسد، لواجهت بإقالة كل مسؤول حزبي أو امني يقف حجر عثرة في وجه التغيير الديموقراطي الشامل. وفي حال عجزت: أصارح الشعب وأستعد للتنحّي، أو اطرح الثقة بشخصي لاستفتاء شعبي تشرف عليه سلطة قضائية نزيهة ومنظمات حقوقية وطنية وعربية وعالمية.
ميشال كيلو: «حلقوا من جنبي»
حسم ميشال كيلو موقعه في «سميراميس»، مع دعمه لتوحيد جهود المعارضة والتنسيق مع الأحزاب. بين كتبه الكثيرة في منزله يتابع الحركة الإعلامية ونشاطه السياسي المتنامي. الرجل مثل رفاقه في مؤتمر المستقلين في «سميراميس»، ظاهرة إعلامية ومعتقل سياسي سجل نضاله في تاريخ سوريا المعاصر. يكتب ويتابع نبض الشارع الذي يعلي شأنه يومياً، ويرفع السقف. يريد إسقاط النظام ولكن بخطوات تدريجية، يريد للشارع الشبابي الذي نبذ المؤتمر بصفته «عرضة لاستغلال السلطة» أن يهدأ كي لا ينزلق في «سحر الكلمات الكبيرة». فهو دعا من قبل لتخلي الشارع عن حلم «إسقاط النظام في يوم وليلة» كما ناشد السلطة أن تتخلى عن القتل:
لو كنت بشار الأسد اليوم، لاعتبرت الحركة الشعبية الاحتجاجية بقيم الحرية والديموقراطية التي تحملها، وتحالفت معها. لأجريت إصلاحاً جذرياً في النظام يحوله من سلطوي امني إلى نظام يحمل سمات مجتمعية شعبية. أبني نظاماً انتقالياً. أقتنع بأن التغيير حتمي. أقول لمن حولي: «حلقوا إنتو يللي جنبي إذا كنتم ضد التغيير». أعلن شرعية أحزاب المعارضة ريثما يصدر قانون للأحزاب. أسمح بتشكيل وترخيص صحف حرة.
وهنا ينزلق كيلو في «الحالة الكردية» بعدما انزلق رفيقه من مؤتمر «سميراميس» لؤي حسين في موضوع السلام مع العدو إلى اعتبار فلسطين شأن الفلسطينيين. يطالب كيلو بثلاث صحف: «واحدة للمثقفين، وواحدة للأحزاب، وواحدة للأكراد» ثم يبرر عند السؤال عن اعتبار المواطنين السوريين الأكراد حالة خاصة... «الأكراد قالوا: طالما الأزمة قائمة نحن سوريون، وبعد أن تنتهي الأزمة نعود للمطالبة بحقوقنا كأكراد».
تيار «سوريا الغد»: قلنا له عام 2006 هذا الكلام
هناك شريحة سياسية أخرى لا تريد احتلال أي منبر أو التسويق لأسماء أي قيادات، ولا تبحث اليوم عن مساحة في امتلاك العناوين المتشابهة التي تطرحها المعارضة، والمتّفق عليها. شريحة مكونة من رجال اقتصاد وعمل اجتماعي لا يطمعون بحصة من المنبر السياسي الآني. «تكنوقراط علمانية» لم تلمع بعد لكنها تعمل على الأرض وبين المناطق وفي صفوف نخبوية متراوحة من رجال فكر وأدب وفن وأعمال ومناضلين خارجين من أحزابهم الجبهوية اليسارية والقومية.
هؤلاء يشبهون خطاب الشاعر أدونيس، ويشبهون رسالة يوسف الاشقر المفتوحة إلى الرئيس، ويشبهون تيار الأغلبية الصامتة. هم مجموعة «سوريا الغد» العلمانية التي ولدت عام 2002 ثم تعثرّت واليوم تستعيد بحثها عن الغد.
من اللاذقية إلى دمشق إلى درعا إلى السويداء إلى الرقة والحسكة ودير الزور وحماه وحمص... اجتمعوا في بيت دمشقي واحد، بطوائفهم المتنوعة تحت شعارهم المعلن «نريد دولة علمانية». في جلسة سمر مع حوالي عشرين من «سوريي الغد» في منزل حسان سلوم، المناضل السياسي الخمسيني، ينأى الشباب الذين دعوا إلى الحوار الوطني والتيار الثالث في العام 2005 عن الحديث في العناوين اليوم. هم ينصرفون في جلسة نقاش مفتوحة، بأوراقهم وأقلامهم للبحث عن التفاصيل المنتجة لدولتهم السورية الحديثة. ماذا لو كنتم أنتم بشار الأسد اليوم؟
يجيب الخبير الإعلامي رامي عمران: لشاركت الناس في الرؤى قبل ان أشاركهم في التفاصيل.
يرد الجراح حسان سلوم: لأعلنت شكل الانتقال إلى إنتاج الدولة الحديثة، ولحددت صراحةً عقد الشراكة مع كافة الأطياف السورية في إنتاج هذه الدولة.
من جانبه يهمس كاتب السيناريو نجيب نصير: الحياة المدنية هي نتاج فعل تنموي ثقافي وليست قراراً سياسياً يجمل الواقع من دون تغييره.
يضيف رجل الأعمال الحموي: لبنيت دولتي على إرث المؤسسات بدلاً من أن تتوجع المؤسسات تحت إرث النظام.
يجيب الدرعاوي: لو كنت بشار الأسد لانقلبت على نظام بشار الأسد.
يختم ابن دير الزور بمعارضته الفاقعة عن رفاقه: بكل بساطة، لو كنت بشار الأسد، لقدت انقلاب الدولة على النظام.
************************************************************************************
نقاش مع لؤي حسين وريما فليحان وسلامة كيلة
استفاقة للحياة السياسية السورية... ما للمعارضة وما عليها
موالون للأسد يلوّحون بالأعلام السورية خلال تظاهرة دعم له في دمشق أمس (أ ب)
معارضون خلال تظاهرة في حماه أمس (أ ف ب)
غدي فرنسيس
على خط السؤال والجواب من منطقة إلى أخرى خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، كانت تتكلم سوريا في السياسة طوال الوقت وفي كل دار.
عند السؤال، اختلفت إجاباتها. كانت أحياناً تكشف عن فرز طائفي جديد، وأحياناً عن وعي وطني مميّز، وأحياناً عن أمراض اجتماعية خطيرة...اختلفت مواقفها وآراؤها. كانت تكشف وجهاً جديداً في كل منطقة. ولعل أهم النقاشات، كانت مع من لم ينزلق خطابهم إلى الدفاع العاطفي، لا عن أخطاء النظام ولا عن تشوّهات "الثورة". وهؤلاء كثر، ممتدون من مكاتب المسؤولين إلى "أوكار" المتظاهرين من درعا الجنوبية إلى حماه الشمالية، وما بينهما وما على جوانبهما.
تلك الشريحة المتسائلة المنتقدة المفكرة، سميّت بالأغلبية الصامتة، ولكنها ليست ولم تكن صامتة. لا بوق لها ولا مذياع، ولا إطار حزبي أو سياسي يُسمع الدنيا صوتها.. كانت ولا تزال تعايش يوميات الانتفاضة السورية وتداعياتها وتتقلب مع كل مرحلة جديدة. فيها وإليها وعليها مستقبل سوريا وساحة الاستقطاب السياسي خارج الخيارين المنتهيي الصلاحية: "البعث" و"الإخوان المسلمين".
"أنا مع ميشال كيلو وبرهان غليون وطيب تيزيني وفايز سارة وهؤلاء المفكرين وذلك النوع من المعارضة" هكذا أجاب حسن حميدوش في ساحة جامعة دمشق في البرامكة منذ ثلاثة أشهر، بينما كان رفاقه يتظاهرون تأييداً في كلية الهندسة.
وفي مقاهي حمص، وضع أحمد ولقمان ونجوى تلك الأسماء على الطاولة للنقاش، وكذلك سامر ونبيل في مكتبة حماه، وعمر في ملحمة دوما.. في اللاذقية، كان جورج زريق يترقب مقالات "كيلو" و"سارة" كضوء جديد في عقله السياسي الحزبي. في حلب، كانت معارضة المجتمع المدني ممثلة بالدكتور فارس إيغو. عند بيت الحجازي نفحة مشابهة لتلك الأسماء، وفي السويداء كانت الشاعرة أميرة أبو الحسن نموذجاً عن هؤلاء المعارضين. من دمشق تكلم بلسانهم الكاتب نجيب نصير منذ أول الأحداث. أفكارهم ومعارضتهم "متفشية". إنهم في كل مكان في سوريا، وأفكارهم على كل لسان.
وكان المؤتمر الأول من الداخل. وخرجت المعارضة الوطنية إلى الضوء، ودخلت في التاريخ من فندق دمشقي! فكان عليها هجوم مزدوج: التطرف على ضفتيه من الخارج والداخل. العاطفيون على نوعيْهم، المعارض والموالي، هاجموها، وشارع كبير استمع إليها وترقبها. شارع كان ينتظرها، وجد فيها "دواء مهدئا للعصفورية السورية"، لكنه يضعها اليوم أمام التحدي الأكبر مع الوقت والقدرة والفعالية في الإمساك بأرض الثورة. فماذا تقول اليوم؟
لؤي حسين: لا أحد يمثل أحداً
لو حالفتك الصدفة في يومياتك الدمشقية منذ أسبوعين لتعبر بفندق الفردوس ذات مساء، كنت لترى طاولة تجمع ميشال كيلو ورلى ركبي وسمير سعيفان ولؤي حسين وغيرهم من المعارضين. لن يطيلوا معك الحديث، فهم يتناقشون، يجتمعون للتحضير. يبتسمون مبتعدين عن الإعلام ويشرعون في نقاشاتهم حول الغد. لو كنت ناشطاً على "فيسبوك"، ستصادقهم لتطّلع على أطروحاتهم وأفكارهم اليومية وتعليقاتهم على الحدث. لو كنت طالباً شيوعياً أو قومياً أو ناصرياً منذ 30 عاما، كنت لتناضل معهم. لو كنت تقرأ الصحف اللبنانية والعربية، لتعرّفت أكثر على أفكارهم. منهم خرجت ثلة، في مقدمها لؤي حسين، وعزفت الخطوة الأولى في المعارضة في مؤتمرها العلني.
منذ أسبوع، بعد قراءة تعليقه على حديث وزير الخارجية وليد المعلم، سألت لؤي حسين عبر "الفيسبوك"، "ماذا تمثل" من الشارع، فأجاب "لا شيء". منذ يومين في مقهى "عندنا" في الشاه بندر في دمشق، سألته السؤال ذاته، فأجاب مروحة أفكار مفادها: نمثل العقلاء، "هناك في الأغلبية الصامتة أرضنا".
منذ أول أيام استفاقة درعا، كان لؤي حسين المصدر الإعلامي الرئيسي لـ"الجزيرة" و"العربية" و"رويترز" و"بي بي سي" و"فرانس 24". ذهب إلى قلب الحدث ونقله إلى الدنيا، فاعتقله الأمن في 22 آذار جاعلاً منه أول معتقل سياسي في الثورة السورية. "كان اعتقالاً انتقاميا". ولكن أيام اعتقاله الثلاثة لم تكن صعبة، فقد عرف الاعتقال والسجن والأسر لمدة سبع سنوات متواصلة بتهمة "فكرية". فكان طالب فلسفة في السنة الرابعة، وناشطا في حزب شيوعي معارض، فجعله القمع البعثي بطلاً في العام 1984 وأطلقه إلى شوارع دمشق من جديد في العام 1991. بعد الخروج من الأسر، افتتح دار "بترا" للنشر وعمل فيها على إصدار كتب علمانية فكرية وبحثية. كتب في صحيفة "السفير" منذ 2003 حتى 2008 في الشأن السوري والوضع الإقليمي. يشرح حسين سبب توقفه عن النشر "في 2008 مع حرب غزّة، الوضع الأمني صعّب عليّ الكتابة".
لم يكن المؤتمر المعارض أول موكب جمعه مع رؤوس المعارضة الآخرين، ففي الأعوام الماضية نشر عدة كتب سياسية، وكانت عبارة عن حوارات في المعارضة الوطنية السورية مع المفكرين، ومنهم طيب تيزيني وبرهان غليون وجودت سعيد وصادق العظم وجورج طرابيشي.
كثير الحركة، كثير الكلام عميقه...والد آنستين صغيرتين تذوقت يومياتهما نضال "بابا البطل". دخل الأمن على منزلهما، وأخذ حواسيبهما وخرّب منزلهما بحثاً عن "بابا ونشاطه" منذ ثلاثة أشهر.
في جلسة سمر بين ماضي نضاله ومستقبله، للؤي حسين شخصية تبهر جالسه..."في العمل الكتابي والشأن العام، كنت أحاول أن أساهم بثقافة سياسية، أبرز ما كتبت في انتقاد النظام كان عن موضوع السلام مع إسرائيل". يعبر لؤي هنا أنه ليس ضد فكرة السلام ولكن نقاشه في المقالات كان يدور حول أن السلام الخارجي يحتاج إلى سلام داخلي كمرحلة أولية، كما رفض فكرة التفاوض على الجولان. ثم حين يسأل "حسين" عن فلسطين يجيب بسرعة المحسوم: "أنا سوري أريد الجولان، فلسطين للفلسطينيين أن يحرروها".
يتابع التظاهرات. يسمّيها "قرقة" تيمّنا بالدجاجة التي تجلس فوق البيضة لتخلقها صوصاً. يقول لأصدقائه أيام الجمعة بينما يتجه نحو مواقع التظاهر "تارك قرقة بالميدان، بدي شوف وين صارت". لكنه يعرف ويقول إن المعارضة "النخبوية" المثقفة التي انطلقت من فندق "سميراميس" ببيان تلاه هو، ودعوات أشرف عليها هو، لا تزال لا تمثل الشارع المتظاهر، وهي تدرك هذا الأمر. ولكن لؤي يشير بتحفظ "أمني" على الأسماء أن بعض "التنسيقيات" كانت جزءاً من اللقاء، وبعضها الآخر رحّب بها، وان صفحة "اتحاد التنسيقيات" صفحة إلكترونية لا تعبر سوى عن مؤسسها، بينما التنسيقيات بعضها أصبح معروفاً بالأسماء.
يرفض توصيف الشارع بالتيار الإسلامي، قائلاً "التيار يطالب بدولة، شارعنا التظاهري ليس سياسيا ولا إسلاميا، هو شارع منتفض لحقوقه، ولا يزال الوقت مبكرا لتصنيعه سياسياً لأنه لم يطرح سياسة ولا أفرز قيادات". أما عن السلاح والعصابات المسلحة، فيقول حسين: "أنا لا أقر للإعلام بوجود مسلّحين لأن ذلك يكون مادة لحرب إعلامية في يد السلطة". وهنا ينتقد المعلومة ووصولها والإعلام السوري "معلوماتنا يجب أن تكون عن طريق الصحافة لا الرأي، والصحافة لا تكون بتلاوة نشرة أمنية، أنا قلت إنني مقاطع للإعلام السوري، تضامناً ودفاعاً عن الصحافيين السوريين الذين تمسك بأعناقهم وأعناق وسائل إعلامهم أجهزة الأمن".
"لا يوجد في سوريا أحد يمثل أحدا، فلا آليات لدينا لفرز الممثلين. مجلس الشعب زائف، وحتى السلطة لا ممثل لها سوى رئيس الجمهورية، علينا الانتهاء من كلمة "تمثيل" هذه، غداً سينتقدنا الشارع وهذا حق أي سوري على الأرض السورية لا يستخدم أسماء وهمية ولا يتكلم من خارج البلاد. لا يحق لمن هو في الخارج أن يأخذ المواقف، يحق له أن يبدي الرأي فالعمل السياسي يكون على الأرض. نحن الذين كنا في اللقاء التشاوري نمثل كل من يؤمن بدولة ديموقراطية.. بعض الرفاق الذين انسحبوا قبل المؤتمر (رلى ركبي، سمر يزبك، عارف دليلة، ياسين حاج صالح..وغيرهم) ربما خافوا من التخوين فنحن لسنا معتادين على الحياة السياسية العلنية، ولدينا تقدير أن السلطة فاعلة في كل شيء، وهذا صحيح. لكن مؤتمرنا كان يشبه تظاهرات حماه. ففي حماه مثلاً، التظاهرات كلها كانت بمعرفة السلطة. أنا أجلس مع السلطة وأقول لها ما أقوله على المنبر العلني: لا بد من زوال النظام الاستبدادي الحاكم والانتقال إلى نظام ديموقراطي مدني. كل سوري قلق من مستقبل مجهول متضامن معي اليوم، لأن مؤتمرنا أتى في إطار صناعة المعلوم، وبعث الحياة في السياسة السورية". وقال "نحن معارضة تصالحية وليست تسامحية، ولن نحاور قبل تنفيذ التوصيات التي طلبناها في المؤتمر، ونحن سنبقى في الشارع حتى يتم تحقيق كل مطالبنا، ونعمل على تعزيز رؤيانا في المناطق وتوسيع تيارنا".
ريما فليحان: وجودنا يرفع السقف
كثر من الأسماء المعارضة اعتذروا أو قاطعوا المؤتمر، ثم رحبوا بتوصياته وطالبوا بالمزيد. بعضهم تردد كثيراً ولكن صمم على الذهاب، وهكذا أصبحوا 300. وصلتها الدعوة لحضور اللقاء التشاوري الأول في فندق "سميراميس"، فترددت ريما. منذ أول الأحداث وهي تحت المجهر، كتبت "نداء أطفال درعا" المشهور فشهر التخوين سيفه لأنها وصفت الحل الأمني بالحصار.
استطلعت كاتبة السيناريو الناشطة في المجتمع المدني آراء أصدقائها على "فيسبوك" حين تلقت الدعوة، فشوّشتها، واعتذرت عن حضور المؤتمر علناً. ومن ثم، في اليوم التالي كانت على المنبر الإعلامي في فندق "سميراميس" تجيب عن أسئلة الصحافيين...ما الذي قلب رأيها؟
تقول ريما في مركز عملها في مكتبة "إيتانا" العصرية في الشعلان: خفت أن تستغل السلطة هذا الموضوع، ولكن قبل نصف ساعة من موعد المؤتمر كان يدور في رأسي الحوار التالي "إذا كان كل شخص مثلي مؤمن ببلده ونفسه وبعدم خيانة الدم الذي أوصلنا إلى اللقاء لم يذهب، فمن الذي سيذهب؟...مضيت إلى "سميراميس"، ولحظة النشيد الوطني امتلكني شعور عارم أكبر مني، وبكيت وقلت لنفسي، سأقول ما أريد هنا أمام الكاميرات من دون خوف: دولة مدنية بشكل سلمي. السلطة طبعاً ستستغل، ولكن قلت لنفسي ربما وجودنا سيجعل البيان يوافق نبض الشارع..
وعن الهجمة قبل المؤتمر وبعده، تقول فليحان "المعارضة بالداخل لم تهاجم المعارضة التي في الخارج، ولولا هجوم الخارج علينا، لما استطاع الإعلام السوري استغلاله"..رسالتي ورسالة المؤتمر للداخل الذي لم يحدد موقفه ولا يزال خائفا من الفوضى: هناك مفكرون وهناك كيان سياسي في الداخل قابل للنمو وهذا يجنب الفوضى، وهناك جهات معارضة ومستقلة في الداخل تساند الحراك الشعبي ولا تعمل بأجندات خارجية. أنا أريد أن يسقط النظام، ولكن ليس على رأسي، نريد انتقالا سلميا ديموقراطيا إلى الدولة المدنية، ويجب ألا ننسى أن جزءاً من هذا الشعب السوري مع هذا النظام. سوريا مختلفة عن مصر وليبيا وتونس واليمن، ولا قالب واحداً يمشي في كل الدول، لكل بلد شخصيته...
سلامة كيلة: مؤتمر الضمانة
ضد المؤامرة والفتنة
"كنت في ثورة مصر"، هكذا يعرف المناضل ذو الشعر الأبيض عن نفسه فوق طاولة القهوة. وتتدرج التعريفات: "فلسطيني الولادة أردني الجنسية مواطن عربي من جيل الهزيمة في 1967 ساكن في سوريا منذ 30 عاما...كاتب دفع ثمن حرية فكره ثمانية أعوام في الزنزانة، تزوّج صديقته في السجن، فكان عريس النضال السياسي في السجن منذ 1992 حتى 2000. وخرج من السجن كاتباً ومفكراً له مقالات في الصحف العربية واللبنانية حتى اليوم.
للمعارضة التي فيه أسبابها "النظم العربية فاشلة غير قادرة أن تحقق لشعوبها، وبالتالي غير قادرة على محاربة الصهيونية. قبل صرخة درعا، كان تحليلي أن الأمور مقدمة على انفجار اجتماعي بسبب التحول الاقتصادي نحو قطاع الخدمات والمصارف والعقارات والسياحة على حساب الزراعة والصناعة. وحين صرخت شريحة الثورة الاقتصادية، قرر النظام أن يواجه بعنف لأنه مدرك لما فعله في المجتمع".
يدافع كيلة عن الحراك السوري، ويعتبر أن السلاح "كان رد فعل محدوداً على ممارسات فظيعة من النظام" كما يستبعد أخطار حروب طائفية في سوريا. يعتبر أن الجذور اقتصادية بحتة، وأن وعي الغضب ينتقل إلى وعي سياسي تدريجياً. "الوعي الديني التقليدي يطرح في هذا السياق، الشارع ليس مؤدلج دينياً بالمعنى السياسي. المشكلة في المعارضة بالخارج، الإخوان المسلمون ومن حولهم، إنهم يتكلمون عن مجلس انتقالي وتواصل مع الدول الغربية ووضع دستور من الخارج، وهذا طرح بديل ووُضع برنامج. وهؤلاء هاجموا مؤتمرنا الداخلي لتشويه دوره. أتمنى على كل من انتقد المؤتمر وهاجمه أن يهدأ ويفكر..هناك حاجة وحرص على تطور الانتفاضة ولا أحد يقفز إلى حوار مع السلطة".
مؤتمر جميل ...ولكن
كل شيء مختلف في أحاديث دمشق ما بعد المؤتمر المعارض. كأن النقاش العام اكتسب جرعة إضافية من المعنى السياسي... تتكلم الألسنة عن قدرة العبور إلى الشارع، وعن هيكلية أحزاب المعارضة بالمقارنة مع المعارضة الجديدة. عن تدرّجات الوعي السياسي وامتداده إلى المناطق. في مذياع السيارة الصفراء، أصوات إعلامية تناقش مؤتمر المعارضة وتقيّمه وتقيّم سقفه العالي على مسامع المواطن السوري. في الحياة السورية مادة جديدة تظهر في كل الوجوه، معارضة وموالية.
يتساءل الشارع عن قدرة المؤتمرين على ترجمة خطابهم في عمل ميداني سياسي في المناطق. الدكتور احمد برقاوي من مكتبه في كلية الآداب ضحك ضحكته المعهودة لدى السؤال، وقال: "ما كان ليعقد المؤتمر لولا أولئك الذين يخرجون إلى الشوارع ويستشهدون..إذاً هو ثمرة من ثمرات الحراك السوري وبالمقابل وعي جديد للسلطة بالآخر وأهمية الحوار مع المختلف.
لكن كونه مؤتمر "مثقفين وما شابه ذلك"، و"سياسيين وما شابه ذلك"، فهو عكس جملة تناقضات في هذا الجسد. لقمان الحمصي، الذي كان ينتظر مبادرة كهذه، كان بالأمس يمشي متذمراً باسم الشباب السوري الذي هو شارع العمل السياسي: كل ما قاله المؤتمر جيد ولكن كأنهم حالة المعارضة العاطفية لا الفعلية، فلم يطرحوا برامج العمل. عليهم أن يتمددوا في المناطق، نعم خطوة تاريخية ولكن حان الوقت للخروج من نشوة انتصارهم والعمل على الأرض، فليس لدينا متسع من الوقت، أنا اليوم أجد نفسي أقرب إلى المعارضات التاريخية لا معارضة مثقفي المقاهي....
هذا لقمان، أما شادي الشاب الثائر الحاد، ورغم إعجابه بكل ما جاء في توصيات المؤتمر إلا انه سارع إلى اعتباره قيد "استغلال السلطة"...ولم تغب عنه مشكلة "الأنا".. هؤلاء الشباب الناشطين، هم شارع تلك المعارضات السياسية المستفيقة في دمشق، وهؤلاء يطرحون تساؤلات كثيرة ويريدون المزيد...
وفي الشارع مقارنة دائمة بين معارضة الأحزاب ومعارضة المثقفين.."الأحزاب قديمة أثبتت عدم قدرتها على لعب دور طليعي في السياسة"، هذا رأي لؤي حسين وغيره كثر..."الأحزاب المعارضة مع حسن عبد العظيم قادرة على العمل على الأرض، ولديها قدرة القيادة وبرامج العمل". هذا رأي بعض الشباب السوري المعارض...وما بينهما، نقاش سوريا السياسي في قمته، والجناحان متكاملان بمشروع واحد وأمامه التحديات وجمعة واحدة قبل مؤتمر الحوار الوطني. على مشارف أسبوع الحياكة السياسية الداخلية في سوريا، يلعب الشارع المثقف أجمل أدواره: الحسيب والرقيب.