صفاء خلف
الاله المنقسم:
سقطت المجتمعات العربية - ومنها العراقي- في فخّ الأصولية الدينية، فانحدرت من كونها تنظيمات مدنية تسعى حثيثاً لتطوير بنيتها الثقافية والفكرية والحضارية، إلى هوة داكنة وسحيقة كلما حاولت الخروج منها دخلت في تشعب يأخذها إلى تيه جديد ضمن المتاهة الكبيرة (الدين/المذهب)، نظراً لتعقد بنية التدين وتمازجه بالخرافة والنزعة المناطقية والانتماء القبلي.
ولم يعد من أمل في أن نستعيد جزءاً من عقلانية الدين بعد أن أضحى "هوية بديلة" أكثر رسوخاً بحكم عوامل القهر والفقر والاضطهاد المتراكم من هويات "عابرة" أخفت الوجه المخيف للشيطنة البشرية باعتبارها طريقاً للحفاظ على المكتسبات الصغيرة في ظل التنازع الإلهي - الآدمي وعدم الاعتراف بالآخر.
ولعل الأصولية الدينية في المجتمعين العربي والعراقي، لم تكن قتيلة فأحييت، أو أسيرة فحرّرت، أو مغيّبة فاعترف بها، بل هي واحدة من الأساسات الصلبة التي نشأت عليها تلكم المجتمعات، والركيزة الأكثر قوة في البقاء من كل العوامل التي بدت مؤثرة في مرحلة ما والتي كانت ينظر لها بالأساس على أنها ثوابت الخلق.
فالظاهرة الدينية انسجمت مع الطبيعة الإقصائية للفرد العربي، وعبرت عن كراهيته وجانبه الشوفيني في التعالي، بل إنها أعطته شرعية قداسوية أكثر من كونها ممارسة اجتماعية تنطلق من عقدة الحساسية التاريخية من الآخر، فحين كان الأفراد يؤمنون بأحقية ما، في (الأرض/المال/السلطة) كان صراع بشريّ طبيعيّ وفق النموذج الهوبزي – حرب الجميع ضد الجميع – يحدث !!، لكن حين دخل الله ومعاونوه الأرضيون على خط الصراع، بات الأمر خطرا بشكل يدعو لتدخل قوة موضوعية معادلة – نفتقد وجودها – تضبط الموقف وتجعل منه صراع أضداد ديالكتيكيا يعمل على التصيّر المستمرّ نحو الارتقاء ببنية الفرد والمجتمع على حد سواء.
لكن بقاء قوة الله ومعاونيه تهيمن دون رادع بين متناحرين ينتمون لذات التفكير مع تفرعات شاسعة تغذي الخلاف، يعني نفوذ قوة مدمرة للتعايش والسلم الأهلي، فلا يمكن اليوم مثلاً إعادة ترميم الصدع الكارثي الذي حدث في (يوغسلافيا) وتشظيها الى جمهوريات ودول صغيرة ترفض بعد مضي قرابة 20 عاماً من التقسيم إثر حرب قذرة الاعتراف ببعضها ككيانات مستقلة، فروح الحقد الديني هي من تحكم النزاع لا براجماتية المصالح السلمية، فحين يشتبك الأفراد دفاعاً عن هوية (غامضة) يجدون أنفسهم في أتون دوامة جينوسايد (إبادة جماعية) متبادل من اجل ان ينتصر الله (المسلم) على الله (الصربي)، او ينتصر الله (الحمساوي) على الله (الفتحاوي) في فلسطين أو الله (الشيعي) على الله (السني) في العراق أو الله (الإخواني) على الله (القبطي) بمصر، وقائمة الصراع تطول ولن نجد مجالاً لسنين في إحصاء القتلى او إحصاء الخلافات أو إحصاء الآلهة المختلفين في الأرض – كما البشر- والمتوحدين في السماء.
تكمن الإشكالية التاريخية، في العقلية الدينية المتوارثة والمتصلبة والباحثة عن عوامل تغذي الخلاف كلما لاح في الأفق خيط من التقارب، فنظرية (الفرقة الناجية) تشتغل بقوة دافعة باستمرار دون أن تتوقف لأن القوة تولد من قوة النص (المقدس) ليُخرجها (المفتي المقدس) على الأتباع الذين تشتغل في لاوعيهم ووعيهم كم هائل من الخرافات التمجيدية للقوة/العنف، وكم مشابه من الحكاوي البطولية وأساطير وكرامات لأبطال الطائفة، لتتحول بالنهاية إلى قوة مادية تترجم عبر السلاح المتاح في اقرب مناسبة للتقاتل.
فالعقل الشيعي ما فتئ يرفع شعار يا (لثارات الحسين) على الرغم من مضي 1400 عاما على العمل الوحشي الذي ارتكبه (يزيد من معاوية) العام 61 هـ ، فيما يرفع العقل السني شعارا مضادا هو (دار الكفر/دار الإسلام) والجهاد والسلفية، تمظهرت بالنتيجة في ظاهرة حركة القاعدة العالمية والتنظيمات السلفية المتعددة، فيما تتمظهر "السلفية الشيعية" في (الثورة الإسلامية في إيران – حزب الله لبنان – حركة الصدريين في العراق – عصائب الحق - إلى جانب حركات أخرى).
يأتي السؤال: السلفيون الشيعة والسنة ممن يريدون الأخذ بثاراتهم؟!.ليس هناك من مجتمع صغير في العالم له علاقة بالأسلاف المقتولين ولا بالأحلام الفردوسية الضائعة !! والحقيقة ان روح عصبية مريضة تسيطر على الداعين والمغذين والمؤسسين لتلكم الحركات.
ان العقل الديني عراقياً، عقل مركب، يتجه في مسار ما إلى السطحية والسذاجة والخرافة، وفي مسار مواز، تهمين عليه الأحقاد الطائفية والدينية ويبرع في إيجاد تبريرات تاريخية/نصية مقدسة لها.
بالرجوع إلى الأصل العراقي في تشكل عقله الديني نجده متماثلا في آلية تفكيره اليوم، لا اختلاف سوى بالرمز البديل والقضية المستعاضة، فحروب اوما ولكش في فجر التاريخ بأرض سومر كان خلافهما ديني بحت، والدويلات والإمبراطوريات الناشئة بعدها نبعت من انحياز الهي لفئة دون أخرى، ولعل البعض حلا له أن يتصل بالاله مباشرة فيكون خليفته وممثله في الأرض، كما سرجون الاكدي ونبوخذنصر وحمورابي، ليتم إنتاج الصورة مجددا بثوب بالخليفة الإسلامي (ظل الله على الأرض) وليستمر هذا الظل الكئيب يخيم على مصائر المجتمعات وصولا الى صدام حسين، الذي أعاد تأسيس شخصية الفرد/الإله استنادا إلى موروث ضارب في الوعي واللاوعي الجمعي، فمرة يصل نسبه بـ(علي ابن أبي طالب) الأب الروحي والشرعي للهاشميين، ومرة يصله بـ(نبوخذنصر) الملك العراقي الأوحد.
ولعل آخر من استعاد صورة التأييد الإلهي كان رئيس الوزراء العراقي الأسبق إبراهيم الجعفري في العام 2005 ، حين قال إن مشيئة الله هي من فوضته السلطة التي أوصلت البلاد إلى أتون حرب دينية مدمرة.
ولربما يطرح تساؤل أعمق واخطر: لِمَ لم يظهر في الإرث العراقي فكرة ادعاء الألوهة رغم أن عوامل التصديق والاتباع متوافرة إلى حد بعيد في الذهنية والطبيعة العراقية؟!.
الإجابة تتلخص في أن العقل الديني العراقي، عقل متداخل بين (حدة الذكاء) و(الخوف الغريزي) و(المخيلة التوليفية)، فالعراقي قديماً وحديثاً، فرد حالم واتّكالي في التغيير، لديه منبع خوف كبير من الصدام مع الطبيعة أو القوى الغيبية (الآلهة /الله) ويعتقد بشكل عامّ بقوّة الأشخاص الروحانيين والسلطويين، كونه فردا مروّضا بالقوة، فهو يؤمن بأن التعدّي على السلطة أيّاً كان شكلها هو تعدٍّ على القوة الأعظم في الكون وبالتالي يخشى حلول اللعنة والبلاء عليه، فيتّقي المواجهة بالخنوع أو "التقية".
عوامل الضغط المستدامة [الطبيعة/الآلهة/السلطة]، تشتغل في الذهن العراقي، ولا يجد ذاته متعايشة بعيداً عنها، فالمقدس يتدخّل في أبسط الأحلام والأعمال اليومية، لذا العقل الديني: تشكيلة اعتياشية لا يمكن الفكاك منها لارتباطها بالانكسار العميق في الشخصية العراقية الباحثة عن أي بصيص أمل (طبيعة اتكالية) للخروج من مشكلاته الشخصية. وما صورة تقديم النذور لدى المسلمين عامة والعراقيين خاصة إلا استعادة لاواعية للنذور المقدمة للآلهة في فجر التاريخ طلبا للحاجات الشخصية.
فالتدين مرض سايكلوجي متلازم يحقق استقراراً ذاتياً، غير أنه استقرار مفرغ من المعنى الإنساني والفعالياتي.
فحين يجد السنّة أنفسهم يستقتلون دفاعاً عن "السلف الصالح" رغم الفضائح الكبيرة لهذا السلف في التعدي على المال العام واستحلال دماء المسلمين والصراع على السلطة كمقتل عمر وعثمان وعلي مثلاً، يجد الشيعة أنفسهم في حرب مفتوحة وأبدية دفاعاً عن التشيع العلويّ، وإصرار على استعادة الحقّ المغتصب في الخلافة.. فضلاً عن التزامهم جانب المعارضة في كل الحقب الإسلامية ورفضهم بعد حركة الحسين بن علي الدخول بصدام مباشر مع السلطة، رغم أن ظروفا توافرت لهم في الانقلاب وتحقيق اليوتوبيا الشيعية، غير أنهم التزموا ما اصطلحوا عليه بـ(التقية) وهي في حقيقتها تنازل ضمني عن "الحق المغتصب".
التاريخ الديني يكشف عن الحقيقة الغامضة. لكن الجماعات الدينية تحجب تلك الحقائق وتستمر بإنتاج بروباغندا تضفي عليها تشويقا إيمانيّا أكبر من المسحة الملائكية التي تحدثنا عن الطهر والنقاء والورع والتقوى، ولعل الإشارات التي توصل لها المفكر العراقي هادي العلوي في "تاريخ الاغتيال في الإسلام" دليل مضاف على الأدلة التي يكفرها المسلمون، والجهد العظيم لـ(خليل عبد الكريم وسيد القمني ونصر حامد أبو زيد وعلي عبد الرازق وعباس عبد النور ومعروف الرصافي) في مؤلفاتهم وكشوفاتهم، دللت على أن العقل الديني المؤسس للمجتمع الإسلامي، عقل بشري مدنّس توهّجت لديه عبقرية خارقة فافترض ما نتخاصم عليه الآن.
لست بالمنحاز إلى فئة دون أخرى، أو لدينٍ دون آخر، فكل الأديان متّهمة بالقتل والعنف والتحريض عليهما في زمن من الأزمان، ولعل الدين الوحيد الذي لم يتخلص بعد من عقده القديمة ويرفض أن يكون تراثا روحيا بجوانبه المشرقة تحديداً هو "الإسلام"، والذي يشكل مصدر قلق كبير في إعادة تنظيم المجتمع العراقي والعربي، وحجر عثرة حقيقية أمام التحديث بسبب الالتزام الشديد بالنص وعدم الخروج عليه، يضاف إلى ذلك كمّ هائل من التأويلات المتواترة والاجتهادات الموتورة عبر 14 قرناً!!.
حركة تحديث المجتمع العراقي تكاد تكون معدومة بسبب هيمنة ثقافة العقل الديني على أفراده الذين يسيرون في قافلة ضائعة كالعميان دون هدى أملاً في خلاصات وهمية أخروية وأخرى دنيوية، غير أن الأهمّ من ذلك أن الدين لا يستلزم من هؤلاء الأفراد أن يكونوا على ثقافة أو وعي، لأن الخطاب الديني خطاب بسيط وغيبي، بيد أن الوعي يصطدم بالوهم، وبالتالي الدين يوفر للبسطاء قناع واهم بأنهم يعلمون ويعرفون ما يجهله الآخرون، وأن التزامهم الديني هو التزام منطقي وأن تشكيك الآخر (الواعي) هو نوع من الكفر والإلحاد والتيه والوقوع بحبائل الشيطان، لاسيما وأن التعاليم الدينية تتوافق بدرجة كبيرة مع حاجات البسطاء وقناعاتهم العصبية القبلية، كقمع النساء واستعداء الأخر على أساس مناطقي والانتماء القبلي فضلاً عن تعزيز مفاهيم الشرف و البطولة وغيرها!!.
الدين وجد له مساحة خصبة للنمو، هي الجهل والفقر على حد سواء، الجهل = الخرافة والفقر =الخيال، وكلاهما أي الخرافة والغيب مرتكز للدين وتسويقه.
سرقة المستقبل..
حرب فائرة بين أتباع الإسلام (السني – الشيعي) بنسخه المتعددة، لسرقة المستقبل، سحب مياهه الجوفية من الغد البعيد، لإفراغ الزمن الأتي من محتواه، وخنقه بحاضر مشتبك، وماض مندحر، حرب تعمل على تجديد خصومة الموت مع الحياة.
الملاحظ أن شبكة الستلايت، أصبحت مزحومة بقنوات دينية متعددة الخطاب تصل حدّ الغرائبية والشوفينية المريضة والمازوشية القاتلة والتخوين المستمر، فقط من أجل إنتاج (جيل!!) مؤمن بثقافة "الانتحار المعلب الجاهز في سبيل الله!!" وفق قياس المصلحيات الضيقة، والقناعات المريبة التي تريد ان تأخذنا إلى نهاية تاريخها تحقيقا ليوتيوباها الخاصة!!، لكن نهاية أي تاريخ تعني بدايته، فالزحام "الفكري" حول فرضيات الأحقية بالحكم العادل، تتقاذفها الفضائيات الدينية التي تتجاور مع صويحباتها من فضائيات الرقص والـsex show ، وكأن الكل يريد أن يمضي بنا إلى حلبة مفرغة من المعنى، دون الالتفات الى قيمة الإنسان وخياراته الشخصية المعتدلة غير المصابة بلوثة "الدين" أو"التهتك" وكأن العالم أضحى منقوص الثقة، والإنسان معدوم القيمة، تستمكنه صفة "ذئبوية!!" في الاستحواذ.
سرقة المستقبل، تباركها الدوائر الدينية المغذية لدوائر صنع القرار السياسي، فحين نجد أن بلدا كالعراق خرج للتو من شرك اعتقال زمني مرعب طيلة قرون، تتجدد خلالها صيغ الاستبداد وصولا إلى نسخة "البعث العظيم!!" ، يدخل في شرك جديد، يشير إلى ولادة حقبة استبدادية أكثر ظلامية.
ما يمر به العراق اليوم، هو إعادة تدوير لنسق التفكير الديني المهمين على صناعة الدولة. وما يمارسه العراقيون اليوم، من غلو ديني، هو نتاج تاريخي طويل من التبدلات الدينية والقمع المؤسسي والكراهية الأهلية، فليس هناك من دين دولة – مثلاً – هناك صيغة تدين داخل الدولة تحاول المؤسسة ترسيخها عبر قنوات تشريعية كالدستور، لكنها متناقضة ومرتبكة وهشة.
التدين، ظاهرة أخطر من ظاهرة الدين داخل مؤسسة الدولة والمجتمع، لكونها تجمع ما بين المقدس والمدنس في آن واحد، وتعطي لذاتها المبررات الكافية لديمومة البقاء، فظاهرة المتدينين الجدد في العراق تصيب الجسد والعقل العراقيين بأمراض عصيّة على الاستئصال.
المواد الدستورية التي فرضت من قبل المتدينين الجدد، مقحمة عرضيا في سياق بناء دولة مؤسساتية أو أُريد لها ان تكون مؤسساتية، فكيف – مثلا - للمحكمة الدستورية ان تفسر بشكل واضح ودقيق وقانوني وملزم، تعارض مادتين في الدستور العراقي بشكل واضح هما، (عدم سن قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام !!) و(عدم سن قوانين تتعارض مع حقوق الإنسان!! ).أم أنها ستلجأ إلى ذات لعبة تفسير المادة 76 من الدستور الخاصة بالكتلة الفائزة بالانتخابات التشريعية التي لها أحقية تشكيل الحكومة، فأوردت تفسيرات متضاربة لاسترضاء طرفي الصراع (ائتلاف دولة القانون) و(ائتلاف العراقية) على حساب مصير بلد دخل في أتون فراغ امني و سياسي مع تعطل كامل لمؤسسات الدولة التشريعية والدستورية والخدمية طلية شهور تسع، ليولد الانقسام اشد انقساما.
مادتا (الإسلام و حقوق الإنسان) لغم آخر موقوت في الدستور المفخخ سيثير حروباً و جراحات لن تندمل إلا بإلغاء هذا الدستور المتناقض وكتابة دستور جديد مبني على أساس مدني لا على أساس ديني وعقائدي.
لا يقدم الدستور تعريف محدد (للثوابت)، وكأن (الأمة) متفقة على تلك الثوابت ومؤمنة بها إيمانا قطعيّا وتعيش في آتون مجتمع مغلق دينيا وعقائدياً، وان تم التسليم بقبول تلك الثوابت، فإنها تؤسس – كما الآن – لديكتاتورية رجعية تعيد صورة القمع العراقي القديم، بصورة أقسى وأبشع حتى من ديكتاتورية صدام الوحشية.
ويبقى التساؤل مفتوحا كجرح غائر، كيف يمكن "المزاوجة" بين الدين ومبادئ حقوق الإنسان، لاسيما وأن الأخيرة أكثر نضجاً وإنسانية وتفهماً لقيمة الإنسان باعتباره كائن مجرد من انتماءاته وغير مشروط بجهوية ما، فالإسلام .. ان كانت هناك دراسة منصفة للنص القرآني "المقدس" حول مفهوم حقوق الإنسان، نجدها غائبة عن التصور التجريدي المحايد، وتدخل في تعظيم الإله وبيان قدرته في الخلق، ليس إلا، ولم تتم الإشارة بشكل صريح إلى الحقوق الطبيعية له في التفكير والتغيير والتساؤل والاعتراض وحق العيش واختيار الدين، فكل تلك الحقوق أُهدرت لكونها مثلت اختراقاً لمنظومة المعرفة الإلهية والتسليم بفردانية ووحدانية الله ، وخرقا لعصمة المقدس.
(المرتد عن الإسلام) – تلك بالتأكيد ستكون تهمتنا الجاهزة والمعلبة - ، يلقى حد الحرابة، وحد الحرابة هو ما نصت عليه الآية القرآنية : (( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ في الأرض ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) سورة المائدة/الآية 33.
و تهمة الارتداد عن الإسلام أصبحت مشاعة اليوم من قبل المتدينين الجدد في العراق ضد نشطاء الفكر والمعرفة والثقافة، لتخرج من "جلباب" التشريع الأول، ولتدخل في جلابيب الأنبياء الجدد من التكفيريين والظلاميين والذين أغلقوا كل منافذ الحوار وتقبل الآخر المغاير باتجاه الانغلاق الديني وضخ الخرافة في طبقات المجتمعات الفقيرة المتأثرة بذاك الخطاب، كاستجابة سلبية لواقع مرير.
التناقض في الدستور العراقي، يفتح الباب على التناقض ذاته، في باب الحريات الشخصية والفكرية، بالتالي أن لدى المتدينين الجدد تفضيلاً للشريعة على مبادئ حقوق الإنسان باعتبارها وضعية "مدنسة"، والشريعة "إلهية مقدسة"، فالمعركة محسومة من الآن بفتوى تكفير جاهزة.
تساؤل آخر، أجده ضروريا، لمحاججة "العقل" لدى المتدينين الجدد، كيف يمكن للعقل الإنساني (البسيط) أن يتفوق على العقل الإلهي (اللامتناهي) في سن تشريعات وحقوق غاية في الإنصاف والعدل، ولا يفرق بين البشر ولا يصنفهم على أساس دين أو عرق ولا يميز بين رجل وامرأة، و يعطي الحق كاملاً في الخيارات الشخصية في الدين ونمط الحياة وحرية التفكير، بينما نجد ان النص المقدس، لم يلتفت إلى تلك الحقوق الطبيعية، بل بخسها وأعدّ أنواعا من العقاب والتعذيب لمن يتجرأ على المطالبة بها أو الحصول عليها، كالارتداد عن الإسلام، و ميز بشكل عنصري واضح بين المرأة والرجل، وأعطى للمسلمين درجة أسمى من معتنقي الديانات الأخرى الذين اجبرهم على دفع الجزية أو القتل.
كيف يمكن أن نتصور، دولة العدل الإلهية، تقام وفقاً للمعطيات الموجودة في النص المقدس، وهو ما لا يمكن تحريفه !! أو الاجتهاد فيه !! ، حيث أن القيمومة الديالكيتية الأبدية ترفض : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر/الآية 9، و(لا اجتهاد في النص).
غودو المقدس المنتظر..
ينتظر "الشيعة" ظهور "الإمام المهدي" ، ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ان تملأ جوراً وظلماً، إن مثل هذه النظرة الخلاصية1 التي تتميز بها كل الجماعات المتمتعة بمخيال شعبي ديني خصب، تحاول القفز على الزمن، وإحراق مراحل التطور التاريخي الطبيعي للمجتمعات، وتنتقص كثيراً من قدرة الإنسان بالتعبير عن وجوده الحر، وبالنهاية إنها تصادر تعددية العيش والتجربة الإنسانية في التنوع والابتكار، فكل المحاولات "باطلة" ومحبوسة لصالح "غودو" المنتظر المقدس الذي قد لا يجيء.
مقابل ذلك، نجد ان الإسلام السُني، يدفع باتجاه مغاير، لكنه متطابق مع وجهة النظر الشيعية، غير أن هناك فرقا تدميريا!!. فالنسخة الشيعية تشتغل على "الإرجاء" والنسخة السنية تشتغل على "الإبداء". وكلا الحالتان تتغذيان من بعضهما البعض بضرورة الخصومة.
فالتنظيمات "الإسلاموية الإرهابية" ممثلة بتنظيم القاعدة، هي صورة للخروج عن نسق الحياة الاعتدالي، فالخروج الأول في الإسلام على علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان سنة 40 للهجرة، ذاته خروج "القاعدة" اليوم مع اختلاف المسميات والدلالات.
لكن بقي الدافع في إقامة "دولة الإسلام" التي ترتضي جدع أنف "الطفلة عائشة" غير البالغة التي فضلت طريق العقل المتنور على طريق العقل الديني المتحجر بأفغانستان، أو "دولة ولاية الفقيه" التي دفعت بكامل ثقلها العقائدي ضد "سكينة اشتياني" وكأنها "الشيطان الأكبر" وقررت بلا رحمة رجمها بتهمة "الزنى"، فقط لتدلل ان قوة الجمهورية الإسلامية في إيران تتمثل في "رجم" المعارضين للخليفة المرشد علي خامنئي الأخذ بالضعف.2 و الحال ذاته ينطبق على الممثلة الإيرانية (كيانا فيروز) وبالتأكيد هنالك الكثير من الأمثلة التي يتم التعتيم عليها.وفي العراق حملة حكومة المالكي المتأسلمة في إغلاق محال بيع المشروبات الروحية والنوادي الاجتماعية في بغداد والبصرة، لإعلان دولة قندهار العراق!!.
ولعل فكرة "ظهور المهدي" ليست وليدة أفكار الشيعة وحدهم فحسب، بل إنها فكرة أزلية لدى كل المجموعات الخلاصية بدءاً من "المانوية البابلية" وانتهاءً بطائفة "المورمون المسيحية".
ولعل أغرب ما يمكن أن نلمسه في تشكلات "عقل" هذه المجموعات الدينية، أنها مؤمنة بـ"قوة الفرد" لا بقوة "الإله"، وأنها كمرجعية تاريخية تنحدر إلى أصول ليس في عقلها الديني فكرة "حياة ما بعد الموت". ولعل البعض قد يستنكر ذلك، بفعل القراءات الخاطئة المشاعة للتاريخ، فالمروق الحضاري، كان مروق بشري، ولم يكن مروق الهي، إن الأفكار تتجذر حول اصل المعنى، لا حول تشعب الدلالات والطقوس، فلم يكن عراقياً أن من مات حوسب في آخرة فيها حياة مضافة أو "حياة تأديبية" بل كان هناك "عالم سفلي" يحرق في أتونه الآلهة والبشر على حد سواء، وفيه منفذ "العودة إلى الحياة" بعد الرحلة التطهيرية الذاتية، ومن يعود يتحمل مسؤولية إقامة العدل على الأرض، فبالأساس لم يكن هناك بيوم ما عدل أرضيّ حتى ننتظر أن ينتفخ بالون الذنوب ليفقأه دبوس المنتظر العائد.
تلك الفكرة – ما دمنا نحفر في اصل المعنى – بالأساس نابعة من التشكيك بقوة "الإله"، والتمجيد لقوة "الفرد"، فالعطب أصاب ماكنة السماء، لتشتغل بدورها ماكنة الأرض، رغم أنهما تجتران الكثير من البشر والدم كوقود.
والسؤال المطروح : هل عجز الله الذي أدار هذا الكون منذ الأزل، على تحقيق سيناريو عدله إلا عبر "عضلات بشرية" أي عبر "أفراد مختارين" ؟!. ما الدلالة التي يمكن ان نتوصل إليها في البحث عن الإجابة؟!.
إنها دلالة "صنمية الفرد" ، وتحسسه حتى من "الإله" ذاته ، فالمنافس القوي لـ"الله" ليس "إبليس" بل هو "الفرد" بوصفه أداة التفكير والتعبير والتنفيذ والتغيير، لذا هل نعلن استيلاء "البشري" على "الإلهي".ففكرة "المنتظر" تنطلق من منطلق كهذا!!.