{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
مآذن خرساء 15 ــ24 /48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين
حمادي بلخشين غير متصل
عضو فعّال
***

المشاركات: 134
الانضمام: Aug 2010
مشاركة: #1
مآذن خرساء 15 ــ24 /48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين
الفصل الخامس عشر
شقاء عائليّ

ـــ منذ تلك الحادثة قررت عدم الزواج ..هكذا قرّرت، ثم كيف يمكن لشخص محطمّ مثلي أن يكون أبا جيّدا؟ خصوصا و أنا دائم الإكتئاب، فاقد للبهجة وحبّ الحياة؟ فالبسمة و الرقة و الكلمة الحلوة أشياء لا توجد في مخزني، و ليست قابلة بأن توجد في يوم من الأيام، ما دمت أحمل هذه الرأس المليئة بالذكريات القاتلة، وهذا الصدرالمشحون بالتوتر والضيق و المرارة.. أليس من الإجرام أن أظلم روحا بريئة، و أنقل تشوّهاتي النفسيّة إليها؟ ألم أكن ألوم أبي على جفائه و عدم إبدائه أي نوع من العاطفة تجاهي؟ فكيف أرضى بمعاملة طفلي بما كنت و ظللت أكره أن يعاملني به أبي؟ هذا بالإضافة الى عدم مقدرتي على النظر في عيني ولدي وثقتي الكاملة في عجزي عن الدفاع عن نفسي، لو بلغته تلك الشائعات في يوم من الأيام .. كان مجرّد التفكير في حياة بلا أنيس كافيا لأن يزيد اكتئابي حدّة، وصدري ضيقا، و يميت في قـلبي كل أمل، و يجعل المستقبل موحشا و مرعبا، كانت الحياة أمامي عبارة عن ليلة شتوية طويلة و باردة كنت فيها متشردا لا أعرف كيف أمضيها. فالماضي يؤرقني، و الحاضر يعذبني، والمستقبل يذبحني. لم يبق الا الموت منقذا ولكن الموت لم يأت أبدا... كانت الحياة تمضي بطيئة و مزعجة و مثقلة بالآلام و المرارة.. حين بلغت السابعة عشر وجدت نفسي أحب فتاة. كان في إمكاني مصارحتها بذلك الحبّ، لكنني كنت أشدّ إصرارا على تنفيذ رغبتي في" لا زواج" لأجل ذلك كان ذلك حبّي أخرسا بالميلاد... كمآذن أوسلو الخرساء.
ــ كيف أيقنت انك تحبها؟
ــ كانت آخر من أفكر فيها قبل النوم، كما كانت صورتها أول ما ترد على بالي عند النهوض. و كنت أصاب بتوتّر وقلق شديدين لو مرّ يوم واحد دون رؤيتها.
وافقت رشيدا في الحال:
ـــ تلك هي أعراض الحبّ!
ــــ لماذا أحببتها، مالذي أعجبني فيها لست أدري. كانت فتاة عاديّة لا تشد انتباه أحد. بقيت معذبا طيلة خمس سنوات مدّة حبّي لها..لم أفكر في بالزواج بها ثم استعمال موانع تجنبني طفلا غير مرغوب فيه، لأن في ذلك أنانية لا أرضاها و حرمانا لها من حق الأمومة.
ــ أي ضمير لعين تحمل يا صديقي رشيد، لم يبق له ان يلومك عن ضحايا الحربين العالميتين الأولى و الثانية معا .
ـــ بعد خمس سنوات تبخر ذلك الحب تماما... فجأة كففت عن التفكير فيها قبل و بعد النوم و ما بين اليقظة و النوم. كما لم أعد اهتم رأيتها أو لم أرها... كيف حدث ذلك.. الله وحده يعلم.. المؤكد لديّ أن الحبّ يموت أيضا.

حين كنت في السابع و العشرين استدعاني صديقي كمال الى حفلة عرسه، أثناء الزيارة قدّم لي شقيقته سميّة.. فتاة في العشرين، جميلة الى حدّ غير معقول. قال لي" هذه فتاة تليق بك " لما كنت خجولا لم أقل لا، خطبتها دون أن ألغي من ذهني مشروع العزوبة الدائمة...ظللت

ـــ ص 98 ـــــــ

أتحين الفرصة المناسبة لإيجاد التبرير المقنع لإبطال الخطبة بكيفية لا تجرح صديقي كمال.. كلمّا زاد يوم زاد تعلقي بها .
ـــ هل أحببتها أيضا ؟
ـــ لا... لم أحبها.. كانت فقط مجرد شيء جميل. كانت باردة و خالية من الروح كزهرة صناعية.عاملتها بفظاظة كي أحملها على أخذ مبادرة فسخ الخطبة دون أن أقع في حرج مع أخيها. لم أكن اتصوّر أن ذلك القرار سيأتي مستعجلا... حين قررت هي فسخ الخطبة، لم أكن مستعدا لذلك، أصبت بكآبة إضافية..أدركت بعد سنوات عديدة، أن نفسيتي المشوهة كانت مصابة بالميلاد بمرض اسمه الإضطراب الحدّي، المصاب بهذا المرض يعاني ألما نفسيا مروعا لمجرد التفكير في هجران أحد تعوّد عليه. لقد كنت من صنف ذكره المتنبي حين قال:

خـــــــلقت ألوفا لو رجعت الى الصبا
لغادرت شيبي موجع القلب باكيا

عشت أياما رهيبة من التوتر و المرارة. لم أكن استقر في مكان، لم اكن أطيق لا قياما ولا قعودا... حين خطرت لي فكرة الإقتران بمطلقة عاقر قررت الزواج.. " سأجد إمراة منكوبة تشاطرني ألم الحياة و تؤنس وحدتي المدمّرة. إمرأة لا أمل لها في الإنجاب .إمراة أنقذها من وحدة قاتلة و تنقذني من حياة موحشة" هكذا قلت.. كلفت زوج شقيقتي الذي يعمل ببلدية عنابة بالتنقيب في سجلات مؤسسته عن إمراة طلقت بسبب عقمها، بعد شهر وجد لي واحدة " لم تـنجب بعد خمس سنوات من الزواج" هكذا ققال لي... سألت تلك المرأة: " ألم تستعملي أي وسيلة منع حمل؟" قالت:" أبدا ". لمزيد طمأنتي، أخبرتني أن زوجها السابق كانت له عشيقة أنجب منها طفلا. " الخلل إذن ليس في زوجها" هكذا قلت .. صدّقتها. كانت جميلة و لكن ليس بمقاييسي.. لا باس.. تزوجنا. بعد شهر واحد اكتشفت انها حامل! و قبل أقل من ثلاثة اشهر من ذكرى زواجي الأول، كانت لي ابنة معاقة، و حياة زوجية أشد إعاقة.. كنت متأكّدا من عدم مقدرتي على فراق الزوجة المحتالة، لإصابتي بتلك العاهة الرّهيبة التي تجعلني أتعلق بأي شخص عاشرته، حتى لو كان جلادّي.

أردت أن أقول لرشيد أن بقراتنا السلفية المعمّمة، تشكو ايضا نفس عاهتك، فهي لا تريد مفارقة جلاّديها مهما بلغ تنكيلهم بها. غير ان الموقف لم يكن مناسبا فآثرت الصمت:
واصل رشيد:
ـــ و بذلك اكتملت دائرة شقائي بحياة زوجية لا حب فيها و لا ثقة. حياة أشبه بالموت.
تنهد رشيد ثم قال معقبا:
ـــ لم تكن زوجتي تستحق اللوّم أكثر مما أستحقه، كان عليّ عرضها على فحص طبي لأتأكّد من عقمها.. أنا الذي أجرمت في حقّ نفسي و في حق إبنتي... كنت مغفلا و جديرا بالإحتقار..أنا أكبر عدوّ لنفسي، لأجل ذلك أكره هاته النفس المريضة العاجزة، و أترّقب اليوم الذي يفصلني الموت عنها.

ـــــــــ 99ـــــ


الفصل السادس عشر
الشرق شرق و الغرب غرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

" و كان عشق الغلمان موجودا بين آلهة اليونان، كما كان الحال بين الناس فنجد مثلا أنّ جوبيتير كبير الآلهة يقع في غرام راع جميل هو "جانيميد ". و قد تعلّق به تعلّقا شديدا على الرغم من علاقاته الجنسية العديدة مع الكثير من النساء. كما كان نيتون اله البحر يعشق غلاما يدعى "بــيلوبس". و أبولّو اله الشعر يعشق "هياكنتس" و هكذا..."
أشهر فلاسفة اليونان سقراط، أفلاطون، أرسطو... كانوا لوطيين.
" شاع الشذوذ الجنسي في العصور التاريخية القديمة حتى صار قانونا من قوانين أثينا. و كان الشائع عند قدامى اليونان أن أشدّ الشّعوب مقاومة و صلابة في الحروب هي التي ينتشر فيها حب الشبّان للشبّان حبّا جنسيا. و أن جيشا يتألف من شبان يحبّ بعضهم بعضا هذا الحبّ لا يقف أمامه أي عدوّ مهما كان بأسه و قوته بل أنه يستطيع أن يغزو العالم أجمع".


لم يكن ينافس الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن في اللوّاط سوى "لورانس العرب " مواطن الأديب الأنجليزي أوسكار وايلد، المعروف هو أيضا بشذوذه الجنسي.. كثرة اللواط بين ساسة أمريكا أجبر روزفلت على جعل كل نائب جديد يقسم أمامه بأنه ليس شيوعيّا و لا لوطيّا.

الشرق شرق و الغرب غرب..هوّة ثقافية بالغة العمق و الإتّساع ما بين عالمين متنافرين.. الغرب الضاري ليس على استعداد للتنازل عن عجرفته و شذوذه و خصوصا غروره.. كما ليس في وسع الشرق التنازل عن قيم الشرف و الدين.
هذا الطفل رشيد يتواري خجلا متمنيا الموت بعد أن سمّمت حياته وصمة شذوذ لا أساس لها من الصحّة.. وهذا وزير نرويجي في الخمسين يفتخر بشذوذه الجنسيّ و يودّ إشهاره في كلّ العالم..النظم الإرهابية التي عينها الغرب لتحكم بلاد المسلمين أصبحت تحقن المساجين المتدينين بفيروس الإيدز إمعانا في إهانتهم و سعيا لتلويث سمعتهم ..كيف يمكن لمسلم أن يرضى بقانون غربي يسمح للزاني الذي جامع إمراة على فراش الزوجية ثم قتل زوجها، أن يفلت من التتبّع الجنائي بحجّة أنّ الزنا قد تمّ بموافقة الزوجة وقتل الزوج كان مجرّد دفاع مشروع عن النفس؟!
يمكن للعربي أن يتخلى يوما عن الحياة، أما عن الشرف فلا.. قد يسقط الشرقيّ أحيانا في الوحل لكنه سرعان ما يهبّ واقفا.. ليس من الغرابة في شيء أن يقدم مهاجر عربي على قتل زوجة أروبية شكّ في سيرتها .. حتى لو سمح لها قبل ذلك بأن تشتغل راقصة بطن!
ايتها النرويجيات لا تتزوجن عربيا.. و ان تزوجتنه فلا تخوننّه، و ان خنتنّه فاكتمن الأمر فان اعترفتن فأهربن في الحال أو سارعن الى كتابة وصاياكن.
لم استطع النوم . مازالت صورة الشاذين النرويجيين تعاودني كوجع ضرس مفاجئ.

أبي لم يكن متديّنا لكنه كان شريفا... حينما كان على شقيقتي فيروز أن تبدأ دراستها في المعهد الثانوي للخياطة في مدينة بنزرت، رفض والدي و بإصرار شديد ركوبها اليومي حافلة مكتظة
ــــــــ ص 100 ــــــــ
بالرجال . فقرّر الرحيل الجماعيّ إلى بنزرت.. رفضت والدتي الغربة التي سيفرضها الوالد على كل العائلة، على الرغم من كون بلدتنا "منزل جميل" تقع على بعد ميلين من بنزرت !.. بنزرت كانت آخر مدينة ساحلية تخلت عنها فرنسا...أصرّت والدتي على البقاء، وأصرّ والدي على الرحيل.. حين هدّدها بالطلاق أذعنت و هي مكرهة.. لم يكن أبي متديّنا كما سبق ان أعلمتكم... لم يكن يصلي و هناك أكثر من شهادة تفيد بأنه كان يدخّن في رمضان عندما يدخل دورة المياه.. بالمناسبة التدخين يبطل الصوم، و الصوم عند المسلمين يعني الإنقطاع عن أكل كل شيء و شرب كل شيء و عن الجماع، من الفجر الى غروب الشمس، المسموح به خلال تلك الفترة هوالتـنفس فقط.. لئن كان صوم أبي موضع شك، فإن شربه الخمر كان محلّ إجماع .. كان أبي يفيق من سكره بالقدر الذي يتيح له الذهاب الى العمل في وزارة الأشغال العامة ( يسميها الأشغال الشاقة!) ليعود اليه.. ليتني كنت قريبا من أبي حتى أسأله عن سبب ذلك الإدمان، كانت علاقتي به رسميّة الى أبعد الحدود، لم اذكر قط انه قبّلني أو ضمّني الى صدره.. حين كنت في العاشرة ذهبت الي بيت جيراننا لمتابعة مسلسل تلفزيوني.. فوجئت برب الأسرة يبادل اطفاله القبل و العناق أدهشني ذلك ! كنت اعتقد ان تلك المواقف العاطفية لا تحدث الا في الأفلام.. رغم غلظة أبي، فان ثقافته العربية أبت عليه قبول احتكاك ابنته بالرجال أثناء ركوبها الحافلة ذهابا و إيابا.
كان ابي رجلا طيبا و عفيفا، رغم أن طبيعة مهنته كانت تفرض عليه الإختلاء بربات بيوت كثيرات و جميلات أثناء عمله كبنّاء.. لم تشب سلوك أبي شائبة.. كان من المنتظرأن يكون شديد التديّن لو ولد في مكّة أو المدينة، و لكن مولده في بنزرت مدينة الملاهي و الخمور، حتمّ عليه سلوك طريق آخر.. كان عنصر ابي طيّبا، كما كان معدنه نفيسا... في المرات القليلة التي تنازل فيها أبي عن دورالدكتاتور المستعلي عن رعيته، روى لي الحادثة التالية:
ـــ كنت في السابعة من عمري، حين أعطاني أبي الرّهيب قطعة نقديّة صغيرة و كلّفني بشراء علبة كبريت أو شيئا من هذا القبيل، نسيت ذلك الشيء، و لكن لا يهمّ... كان المتجر يقع على بعد ثلاثة أميال من بيتنا الريفيّ.. بمجرّد ابتعادي حوالي مائة متر عن البيت، و سلوكي الطريق الزراعيّ المحاذي للطريق المعبّدة، اكتشفت أنني فقدت النقود.. رغم فقداني القطعة النقدية التي أفقدت سيري مغزاه و أبطلت هدفه، لم أتخذ وجهة معاكسة! بل واصلت السير نحو هدفي البعيد و أنا أدعو الله بحرارة أن يرسل لي قطعة نقدية من نفس الفئة التي فقدتها!.. كانت الشمس لاهبة.. كلّما اقتربت من المتجر إرتفعت حرارة دعائي، كانت ثقتي في الله كبيرة بحيث لم أفكّر و انا أتّجه نحو هدفي بخطى سريعة يحثها إنذار والدي من مغبة التأخر، في وسيلة أخرى أعوّض بها ما ضاع مني من نقود، كأن أبكي مثلا بين يدي البائع و أفصح له عن خوفي من إنتقام ابي عله يشفق عليّ، أو أن اقطع بعض ثمر التوت والعنب المتواجد بكثرة في طريقي وأشتري بثمنه ما كلّفت بشرائه.. ألغيت كل حلّ عدا الحل الإلهي.. حين صرت على مقربة خطوات من المتجر.. رأيت أمامي شيئا يلمع تحت أشعة الشمس.. كانت قطعة نحاسية من نفس الفئة التي فقدتها! قضيت حاجتي و رجعت آمنا من العقاب!
..لئن عثر أبي على القطعة النقدية المفقودة في الوقت المناسب، فانه لم يعثر على شيء آخر! وهذه قصّة أخرى.. حدثني أبي قال:
ـــ كنت في الثانية عشرة من عمري حين ذهبت الى مدينة بنزرت لأول مرّة، كان ذلك بمناسبة عيد الفطر ( الذي يعقب شهر الصوم ) كانت متعتي كبيرة و انا اجتاز العبّارة من جرزونة الى مدينة بنزرت، كنت مستمتعا بالبحر و زرقته الرائعة التي كانت تلفني من كل جانب، زاد ذهولي مرور دلفين أثار إنتباه الجميع بظهوره الإستعراضي الفاتن بين الحين و الآخر .. خيل إليّ
ـــ ص 101ـــــــ
انني في حلم جميل .. صرفت يوما كاملا في ميدان المدينة الذي غصّ بالمراجح و عارضي الدّمى المتحركة و باعة الحلويات والسندويتشات و المشروبات الغازية .. حين مالت الشمس الى الغروب، ركبت العبّارة المتّجهة نحو الضفة المواجهة للمدينة.. حالما استقرت مؤخرتي على الكرسي المثبت في مقصورة الرّكاب، واجهني صبيّ في مثل سني، كان يجلس في المقعد المقابل حدثت نفسي" ما أشبه خفّه بخفّي الذي لبسته اليوم بمناسبة العيد ". حين نظرت الى رجليّ وجدت نفسي حافيا !
حين سألت أبي :
ـــ متى كان آخر عهدك بخفّـك الفقيد؟
ضحك طويلا ثم قال :
ـــ كان آخر العهد به، حين كانت العبّارة تتجه بي صباحا نحو مدينة بنزرت!

كنت أعلم أن أبي كان شجاعا، و على درجة كبيرة من الوعي الوطني.. من آثار تلك الوطنية معلقة "حب الوطن من الإيمان " التي تتصدر غرفة نومه.
.. ذات يوم، و حين كان أبي يؤدّي خدمته العسكرية في صفوف الجيش الفرنسي.. تلقت وحدته أمرا عاجلا بالتجهز للإنتقال الى منطقة ساخنة من جبهات الحرب العالمية الثانية.. و لأن ابي كان يرفض مشاركة فرنسا معاركها التي لا تهمه في شيء، رأى خلاف ما رأته فرنسا فقررالبقاء! و لكي يكسب بقاءه شرعية استغل فرصة تكليفه بقطع الحطب، كي يضع قدمه اليمنى كهدف ثابت، ثم يحكم تصويب الفأس الحادة، قبل ان يهوي بها على إبهامه .. على الرغم من سماكة الحذاء العسكري و ضخامته، فقد استطاعت قوة الضربة اختراق الحذاء و شطر إبهامه الى نصفين.. أخبرتني والدتي ان أثر تلك الضربة لم يختف الا قبيل سنتين من وفاته أي بعد خمسين سنة كاملة.. و حتى لا يذهب بكم الظن الى أن تصرّف أبي كان حركة جبانة سببها خشيته من القتال لا باس ان اضيف بان والدي كان من مناهضي الاحتلال الفرنسي منذ حداثة سنه، لأجل ذلك سجن في الجزائر لمدة ستة أشهر .. حدثني عن واقعة اعتقاله قال:
ـــ حين اجتمعنا للتظاهر في الساحة العامة بمنزل جميل، سلط علينا جيش الاحتلال بعض الخونة استطاعوا تفريقنا بسهولة، و كان بينهم عميل غاظني حماسه البالغ في أداء دور كلب الصيد لحساب أسياده .. لم يبق في ساحة المواجهة غير بضعة أشخاص كنت أصغرهم، أمرنا العميل بالتفرق فأبينا، أعاد تحذيرنا من سوء العاقبة، كان ضخما محمرّا على شاكلة الفرنسيين، سخر منا متباهيا بقوة جسده و قدرته على كسرنا كأعواد كبريت .. غلى الدم في عروقي، كان غوليات يقف امامي على مسافة أربعة أمتار، و كان ظهري و رجلى اليمنى معتمدين على الحائط، وكنت أخفي وراء ظهري نصف أجرّة مجوفة الداخل أحكمت مسكها بيسراي. انتهزت التفاتة سريعة من غوليات الى زميلي الواقف على يمناه بنفس المسافة التي تفصلني عنه، لأقذف بنصف الأجرة في اتجاه رأسه.. حين التفت المارد صوبي، كان لم يبق على اصطدام المقذوف برأسه سوى بضع انشات.. حين مال برأسه الى جهة اليسار لتجنب الكتلة المتجهة نحوه. كان في حقيقة الأمر يعينني على نفسه، فقد أصاب المقذوف الجهة اليسرى من وجهه، و ترك انفه يتدلى بمثابة قطعة لحم لا تفصلها عن رأسه سوى شريط جلدي رفيع.
كان أبي منشغلا بسكره عن ذكريات الماضي البعيد وبطولات شبابه، الى حدّ لم يجد فيه الوقت كي يخبرني بان جرأته قد بلغت في احدى المظاهرات، حد انبطاحه أمام زناجير دبابة الفرنسية متحدّيا سائقها أن يدوسه.. تولّى إخباري بذلك عم صالح القبّاني رفيق كفاحه،
ـــــــ ص 102 ـــــــــــ
حين زار بيتنا ليقدم لنا واجب العزاء!
لم يكن ابي ( كسائر الشعب التونسي)، يمتلك المسوغات الدينية الكافية التي تخوّل له الثورة على النظام البورقيبي، كان كهنة السلفية يواصلون أداء دور المخدّر للشعب..هناك عالم واحد شجاع، خالف جميع الثدييات السلفية وأبدى بطولة سجلها له التاريخ .. حين أمر بورقيبة ذلك العالم الجليل بان يفتي له بجواز إفطار الشعب التونسي في رمضان للتمكن من انجاز تنمية اقتصادية سريعة( قياسا على الصحابة الذين افطروا في رمضان للقيام بأعباء القتال!)، تناول العالم الميكروفون الذي قدمه له بورقيبة وقال: " ايها التونسيون الله أمركم بالصيام و أمركم بورقيبة بالإفطار. صدق الله و كذب بورقيبة، فصوموا!".. لم يكن بورقيبة متهورّا حتى يعدم الرجل.. كان يدرك ان ذلك العالم الشجاع يمثل ظاهرة فريدة بين الفقمات السلفية العاجزة. كما كان يدرك أن وراءه شعب تونسي سطحي التدين و مسحور بانجازات الزعيم...لأجل ذلك اكتفى بصرف المفتي الشجاع من منصبه، دون أن يلحق به أي عقاب.
لم تكن لأبي الثقة الكافية في أقوالي بأن الإستقلال الذي نالته تونس كان صوريّا و مزيّفا، كما لم يقتنع أبدا بان النظام العلماني الذي ارساه بورقيبة هو الوجه الثاني للإستعمار، وأن خدمات بورقيبة التغريبية قد وفّرت علي فرنسا حضورها العسكري، كما كان يجهل أيضا أن استقلالنا الحقيقيّ لن يتمّ بغير التمسك بثقافتنا من خلال أسلمة دستورنا، كما استخفّ بي كثيرا، حين قلت له ذات غضب أنّ بورقيبة و زمرته الحاكمة لا تقلّ إخلاصا لفرنسا عن الجندرمي العميل الذي جدع أنفه!
حين علم أبي بإصراري على مقاومة النظام البورقيبي نبّهني :
ـــ ستـندم كثيرا حين يتخلى عنك من يسعى اليوم لإستخدامك كأداة لتحقيق أغراضه السياسية
ـــ انا خادم مبادئ لا أشخاص... على كل حال لن أكون طفلا لو حدث اعتقالي .
كان أبي في السادسة عشر من العمر حين سيق سجينا إلى الجزائر!
أبي لم ينل شيئا من ثمرات الإستقلال.. رغم جهوده وحبه لبورقيبة الذي قاسمه ذات مرة شقة واحدة تولى حراسته فيها أثناء مروره ببلدتـنا منزل جميل.. فقد اضطر قبيل وفاته بقليل الى تقديم الوثائق التي تثبت مشاركته في الحركة الوطنية، فمنح الصنف الرابع من وسام الإستقلال، مع مبلغ مالي زهيد!

ــــــــ 103 ــــ





الجزء الثالث


الفصل السابع عشر
ذات مرّة، بورقيبة و ملك النرويج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أيقظني جرس الباب ، تجاهلته أول الأمر، كنت محتاجا الى مزيد من النوم بعد ليلة أمس كان
الصبية الملاعين يحتلون ملعب الكرة ـ الذي يقع على مسافة مائة قدم من شقتي ـ عند غروب شمس كل يوم و لا يغادرونه قبل شروق شمس اليوم الموالي.. بالإضافة الى الأصوات التي كان يحدثها ارتطام الكرة على السياج الخشبي الذي يحيط بالملعب، فإن صياح هؤلاء الصبية يجعل النوم مستحيلا.
في الساعة الثالثة صباحا، حين اتصلت بالشرطة لوضع حدّ لهذا العذاب اليومي.. اعتذرت موظفة الإستقبال لعدم وجود دوريات كافية للإهتمام بما يدور في كولستاقاتا7 !
في أحد احياء فرنسا التي تغص بالمشاغبين من اطفال المسلمين، أخرج احد الفرنسيين بندقية صيد، و من اعلى شرفته أصاب ثلاثة من هؤلاء .
لعنت هؤلاء الأطفال و آباءهم الذين لم يتقنوا شيئا في الحياة غير تفريخ نسل شيطاني بغيض.
أشعرني تجاهل الشرطة النرويجية بالضآلة.. لكنني عزيت نفسي بأن الشرطة لن تفعل شيئا في حال حضورها سوى تنبيه الصبية شفويا دون اتخاذ أي اجراءات ضدهم، بحجة انهم دون الثامنة عشر من العمر.
ذات يوم قلت لجاري النرويجي :
ــ ماذا ترجو النرويج من هؤلاء المنحرفين الذين لا يصلحون لشيء؟ ماذا تنتظر لرميهم خارج الحدود.. على الأقل لمدة مؤقتة ؟
لم يجب بشيء، اكتفى باخباري بانه ينتظر بفارغ صبر نقلته من هاته العمارة. بعد اسبوع واحد انتقل جاري الى مكان آخر بعد ان وجد ميّتا في فراشه.. البنت المكلفة اسبوعيا بغسل ثيابه و تنظيف بيته، هي التي اكتشفت موته... تمنيت لو كنت مكانه.
المؤلم في القضية أن العصابة مشكّلة من أبناء المسلمين دون غيرهم.. ليس فيهم نرويجي واحد!
ليلة امس، و حين تجمهر أفراد العصابة تحت العمارة مباشرة، و جعلوا يقلدون اصوات الحمير، بلغ التوتر بمتقاعد نرويجي يقطن في الطابق الأول، الى حدّ وقوفه في شرفته و الشروع في الصياح و البكاء كما يبكي طفل صغير... قبل ايام قليلة و حين لامهم على همجيتهم، اعتدوا عليه بالضرب. لم يخلصه منهم سوى نجار شاب كان يصلح باب العمارة المهشم.
حين تواصلت دقات الجرس، أيقنت انها جارتنا الباكستانية، كان يجب عليّ النهوض رغم علمي المسبّق بما ستلحقه بي من أذى.. شقة جارتي تواجه شقتي . كل مرة، حالما أشرع في إخبارها بان زوجتي غير موجودة ،لا تتركني أتم كلامي حتى توصد الباب في وجهي فأصاب باكتئاب فوريّ .. في السنة الأولى أخبرت جارتي الباكستانية زوجتي بان زوجها قد مات، بعد ذلك ادّعت بأنها
ـــ ص 104 ــــــــ
مطلقة. زوجتي تكرهها، و انا أعتبرها من مصائب الحياة التي لا يخلصني منها الا الموت، مجرد رؤيتها يزعجني، أما صوتها الحادّ الذي لا يتناسب مع ضآلة جسمها فيبعث فيّ اليأس، بالنسبة الى جارتي كل ما في البيت قابل لديها للإعارة، كانت تستعير حتى جهاز الهاتف بدعوى أن هاتفها معطل وانها ستجري مكالمة عاجلة الى باكستان... لشدة بخلها لم تكلّف نفسها استخراج مفتاح لتجنيب اطفالها مشقة انتظارها في حال غيابها عن البيت، كان المساكين يجلسون امام باب الشقة لساعات طوال في انتظار رجوعها.. اضطرت زوجتي الى تركها تذهب بجهاز الهاتف الى بيتها حينما أبديت لها عدم استعدادي لتحمّل صوتها الوبائي وهي تتكلم بالأردية لأكثر من نصف ساعة، كانت زوجتي ترفض إعارتها الهاتف لكونه حيويّ بالنسبة لها، قلت لها مواسيا :" سنؤجر حين نسهل لها الإتصال بأقاربها في باكستان" بعد مدة اكتشفنا أن تلك المكالمات محليّة! رغم ذلك لم أغير موقفي في مساعدتها، هذا قدرنا .. في أول يوم سكنا فيه، و حين كنت منهمكا بإصلاح خزانة بالمطبخ طرقت عليّ الباب حين فتحت لها دفعتـني جانبا واقتحمت البيت! أخبرتها باني وحيد في الشقة فانصرفت، بعد قليل جاءتني المسؤولة عن العمارة تخبرني بشكوى جارتنا الباكستانية من الضجيج الذي أحدثه! أخبرتها باني بصدد إصلاح الخزانة، نظرت الي ساعتها ثم اعتذرت، فقد كان الوقت يسمح لي بالعمل، قبل انصرافها قالت لي :
ـــ لا تبال بها..أعرفها جيدا.. انها شديدة اللؤم .
حين احتجنا الى وضع صحن الدّش في شرفتها المناسبة لتشغيله وافقت أول الأمر. بعد يومين طرق الباب، حين فتحته وجدت الهوائي ملقى أمامي! قبل ان أكلمها أوصدت الباب في وجهي، تعللت لزوجتي بان شقيقها رفض مساعدة عائلة فيها رجل! لعنتها في سري و لعنت شقيقها الذي عمي عن بنات أخته وهما ترتديان لباسا فاضحا.
كان عليّ قذف جارتي خارج شقتي منذ اليوم الأول، و لكن وصية الرسول برعاية الجار أجبرتني على تحملها، و إضافتها الى مساوئ عمارة كولستاقاتا 7 اللعينة .
صبري على جارتي يعد بالنسبة للعقلية الغربية بلاهة بلا مبرر. أنا لا اراها كذلك، في العقلية الإسلامية الجارة مثل الأم و ربّ العمل الشرّير والعمى، لا بدّ من الصّبر عليهم، أحببت أم كرهت.
ما زال الباب يطرق، شعرت بوخز في ضميري، ربما تحتاج جارتنا الى مساعدة عاجلة.. في هاته الحالة لا يجوز لي تجاهلها، نهضت وحين فتحت الباب رأيت بابها يغلق، طرقت بابها، حال خروجها طالبتني ببصلة واحدة أعطيتها ثلاث بصلات ثم أغلقت الباب. من أجل بصلة سأقضي يوما بنوم منقوص، و هذا الأمر يزيد في توتري، حينما فتحت التلفزيون بدت لي صورة الحبيب بورقيبة..علمت من المذيع ان تونس تحتفل بذكرى وفاته، لعنته ثم أغلقت التلفزيون فورا .
أثناء إقامته الإجبارية التي انتهت بوفاته، أهمل بورقيبة تماما، لم تذكر عنه وسائل الإعلام شيئا. ضيّق عليه الى حدّ منع فيه من الإطلال من شرفة الشقّة التي احتجزوه فيها خلال 13 سنة.. رغم ذلك، هاهم اليوم يحتفلون بذكرى رحيله!
بورقيبة تحكّم في مصيري وهو حيّ، كما قرّر مصيري و هو ميّت. سأعاني المنفى بسببه ما دمت حيّا، هذا ان لم تقدم السلطات النرويجية على تسليمي الى بلادي بتهمة الإرهاب.. الثدييّات السلفية هي التي مكنت بورقيبة من الوصول للحكم و البقاء فيه حتى أصبح يتبوّل على نفسه، بعدما تبوّل على كل الشعب التونسي لثلاثين سنة.. بلغ الخرف ببورقيبة الي درجة انه كان يعيّن وزيرا في الصباح، و يتساءل عن هويته و مالذي جاء به الى قصر قرطاج اذا رآه في مساء نفس
ـــــ ص 105 ـــــ
اليوم !
بورقيبة كان يسمّي الشعب التونسي " كومة من الغبار.. أمة خلقتها من العدم.. بورقيبة نفسه الذي لطالما تغنى بعيونه الزرق التي لا يمكن أن تنتمي الى عيون العرب السوداء، كثيرا ما سوف يتساءل إذا ما كان من أصل عربي أو من أصل أروبي .. ثمة كذلك من يعتقد أن بورقيبة من سالونيك و من أصل يهودي و قد اضطر الى اعتناق الإسلام حين هرب الى مصراتة. الأمر الذي يجعل الإفتراض الذي يقول أن جامع طرابلس المسمّى بجامع بورقيبة، قد بني على زاوية قديمة كانت تعرف بزاوية بورقيبة تنعّما على روح الشيخ بورقيبة الجدّ، الذي اعتنق الإسلام في سنّ متقدمة "
كان على بورقيبة ان ينتظرني ثلاثين سنة كاملة حتى أشارك في انقلاب غير ناجح يؤدّي الى الإطاحة به، فقد علم وزير داخليته بالإنقلاب المحدد ليوم 8 نوفمبر... قبل يومين فقط من ساعة الصفر و لما لم يستطع تفكيك الآلة الإنقلابية دون ان تنفجر في وجهه، بادر هو بانقلاب 7 نوفمبر... عوض ان يصبح يوم 8 نوفمبر جثة هامدة أصبح يوم 7 نوفمبر جثة رئاسية يقلبها الغرب كيف يشاء.. كان انقلابا أبيضا، اكتفى الجنرال بإحضار مجموعة من كبار الأطباء وقّعوا له على شهادة تفيد بأن بورقيبة قد أصبح عاجزا عن إدارة البلاد !
ذات مساء، حين مغادرتنا المركز الثقافيّ، و فور فراغه من ربط حذائه أخرج رشيد من جيب سترته قصاصة من المجلة النرويجية " العائلة"
ناولني اياها و هو يقول بحسرة :
ــ انظر كيف يعامل الملك النرويجي أولاف البسطاء من رعاياه .
حين قلّبت الورقة، طالعتني صورة الملك النرويجي السابق أولاف بصحبة بورقيبة، وقد ظهرت أمامهما الأعلام النرويجية والتونسية. كانت خلفية الصورة تظهر أحد حجّاب قصر قرطاج بعباءته الحمراء و غطاء رأسه الأبيض و سيفه المصلت بشكل عمودي في هيئة السلام الـتشريفيّ، مما يشير إلى أن الصورة قد ألتقطت في تونس.. و انا أمعن فيها النظر . قلت لرشيد :
ــ لأوّل مرّة أعلم أن الملك النرويجي السّابق زار تونس .
ثم مستدركا:
ـــ لعلها كانت زيارة خاطفة، لأنّ بورقيبة اعتاد إستقبال زوّاره في 15 أكتوبر.. ذكرى الجلاء الفرنسي عن مدينة بنزرت.
طلبت من رشيد أن يقرأ عليّ مضمون القصاصة التي كانت تحمل عنوان" بورقيبة وقع تجاهله تقريبا" بعدما أعلمته بأن نظارتي ليست معي.
استعاد مني القصاصة و شرع يقرأ :
ـــ وهي تحتفل بذكرى مرور مائة سنة على ميلاد الملك أولاف، نشرت مجلة " الأسرة" ذكريات بعض المواطنين مع ملكهم المحبوب، و من جملة تلك الذكريات ما ورد في رسالة المواطن" آرن جرينكفيست" الذي سافر الى تونس عن طريق البرّ عبر أروبا إيطاليا وصقلية ثم إستقلّ باخرة أوصلته الى تونس، وكان في أثناء الرّحلة ينصب خيمته كلّما أدركه الليل .
ــــــ ص 106 ــــــ
ـــ و بعد ؟
ـــ فور وصوله الى تونس، بلغه أن الملك أولاف سينزل ضيفا على بورقيبة، أسرع الى مطار قرطاج حيث وجد هناك ثلة من الدبلوماسيين النرويجيين.. حين أبدى لهم عن رغبته في تحية ملك بلاده سمحوا له بذلك.
ـــ لو فعلها مواطن تونسي لتلقّفه رجال المخابرات، و لوقع تعذيبه في عين المكان، حتى يدلى لهم بإسماء بقيّة من جاء معه من المتآمرين لإغتيال "المجاهد الأكبر"!
ضحك رشيد ثم قال:
ــ إنتظر، ما سيأتيك أعجب .
ثم و هو يقرأ :
ـــ أخذوني إلى بناية كبيرة في المطار، خاطبني مسؤول تونسي بالفرنسية، قلت لمرافقي النرويجي: لا أعرف إلاّ التكلّم بالنرويجيّة. قال لي: لا تهتمّ بذلك، و لكنه يقول أنك لا بد أن تكون لك ربطة عنق! نظرت حواليّ كان الجميع يرتدون بدلات رسمية، كنت أرتدي قميص رياضة..عندما قدم الملك بصحبة بورقيبة و مرافقيه، توجهنا نحن النرويجيين وسلّمنا عليه. كنت انا الوحيد الذي لا يضع ربطة عنق.. سألني الملك ملاطفا" ماذا تصنع في تونس؟" قلت" في سياحة أنا و زوجتي، جئنا بالسيارة ،وعندنا خيمة أيضا". قال لي" هذا شيء لا بدّ أن يكون مبهجا " . سألني بعد ذلك:" في أيّ مكان من النرويج تقطن؟" أجبته :" أنا من أونساي ".. خجلت بعد ذلك كثيرا حين إكتشفت إنني نسيت بورقيبة تقريبا، أثناء حواري مع الملك !
قال رشيد و هو يطوي القصاصة :
ــ لو تفطن بورقيبة الى أنّ الملك النرويجي قد أهمله ليخاطب فردا عاديا من رعيته لأنفلق غيظا ! أجبته و أنا انتظر مرور سيارة لإجتياز الطريق.
ــ دون شك،خصوصا وقد عرف عنه أنه كان يضرب الوزراء بعصاه كلما راق له ذلك !
" الرقيبة، حسبما ورد في القاموس، هي الحيّة السامّة " كنت أنام و اصحو على صوت بورقيبة الأبحّ عبر برنامج " من توجيهات الرئيس" أو على مدحه في برنامج الصباح : مدائح و اذكار.. كانت الإذاعة التونسية تخصص كل صباح خمس دقائق من الإنشاد لمدح الرسول و نصف ساعة كاملة من الإنشاد ايضا لمدح بورقيبة! حفظت عن ظهر قلب كلّ الأغاني التي تمجد المجاهد الأكبر زعيم الأمّة و بطل الإستقلال " يا سيدّ الأسياد يا حبيبي بورقيبة الغالي .. يا مخلّص البلاد محال ننسى فضلك من بالي " " حزب اشتراكي دستورى الله ينصر من جاء بيه ... يا حبيب تونس يا عزيز علينا من كيد الأعداء برايتك تحمينا .. نيشان ذهبي علّقه بورقيبة بعزيمته تسهال كل صعيبة ... قدرك عالي يا حبيب تونس يا عزيز يا غالي... لا من نالك أنت عليت لفوق لا من طالك ّ غنّت له فتحية خيري " بورقيبة يا نور من الجنة ! ... سلامات، سلامات .... ترعاك عناية الهية... سلامات سلامات، عبد الحليم حافظ غنى" يا مولعين بالسهر هنا يغني العندليب، الشمس تزهو القمر، بعيد ميلاد الحبيب ... ميلاده كان فجرا و بدء عهد سعيد تعيش تونس فيه في ظل عهد جديد ، من شعب مصر ومنّي أهدي الحبيب تحية ثلاثي الأنس غنّين " تعيشي يا تونس سعيدة و يسلم زعيمك و يسلم زعيمك.. الحبيب...الحبيب ... الحبيب بورقيييييييييييبة ... تعيشي يا تونس ... و أنا في منفاي النرويجي ،أحيانا أجد نفسي و أنا اردد مقاطع من تلك الأغنيات التي نقشت في ذاكرتي الطفولية !!
ــ ص107 ـــ
كان عيد ميلاد بورقيبة يستمرّ شهرا كاملا، تتوافد عليه خلاله الفرق الموسيقية من كافة المحافظات، غنوا على بطولته و حنكته و شمائله، لم يبق إلا تمجيد خصيته الوحيدة التي أعلن و على الهواء أنه لا يمتلك سواها! يا للشفافية الغير مسبوقة التي طالت كلسون الرئيس.. ليس هناك ما يخفيه بورقيبة عن شعبه المحب .. حين تبرّع بورقيبة بتلك المعلومة لشعب أمي أراد ان يقول بأنه شخص إستثنائي يستطيع بخصية واحدة أن يصنع الأعاجيب، فقد استطاعت تلك الخصية الفريدة تلبية رغبات عشيقته " وسيلة" التي عاشرها لسنوات عديدة على طريقة سارتر و سيمون دي بوفوار قبل أن يفتكّها رسميّا من زوجها لتصبح سيّدة تونس الأولى .
لعنت السلفية مرة أخرى ثم يمّمت وجهي نحو باب الشقة .


الفصل الثامن عشر
نونجة المغربية، جرح في الذاكرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


قبل مغادرة البيت رنّ الهاتف، ترددّت في رفع السمّاعة، لا بدّ أنها إحدى صديقات زوجتي.. زوجتي مغرمة جدّا بجمع صديقاتها بطريقة عشوائية أدفع ثمنها غاليا، الكثيرات منهن يعوزهن حسن الأدب، البعض منهن لا يكلّفن أنفسهن حتّى مجرّد سؤالي" من فضلك، هل أن منيرة موجودة ؟" ما إن أرفع السمّاعة و يسمعن صوتي، حتى يغلقن الخطّ في وجهي فأكتئب مباشرة و لساعات طويلة.. لأجل ذلك امتنعت عن رفع السمّاعة.. كان على هؤلاء الغبيات أن تكتشفن أن زوجتي غير موجودة منذ الدقة الثانية للهاتف و في أقصى تقدير الثالثة، لأنه ما ان يدقّ الهاتف في المرة الأولى حتى تنقضّ عليه زوجتي كما ينقضّ مدمن أفيون على حقنته. " اذا توفيت... بعد عمر طويل طبعا، و شككت في موتك، فسأجعل الهاتف يرنّ تحت أذنيك، ان لم تعودي للحياة تأكدت ساعتها من نقلتك الى المعسكر الثاني". هكذا قلت لها ذات مرّة .

لم يكفّ الهاتف عن الرنين، لعلّها مكالمة من تونس، كنت أعلم أن والدتي مريضة، لم ألتق بوالدتي منذ من 18 سنة، هي تدرك انها ستموت دون أن تراني .. تأسّف الجنرال شارل دي ديغول جدّا حين بلغه و هو في منفاه البريطاني خبر وفاة أمّه .. سّطر لوعته على صفحات مذكراته.. إستفظع الجنرال الفرنسي معاناة أمّه لوعة فراقه .. المسيو الرومانسي شارل ديغول هو نفسه الجنرال شارل دي ديغول سفّاح الجزائر و قاتل ملايين النساء و الأطفال و الشيوخ! كيف غاب عن الجنرال ديغول و هو يكتب ذلك أنّ قلب أمّه الرقيق ليس هو القلب الوحيد الذي يستحق المراعاة دون قلوب سائر أمهات العالم. أليس لأمهات الجزائرين أفئدة تتقطع كل يوم ألف مرة لذكرى ولد عزيز ذبحه الجنرال؟..منذ أسابيع مضت بكت وزيرة الدفاع النرويجية مقتل جندي نرويجيّ ذهب الى أفغانستان ليسبّب لأمهات عديدات آلاما لا تنتهي الا بموتهن؟ ألم تدرك تلك الوزيرة أن لأمهات و أباء المسلمين أفئدة تتألم؟
بعد أن أمرته بحفظ هذا القول المأثور " What is a hero without love for mankind
(ماهو البطل؟ بدون حبّ للبشريّة).
قلت لولدي ياسين:
ـــ سجّل عندك..أبطالك هم الحقيقيّون.. والبقيّة مزيّفون.. مجرّد دمى شمعيّة لا حرارة فيها و لا روح.. قد تجد أبطالا لدى الشعوب الأخرى، و لكن قلّما تعثر عليهم ضمن النخبة و المشاهير،
ــــــ ص 108 ـــــــ

لعلهم مندسّون بين صفوف الجماهير لا يدري بأسمائهم أحد، و لكن الخالق يدري بأسمائهم و سيجازيهم .. الشاب النرويجي داق Dag زميلي في العمل بطل حقيقي، لأنه خجل من حكومته النرويجية المفترسة، حين أعلمته أن النرويج تدعم ياسر عرفات جلاد الشعب الفلسطيني و تساهم في قتل مليون و نصف عراقي أثناء الحصار .. لقد خجل كثيرا و ابدى أسفه... كما خجل كثيرا من نصرانيته حينما أعلمته ان البوسني يغتصب زوجة جاره الذي كان يسكر معه بالأمس قبل أن يقوم بذبحه لأنّ جدّه كان يصلّي .. تأثر داق كثيرا حينما اخبرته بان الأطباء قد اضطروا الى بتر فخذ صبية بوسنيّة في الرابعة من العمر بسكين مطبخ لعدم وجود مواد تخدير.. لينا جارتنا النرويجية العجوز بطلة حقيقية.. حين روت لها أمك خبر عائلة السجين التونسي التي كانت تبحث في المزابل عما تأكله بسبب الحصار الذي يفرضه عليها الحاكم العسكري بكت و عرضت على أمك مساعدة تلك العائلة المنكوبة.. البطل هو الذي يمسح دمعة اليتيم و يساعد المحتاج و يرفع الضيم عن المظلومين و يقاسمهم الرغيف و الغطاء و يبكي لبكائهم و يشاطرهم أفراحهم و يموت في سبيلهم.. إبطالك فقط هم الذين يتألمون لآلام كل الجنسيات و أصحاب جميع الديانات و المعتقدات .

ما زال الهاتف يرنّ ... لا بدّ أنها مكالمة خارجية.. رفعت السماعة .. كانت نونجة على الخط، حالما رددت عليها السلام لم ادع لها فرصة للكلام. أعلمتها مباشرة أنّ زوجتي غادرت البيت و أنّ الله وحده هو الذي يعلم متى تعود.. لم أتجاوز الحقيقة، أمران يدخلان ضمن الغيبيات التي اختص بها الله اين زوجتي الآن و متى تعود.
ـــ سامي، انا محتاجة الى مساعدتك .
ـــ ستتولى زوجتي مساعدتك، ملفك قد أغلق بالنسبة لي.
حين ابدت نونجة رغبتها في زيارتنا.. قلت لها أن ذلك غير ممكن و ان أعصابي لا تحتمل رؤيتها.
قالت بإصرار:
ــ سامي أرجوك، أنا وحدي في هذا البلد، حتى لويزا و زوجها و أولادها هجروني، أعطني فرصة حتى أشرح لك .
ـــ آسف، لقد أضعت كل الفرص، و أفسدت كل شيء، و تسبّبت في دمار عائلة بأكملها.
ـــ عماد هو الذي تسبّب في كل ذلك .
ـــ أنت التي حوّلت حياة عماد الى جحيم، و كان لا بدّ له أن يعود الى المخدرات .
ـــ لم اكن أعلم أنه مدمن مخدرات .
ـــ كنت تعلمين، و قد نبهتك الى ذلك قبل كتابة عقد الزواج، ثم ان عماد أخبرني انه تعاطى المخدرات في المغرب وعلى مرأى منك.
ـــ كان حشيشا فقط .
ــــ حشيش أو تبن لايهمّ .
ــــ سامي، أرجوك ، على الأقل واصل وقوفك الى جانبه.. عماد كان دائما يخبرني أنك أعزّ صديق لديه.
وجدت نفسي اصرخ فيها:
ــ افهميني يا نونجة، أنا عاجز. هل فهمت ما معنى عاجز؟.. عماد يحتاج الى قوة، الى سلطة، الى جهة رسمية تقف معه.. و ليست لي قوة و لا سلطة، و لست جهة رسمية.
ـــ أرجوك اخي سامي، عماد يحتاج الى مساعدتك .
ـــ اذا لم يساعد نفسه فلا أحد يستطيع مساعدته. النرويج ليست مستعدة لإخضاعه الى علاج إجباريّ، و سفارة تونس غير مهتمة بالأمر، حتى أمّه رفضت إستـقباله في تونس. و أنت أحرقت
ـــــ ص 109 ـــــــــــ

كلّ الجسور مع أمه. فماذا عساني اصنع؟.
ــ عماد وعدني بان هاته المرة ستكون الأخيرة، و أنه لن يغادر المصحّة قبل إستكمال العلاج.. بعد ثلاثة أشهر من الآن سيجد له مكانا في المصّحة.
ـــ للمرة السابعة يفعل ذلك دون نتيجة.
واصلت :
ــ " ليف" كلمتني، و أبدت استعدادها للتنازل لنا عن كوخها الجبلي، سأرافق عماد الى هناك، قد لا نحتاج الى خدمات المصحّة. عماد أكثر إصرارا هاته المرّة .
ــ لقد ذهبتما مرتين الى هناك، و رجعتما دون نتيجة.
ــ هذه المرة أقسم لي على المصحف، و قال أن بإمكاني طلب الطلاق لو لم يف بعهده.
تجاهلت تماما ما قالته نونجة، كنت متأكدا أنّ ذلك مجرّد هراء لا يستحق التعليق.
ــ ما هي أخبار آمنة، هل مازلت تقيم مع عشيقها النرويجي؟
ـــ عندما سالت عنها ليف تلعثمت وهي تعلمني بانها قد أنهت تلك العلاقة، ولكنني بصراحة لا أعتقد ذلك، أعلم ان والدتها تتستر عليها .. ليف نفسها لديها عشيق اسمه توماس يتردد عليها في البيت.

في السابق كنت خائفا من عواقب إصرار عشيق الأم على التحرش بآمنة و يوسف.. يوسف أخبر عماد ان توماس عنّف والدته حين منعته من التسللّ الى فراش شقيقته... حين سألت زوجتى يوسف عما اذا كان توماس قد تسلل الى فراشه تلعثم هو أيضا.. حين حاصرته أعترف لها بان توماس كان يستغلّ خروج والدته للتسوق ليتعرى امامه و ليأمره يالتجرد من ثيابه ليداعبه في أماكن حسّاسة.. فيما مضى كنّا نخشى على آمنة من عدوان عشيق أمّها، و الآن ها هي آمنة تحقّق إكتفاءها الذاتي و تتخذ لنفسها عشيقا!
و صلني صوت نونجة :
ـــ سامي، هل أنت معي ؟! .
ـــ نعم أنا معك.. لكن أرجوك، أسرعي.. يجب عليّ مغادرة البيت.. سأذهب الى الشغل .
ـــ قلت لك أن آمنة قد أجهضت حملها، رغم انني بلغتها أن الإسلام لا يبيح ذلك، نقلت لها بالضبط ما أوصيتني به، وأكدّت لها ان الإجهاض في أي مرحلة من مراحله لا يعني غير قتل نفس بشرية، وان جهنم عقوبة القتل...
لم ادعها تكمل :
ـــ نونجة، ليكن في علمك أن كل ما حدث لآمنة هو نتيجة تصرفاتك... هذه ضحيتك الخامسة .
ــ لكن ...
ــ لا تقاطعيني من فضلك .. فلو كانت آمنة و يوسف يعيشان تحت رعايتك و رعاية أبيهما لما حدث لهما ذلك.
كانت نونجة قد اخبرتني منذ شهرين ان آمنة ابنة عماد قد حملت بطريقة غير شرعية، قبل أن تسألني عن جواز تخلّصها من ابن الحرام الذي علق ببطنها، خصوصا و قد مرّ على الحمل ثمانية أسابيع، أعلمتها ان الإسلام لا يرى مانعا في إضافة ابن حرام جديد الى هذا العالم.. في التاريخ الإسلامي هناك أولاد حرام كثر حكموا المسلمين، و تصرّفوا أثناء حكمهم كما يليق بأبناء قحاب حقيقييّن.. أخبرتها أيضا بأن حقّ الحياة مقدّس لا يمكن سلبه الا بأمر إلهيّ، و أنّ الإجهاض (حتى في مرحلة متقدّمة) يجوز في حالة تأكيد طبيب موثوق في أخلاقه أن استمراره يشكل خطرا مؤكّدا على صحّة الأم .. حين أنهيت تلك المكالمة شعرت بكآبة تجتاحني حين تذكرت
ـــ ص 110 ــــــ

أنّ تونس تستقبل سنويا آلاف النساء الأروبيّات من مختلف الجنسيّات لإسقاط حمل متقدّم نظرا للحظر القانوني لتلك العمليات في أروبا.. ها هي بلادي تصبح مسلخا متعدّد الجنسيات بعدما كانت منارة للمعرفة و الهداية و رعاية حقوق الإنسان.
ـــ أرجوك يا سامي اشتقت الى طبيخ زوجتك.. رجاء اسمح لنا بزيارتكم .
ـــ ستقوم زوجتي بطهي الطعام الذي تريدينه و ستتناولانه معا، و لكن في بيتك... أرجوك ، يجب أن أخرج الآن .
ـــ سامي انتظر .. زينب تريد أن تكلمك .. هي دائمة السؤال عنك .
وصلني صوت طفلة في الثالثة من العمر يقول بلهجة مغربية :
ـــ عمي كيف الصّحة ديالك؟
ـــ أهلا زينوبة الجميلة.. كيف حال اصدقائك في الروضة ؟
وصلني صوت نونجة وهي تلقن الطفلة" قولي لعمك انك تعلمت كتابة اسمك ".
رددت الطفلة كلام أمها .
ــ هذا رائع، لقد أصبحت طفلة كبيرة تستحق هدية.
وصلني صوت نونجة تقول للصغيرة " قولي لعمي سامي ممكن أزورك أنا و ماما "
غضبت من نونجة، كتمت غضبي وصلني صوت البنت يقول:
ــ عمي .... ممكن أزورك انا و ماما ؟ .
أمام براءة الطفولة لم يكن في إمكاني غير إلقاء السّلاح
ـــ مرحبا بك يا صغيرتي الجميلة، سأكون مسرورا جدا برؤيتك... أنت و أمك .


قبل مغادرة البيت تذكرت انه يجب عليّ إغلاق النافذة، فور إغلاقها توقفت تاكسي أمام العمارة خرج منها شابّ نرويجي يرتدي قميصا على اللّحم، رؤيته أشعرتني بمزيد من البرد رغم انني ارتديت ثلاثة قمصان صوف و معطفا ثقيلا.. صحتي الهشة لا تحتمل صقيع النرويج...لقد صمّمت للعيش في الشمال الإفريقي و ليس في القطب الشمالي.. كان اللبن من الكماليات بالنسبة للعائلات التونسية الفقيرة، كنا نكتفي في الصباح بقهوة سوداء و قطعة خبز جافة، كنت استيقظ يوميا على أغاني فيروز و صوت الموقد البترولي و مطالبة والدتي باستيقاظنا، كنا دوما نتعلل بان فيروز لم تنته بعد من أغنياتها الخفيفة، كنت أدرك ان فيروز تكف عن الغناء قبيل لحظات من بدء نشرة إخبار السابعة . كنت أعجب من تضحيات فيروز و اتعجب من قدرتها على النهوض المبكر للوفاء بتعدها اليومي للغناء للتونسيين قبيل نهوضهم، لم اكن اعلم ان تلك الأغاني مسجلة، كان برنامج " من توجيهات الرئيس" يلي نشرة الإخبار ... صوت بورقيبة كان الإنذار الأخير للنهوض.. في إحدى خطبه الشهيرة، ذكر بورقيبة و هو يعدّد انجازات الإستقلال ان اللبن لم يكن متوفرا زمن الإحتلال الفرنسي.. كان يقدّم للمرضى فقط.،اذا شوهد تونسي يحمل الى بيته شيئا منه سئل " لا باس خير انشاء الله من منكم مريض؟" تجاهل بورقيبة أنّ اللبن، و بعد ثلاثين سنة من الإستقلال، ما زال يعدّ من الكماليات بالنسبة لغالبية الشعب التونسي.. في خطاب آخر أبدى بورقيبة تألمّه من قصر قامته، و قال ان نقصان اللبن هو الذي سبب لك العيب الجسدي.. كان بورقيبة يبكي في بعض خطبه ..لم استطع أن أفهم كيف يكون المرء طاغية و عاطفيّا في آن واحد؟ كان عليّ إنتظار أربعة عقود لمعرفة الجواب.. بعد الإنقلاب عليه، و حين تمّ الإستيلاء على محتويات مكتب الزعيم، عثر ضمن تلك المحتويات على نسخة خطاب له مكتوب بالآلة الراقنة و في فقرة معينة منه، و على الهامش الأيسر من الورقة كتب بورقيبة بخطّ يده" بكاء "! . وزراء بورقيبة كانوا

ـــــ ص 111 ــــــ

يضاهونه فسادا، ذكر الصحفي المشرقي قصيّ درويش أن ثلة من وزراء بورقيبة إجتمعوا يوما في بيت أحد زملائهم للترحيب بثريّ سعودي حلّ ضيفا على ذلك الزميل، حين لاحظ الضيوف عبوس الضيف السعودي سألوه عن السبب، أعلمهم ان مضيفه قد وعده بجلب عاهرة تونسية معيّنة للتمتّع بها لكنه لم يف بوعده.. تدخّل الوزير صاحب البيت.. جدّد اعتذاره لضيفه، أعلمه أن المسألة خارج ارادته، فقد حدث مانع قهريّ لم تتمكن معه العاهرة المطلوبة من المجيء، و ان بإمكانه إحضار أيّ امرأة يريد.. أمام دهشة الجميع قال الثري السعودي لصاحب البيت:
ـــ أريد زوجتك، و الآن .. أريد أن أنام مع زوجتك .. أنا مستعد ان اعطيك 20 ألف دينار لقاء ذلك.
ـــ هذا لا يصحّ!
ــــ لنقل 30 ألف دينار
ـــ أحرجتني.. في حقيقة الأمر..
ـــ لنجعلها 40 ألفا
ــــ في الواقع .... أنا لا أدري ..
ـــ لتكن 50 ألفا
ـــ يا سيدي ما دمت قد قررت ذلك فاكرام الضيف واجب!
أعقبت تلك الصفقة الخسيسة عاصفة من التصفيق الوزاريّ، تلتها عاصفة هتاف بدائي، حين أصرّ الثري السعوديّ على ممارسة الجنس أمام الجميع !

لا علاقة لهؤلاء الوزراء بتونس ولا بثقافة تونس، هم مجرّد دمى رخيصة صنعها الغرب لتحقيق أهدافه الإستعمارية.. بورقيبة بدأ يحكم سنة 56 بعد سنتين من حكمه ولدت..أجبرت على سماع كل خطبه. كان عليّ أن أساق ستّ مرات، لأرصّ مع بقية زملائي في نهاية شارع الشهيد حسن النوري حتى نحييّ الموكب الرئاسي القادم من القصر الرئاسي في اتجاه مقبرة الشهداء. كان بورقيبة يبدو في بياضه الناصع كصفيحة فضية.. في إحدي السنوات زاد بياض بورقيبة تألقا بوجود انور السادات الى جانبه. كان السادات يبدو ككرة بليارد سوداء... كان بورقيبة يطل بقامته القصيرة من فتحة سقف سيارته المكشوفة تحيط به الدراجات النارية الضخمة بمنبهاتها الصادحة التي تصمّ الآذان مختلطة بقرع الطبول و نفخ المزامير.. كنا نحمل صور بورقيبة وزوجته وسيلة رافعين أصواتنا بالهتاف الموزون:" يحيا بورقيبا.. يحيا بورقيبا"..اللعنة على بورقيبة و على من جاء ببورقيبة الى السلطة.. كان الجليد يغطي الأرض كصفائح بلورية لامعة، و كانت أكياس القمامة التى ألقاها الصبية في غارة أمس تغطىّ أرضيّة مدخل العمارة.. جمعت بعضها ثم أعدته الى مكانه:" زيادة على محافظة المسلم على نظافة الطريق فانه مطالب بتنظيف أي طريق و لو كان بعيدا عن بيته من كلّ ما يؤذي المارّة.. شوك زجاج، قشرة موز" هكذا قلت لولدي ياسين ذات مرّة

توجهت الى صندوق الحصوات الصغيرة التي يخفف نثرها فوق الجليد من خطر الإنزلاق .. نثرت كمية منها على أشد المناطق الجليدية خطرا...عمارتنا الرهيبة تخلو من بوابّ يقوم بمثل هاته الأعمال الصغيرة التي لا تكلف أي مجهود ، لكنها تجنب معاناة شديدة .

ذات يوم حين رأيت أعمدة من الجليد في هيئة سكاكين تكاد تهوي من سقف البناية عدد 31 من شارع Urtugata و لا يمنع سقوطها عن المارة أي حاجز خصوصا مع فقدان أي اشارة

ـــــ ص 112 ــــــ

للتحذير، توجهت الى مؤسسة "سيكيريتاس" الموجودة في ناصية نفس شارع. رجوتهم المبادرة باسقاط تلك الأعمدة الجليدية المميتة، خصوصا و هم يملكون شاحنات كبيرة .. أجابني الموظف ببرود شديد ان ذلك لا يدخل ضمن عمله. حين بالغت في الإلحاح نهرني، و حين أعلمته ان المسالة مسألة حياة أو موت اعتبرني مجنونا و هددني بجلب الشرطة إن لم أكفّ عن ازعاجه.. تذكرت أن الشرطة تسبق سيارة البيتزا بكثير اذا كان الأمر يتعلق بشخص ملتح فانصرفت.. تذكرت انني مررت بقطعة خشب ملقية، احتجت الى عشرين دقيقة لإحضارها قبل ان اسندها على الجدار لتنبيه المارة الي وجود خطر... لم أفكر في جنسية ولا ديانة الشخص الذي سأخدمه بعملي ذاك، المهمّ إنقاذ حياة انسانية.. المسلمون مكلفون بالمحافظة على حياة الإنسان بدون ثمن ينتظرونه غير المتاعب و الجحود.. اذا رأيت شخصين متشابكين في عراك لا بدّ لك من التدخل لفك الإشتباك حتى لو كانا متعادلي القوى.. و لو ادى ذلك الى اصابتك ..هذه حماقة بالنسبة للنرويجيين.. بالنسبة لنا واجب.

ذات مرة وبخت شابا فلسطينيا يقيم في دولة خليجية كان في زيارة الى النرويج، حين سمعته يذكر بفخر و بتفاصيل مقززة عملية إعدام رهينة غربية في العراق كان قد عرضها موقع سلفي على الأنترتيت.
ـــ ليس هذا من الإسلام في شيء .
ـــ هم يقتلون اطفالنا و يغتصبون رجالنا .
ـــ هل لي ان اقتل طفلك اذا قتلت طفلي و ازنى بزوجتك اذازنيت بزوجتي؟.. مالفرق بينك و بينه اذن ..
ــ ..
ـــ
ــ الفرق بينكما انه سائب و انك منضبط باخلاقيات اسلامية حتى في ساحة الحرب.. هم يقولون" كل شيء جائز في الحرب و الحبّ"، و دينك يقول "اتّق الله حيثما كنت " في روما و في غير روما.
ـــ لا تنس ان الإسلام يأمرنا بالغلظة عليهم (يا أيها الذين آمنوا قاتل الذين يلونكم من الكفار و ليجدوا فيكم غلظة)
ـــ الغلظة في حق المقاتلين و في ساحة القتال، وليس في حق المدنيين العزّل و أمام عدسات الكاميرا.
ـــ لا ينفع أعداء الإسلام غير الذبح . ـــ أرجوك أجبني بصراحة، ألست مكلفا كمسلم بتبليغ الإسلام لغير المسلمين؟
ـــ بلى
ـــ أليست الجهة التي ذبحت ذلك الصحفي مكلّفة أيضا بتبليغ الإسلام لغير المسلمين؟
ـــ دون شكّ.
ـــ هل أن تلك الجهة مسؤولة بتبليغ الإسلام الى الصحفي القتيل لوحده أم الى امه و ابيه و سائر عشيرته؟
ـــ بل الى كافة مواطنيه.
ـــ الم نؤمر في دعوتنا الناس بالحكمة و الموعظة الحسنة؟
ــــ بلى.
ــــ لنفترض أن الصحفي الذي ذبح على الهواء كان يستحق القتل، فما ذنب والديه حتى توصد أمامهما أبواب الهداية الى الأبد بعرض عملية ذبح ابنيهما أمام ناظريهما؟
ـــ لست أرحم بها من الله .
ـــ سؤال أخير .
ـــ ...
ــ أيّهما أحق بمراعاة شعوره، الإنسان أم الحيوان.
ــ ماذا تعني؟
ـــ اذا كان النبيّ محمّد قد نهى عن ذبح خروف على مرأى من خروف آخر سيذبح من بعده، فبأيّ حقّ يسمح هؤلاء الجهلة لأنفسهم بذبح إنسان سويّ على مرأى من أمّه و أبيه و سائر بني ملّته؟
لم أنتظر جوابه و أنصرفت .


ــــــــ ص 113ـــــــ

الفصل التاسع عشر
سلفيّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حين اقتربت من المصعد أدركت من فورى أنّه معطب، غالبا ما يظلّ معطبا لأكثر من يومين، في أثناء ذلك يضطرّ كبار السنّ إلى استعمال السّلالم المرهقة.
" أم ماجد عاهرة ".." أخوات سالم كلّهن مفتضّات "" سأنكح بينازير أخت برويز ..الحمار"
كلّ جدران العمارة تغطيها بذاءات الصبية الملاعين، كثيرا ما عزمت على تعنيفهم، وليكن السجن مصيري، على الأقل سأحظى هناك بنوم مريح لا يفسده ضجيجهم.. قدّرت أنّ ذلك سيزيد من عدوانهم هذا بالإضافة إلى أن ذلك التعنيف لا يليق بإمام سابق مثلي، كما خشيت أيضا انتقامهم من عائلتي الصغيرة، ممّا دفعني الى إلغاء الحلّ العسكري.. حين وصلت بهو العمارة إعترضتني بقايا السقف المطاطي الذي لم يسلم من عدوانهم، فقد تناثرت أشلاؤه و توزعت بقايا أليافه الاصطناعية الصفراء على الأرضية القذرة.. حتى صناديق البريد المعدنية لم تسلم من عبثهم.. معظمها كان مهشما.. حين خرجت من المدخل القذر للعمارة خيّل لي انني جرذ يغادر جحره.. غشيني كرب فوريّ من تلك الخاطرة. تضاعفت كآبتي حين تذكّرت تجاهلي ليلة أمس من قبل موظفة الشرطة، لو أنّ نرويجيا إستنجد بنفس الموظفة لأستجابت لندائه ان لم يكن على الفور، فبتأخير طفيف لن يزيد عن الموعد الإفتراضي لوصول بيتزا .. أوّل أمس ما كدت أنام حتى أيقظني نباح كلب جارتي النرويجية التي تسكن فوقي" لو أن ساكنا أجنبيا اقتني كلبا لجاءت سيارة المطافي لتجرّه مع كلبه الى الحجز " هكذا قلت لزوجتي التي أضافت مؤيدة :
ـــ أخبرتني صديقتي الأفغانية باشتانا أن متشردا نرويجيا اعتاد الجلوس في قاعة مطالعة الصحف في المكتبة العمومية، كان يدخل حافي القدمين وكانت تنبعث منه رائحة لا تطاق.. رغم ذلك لم يتّخذ أي إجراء ضدّه.
ــ أعرف ذلك المتشرد جيّدا..كنت أتأكّد من وجوده في قاعة المطالعة بمجرّد إجتيازي الباب الرئيسيّ!
أرجعت لا مبالاة السلطات النرويجية بالمنكوبين من أمثالي، الى كوننا لا نساعد الغير على إحترامنا، فاذا أضفنا الى ذلك إدراك السلطات النرويجية اننا لا نساوي ربع كرونة لدى حكامنا ،أصبح حلول اللعنة بنا مؤكدا.." ادفع للحاكم و خذ البلاد وما فيها ببلاش!" هاته المقولة أصبحت حقيقة لا تقبل النقاش.
ذات مرة أخبرني رشيد أن جزارا باكستانيا يشغّل مريضا بالإيدز لقطع اللحم في متجره، رغم اتصال رشيد بالجهات المسؤولة لم يقع اتخاذ أي إجراء ضدّه الباكستاني أو أجيره الموبوء.
الإجراءات الصحيّة لا تشمل المسلمين.. منذ اسبوع اشتريت من دكان باكستاني زجاجة فلفل مملّح..حين قلبتها اكتشفت انقضاء خمس سنوات و ثلاثة أشهر على التاريخ النهائي لإستهلاكها!
حالما ابتعدت عن البيت، اكتشفت انني نسيت تسجيل برنامج الإتجاه المعاكس،هممت بالرجوع
ـــ ص 114 ـــــــ
لكنني عدلت عن ذلك حين تذكرت أن البرنامج المذكور سيتناول الملفّ النوويّ الإيرانيّ. المسألة لا تعدو أن تكون زوبعة في فنجان، فأمريكا تحاول إيهام العالم أنّ ايران تشكّل تهديدا للحضارة الغربية وأمن اسرائيل..و الحال أنّ إسرائيل هي أول حامية لإيران ــ التخلف و الخرافة و العمالة.
عندما واجهته بهاته الحقيقة، ثار موسى رجب للتهمة الكبيرة التي وجهتها " للإخوةالإيرانيين" ..إتهمني بالتخليط.. لأجل ذلك قرّرت منذ وقت طويل، أنّ موسى رجب حالة ميؤوس منها، رأيت من العبث إخباره أن اسرائيل سارعت الى تدمير المفاعل النووي العراقي خشية استخدامه من قبل صدّام في حربه ضد إيران، و أن ايران مجرّد "محمية اسرائيلية لأجل ذلك كانت اسرائيل تزودها سرّا بالسلاح في حربها ضدّ صدّام "، ورد كل ذلك في كتاب " الموساد أكثر أجهزة إسرائيل سرّية " لمؤلفه رونالد باين (1) لو عرضت الكتاب على موسى رجب لما صدّق ذلك..
في مدخل محطة قطار الأنفاق قابلتني زوجتي، سألتني بلهفة :
ـــ هل سجّلت حلقة اليوم من المسلسل التونسي؟
ـــ لقد استبدل ببرنامج عن المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة.
أخبرت زوجتي بانها قد تلقّت أربع مكالمات هاتفية ثم تابعت سيري..

بورقيبة الذي عبّر عن ازدرائه للدين لم يكن يستطيع حكم تونس بغير تأييد السلفيين. لو اكتفى الكهنوت السلفي بمصارحة الشعب التونسي بان بورقيبة اشد خطورة على الثقافة و الهوية الإسلامية من المستعمر الفرنسي و ان إطاعته تعني الكفر بالإسلام، لأشتعلت النار من تحت قدميه و لم يثبت لحظة على كرسيّ الحكم.
في المركز الثقافي، حين سألني بلال الفرنسي عن مفهوم السلفية، كان رشيد يجلس الى جانبي فبادره مجيبا بالفرنسية:
ـــ السلفية و باختصار شديد، من أنجع موانع الحمل!
تساءل بلال بدهشة:
ــ كيف ؟
وهو يغادر قاعة الصلاة رد عليه بعجلة...( كنت أعلم أن رشيد كان ينتظر مكالمة هاتفية من الجزائر) :
ـــ أعني ضد حمل أفكار التنوير و التحرّر.. و ضدّ حمل السلاح لتغيير النظم الفاسدة.
كان بلال الفرنسي قد سالني قبل ذلك عن سرّ توقّف حركة الفتوحات الإسلامية التي بدأها الصّحابة و استطاعوا في فترات قياسية تغيير الخارطة الثقافيّة و السياسيّة للعالم.
ـــ السبب ينحصر في كلمتين : معاوية و السّلفية أو أهل السنة.
أفدته بعد ذلك أن أعظم كارثة في التاريخ الإنساني قد حصلت حين حوّل معاوية النظام الإسلامي من جمهورية الى ملكية وراثيّة بعد أقل من خمسة عقود من وفاة محمّد، فلم يعد حاكم المسلمين يختار على أساس كفاءته بل على أساس الوراثة و لو كان ملحدا.
ـــ احد الملوك الأمويين مزق المصحف بسهامه بعد أن جعله هدفا ثابتا، و آخر رمى الكعبة بالمنجنيق حتى دمّر بعضها، كما قرر أمويّ ثالث الذهاب للحج، ليس من أجل التكفير عن موبقاته بل
ــــ ص 115ــــ
من أجل السّكر على سطح الكعبة!
صاح بلال الفرنسي و هو يضع يده على رأسه :
ــ يا الهي !
واصلت :
ـــ كل هؤلاء الشّواذ قد حكموا المسلمين بسبب النظام الوراثيّ الذي أرساه معاوية على أساس الحقّ الإلهي في الحكم باعتبار أن المولى تعالى عمّا يقولون، قد إعتمد العنصر ــ العرب ــ ثم الإنتماء القبلي ــ قريش ــ مؤهلين وحيدين لإختيار الحاكم على أساسهما! واستمر الأمر على ذلك النسق الكارثيّ بدءا من الأسرة الأموية التي سقطت سنة755 مرورا بالأسرة العباسية التي اندثرت سنة 1258 و انتهاء بالأسرة العثمانية بتركيا حيث سقط الكيان الإسلامي هناك عل يد مصطفى كمال اتاتورك سنة 1924.
ـــ اذا كان معاوية بهذا الخطورة على التاريخ الإسلامي، فكيف تجرأ الشيخ الخليجيّ الذي حاضر أول أمس في مسجد الرابطة اٌلإسلامية على أمرنا بضرورة احترامه لأنه كاتب الوحي و صحابي رسول الله ؟!
ـــ حين نصحكم بذلك كان يدافع عن نظام وراثي يعتقد أفراده في حقهم الإلهي في الحكم ... فالتشكيك في شرعية معاوية هو تشكيك في شرعية النظام الملكي الذي أرسله مبشرا وهابيا الى أوسلو.
ـــ و لكن كيف أوفق بين ما تقوله و ما قرأته من كتب تقول بان معاوية صحابي و انه كان يكتب الوحي؟
ــ كل ذلك مجرّد أكاذيب سلفية.. فمعاوية لم يكن من الصحابة. فالصحابة هم المهاجرون و الأنصار. في حين انه لم يلق سلاحه إلاّ قبيل سنتين من وفاة النبي، و كان من المنتظر أن يتمّ إعدامه يوم فتح مكّة لو لم يشمله عفو نبويّ، كما أنه من الطلقاء المؤلّفة قلوبهم، أما كتابته الوحي فلا أساس له من الصحّة إذ لم يثبت الاّ كتابته بعض رسائل النبي.
فوجىء بلال الفرنسي حين أضفت :
ــ اذا كان يجب عليك تلقّي دروس العفّة عن بيل كلينتن، فيجب عليك أيضا تلقّي تعاليم الإسلام عن كهنة السلفيّة، لأنّ الفرق بين السلفية و الإسلام كالفرق بين الظلام و النور أو بين مايكل جاكسون و السيد المسيح!
ولأجل قطع أي شك عن بلال الفرنسي أضفت :
ـــ يمكنك تشبيه المنظومة السلفيّة الداعمة للحكم الدكتاتوري في بلاد المسلمين برجال الدين المسيحيّ في القرون الوسطى، حيث كانوا عونا للملوك على ظلم الشعب و قمع حريّاته كما كانوا رمزا للظلامية و بغض التنوير .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
Mossade israel`s most secret service Ronald Payne (1)
ــــ ص 116 ـــــــ

الفصل العشرون
شيبوب، قصّة حياة شابّ مهاجر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

" الحظ يختار والدينا ونحن نختار أصدقاءنا". هذا المثل لا ينطبق عليّ، فزوجتي هي التي اختارت معظم أصدقائي! سبق أن شبّهت زوجتي بجرّافة ثلج عملاقة تأخذ في طريقها كل ما يصادفها، فهي تعقد صداقة مع كل إمراة تصادفها في الطريق.. زوجتي اجتماعية اكثر من اللزوم. معرفتها بامراة ما، يفرض عليّ أحيانا معرفتي زوجها.

ذات مساء خريفي، فوجئت بشابّ مرح بدين يطرق باب شقتي في Haybråten كان يحمل بين يديه الضخمتين لفافة فيها رضيع في أسبوعه الأول، قبل أن يقدّم لي نفسه وجدته يوسعني تقبيلا ثم يمطرني بوابل من الكلمات قدم فيها تحقيقا موجزا و شاملا عن حياته:
ـــ هذه حفصة ابنتي الثانية رزقت بها بعد ابنتي الأولى عائشة بأقل من سنة... سوف أدخل الجنة لأن الرسول قال من ربى ابنتين دخل الجنة.. نسيت أن اقول: أخوك شيبوب من باب سعدون.. فور فراغي من الخدمة العسكرية ...
كانت زوجتي تقف خلف شيبوب على السلّم الخشبي المؤدي لشقتنا، في حين بدت وراءها شابّة نرويجية ذات خمار.
ـــ مرحبا شيبوب تفضل بالدخول أولا.
ما ان استقر شيبوب في قاعة الجلوس حتى إندفع يقول :
ــ فور فراغي من الخدمة العسكرية هربت من بيتنا.. كنت نجّار موبيليا، أبي كان يستغلّ كلّ دخلى في شرب الخمر وإيجار المومسات، كان يأتي بهنّ إلى فراش الزوجيّة، وكانت أمّي تتعرّض الى إضطهاده اليومي.. كان أحيانا يطردني من البيت فأبيت في الطريق، و اذا غضب مني تركني بلا عشاء.. ذات يوم قالت لي والدتي:" اسمع يا شيبوب، لو بقيت في تونس فلن تؤسّس أسرة، و لن تشيّد جحر نملة.. أرض الله واسعة فهاجر" .. بدأت أدّخر ثمن التذكرة، عنّفني أبي مرارا حين لاحظ نقصان أجرتي الأسبوعيّة، كنت أوصيت عم حسونة، ربّ العمل ان يخبر أبي بأنه قد خيّرني بين أجر منخفض و الطرد من العمل.. ذات صباح ودّعت والدتي و أقسمت لها بانني لن أرجع الى تونس حتى أصبح رجلا أو أموت في الغربة.. و الآن.. و بحمد الله، ملكت سيّارة و رزقت بابنتين، ووجدت شغلا.
رحّبت بشيبوب ثانية، حين علمت أنه جاء كي يصاحب أم ابنتيه التي ستتولى زوجتي قصّ شعرها، أخبرني أبنه يستعد لزيارة أهله في تونس بعد ان وفى بنذره و أصبح رجلا !
ـ ماذا تريد أن أحضر لك من تونس؟ سوف أذهب بسيارتي، علمت من زوجتك أنكما لا تستطيعان السّفر الى هناك.. أطلب ما تريد، أخوك شيبوب تحت الطلب !

أحببت ان اقول له بانني لا احتاج الى شيء. أنا بطبعي اكره الخدمات المجّانية، و أرى فيها تطفّلا، لا أريد أن يطوّق رقبتي معروف إنسان، فكل انسان في النرويج له من الإمكانيّات ما يخوّل له سدّ حاجياته دون حاجة إلى مساعدة الآخرين، ثم انني، و على خلاف زوجتي، قد وطدت العزم على نسيان كل مشتهيات تونس، ثم أنّ طلبي الحقيقيّ هو رأس الديكتاتور و على اقل تقدير رأس وزير داخليته الذي يعني في جميع بلاد المسلمين وزير الرّعب و الإرهاب. ثم أنني لم أتعرّف على شيبوب إلا منذ دقائق، فكيف أطلــب منه أي شيء ؟! قــبل أن أفــتح فمي كانت
ـــ ص 117 ـــــــ

زوجتي التي غالبا ما تتنصّت على ضيوفي منتصبة أمامنا، رحبت بالفكرة، واعلمت شيبوب انها ستحضر له قائمة بالمتطلبات! زوجتي تستغل أي ذاهب الى تونس لإيصال اوجلب طلبات لها، لو وجدت تابوتا مرسلا الى تونس لدسّت فيه لفافة تضمّ حذاءا أو فستانا عليه عنوان أحد افراد أسرتها!

شيبوب حقّق كل آماله، لقد أصبح رجلا، و لكنه لم يعد الي تونس.. لقد مات في الغربة! إليكم ما حدث له:
قبل أسبوع واحد من سفره المنتظر، اشتد وجع بطن شيبوب، قبل ذلك لاحظ كثرة تعرّقه بالليل، حين أجريت عليه الفحوص الطبية أخبروه أنهم وجدوا كريات صغيرة عالقة باحشائه لم يعرفوا كنهها، لأجل ذلك لم يأذنوا له بالسفر. في اليوم المحدّد لسفره كان شيبوب تحت مشرط الجراح، بعد شهرين ساءت حال شيبوب، اعلمه كبير الجراحين معتذرا أن خطأ فادحا قد حصل خلال العملية الجراحيّة، فأثناء سحب الكريات (التي ثبت انها كانت تحمل أوراما سرطانية) انفجر بعضها نتيجة اصطدامها بالمشرط، فتفرقت محتوياتها في بطنه. في النهاية اضاف الطبيب :
ـــ سيد شيبوب، يؤسفني إعلامك .. لم تعد أمامك غير سنة واحدة كي تعيشها، على أقصى تقدير .
رغم ذلك لم يفقد شيبوب الكثير من مرحه :
واسيته كثيرا. قلت له ان موقف الطبيب غير انساني و غير علمي.
ـــ كيف اخي سامي؟
نسيت ان اذكر لكم ان شيبوب اميا لا يحسن القراءة و لا الكتابة !
ـــ اما كونه غير انساني، فان الرحمة تقتضي كتمان ذلك على المريض أما كونه غير علمي، فإن الأطباء يعلمون اكثر من غيرهم، أثر الهبوط النفسي أو ارتفاع المعنويات في تدهور أو تحسن الصحة العامة للمريض، فكيف بمريض يعلم بموته الوشيك، ثم محدثا نفسي " مالفرق يا صديقي شيببوب بينك و بين المحكوم عليه بالإعدام " اما كونه غير علمي أيضا، فان الطب يكتشف دواءا جديدا كل يوم، ففي خلال السنة التي يفترض فيها موتك يمكن ايجاد دواء لعلتك.
في الشهر الثاني لمرض شيبوب، حدثت كارثة في حياته العائلية هزت قسوتها اوساط المترددين على المساجد في اوسلو، فقد تقدمت زوجته النرويجية المتدينة بطلب انفصال جسدي تلاه طلاق بما أشعر الجميع بالإشمئزاز.
قاطعتها زوجتي، صرخت فيها أخرى " ألا تملكين فرجك لأشهر قليلة فالرجل يحتضر"
طلبنا منها التريث، توسلنا اليها بكل القديسين لكنها اصرت على انفصال سريع، وكان لها ذلك.
بعد اسبوع تزوجت من شاب اخواني من رواد الرابطة الإسلامية، كانت اسود اللون و القلب، مخنث الصورة والكلام،"اذا نطق لم تدر من أي ثقب يتسرب منه الكلام".. هكذا الإخوان... هم وراء كل مصيبة، تعللت مطلقة شيبوب بانها قد فتنت بصوته المخنّث و هو يقرأ القرآن.. تبّا لهما ..
منذ ذلك المصاب وخلال سنة و شهرين لا زمت شيبوب و لم أفارقه حتى اسلم روحه بين يديّ.. بعد خروجه المؤقت من المستشفى، انتقل ليعيش وحده في مسكن بغرفتين،روعتني كآبة المسكن الذي اختاروه له. كان داكن اللون كئيبا أسرعت و صبغته بلوم وردي، دمرتني الوحدة التي كان يقاسيها كما ذبحني الإنقلاب الفظيع الذي طرأ على حياته، فبينما كان في أسرة تزقزق فيها طفلتان جميلتان و تتثني أمامه إمراة فاتنة، أصبح يقاسي الآلام المبرّحة والهجران الفظيع، رغم ذلك كان متماسكا، حتى مواعيد تسليم أطفاله ـ النصف شهري ـ كانت مطلقته تتلكأ فيهما، كانت لا تسلمه البنتين الا بعد مشاكسات.. حقّا، لقـد كانت مولعة
ـــ ص118 ــــ

بتعذيبه، كأن بينهما ثأر قديم .. أكثر من واحد أكّد لشيبوب أنّ المحنة التي يتعرّض لها لا يحتملها غير نبيّ أو قدّيس، كما أعلموه ان أجره سيكون بقدر البلاء.. كان شيبوب مرحا و كانت تفرحه بشرى الرسول بان كل مسلم يصاب بمرض باطني يعدّ من الشهداء، و رغم ذلك كنت غاضبا من زوجته، لم يغضبني شخص في حياتي كما أغضبتني تلك المرأة.. و لم أتكلم في حياتي في ظهر أحد كما تكلّمت في تلك المرأة اللئيمة تعويضا عن نداء ملحّ برفسها حتى التهلكة.. و لو لم أفرّج عن نفسي بتلك الطريقة لأستجبت لذلك النداء الطاغي.

إثناء تردّدي على شيبوب، روي لى كل أطوار حياته.. إعترف لي بانه قد ورث عن أبيه عنفه الشّديد ضدّ المرأة،اخبرني بانه قد تعرّف على زوجته النرويجية بعد شهر واحد من قدومه الى أوسلو، التقطها من الطريق و اسكنها في غرفة سطح اكتراها من باكستاني، كانت هاربة من بيت أبويها.
ـــ صدقني اخي سامي انا لم اظلمها، في اول يوم كشفت لها عن حقيقتي فضربتها! عرّيت لها أوراقي كاملة، كنت أطردها في المساء لأجدها امام البيت في الصباح كقطة مقرورة، اردت ان أتخلص منها قلت له: اتركيني بحق الله و محمد و المسيح فالرجال كالهمّ على القلب، كنت اعلم انني سأدّمرها أو ستدّمرني، أريد امراة تقول لا ، لا أريد واحدة مستسلمة مثل أمي .. استسلام أمّي دمّرنا جميعا، لو هربت والدتي من بيت أبي لأتخذت حياتي شكلا آخر.. كنت أضربها دوما، كنت موقنا بأنني سأقتلها ذات يوم. حين أدركت انني لا استطيع الاستغناء عنها، صارت تدعو لي الشرطة كلّما عنفتها. قبيل قدوم الشرطة، كنت اجبرها على وضع رطلا من المساحيق لتغطية آثار الضرب. سألت شيبوب :
ـــ هل كنت تضربها باستمرار، الم تكن تتخلل خلافاتكما أوقات صفو؟
أجابني شيبوب بكلّ عفويّة:
ـــ المؤكد انني كنت أضربها بمعدل سبع مرات في الأسبوع.
ـــ يعني كل يوم؟
ــ لا، ليس كل يوم.
ـــ كيف؟
ــ ربّما ضربتها في يوم واحد ثلاث مرّات و في أربعة أيام بمعدّل مرّة واحدة .. لكن الحصيلة الأسبوعية لا تقلّ عن سبع مرات!

فيما بعد حكى لي عماد، انه كان حاضرا حين عنف شيبوب زوجته في محطّة حافلات. و حين وافق إغماؤها قدوم الحافلة المنتظرة، حملها على كتفه ككيس طحين ثم صعد بها الى الحافلة، حين سأله السائق النرويجي عن أمرها، أخبره بأنها تمرّ بإغماءة تعوّدت عليها!

حين بقي علي شيبوب أربعة أشهر على موته الإفتراضي، استجاب لإلحاح والديه بزيارته. في أول الأمر جاءت خالتي حياة ،إمراة طيبة و تشبه شيبوب الى حد بعيد. في اليوم الأول اخبرها عماد، وهو نصف مخدّر، أن ولدها سيموت قريبا !
حاولت مواساتها قلت لها:

ــ ان موت أي انسان لا يعلمه الا الله وحده، سأحكي لك قصة حقيقية، في احدى المرّات قال الطبيب لوالديّ احد المرضى :لا أمل في شفاء ولدكم، ما زال لديه اقل من شهر كي يموت.. تجهّزا للكارثة"، قال ذلك ثم انصرف بعد ان قبض أجرته، لم يكد يغادر الشقة حتى سمعا صرخة حادّة، بعد قليل جاء الخادم ليخبرهم بأن الطبيب قد لقي مصرعه فور تلقيه صعقة كهربائية من سلك كهربائي موصول بالمصعد.. بعد مدّة عوفي الولد!
ـــــ ص 119 ـــــــــ

بعد نصف شهر من قدوم والدة شيبوب، التحق بها زوجها، منذ ذلك الوقت اصبحت الحياة لا تطاق، كان والد شيبوب شرسا وعدوانيا، كنت اكرهه قبل أن أراه، وحين رايته زادت كراهيتي له، كان شيخا متصابيا في السبعين، سقطت أسنانه و لكن عقليته الإجرامية بقيت شابّة.. لم يكن يستحق أي عزاء أو مواساة، كانت زيارته للنرويج مجرّد رحلة سياحية انتهزها لإكتشاف خمور محلية و أنواع سجائر جديدة لا غير، ما زال يدمن الخمر و لم تكن الصلاة على جدول اعماله. سرعان ما تعلق بكهل منحرف تربطه بأحد أصدقاء شيبوب رابطة قرابة ليتخذه نديما، كان يعود كل اليوم سكرانا ليعنف زوجته، و ليعيد لشيبوب ذكريات صباه الحالكة، و كان ذلك يؤذي شيبوب.. كان أكثر ما يؤلم شيبوب تفكيره في مصير والده حين يلقى الله بذلك السجلّ الأسود. في الأسبوع الأول من قدومه قذف في وجهي اتهامه الأول:
ــ أنت عدوّ تونس، و عدوّ الوطن .
ــ عدو الوطن هو الذي يروّع الآمنين و يجوّع الشعب و يتنازل عن هوية تونس وأصالتها و يضحّي بثقافتها لقاء بقاء ذليل في كرسي الحكم بأمر من أسياده الأمريكان و الفرنسيين.
ـــ من تقصد بقولك هذا؟
ـــ أقصد حاكم تونس العسكري الذي لا تكف عن تمجيده .
ـــ هو خيرا و اشرف منك ؟
ــ ماذا قدم لك ذلك المجرم، هل لديك أي ضمان اجتماعي؟ هل كنت تقدر على دفع فواتيرك لولا المساعدات التي كانت تصلك من شيبوب؟
ـــ المجرم هو انت( ثم وهو يشير الى شيبوب) ثم هذا الكلب الذي استقبلك في بيته .
عجبت من نضوب الرحمة من قلب ذلك الوالد اللئيم، كان شيبوب حين وجه اليه تلك الإهانة قد هزل الى درجة تحوّل فيها الى ما يشبه الهيكل عظمي، كانت والدته تحمله بين يديها الى دورة المياه، وكان جلوسه على التواليت تعذيبا صرفا، لم يبق على فخذي شيبوب و مؤخرته غير رطلين من اللحم .
تقبل شيبوب الإهانة لكنه قال لأبيه و هو يبكي :
ــ يا ابي أشرب الخمر كما تشاء،و ازن كما تشاء فذلك يبقيك مسلما. و ان كان سيدخلك جهنم لفترة قد تطول و لكنها محدودة. لكن حبك لحاكم تونس الذي يمنع الخمار ويحارب الشريعة و يدخل العصي في أدبار المصلين، لا يجعلك تأمل في الخروج من النار الا مسبوقا بإبليس و متبوعا بستالين .

على الرغم من أميته، استوعب شيبوب معنى الإسلام الحقيقي الذي يعني كراهية المستبدين و السعي لتصفيتهم، و في اضعف الحالات تمني زوالهم .و ليس الإسلام الموروث ...اسلام الفقمات السلفية البلهاء.
حين حدثت شيبوب عن جرائم ديكتاتور تونس، .بلغ كراهيته له ان أوصاني بدفنه في النرويج .
صاح والده :
ــ نعم انا أحب حاكم تونس لأنه عدو الإرهابيين.
ـــ يا ابي ان أحببت ذلك الرجل فسترافقه حتما الى جهنم، لأن الرسول يقول المرء يحشر مع من يحب .. ثم ماذا فعل لك سامي حتى تسيء اليه بهذا الشكل، لولا سامي زوجته كيف سيكون حالي. أم لعلك تظن اني ادفع لهما أجرا لقاء الخدمات التي يسديانها لي؟
لم يتركه يكمل وخرج، منذ ذلك الحين تجاهلته رغم إصراره على الإساءة إلي. ذات مرة كان شيبوب يتفرج في برنامج ديني حول ضرورة تخفيف زيارة المريض عند نهاية البرنامج قال
ـــ ص 120 ـــ

والده :
ـــ هناك كثير من الضيوف لا يعملون بما جاء في هذه التوجيهات.

في احدى المرات خرجنا في جولة قصيرة الى حديقة عامة، كنت ادفع بشيبوب كرسيّه المتحرك
ـــ انت أبرع سائق استخدمته حتى الآن، البقية يؤلمونني أثناء دفعهم الكرسي .
حين مررت بمنخفض لم استطع تجنبه قال لي شيبوب و هو يتألم :
ـــ الآن سحبت منك رخصة السياقة !

اذا حدثك شيبوب(و هو الأميّ) عن كيفية اقتلاعه رخصة سياقة من المهندس النرويجي فانك لا تملك نفسك من الإستلقاء على ظهرك من شدّة الضحك .

أثنا جولتنا مررنا بدكان أدوات منزلية و عدّة عمل، أراد شيبوب شراء مثقاب كهربائي قد راق له ، كان يحقق آخر رغباته في الحياة، نهره والده بغلظة، وهو ينتزع منه المثقاب ليعيده الى مكانه في الرفّ .. تقدمت منه زوجتي ، أفتكت منه المثقاب. ثم تقدمت به الي البائعة، عندما حاول والد شيبوب منعها صرخت فيه :
ـــ كفاك اضطهادا لشيبوب ،اليس في قلبك رحمة. ثم وهي تخفض صوتها كي لا يسمعها شيبوب
" . اطمئن على كل حال، لقد بقي في حساب شيبوب ما يكفي لكي تموت سكرا "

بعد خمسة ايام من تلك الحادثة، و في ليلة مقمرة من شهر اغسطس، و بعد أن حلقت له شعره و حففت له لحيته و شاربه و ساعدته على الأكل . تبادل شيبوب بعد الكلمات الودية مع امّه ثم تطلع الى الى النافذة أشرق وجهه ثم قال:
ـــ ما أجمل القمر.
كانت السماء صافية و كان القمر بدرا ... بعد ذلك مباشرة دخل شيبوب في غيبوبة خرج منها بعد ربع ساعة .. اقتربت من سريره و أمسكت بيده ثم لقنته الشهادتين.. ردّد الشهادتين بوضوح و كانتا آخر كلماته، كانت ليلة لم يدرك شيبوب صباحها ..قبيل منتصف الليل دخل شيبوب في غيبوبة نهائيّة، أدركت زوجتي قبل ان تدرك أمّه أنه الموت، توضأت و أخذت اقرأ يس بصوت مسموع، سورة يس تخفف سكرات الموت، أمرت والدة شيبوب بالتخمّر، و أقنعت والده بإغلاق التلفزيون ،قلت له ستأتي ملائكة يؤذيها رؤية وسماع ما يؤذي أتقياء الناس. قلت لأمه أن اسعد ايام المرء هي يوم وفاته، لن يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة ستأتي ملائكة تسر الناظرين تسلم عليه ثم تقبض روحه أما المجرمون فتأتي ملائكة سيئة المنظر تقتلع أرواحهم بعنف، في الساعة الواحدة بدأ صدر شيبوب يرتفع و ينخفض ثم صدر منه شخير بدأ خافتا ثم ارتفع ثم اخذ يخفت تدريجيا الى ان هدأ تماما لم يضطرب من شيبوب أي عضو، حين جسسنا نبضه علمنا انه توفي. وددت لو كنت مكانه.
ما ان رفعت أمه صوتها بصرخة حتى نهرها زوجها الفظ و هو يهمّ بضربها!
عجبت مرة اخرى لتجرّده من الرحمة .
في الصباح ... اتصل والد شيبوب بالسفارة التونسية بأوسلو لإتمام نقل الجثة.. أخبرت والدة شيبوب برغبة الفقيد في دفنه في النرويج .. وفّرت الأمّ المكلومة عن نفسها ضربا مجانيّا حين لم تـنقل رغبة شيبوب إلى والده.
ـــ ص121 ـــ

شيبوب اللّطيف، هو الذي عرّفني بعماد الحشّاش.. زوج نونجة المغربية.

الفصل الحادي و العشرون
صديقي المضحك جدّا توفيق الجبالي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعد ليلة أمس الرّهيبة، كان عليّ الذهاب الى الشغل دون أن أنام ولو لخمس دقائق.. نسيت ان أقول لكم اني اشتغل في ورشة نجارة.. كلّ أشغالي مؤقتة، في الحقيقة تـنقلت بين مهن كثيرة، لم يكن في إمكاني استغلال دبلومي في الإقتصاد والتصرّف لأعمل في مهن المحاسبة التي تعتمد على المعاملات الربوية المحرّمة.

أثناء استراحة تناول الطعام من الساعة 11 الى 11:30 اندهش زميلي Dag حين أعلمته ان الإسلام حرم الربا، و أن المسلمين لا يؤمنون بالنظام الرّبوي، و ان كرونة واحدة من ربا يساوي ذنبها 36 زنية سالني :
ـــ كيف يقوم نظام دون ربا .. فلا صناعة بلا بنوك و لا بنوك بلا ربا. لن يقوم أي نظام معاصر على غير المعاملات الربوية .
ــ لك الحق ان تعجب من ذلك . لأن تلك التجربة لم تعمم .
سألني :
ــ أي تجربة ؟
ـــ التجربة التي قامت بها دولة مجهرية لا تكاد ترى في خريطة العالم و لا يكاد يسمع بها احد .
وضع كوب القهوة السوداء على الطاولة و أشار بيده متسائلا :
ـــ بحق السماء أي دولة تعني ؟
ـــ دولة صغيرة كما قلت... أظن انها تقع بين الصومال و تنزانيا.
دق الجرس المؤذن بنهاية فترة الإستراحة .
اتجهت نحو الورشة
سمعت داق يقول بالحاح ـــ لم تجبني أي دولة عنيت؟
قلت دون ان التفت:
ــ الإتحاد السوفياتي ! أول دولة غزت الفضاء الخارجيّ!

عن أي شيء كنت أتحدث؟ نعم، لقد تنقلت بين مهن كثيرة، في تونس كنت أخضر مثل دودة، لا اقصد دودة تشرشل ..اذا كان تشرشل يظن ان البشر مجرّد دود، فتلك مسألة شخصية أو قومية. و ان كانت خطيرة على الأمن العالمي .أما انا فاحترم الإنسان مهما كانت جنسيته و ديانته ... قلت لكم، في تونس اشتغلت في الجيش، كنت أجد نفسي ضمن زملاء خضر، في الحقيقة أكثرهم ببغاوات يرددون ما يقال لهم دون تعليق أو مراجعة، الآن صاروا كلهم أعدائي، لو تسللت الى تونس ثم رأوني في الطريق لأتصلوا بأقرب شرطي، و في أحسن الحالات لتجاهلوا رؤيتي، أراهم في منامي يطاردونني... حلم يعتادني شهريا، نفس السيناريو يتكرر لمدة عشرين سنة، أجد نفسي أمرّ أمام باب ثكنتي في وقت انصراف زملائي من العمل.. فجاة يلمحني أحدهم فتبدأ المطاردة، أظل مسمّرا في مكاني، مثل ما يحدث في الأفلام الكرتونية أحرّك قدميّ في الهواء
ـــ ص 122 ــــ

دون أن انطلق، أظل كذلك حتى أنهض مرعوبا، الموت لا يخيفني إذا تمّ برصاصة في الرأس، أمّا التعذيب و الإهانة و الإغتصاب فذلك ما يروّعني.. في النرويج، كنت أحيانا أجد نفسي في لباس أبيض ضمن مجموعة من زملاء الصّباغة، و مرة أخرى تراني في لباس بنيّ ضمن زملاء نجارين، و مرة في بدلة رزقاء كاملة و أنا أتناول الطعام على كيس أسمنت مع عمّال البناء .

حين ذكرت ذلك لرشيد علق قائلا :
ــ أخشى ان تجد نفسك في غواتينامو بلباس برتقاليّ و كمّامة وجه بيضاء، أو في ثوب أحمر في وزارة داخلية تونس مع زملاء عنبر الإعدام!
قلت لرشيد :
ــ هذا وارد جدا، خصوصا بعدما التطورات الأخيرة.
ــ لم اسمع بتطورات أخيرة .
ــ أول أمس تلقيت مكالمة هاتفية من أخي ...استدعي من قبل مخابرات امن الدولة سألوه عني ثم أمروه أن يتصل بي ليسألني هل ذهبت الى باكستان أم لا ؟ قلت لأخي: على الرغم من كوني لست مجبرا على الإجابة ولكن من أجلك فقط سأجيب: لم أذهب الى باكستان، ولست من تنظيم القاعدة، و لا أحمل فكر بن لادن، ما زلت مصرا على فكري الإنقلابي، وهدفي الأبدي هم وكلاء الغرب في بلادي فهم فئران السفينة التي يجب القضاء عليها فلولاهم ما وجد الغرب حميرا يركبهم ليدوس بهم شعبي و ينهب ثرواته.. وهدفي الأعظم قبل هؤلاء العملاء هم كهنة السلفية .. لا بدّ من إزاحتهم عن المشهد فإسلامنا مدنيّ. و الشعب هو مصدر السلطات فهو الذي يوليّ وهو الذي يحاسب الحاكم و هو الذي يعزله إذا لزم الأمر.. الحاكم في الإسلام محدود الصلاحيات و ليست له قداسة و لا أي نوع من الحصانة.. ثم ان القرآن و الأحاديث التي لا تخالف القرآن هما المصدر الوحيد للتشريع ..انقل لهم كل هذا .
علق رشيد متحسرا :
ـــ من المؤسف جدا ان تتكلم الفقمات السلفية المقعدة باسم الإسلام المتحرر ...
سكت قليلا ثم أردف قائلا:
ــــ السلفيون في إصرارهم المضحك و المقزز على اخذ الصدارة في المشهد الاسلامي لا يختلفون عن إصرار مجموعة من عراة افريقيا على الوقوف أمام عجلة قيادة مركبة فضائية، فاذا لم يكن لهؤلاء الهمج مكانا في تلك المركبة فالفكر السلفي و السلفيين ليس لهم مكانا ايضا في المشهد الإسلامي .
ـــ .....
ـــ عندما أهديت الي صهري الذي جاء مباشرة بإجازته القانونية من فرنسا كتاب عبد القادر عودة التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعية، لم اكن أتخيل ان حاله ستنقلب رأسا على عقب. بعد اسبوعين أقرّ لي أن معجزة القرآن التشريعية لا تقل عن معجزته العلمية." اكتشفت ان التشريع الإلهي مقارنة بالتشريع البشري كالرجل الآلي المحدود الحركات بالنسبة الى انسان عادي"... هكذا قال لي .
الفجوات المخجلة في القانون الغربي هي التي مكّنت مايكل جاكسن من الإفلات من جريرة اعتداءاته الجنسيّة ضدّ أطفال قصّر لقاء مبلغ مالي اشترى به حريته ليمارس فسوقه كما يشاء. نفس تلك الفجوات قد أعفت بيل كلينتن ايضا من تجنب عقوبة تحرشاته الجنسية بدعوى حصانته السياسية.

" وقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقييد سلطات الحاكم، وأول قانون وضعيّ
ـــــ ص123 ــــــ

أعترف بعد الشريعة بسلطان الأمة على الحكام، هو القانون الانكليزي، و كان ذلك في بداية القرن السّابع عشر، أي بعد ان قررت الشريعة نظريتها بأحد عشر قرنا، ثم جاءت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وعلى إثرها انتشر هذا المبدأ في القوانين الوضعية "
ـــ يعدّ كتاب عبد القادر عودة في كشف معجزات الإسلام التشريعية، نظير كتاب المؤلف موريس بوكاي في كشف الإعجاز العلمي في القرآن .
هناك من يعتقد أنّ عبد القادر عودة و سيد قطب يحملان فكرا إخوانيا لمجرّد وجودهما ضمن الإخوان و الحال ان فكرهما يختلف عن الفكر الإخواني اختلاف الليل عن النهار.




رن جرس هاتفي المحمول :
ـــ الو.. أهلا توفيق.. نحن بخير... كيف حال المولود الجديد.. ننتظر زيارتكم لنا.. شكرا الى اللقاء .

كم تحمل لنا الأيام من مفاجآت.. الخيال أعجز من أن يجاري الحقيقة، أضرب لكم مثلا بما تفعله الأيام ببعض البشر.. المثل يضحكني كلّما خطر ببالي.. رفيق السلاح الرقيب اول توفيق الجبالي هو موضوع المثل.. الرقيب اول توفيق الجبالي كان يشتغل ميكانيكيا في ورشة تابعة للثكنة التي كنت اعمل بها.. كنت لا تكاد تجد الرقيب اول توفيق الجبالي الا تحت دبابة أو بين أحشاء شاحنة، كان دوما ملوثا كقطّ طاحونة، و كانت الشحوم تكسو ثيابه و تغطي يديه و أحيانا وجهه و شعره. كما كانت الإهانات تنهال عليه بغزارة من قبل آمريه.. كان الرقيب أول توفيق الجبالي يسكن في مستودع ملحق بالورشة، المستودع لم يكن مهيئا للسكن، غير أنّ ولع الرقيب اول توفيق الجبالي بمطالعة الكتب و الجرائد الممنوعة، جعله يهرب من قاعة النوم المخصصة للرقباء و الجنود، لينعزل في ذلك المستودع البارد و الموحش معا.

كان الرقيب اول توفيق الجبالي، كما يقال في النرويج أفقر من فأر كنيسة، فحسابه البنكي.. ماذا قلت؟.. حساب بنكي؟ لنتوقف قليلا حتى أقول كلمة حول هاته المفارقة اللفظية العجيبة. في الحقيقة كان الرقيب أوّل توفيق الجبالي مضطرا لفتح ذلك الحساب البنكي.. كان فتح الحساب البنكي استجابة لأمر عسكري بحت، بعد ما أصبح من الضروري أن يكون للرقيب أول توفيق الجبالي حسابا بنكيا حتى يجد مرتبه الشهري المتواضع مكانا يسقط فيه في آخر كل شهر.. الحساب البنكي للرقيب أول توفيق الجبالي كان يعاني من سرعة قذف قياسية، كان لا يحتمل وجود جسم غريب. باختصار شديد، كان الحساب البنكي للرقيب أول لتوفيق الجبالي و على الدوام، أفرغ من رأس زعيم سلفيّ .

من الثامنة الى الحادية عشر صباحا كنت تجد الرقيب اول توفيق الجبالي يكابد ألم الجوع.. للبعد عن التجنّي، أقول: ليس للنظام التونسي اي ذنب في جوع الرقيب اول توفيق الجبالي، كما لم يكن للنظام التونسي قبل ذلك اي ذنب في سكنى الرقيب اول توفيق الجبالي بين المفكات و الرافعات وعجلات السيارات .. فالرقيب اول توفيق الجبالي و ببساطة شديدة، كان يفضّل نصف ساعة نوم اضافية على قهوة و قطعة خبز و جبن يحصل عليها بعد انتظار طويل أمام مطعم الثكنة.

اذا أراد الرقيب أول توفيق الجبالي زيارة زوجته أكثر من مرّة في الشهر، كان عليّ أن أقرضه بعض الدنانير التونسية..كان الرقيب أوّل توفيق الجبالي يسكن في قرية جبلية مقطوعة الصّلة بوسائل
ـــــ ص 124 ــــ

النقل، و كان يجب عليه أحيانا أن يمشي أربعة كليمترات وسط مسالك فلاحية مع توقع هجوم كلاب الرعاة نهارا و الذئاب و الضباع ليلا.. ذات مرّة اضطر الرقيب أول توفيق الجبالي الى قطع الرحلة و الرجوع خائبا الي زاويته الباردة في المستودع، لأن الأمطار كانت غزيرة الى حدّ فاضت فيه مياه الوادي، و هشمت الجسر الخشبي الذي يربــطه بقريته.

كانت زوجة الرقيب اول توفيق الجبالي داكنة السمرة، متواضعة الجمال، ولا تحسن القراءة لأنها كانت تجهل الكتابة! زوجة الرقيب اول توفيق الجبالي لا تدري ايهما حدث قبل الآخر الحرب العالمية الأولى أو الثانية، باختصار شديد حصيلة المعارف الجغرافية و السياسية لزوجة توفيق الجبالي قد تفوق قليلا عن حصيلة جورج بوش الإبن.

لو وجدت الرقيب اول توفيق الجبالي ذات يوم و هو منهمك بتحضير الطعام في ورشته المقرورة ثم قلت له:
ـــ تعال هنا... خذ ورقة و قلما و اذكر لي مائة احتمال و سيناريو عجيب و غير متوقّع يمكن حدوثه لك خلال السنوات الخمس المقبلة من حياتك .
لو استعان الرقيب اول توفيق الجبالي بسعة خيال أغاتا كريستي، ثم أضاف اليها خيال السير Arthur Conan Doyle ما توصّل الى السيناريو العجيب الذي أصبح واقعا يعيشه اليوم!
ما حصل للرقيب اول توفيق الجبالي يأتيكم ملخصا:

الرقيب أول توفيق الجبالي لم يعد الشخص الذي ينهر و يعامل بازدراء من قبل رؤساء العمل. لأنه أصبح السيد توفيق الجبالي.. الرقيب اول توفيق الجبالي لم يعد يجهز طعامه بين أكداس المفكات و المسامير و الرافعات الحديدية والقضبان الفولاذية، و يتركه فوق عجلة شاحنة أو جنزير دبابة كي يبرد، بل أصبح يأكل الكورنفلاكس في بيته الفخم، أما طعام الغداء فيقدم له في موعده من قبل عاملة ألمانية( لو رآها بيل كلينتن لسجد بين يديها حتى لو كانت السيدة هيلاري عند رأسه) في قاعة فسيحة مكيفة و معطرة قد ألحقت بمكتبه الذي ازدان بنباتات الظل، و أغلى الزهور و أشهر اللوحات العالمية.. زوجة الرقيب اول توفيق الجبالي، السمراء والأمية، عوضتها امراة فرنسية ممشوقة القوام ساحرة النظرات متحصلة على أرقى الدرجات الجامعية تشتغل باحثة و لا تكاد ترفع رأسها عن الكمبيوتر.. الحساب البنكي لتوفيق جبالي أصبح أكثر من محترم. توفيق الجبالي يعيش الآن في فيلا تمليك في أرقى أحياء فرانكفورت، و يملك سيارة من أحدث طراز...الأعجب من كل ما تقدّم أن الرقيب اول توفيق الجبالي،الذي كان الشحم و الصدأ يغطيانه من رأسه الى أخمص قدميه، أصبح وكيل شركة لبيع أي شيء؟ تصوّروا.. لبيع العطورات! شركة يملكها عبقري سوري متفوق في صناعته، قد استطاع ابتكار أنواع كثيرة أصبحت عالمية. اذا دخلت مكتب توفيق الجبالي، وجدته محاطا بأنوع عديدة من الزجاجات الأنيقة و مختلفة الأشكال و الألوان و الروائح.

بعد فــراغي من زيارة المصنع و محتوياته الآدمية وتنقلي في الفيلا الفاخرة ومعاينة سيدتها اللطيفة قلت لتوفيق الجبالي :
ــــ الإنقلاب الذي اردت ان تحدثه في تونس لم يحدث في حقيقة الأمر الا في حياتك!

المؤلم في قصّة توفيق الجبالي أن زوجته التونسية كان من الممكن أن تشاركه الإنقلاب العجيب
ــــ ص125 ـــــــ

الذي طرأ على حياته، دون أن يقللّ وجودها من غرابة التحوّل الا بقدر طفيف، و لكنّ حاكم تونس العسكري وكلّ بزوجة توفيق الجبالي المسكينة، أعوان أمن و جواسيس مدنيين يراقبونها في حال دخولها و خروجها من بيتها الجبليّ، قصد حرمانها و أولادها الخمسة من الإلتحاق بربّ الأسرة في جنته الألمانية.. حاول توفيق الجبالي أكثر من مرّة إختراق الحصار الأمنيّ المضروب على زوجته لكنه فشل.. مرت الآن عشرون سنة على مأساتها الزوجية.

لمّا كان توفيق الجبالي ككلّ رجل، يحتاج الى امرأة. و لمّا كان الزواج هو السبيل الوحيد لتمكين توفيق الجبالي من تلك المرأة، كان لا بدّ له ان يتزوج .. حدث ذلك حين قابلته زبونة فرنسية أعجبت بصلعته اللامعة و بشرته السمراء و نظراته الودودة، و قررت انه الرجل المناسب لحياتها.. كما قرر القدر من قبلها و بمدة أطول بكثير، أن تلك المرأة الفرنسية هي الأكثر تناسبا من سواها، لإكمال المشهد الهزلي الذي كان سيرياليا في تخيل مسيرة حياة الرقيب اول توفيق الجبالي، فأصبح واقعا ملموسا، لكنه أغرب من كل خيال!



الفصل الثاني و العشرون
عماد مبلّغا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حين وصلت الى زاوية شارع Tøyengata طالعني إعلان بحث عن قطة نرويجيّة خرجت و لم تعد.. كانت صورة القطة الفقيدة تحتلّ نصف الصّفحة.. هناك مكافأة ماليّة قدرها 1500 كرونة لمن يحضر القطة "تويتا" الإمضاء: المعذّبة Greta ... ليكن الله في عونك يا Greta .. في سوريا اكتشف أهالي 15 ألف سجين سياسيّ، أن المتبّقين منهم على قيد الحياة لا يتعدّون 900 سجينا.. على مدى خمس و عشرين سنة، كان قرابة 40 الف عائلة و حوالي مائة الف مواطنا سوريا، يحلم بعودة أب أو أخ أو ابن كانوا يعتقدون انه مازال حيا، في حين أنه قد مات منذ سنين تحت التعذيب في سجون ديكتاتور سوريا.. هناك آلاف المفقودين في الصومال و الجزائر وغيرها.

في بلاد المسلمين، اذا أعتقل قريبك فليس في إمكانك التقدّم للسؤال عن مصيره اذا كانت تهمته سياسته، لأن اللعنة ستلحق بكلّ معارفه، فقط يجب عليك الإنتظار والدّعاء..الإيقاف التحفظي في أروبا لا يتعدى أسبوعين يتمتع فيها الموقوف بحضور محاميه كما يتمتع بتعويض اذا ثبتت براءته، في بلدان الخليج العربي الإيقاف التحفظي يستمر ثلاثة سنوات تتمّ في معتقلات صحراوية رهيبة، اذا ثبتت براءتك سيقال لك "آسفون كان مجرّد اشتباه في الإسم".. في مصرهناك مساجين مرّت على إنتهاء مدة عقوبتهم سبع سنوات، و لم يطلق سراحهم بعد!

يبدو اني تأخرت قليلا عن الشغل.. الشغل فرض كالصلاة. و كلّ مال جاء عن طريق غير مشروع يعتبر حراما.. اذا صلى انسان أو صام أو حج و في بطنه طعام من مال حرام لا يقبل الله صلاته و لا صومه ولا حجه.. مسلمون كثير في النرويج يأخذون أموالا لا يستحقونها من دافعي الضرائب ..كومين أوسلو أعلنت عجزها عن توفير أجرة عامل يقود عربة بسيطة تنثر الحصى على الجليد فتنقذ المارة من الإنزلاقات المهلكة.. حين قلت له "يجب عليك ان تشتغل ما دمت تقدر على العمل.. لا
ــ ص126 ـــــ
يحل لك مال السوسيال" أجابني شعيب الذي يملك رقبة ثور و بنية مصارع:
ــ أنا مريض لا أستطيع الشغل.
ــ هناك أشغال يقدمها مكتب العمل تستطيع أداءها و أنت جالس أو حتى متكئ .. اشتغل بالقدر الذي تستطيعه لا تبق عالة على غيرك، ان الله يكره العبد البطال، هكذا قال النبي محمد.
غضب مني و قاطعني، بعد ذلك أشاع أنني إرهابي و أنني أسعى الي التفرقة بين المصلّين ..بعض المسلمين يقيم احتفالا اذا أخذ التقاعد! كان عليه ان يبكي لأنه ضمن دخـــلا حراما الى مماته .
في المساء، حين أعود الي البيت، سأجد نونجة في انتظاري.. مجرّد التفكير في نونجة أصبح يعذبني، كلما رأيت إبنتها زينب تذكرت جريمتي في ترتيب زواجها بعماد الحشّاش.. ليتني لم أفعل ذلك، زوجتي هي السبب.

زوجتي لم تلتق ولو مرة واحدة بليف Liv زوجة عماد السابقة حتى تدخلها في حياتها و تفرض عليّ بالتالي صداقة زوجها، بل تعرفت على عماد عن طريق شيبوب.. عماد و شيبوب قضيا الخدمة العسكرية في ثكنة واحدة.. حين حدّث شيبوب عمادا عن معاناته من اضطهاد أبيه، و أعلن له نيته الهجرة، إستحسن عماد الفكرة .

حين سافر شيبوب لحق به عماد بعد شهرين، شاطرعماد شيبوبا النوم في الحدائق العامة و التشرد في شوارع أوسلو.. في اول مرة ذهب فيها عماد للدسكوتيك، علق بليف.. ليف إمراة جذّابة تملك المقاييس المثالية للمرأة العربية النموذج .. في اللقاء الثاني حملته ليف الى منزلها.. و حين شاركها فراشها... قرّرت أنه " معترف به" (كما يقال في النرويج لكل شيء مقبول). عماد كان يتباهى بكبر آلته، المعتقد الشعبي يهوّل من ميزة كبر الذكر في نجاح العملية الجنسية. لم يصحّ ذلك علميا. اشتهر السود بكبر آلاتهم، ذات مرّة قال طفل لأبيه"ناولني ذلك الحبل كي ألهو به"، " لك ذلك ولكن لا تبتعد عن ناظريّ! " هكذا ردّ عليه والده الزنجيّ!

" كنت سكرانا حين دخلت مع ليف شقتها، اعتقدت أننا لوحدنا، في الصباح، حين توجهت الى الحمام و أنا نصف عار قابلني والدها. تراجعت خطوة الى الوراء حتى اصطدمت بليف التي كانت تتبعني، كنت انتظر الكارثة، لكن الرجل فاجأني بابتسامة ودودة.. تقدم نحوي باسطا يده: مرحبا أنا أندرياس، انت عماد فيما اعتقد .. حدثني ليف عنك.. لعلكما قضيتما ليلة ممتعة"
هكذا حدثني عماد . قبل ان يضيف متعجبا :
ـــ كانت ليف تتنقل أمام والدها عارية الصدر لا يسترها غير كلسون رقيق.
حين اخبرني عماد بذلك بدأت اجد تفسيرا معقولا يبررّ كثرة حوادث اغتصاب النرويجيات من قبل محارمهمنّ.
قبل الزواج قالت له ليف:
ــ حتى أكون صريحة، لا بد ان أخبرك بعلاقاتي السّابقة.
لم يكن عماد في حاجة الى ذلك التقرير المفصل، كما لم يكن في حاجة الى أسماء رجال مروا بحياتها، وجودها مفتضة شرح له كل شيء.. بعد شهر تزوج عماد، أصبح الآن نصف رجل، سيتحقق نصف رجولته الباقي حين يملك سيارة يشحن عليها ليف و يذهب بها الى تونس العاصمة لتغيظ بها أمّه كل الأعداء.
ـــ أمي قالت لي لست في حاجة الى رؤيتك لو لم تصبح رجلا مثل ابن جارتنا سمير، و حافظ ابن خالتك.. موتك أهون عليّ من شماتة الأعداء، سمير جاء بسويدية وحافظ جاء بدنماركية، صحيح انها عجوز و لكن مادامت مؤقتة فلا يهمّ.

كانت أم عماد تتطلع بشوق الى تزويجه ببنت أختها، حالما يكمل أوراق الإقامة و يتخلص من
ـــ ص 127 ـــــــ

الزوجة النرويجية.. تريد حفلا يتحدث عنه كل الحيّ، كما تريد قبل كل شيء خروج ولدها مرفوع الرأس في امتحان إثبات الرجولة، تريده أن ينجح في فض بكارة العروس منذ الليلة الأولى، بل منذ المحاولة الأولى، لا تريد أن يطول انتظارها أمام غرفة العروسين،كيف سيكون موقف ولدها عندما يصبح مادة تندر للجيران و أقارب العروسين.. لماذا كانت تغض عنه الطرف حين تعلم بعلاقاته الغرامية مع بنات و نساء الجيران؟ اليس لكي يكون مدربا في اليوم الحاسم؟ تريد أن تحتفظ بقميص النوم و عليه آثار دم البكارة حتى تباهي به الجيران . فهي أحقّ به من أمّ العروس لأن المهمة الأصعب قد أداها ولدها.

بعد الزواج، انتقل عماد ليسكن في شقة ليف... كان عماد قد أدمن الحشيش أثناء فترة تشرده بحثا عن زوجة و سكن.
سألته ذات مرة:
ـــ كيف بدأت رحلة الإدمان ؟
أخذ نفسا من سيجارته ثم قال:
ـــ سامي توازن (1) هو السبب، ابن العاهرة هو من علّمني.

لم يكتف عماد بمدمن واحد في أسرته، بل جرّ معه ليف.. الحشيش كان محطة لا بد من تجاوزها .. حين لم يعد الحشيش يفي بالحاجة تحول الى استنشاق الأفيون. بعد شهر اكتشف انه متعلق بجرعته اليومية، و الجرعة تحتاج الى مال إضافي . سامي توازن وجد الحلّ، أقترح عليه ترويج المخدرات لقاء جرعة ثابتة يأخذها لقاء ذلك. ليف لم تنجر معه الى ما بعد الحشيش.

بعد سنتين من زواجه بليف ولدت آمنة.. و حين قبض على سامي توازن .. أصبحت جرعة عماد اليومية في مهبّ الريح.. للحصول على ثمن الجرعه اضطر عماد الى سرقة أقراط و أساور زوجته ليف. حين اكتشفت ليف السرقة ثارت.؟ أبدى ندمه فصدقته.. حين تكررت سرقات عماد هددته ليف بالإنفصال فأصبحت نصف رجولته في خطر! اضطر الى السرقة من محلات ريمي و بريكس ثم انتقل الى دكاكين الثياب الجاهزة، حين قبض عليه ادخل السجن و حكم عليه ثلاثة أشهر .

كانت ليف تتغاضى عن أخطاء عماد، فقد كان أداؤه المقنع في الفراش يجعل احتماله ممكنا. و لكن حين لاحظت فتوره ثم انصرافه عنها كليا، أصبح وجوده عبئا ثقيلا. خصوصا و قد كثرت بينهما المشاجرات .
في احد المرات واجهته:
ـــ حين تزوجتك كنت أجهل أنني تزوجت سارقا.
ـــ ولكنني كنت أعلم أنني تزوجت مومسا!
حينما عيرته بعجزه الجنسي، ضربها.. حين عاد متأخرا الى البيت، وجد أمام باب الشقة كيس زبالة أسود، حين فتحه وجد فيه كلّ ثيابه.. على باب الشقة كتبت ليف " انا مسافرة الى أمي لمدة شهرين، سنعود كما كنّا حين تعود الى رشدك" لم يصدق ان ليف هجرته .
عرف عماد التشرّد مرّة أخرى.. قطع علاقته بسامي توزن و قرر التخلّص من الإدمان..
في الأسبوع الأول من التشرّد لم يجد أين ينام. كان شيبوب قد تحوّل الى شقة صغيرة لا تتسع لثلاثة أشخاص. في ليلة شتوية لجأ عماد الى مسجد الهدى و طلب المبيت هناك.. اعتذروا عن قبوله و لو لليلة واحدة، و لكن الحاج خربوط وفرّ له مسكنا مع أحد المغاربة.. حين خوّفه الحاج
ــــــــــــــــ
(1) توازن جمع توزن و التوزن هو الألف بالنرويجية و سمّي سامي توازن بذلك لكثرة امتلاكه آلاف الكرونات نتيجة تجارته الأثيمة.
ــ ص 128 ـــ
خربوط بعقوبة تارك الصلاة استجاب عماد و بدأ الصلاة و أصبح يشارك الحاج خربوط رحلات " الخروج في سبيل الله " أي دعوة الناس للإسلام، ذهب معه الى برقن و ستافنغر و عدة قرى و مدن نرويجية نائية.

حين اخبر ليف عن التحوّل الذي طرأ عليه، و عودة فحولته المفقودة، فتحت له أحضانها و بدآ صفحة جديدة من حياتهما.. في صباح يوم عودته أخبرته ليف انها حامل للمرة الثانية.
ـــ حين طردتك من البيت أردت فقط إعادتك الى رشدك.. لأنني احبك.
منذ عودته الى ليف، لاحظ عماد وجوما لم يعهده لديها.. حين سألها عن السبب تلعثمت، وادعت أنها مجرّد أزمة نفسية عابرة، ربما بتأثير حملها غير المبرمج.
حين حاولت ليف إسقاط حملها منعها عماد .
ــ سألت الحاج خربوط عن ذلك فقال لي ان الإجهاض حرام.
ــ من هو الحاج خربوط ؟
ــ زعيم جماعة التبليغ في مسجد الهدى

رغم توق عماد الشديد لتناول شمّة هروين أو حتى قطعة حشيش فقد قاوم رغبته و لم يستسلم لها. كان التفكير في هجران ليف التي اكتشف انه يحبها هو ايضا، يزيده إصرارا على الثبات، كما كان يقطع عليه طريق العودة الى عالم المخدرات.. تذكّر جهنم التي أعدّت لغير المصلين و خصوصا لمدمني المخدرات الذين يقتلون أنفسهم بتناول تلك السّموم، كانت تعصم عماد من السّقوط مرة أخرى.. في أثناء ذلك، أطلق عماد لحيته، واتخذ قميصا طويلا وعمامة خضراء أهداهما له أحد رواد مسجد الهدى، كما أصبح يبول جالسا و يشرب جالسا و يستعمل عودا في حجم قلم الرصاص يحكّ به أسنانه قبل كل صلاة، كما أصبح يحلق عانته و إبطيه بانتظام، كل ذلك وفق تعليمات الحاج خربوط.
" هذه سنة النبيّ .. المسلم يا أحباب مأمور بالإستحمام مرة في الأسبوع على الأقل. كما هو مأمور بحلق عانته و إبطيه مرّة كل يوم جمعة، عيد المسلمين"
أثناء وعظه اليومي في مسجد الهدى، لم يكن الحاج خربوط يفوّت مناسبة واحدة لإبداء أسفه من بعد المسلمين عن دينهم : " أصبح الدين مقلوبا يا أحباب.. المسلم يترك ما أمر بفعله و يفعل ما أمر بتركه، هذا عجيب و الله. أمره الله بإعفاء اللحية و حلق العانة. فحلق لحيته و ترك عانته! الله المستعان .. وحين ازداد ضلاله قلّد اليهودي و النصراني فاصبح يبول واقفا و يشرب واقفا ويأكل بالملاعق ويجلس على الكراسيّ و يكشف عن رأسه و يلبس السراويل و يترك لباس الصحابة.. أما السواك فأستبدله بالسجائر!".

الحاج خربوط لا يهتمّ بالسياسة، و يهزأ بمن إهتمّ بها مستعيذ بالله ممن" نسوا الخالق و انشغلوا بالمخلوق" .. الحاج خربوط لا يملّ من تذكير أتباعه بأن قمّة ما هو مطلوب من المسلم هو تغطية وجه زوجته و منع خروجها من البيت، والحرص على الخروج في سبيل الله لمدة 4 أشهر في العمر و أربعين يوما في السنة وأربعة ايام في الشهر .
" هذا هو الدين الكامل يا أحبابي".
الحكومات العربية ترحّب كثيرا بجماعات التبليغ، لأنّ نظرة تلك الجماعات تتفق مع رؤية الحكومات للدين ..الحكّام في بلادي يريدون مسلما لا يهتم بالسياسة و يعتبرها من اختصاص السياسين فقط
ـــــــ ص 129 ـــــــ


لأجل ذلك تلقى جماعات التبليغ كل قبول.

ذات مرة خطب الحاج خربوط في محبّيه:
ــ منذ أيام وقع اعتقالي في المغرب، ظنوا أنني إرهابي، حققوا معي، ضحكت من جهلهم، قلت لهم: يا جماعة الخير، نحن من أهل السنة والجماعة، نحن رجال الله لا نهتم بالسياسة و أوساخها.. شعارنا الأرض لأمير المؤمنين و ما تحت الأرض و ما فوق السماء لنا.
تبسم الحاج خربوط ثم أضاف :
ـــ و الله يا أحباب لا أزيد عنكم كلمة، تماما مثلما أحدثكم، لم يفهمني أحد من هؤلاء المحققين، تجهمت وجوههم، ضحكت من جهلهم، ظن المساكين أننا نملك مخازن أسلحة تحت الأرض والعياذ بالله. أو أقمارا صناعية في السّماء، أصيبوا بدهشة، تبادلوا نظرات متوجّسة، أدركت انهم قد أساءوا بي الظن، واعتبروني من تلك الجماعات الإرهابية والعياذ بالله ..أعداء الوطن و الدين، قلت لهم: يا أحباب لا تذهبوا بعيدا، نحن أتباع سيدنا أمير المؤمنين و حفيد النبي جلالة الملك محمد السادس نصره الله و بارك في ذريته الشريفة، والله العظيم لو وجدت ابني ينتمي الى تلك الجماعات فسأتولى ذبحه على ركبتي و لا أكلّف نفسي حتى إزعاجكم بقتله أو سجنه، نحن أتباع الرسول و الصحابة، علمنا شيوخنا ان طاعة الحاكم هي طاعة الله. و الله يا إخوة صدقوني وجدت الكلمات تندفع من فمي كأنّ ملكا كان يتكلم على لساني.. توفيق من الله.."إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ". حين قلت لهم ذلك، إعتذروا لي و قدموا لي قهوة و أجلسوني على كرسي و أحضروا لي رغيفين و نصف دجاجة و زجاجة كولا من الحجم الكبير، لم آكل طعاما منذ 36 ساعة ،الأحباب صفعوني و قيّدوني و منعوني حتى من الصلاة.. سامحهم الله.. وضعوا في رجلي كرة حديد، ثلاثون رطلا يا جماعة الخير.. سامحهم الله، قالوا لي سامحنا يا شيخ أسأنا بك الظن، قلت لهم: صار خير، بارك الله فيكم، إعتقالكم لي أفادني. سألوني: كيف أفادك أسيدنا الفقيه؟ قلت لهم: بعد تفكير طويل، علمت أن ما أصابني على أيديكم كان نتيجة بعدي عن سنة الرسول، سألوني مرّة أخري: كيف أسيدي الفقيه؟ قلت لهم:في الأسبوع الماضي، خالفت السنة المطهرة فنمت على جنبي الأيسر و لم أنم على جنبي الأيمن، فعاقبني الله و سلطكم عليّ..المهمّ يا أحبابي أنهم جدّدوا لي الإعتذار، ثم ودّعوني و أعطوني كتبا و مناشير فيها صورة جلالة الملك محمد السادس قمت بتوزيعها على الإخوة. كما أمروني بالدعاء للملك في كل صلاة، و تبليغهم عن كل شخص ذكر جلالة الملك بسوء أو تذمر من سياسته الداخلية و الخارجية. وعدتهم خيرا و أنصرفت، نسيت يا أحبابي أن أخبركم بشيء، حين سألني الأحباب في مخفر الشرطة ماذا تعني بقولك: الأرض لأمير المؤمنين و ما تحت الأرض و ما فوق السماء لنا. ضحكت ثم قلت: أما ما تحت الأرض فالقبر و أما فوق السماء فالجنة و النار.. أردت ان اقول لهم يا أحباب ان ديننا الكامل لا يهتم بغير الموت و الجنة و النار، اما الدنيا الفانية و السياسة فهي مهمتكم التي خلقكم الله لأدائها.. سبحانه يؤتي الملك من يشاء و ينزع الملك ممن يشاء ".

الحاج خربوط التبليغي صاحب الخلفية الصوفية، يكرهني كراهية الموت، كما كنت أفضّل رؤية الشيطان نفسه على رؤيته.. كان الحاج خربوط يخطب لساعات طويلة و لا يقول شيئا، كان لا يفهم شيئا من الدين. كما كان يغضب كثيرا كلما حاولت إصلاح المعلومات التي كان يلوّث بها عقول الناس.

في أول معرفتي به، طلبت الإذن من الحاج خربوط لإلقاء موعظة قصيرة في جمع من مريديه .
ـــــــــ ص 130 ـــــــــ

ولما كان على جهل مطبق بخلفيتي الفكرية و كراهيتي الشديدة لأمثاله سمح لي بذلك. نهضت من مكاني ثم توجّهت الى من كان حاضرا وقلت:"ذات مرّة اتفق وجود ثلاثة عميان في غرفة شاسعة فيها فيل.. أمسك الأعمى الأول بناب الفيل، في حين تحسّس الثاني رجله، أم الأعمى الثالث فقد تشبث بخرطومه. بعد ذلك، قيل لهؤلاء العميان الثلاثة:" صفوا لنا الفيل: . قال الأعمى الأول:" الفيل عبارة عن عمود أملس" . و قال الثاني:" بل هو سارية مستديرة" . و قال الثالث:" ليس الفيل سوى أنبوب طويل" ..
ضحك الحضور من جهل العميان:
سوّى الحاج خربوط عمامته ثم سألني متوجّسا :
ـــ ماذا تعني بهذا المثل؟
ــــ الإسلام يا حاج خربوط ليس هو التبليغ فقط، كما ان الفيل ليس هو الناب او الخرطوم او الرجل فقط.
ــــ .....
ـــ الرسول بلغ و جادل المخالفين ثم قاتل من منعه من تبليغ الإسلام و لم يكتف مثل جماعتك بالتبليغ. ثم الإدعاء بأن ذلك التبليغ المشوّه هو الدين الكامل كما تزعم..
التفت الحاج خربوط الي أتباعه وهو يتساءل:
ـــ ماذا يقول هذا المجنون؟!
ـــ اسمح لي يا حاج خربوط بكلمة واحدة ...
ـــ ....
ـــ لو اكتفي الرسول بتبليغ الإسلام دون قتال ما خرج الإسلام من الجزيرة العربية و لما كان وصلك الى المغرب .
قاطعني الحاج خربوط بحدة :
ــ نحن نبلغ الإسلام ..
قاطعته بحدّة أشدّ :
ـــ ما تبلغه ليس إسلاما بل شعوذة صوفية.
نهض الحاج خربوط من مكانه و هو يرتعد من الغضب
ـــ يا جماعة الرجل يكفّر رجال التبليغ .
ـــ أنت تبـلـّغ بعض الحقيقة و تقول انها كل الحقيقة، مثلك مثل الأعمي الذي اعتقد ان الفيل هو ناب فقط . الإسلام دعوة و جدال و قتال .
ـــ ليس هناك أعمى منك، فطلب المناصب السياسية قد أعماك عن الحقيقة.
ـــ الدين يا حاج خربوط هو تحرير الإنسان من المستبدين و إنزال الظالمين من عروشهم ليتحقق العدل و المساواة بين الناس .
ـــ أنت طالب دنيا و سلطة بينما نحن و الحمد لله نطلب الآخرة و ندعو للدين الكامل.
ــ يا حاج خربوط لست أنت الذي يحدّد ان الدين كامل أو غير كامل. الله هو الذي يحدّد ذلك. والله لم يقرّر أنّ الدّين قد كمل بمجرّد تبليغه من قبل محمد لكفّار قريش، بل حين انتصر محمّد على زعماء قريش و قيادتها العسكرية ثم أقام دولة فقال تعالى حينها " اليوم أكملت لكم دينكم "
رد علي الحاج خربوط بكل غباء سلفي:
ــ الحمد لله دولة الإسلام موجودة في كل بلاد المسلمين!
ـــ تقصد دولة المغرب التي تحكم بالقانون الفرنسي و السويسري و تغتصب نساء من يأمرها بمنع الربا و إغلاق الحانات و المواخير و تطبيق أحكام الشريعة ؟
ـــ نحن لا نتدخل في السياسة و القتل و الدماء .. نحن رجال الله .
أمسكت الحاج خربوط بقوة الصقته بالجدار قائلا:
ـــ اذا كنت رجل الله ، فمحمّد رجل من؟ أأنت خير من الرسول؟ أم حسبت أن محمدا كان مجرد كاهن مثلك لا
ـــ ص 131 ــــ

يهتم بغير ذكر الموت و الجنة و النار و يترك السياسة للمجرمين من أمثال أسيادك العفنين .

منذ ذلك اليوم، شنّ علىّ الحاج خربوط الحرب، خصوصا حين كنت أرفض إمامته للناس، فزيادة على جهله بالدين فقراء ته للقرآن غير صحيحة.لأنه بربري لا يتقن العربية.

في إحدى الأمسيات، لم تكن ليف تدرك انها ترتكب خطأ فادحا حين قالت لعماد:
" منذ شهرين حاولت أن اخفي عنك سرّا، و لكن ضميري قد منعني.
سكتت ليف قليلا ثم أضافت:" لو كنت منصفا فستنسى المسألة برمّتها، بإعتبار ان ما قمت به من إساءة نحوك، يعادل ما قمت به من إدمان مخدرات وأخطاء أخرى أنت تعرفها" .
ـــ عندما قالت لي ذلك خفق قلبي و أيقنت بالكارثة.. حاولت أن أسكتها، أردت أن أخدع نفسي وأتعلّل ببعض الوهم، أخبرني سامي توازن قبل ذلك بأسبوعين، انه رآها مرتين تتأبط ذراع توماس ، قلت لها " انسي الماضي كلنا بشر". لم تصغ لكلامي، انفجرت باكية و أعلمتني أن فقداني المؤقت لقدرتي الجنسية، دفعها الى فراش رفيق طفولتها توماس " سامحني ياعماد، أقسم لك لقد حدث ذلك مرّة واحدة.. أردت أن أكون نزيهة معك " أسودت الدنيا في ناظري، لم أشعر بيدي و هما تمسكان بخناقها، كنت أدرك أنني اقتلها، حين شعرت بضربة على مؤخرة راسي فقدت إثرها الوعي. حينا استيقظت وجدت نفسي في غرفة الطبيب الإستعجالي .. علمت فيما بعد أن والدة ليف ضربتني بتمثال رخامي. لولا وجود أمها في البيت لقتلتها".

منذ ذلك الحين اتخذت حياة عماد منعرجا آخرا، ترك الصلاة و حلق لحيته و أرسل عانتة و ألقى جلبابه و عاد الى المخدّرات.؟ لم يعد يبول جالسا و يشرب جالسا، بل أصبح يبول على نفسه جالسا و مستلقيا، نائما و مستيقظا !!



الفصل الثالث و العشرون
عمل المرأة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حين دخلت ورشة النجارة رأيت زميلي داق Dag يتحدث مع ايفين، حالما رآني الأخيرقال لداق وهو يغادر المكان:
ــ الإرهاب و التخلف حضرا، هنيئا لك بصحبتهما.
إيفان شاب عنصري لا يكلّف نفسه حتى مجرّد الردّ على تحيّتي.. في الأسبوع الأول من انضمامه لتشكيلة العمّال، أعرب عن رأيه فيّ بصراحة مطلقلة.. حين قدّمت له نفسي تأخّر خطوة.. نظر إليّ و كأنّه يعاين حشرة ثم قال:
ـــ رؤيتك تؤلمني. فأنا أكرهك و أكره المسلمين الأموات منهم و الأحياء، و من سياتون بعد ألفي سنة، و أتمنّى أن ترحل من النرويج، أو على الأقلّ من أمام وجهي.
قال ذلك ثم بصق في الأرض و ذهب . شيّعته بقولي :
ــــ ص132 ــــ

ــ و انا لا يسرني معرفة عنصريّ مثلك.
أردت اللحاق بايفان، لكن داق سحبني من ذراعي .. خرجنا معا الى المربّع الإسمنتيّ الذي يوجد مباشرة أمام باب الورشة، جلس داق على قطعة خشبية كبيرة اتخذ اكثرها للجلوس و البقية كمنفضة سجائر مجوّفة.. أسند ظهره الى الحائط .. حين لا حظ داق وجومي جذبني من يدي ثم افسح لي مكانا بجواره.
قال و هو يخرج علبة سجائره البرنس :
ـــ لا تهتم بايفين هو مجرّد كيس نفايات.
ـــ ...
ـــ لست الوحيد الذي يكرهه في هذه الورشة..على كل حال سمعت بانه طلب نقلته من هنا و قد لبّي طلبه... بقاؤه رهين أسبوع أو أسبوعين.
ـــ لو لم يفعل لطلبت انا نقلتي، تصوّر ان مجرد التفكير فيه يصيبني باكتئاب.. كل مساء حين اتذكر انه يجب عليها الذهاب الى الشغل، لا افكر في مخاطر الشغل و تعبه بقدر ما أفكر في ايفين و عذابي لرؤيته.
اشعل داق سيجارة برنس قبل ان يخبرني بانه و ايفين كانا بصدد الحديث عن المرأة في أفغانستان تحت حكم طالبان.. سألني داق عن رأي الإسلام في عمل المرأة..أصيب بدهشة حين قلت له أننا المسلمين نجرّ المراة من بيتها و هي تبكي كي تذهب الى شغلها! فالشغل واجب عليها مثل الرجل تماما.
قال داق بعد ان سحب نفسا طويلا من سيجارته.. ثم ترك الدخان يتسرب من فمه :
ـــ لا شك أنك تمزح، لأن ما سمعته و ما رايته عكس ما قلته تماما.
ـــ أخبرني أولا ماذا سمعت و ماذا رأيت؟
ـــ رأيت تحقيقا تلفزيونيا عرض مساء أمس حول وضع المرأة في عهد طالبان. فقد منعن حتى من الدراسة و العمل و حتى الخروج دون مبرّر.
ـــ سأبدأ أولا بموقف الإسلام من عمل المرأة، بعد ذلك ساذكر لك موقف السلفية.
ـــ يجب ان تخبرني اولا ما هي السلفية ؟
ــ أنتم تقولون في النرويج "مسلم سني، مسلم شيعي "... السنّة هي نفسها تسمى السلفية. السنّة تمثل حوالي 95 في المائة من المنتسبين للإسلام، تستطيع أن تقول أن السنّة تمثل مصالح الحكام الفاسدين.. فالحكام كونوها و اختاروا رجالها من فئة ضيقة الأفق و ذوي قراءة حرفية للنص، لأجل ذلك كانت نظرتهم متعصبة ضد المرأة، فليس لها الحق لا في التعليم و لا في الشغل ولا في اختيار الزوج كما يعتبرونها ناقصة عقل ودين، كما أن غالبية أهل النار من جنسهن، و السلفيون هم أعداء العقل و حرية الإنسان،حتى نظرتهم لله مشوهة فهم يعتقدون ان الله مثل البشر له يد واصبع وعين و ساقين.. كل معتقداتهم اخذوها عن الخرافات اليهودية و كل الأحاديث التي يزعمون ان الرسول قالها هي من صميم الفكر اليهودي و النصراني المعادي للمرأة. السلفيون يعتقدون في الحق المقدس في الحكم و يرفضون اختيار الشعب لحكامه بل يطالبون الشعب بالرضوخ لظلم الحكام. كما يعتقدون ان الإنسان مسير في كل أعماله، و يعتقدون في نفس الوقت ان الله سيدخله النار اذا قام بالأعمال التي أجبر على فعلها. و للسلفيين قدرة عجيبة على ابتلاع المتناقضات و هم سعداء بتناقضاتهم، و ليس لهم مشكلة، و لكنهم يشكّلون أعظم مشكلة في طريق الإسلام، هذه هي السلفية باختصار شديد.
ــ لنعد للمرأة
ـــ حين أخبرتك اننا نجرّالمرأة المسلمة الى الشغل مكرهة، أردت أن أقول أن العمل بالنسبة للمرأة
ـــ ص 133 ــــ

ضروري و فرض تماما كالرجل، لأن هناك وظائف لا تؤديها سواها، فيجب عل المراة أن تكون طبيبة وممرضة و مبنجة و مدرّسة وسائقة و مدربة مصارعة يابانية و سباحة، فالمرأة في الإسلام اذا بلغت 12 سنة لا بد ان تعالجها إمراة و تدرسها مراة و تعلمها الرياضة امرة مثلها لأجل ذلك لا بد من تكوين طبيبات و ممرضات و مدربات، ولا يتم ذلك الا بدخولها ارقى المدارس و تلقيها ارقى تعليم و المسلمون يعتبرون عصاة اذا لم يفعلوا ذلك ..
ـــ هذا تخلف بمعنى انكم تمنعون الإختلاط
ـــ هناك مدارس في الغرب تمنع الإختلاط
ــ أنتم متخلفون من جهة اخرى لانكم لا تثقون بالمراة
ــ على كل حال لسنا اشد تخلفا من المانيا في هذا الأمر
ـــ ماذا وقع في المانيا؟
ـــ في المانيا صدر أخيرا قانون يحظر ذهاب الموظفات منفردات الى قبو الأرشيف حتى لا تتعرضن للتحرش الجنسي من قبل زملاء عملهن .
ـــ لكن للإنسان عقلا يضبط به نفسه.
ـــ اذا لم يكن لبيل كلينتن قدرة على ضبط النفس و هو رئيس اعظم دولة فكيف يكون للعامل الألماني البسيط عقل. فالجنس عبارة عن تسونامي لا يقف تجاهه أي شيء .لأجل ذلك منع الإسلام الإختلاط في العمل و الدراسة بين الرجال و النساء . بل حرم الخلوة بين الرجل و المرأة
ـــ بمعنى ذلك انك لا تستطيع دعوة بيريت لشرب قهوة في بيتك و انتما لوحدكما ؟!
ـــ نعم هذا صحيح
ـــ مهما كانت نيتكما سليمة؟!
ـــ يمكن ان أجتمع بها في مكان عام.. في حديقة أو مقهي مثلا.
ـــ يا الهي لماذا كل هذه التعقيدات؟
ـــ الذي قرر ذلك هو من خلقني و خلق بيريت ، و يعلم جيدا ما سيحدث بيني و بين بيريت إن لم يكن ذلك في اللقاء الأول، ففي اللقاء الأول بعد المئة. ثم ان الإسلام حرّم حتى مجرّد النظر الى بيريت دون داع لذلك.
ضرب داق الأرض بقدمه ثم قال :
ــ اللعنة . هل يوجد تعصب أكثر من هذا؟!
ـــ اذا قلت لك يا Dag أن بامكانك أخذ صديقتك الى بيتك و تقبيلها و نزع ثيابها ثم الإنتهاء عند هذا الحدّ رغم رغبتك و رغبة صديقتك في إتمام العمليّة الجنسية، فهل تعدني بالوقوف عند ذلك الحدّ؟!
ضحك داق ثم قال :
ـــ يمكن لبيل كلينتن أن يعدك و يفي بالوعد، فتلك مسألة تخصّه، و لكنني لا أعدك بذلك!
ـــ و لأجل ان الخالق يعلم انه سيصعب عليك الإنسحاب في اللحظة الحاسمة، منعك من أول خطوة تؤدي الى تلك النهاية المحتومة.
ـــ ...
ـــ اقصد انه منعك من النظرة الجنسية التي تؤدي الى التعارف ثم الخلوة ثم المداعبات ثم الدخول في المرأة.
قبل ان تنتهي فترة الراحة اضفت لداق:
ـــ عمل المراة في الإسلام يجب ان يكون بموافقة زوجها..فلا يجب اجبار الزوج على القبول كرها بعمل زوجته..ثم ان ذلك الشغل لا بدّ أن يكون لساعت قليلة، كي لا يضر بمصلحة ابنائها الذين هم في حاجة الى رعايتها .
ــــ ص 134 ــــ

ـــ و ما نراه في افغانستان؟
ــ ما تراه في افغانستان مجرّد سلفية أخذت افكارها من ديانات معادية للمراة ..مثل النصرانية التي اعتبرت المراة سبب شقاء الرجل فهي الذي جرت آدم للأكل من الشجرة المحرّمة و الخروج من الجنة..لأجل ذلك عاقبها الله بالحيض و الولادة و أعتبرت شرّا و عورة يجب سترها عن أعين الناس، حتى انكم كنتم تصرّون قبل عقود قليلة، على أن المراة لا يجب عليها الخرج من بيتها الا ثلاث مرات: مرة للتعميد، ومرة الي بيت زوجها، و مرة الى القبر.
ـــ أنحن نقول هذا ؟ أمر لا يصدق !؟
ـــ راجع أمثالكم الأنكليزية فستجد ذلك بسهولة، ثم لا تنس أن قساوسة القرون الوسطي كانوا يبحثون عن طبيعة روح المراة اهي انسانية أم شيطانية.
ـــ ....
ـــ الإسلام جاء لرد الإعتبار للمراة فالمراة التي يمنعها السلفيون اليوم من الخروج من البيت أمرها الإسلام قبل 1415 سنة بالخروج من بيتها خمس مرات في اليوم على الأقل
ــ لماذا خمس مرات بالتحديد؟
ــ عدد أوقات الصلاة. و يعتبر زوجها مذنب لو منعها من ذلك
علّق داق وهو يسحق عقب سيجارته بقعر التجويف الخشبي:
ــ هذا عجيب !
ـــ المرأة قبل الإسلام كانت تقابل الرجال و تدير المؤسسات التجارية.. الرسول كان يشتغل في مؤسسة للتجارة الخارجية تديرها سيدة ارملة تزوجها فيما بعد، عند العرب قبل 15 قرنا كانت المراة العربية محترمة حتى وهي مطلقة، في حين انكم منعتم ادوراد الثامن من الزواج بمطلقة حتى اضطرّ الى التنازل عن العرش. فحققت له شهرة زواجه بمن أحبّ أكثر مما كان سيحققه له بقاؤه على كل المراة حتى وجهها؟
ـــ ثم ان الغطاء الذي تلبسه نساء طالبان هو من بقايا الثقافة اليهودية فالمومسات لوحدهن كن يلبسن النقاب حتى لا يعرفن.

قبل نهاية فترة الراحة وجدت الوقت كي اخبر داق ان كل ما يقال عن طالبان غير صحيح، و ضربت له مثلا مسألة ترويجهم و زرعهم للمخدرات .. فطالبان استطاعت اقناع المزارعين بالكف عن زارعتها و المتاجرة بها، أما الآن، و بعد اندحار طالبان، فقد عادت تجارة المخدرات الى أوج ازدهارها، كل ذلك تحت سمع القوات الأمريكية و بصرها!

في طريقي الى البيت كنت افكر في نونجة زوجة عماد مدمن المخدرات... لن أغفر لنفسي قط انني كنت السبب في ارتباطهما المأساويّ .

ــــــــ 135 ـــــــــــــ


ا
الفصل الرابع و العشرو
تزويج نونجة المغربية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذات مساء سألتـني زوجتي :
ــ هل أنت جادّ في بحثك عن زوجة لعماد؟
ــ هل وجدت واحدة ؟
ـــ صديقتي خديجة المغربية...

على غرار الإنتخابات العربية التي يكون فيها الرئيس هو المرشح الأوحد، كانت "وحيدة" شقيقة زوجتي، و لمدّة تزيد عن خمسة عشر عاما، هي المرشّحة الوحيدة لكلّ الزّيجات التي لم تتمّ.. كلّما حدّثت زوجتي عن صديق يبحث عن زوجة كان سؤالها التقليدي:
ــ هل حدثته عن وحيدة؟

وحيدة، شقيقة زوجتي، فتاة سيّئة الحظ الى حدّ لا يصدّق، كلّ خطيب يتقدم لخطبتها تحلّ به كارثة، أوبأحد أفراد عائلته.. أصبح من العاديّ جدّا أن يكون اليوم المحدّد لخطبة وحيدة تاريخا مأساويا، إمّا لتعرّض شقيق العريس أو أبيه الى حادث مرور، أو حمل والدته الى الإستعجالي لإستئصال زائدة دودية صاحبتها لأكثر من نصف قرن ولم يخطر لها مفارقتها الا في تلك الأمسية اللعينة!

في كل مرّة، كانت زوجتي تؤكّد لي:
ــ مسحورة، قلت لك انها مسحورة.

رغم ايماني بالسّحر، لم أكن اتفق مع زوجتي فيما ذهبت اليه، لأن وحيدة رغم جمالها، نحيلة و بارزة العظام حتى كأنها عارضة أزياء شهيرة أو ملكة جمال الكون، وهذا لا يروق لخاطب عربيّ.. من تقاليدنا العربية تسمين العروس قبيل شهر من دخول زوجها عليها.. كأن يحدّ من تحركاتها او يقدم لها طعاما ذا سعرات حرارية مرتفعة.
العرب يقولون عن المراة النموذج: حازت الأبيضان الشحم و الشباب.

العجيب في أمر وحيدة،هو كثرة من يطلب يدها! لا يكاد يمرّ شهران على الأكثر، دون أن نسمع بخطيب يتقدّم لوحيدة، يتلوه مباشرة وقوع كارثة تدرج تلك الخطبة في طيّ النسيان.. في إحدى المرات تعرّف على وحيدة شابان في نفس الوقت، و أصرّ كلّ واحد منهما على خطبتها، بلغ التنافس بينهما الى حدّ تبادل العنف، وحين فضّ الإشتباك، إنصرف كل منها في حال سبيله زاهدا في وحيدة! مرّة أخرى، ألقت الشرطة العسكرية القبض على أحد المتقدمين لطلب يد وحيدة وهو في طريقه إلى بيتها لطلب يدها.. كان المسكين قد راوغ دوريات الشرطة العسكرية لمدة تسع سنين واحدى عشر شهرا و أربعة أسابيع محاولا الإفلات من واجبه العسكري. حين قبض عليه كان بقي على اعفائه النهائي ثلاثة أيام فقط !! في احدى المرات سقط نيزك من السماء في شكل حجارة بحجم بطيخة صغيرة على بيت خطيب وحيدة ليلة الخطبة فتسبب في وفاة شقيقته، اكد العلماء غرابة الحادثة الذي لا يقع مثيلها سوى مرة واحدة كل 260 سنة!

لما سمعت زوجتي بمأساة يوسف أحمد صديقي الصّومالي،عرضت عـليه وحيدة، رحب يوسف بالفكرة
ـــ ص 136ــــ

خصوصا و قد أعجب كثيرا بالطبخ التونسي .

سألت زوجتي:
ـــ هل طلقت خديجة هي الأخرى؟
قالت ضاحكة:
ــ بالعكس زوجها يحبها جدا، كل شهر يحملها لمطعم فخم، و في كل عيد ميلاد يشترى لها قطعة مصوغ ...
قلت مقاطعا:
ــ وفي كل ساعة يجدد لها اعترافه بحبه.
تنهدت زوجتي وهي تـقول:
ـــ كل واحد وحظه، المهم أخبرتني خديجة ان لها خادمة في المغرب تريد تزويجها.
" احتفاظ الزوجين برباط الزوجية لا يعني انهما يعيشان في سعادة"هكذا قال لي رشيد ذات مرة، تنهد بعد ذلك قبل ان يضيف:
" أسوأ من الطلاق، أن يعيش الزوجان تحت سقف واحد دون روابط عاطفية تجمع بينهما.. ذات مرّة سئل ارنست هيمنجواى كم تزوجت من مرة فاجاب : مرتين ونصف أما أنا فقد تزوجت ربع مرّة"

كل العائلات المسلمة التي جاورتنا منذ عشرين سنة قد حلّت بها لعنة الطلاق..الجالية الصومالية حققت الرقم القياسي في التطليق. إغراءات ما تعطى الأم الوحيدة من منح و ضمانات إجتماعية لم يصمد أمامها إلاّ القليل، هناك عائلات تبدأ الطلاق كإجراء إحتيالي للحصول على معاشين و بيتين ( يقع كراء احدهما بالأسود) ثم سرعان ما يقع الطلاق الحقيقي!

في الشهر الماضي قابلت يوسف أحمد الصومالي، شاب لطيف لم أره منذ سنتين.. كنت قد تعاطفت معه حين عثرت عليه في مقر اللجوء في جزيرة ساند نوشون. ككل الصوماليين كان يوسف أحمد بسيطا و طيب القلب. الصوماليون بسطاء جدا، أكثر من نصف الشعب الصومالي بدو رحّل امتهنوا رعي المواشي، الصوماليون لم يتعودوا على الفضاءات المغلقة التي تقتضي خفض الأصوات اثناء الحديث، فقد اعتادوا العيش في الهواء الطلق، تستطيع تبين ذلك بسهولة من علو اصواتهم اثناء تخاطبهم، يحدث مرات عديدة ان يقف صومالي في اول عربة القطار ليتبادل الحديث و بكل عفوية مع صومالي آخر يسند ظهره في آخر العربة، دون مبالاة بما بينهما من خليط نرويجي و أجنبيي مندهش! اذا نهاهم احد البيض ــ حتى من المسلمين ــ عن تصرفهم ذاك، شكوا أمرهم الى الله و أعتبروا ذلك النهي شكلا سافرا من اشكال التمييز العنصريّ! في إحدى المرات رأيت شابة صومالية تتحدث مع زوجها، كان كل طرف منهما يقف في رصيف من أرصفتي قطارالأنفاق، كانت تفصلهما السكة الحديدية التي تقع أسفل الرصيفين بحوالي متر أو يزيد، و كان لا يعكر "حوارهما العائلي" سوى مرور قطار ركاب أو قافلة من عربات البضائع! و للصوماليين تصرفات اخرى مسلية جدا، بعد سنوات قليلة ستنقرض هاتة المشاهدات الممتعة بانقراض اصحابا و تخليف اجيال اكثر تهذيبا.. كم سيغضب الزعيم العنصري "كارل ايهاقن " حين يعلم ان رئيس وزراء النرويج لسنة 2200 سيكون صوماليا، كما سيكون وزير دفاعه باكستانيا. بعد ان يتحول الصوماليون و الباكستانيون الى اكثرية في النرويج ..أكثرية خالية من أي اثر للإسلام.. لست اذكر من اعلمني أن آخر دراسة تؤكّد ان الإيطاليين سينقرضون بعد 250 سنة اذا

ــــــ ص 137 ـــــ

استمرت نسبة مواليدهم على هذه الوتيرة المنخفضة، لأجل ذلك منحت ايطاليا هبة قدرها الف يورو لكل اسرة ايطالية تنجب الطفل الثاني التي اطلقت عليه الحكومة تسمية الطفل القومي .

في السنة الماضية طالب بعض الصوماليين الحكومة النرويجية بتوفير حشيش القات المخدر باعتباره جزءا من مكوّناتهم الثقافية! يبدو ان الحكومة النرويجية استجابت لطلبهم، حيث اصبح شباب الصومال يتجمعون في الساحة المقابلة لشارع "بلاتوس قاتا" أما منتظرين قدوم حشيش القات أو وهم يتنازعونه بينهم.

كان اسقاط الصوماليين في النرويج صدمة ثقافية كبرى بالنسبة لأكثريتهم الساحقة. شهدت بنفسي تفسّخ عيّنة صومالية كانت تضم ثلاثين عنصرا.. حين أنزلتهم الحافلة امام مركز اللجوء في جزيرة ساند نوشون كان هم ّهؤلاء الشباب البحث عن اتجاه القبلة لأداء ما فوتت عليهم الرحلة الطويلة من صلاة، كلهم كانوا ملتحيين و القليل منهم كان يدخّن.. خلال تسعة أشهر تركوا الصلاة وأصبح لنصفهم صديقة نرويجية، كما تجرّأ بعضهم على تناول الجعة و أصبح أكثرهم يتخاطب بلغة هنريك أبسن محاولا تقليد النرويجين بشكل مثير للضحك، كان يصرّ مثلا على قطع الخبز بالسكين ثم تناوله بالشوكة!. وعند حلول شهر رمضان، أجمعوا على تجاهل صومه و كأنّ كارل ماركس ربّاهم بنفسه!.. لم يثبت على موقفه غير يوسف أحمد... حين صارغريبا بين الصوماليين ضممته الى أسرتي...كنا نتناول طعامنا معا، كما صرنا مدمنين على لعبة البليارد، كنا نأخذ المفتاح من الإستقبال و نتولى فتح القاعة الصغيرة التي تشرف على البحر و تتوسطها الطاولة الخضراء، كانت اللعبة تروق لي.. كنت أعبر عن إحباطي وغضبي بقوة الضربات التي أوجهها للكرة البيضاء. " الحياة كلعبة البليارد لا ينفع معها في كل الحالات استخدام القوة . بل تحتاج احيانا الى اللين اي الى الهدوء و ضبط النفس"
هكذا كنت اقول لولدي ياسين.

منذ بلوغه التاسعة كنت أصحب ياسين الى قاعة البليارد في مقهي الأتراك بغرينلاند، كنت اقول له و أنا ادفع برفق مقدمة عصا البليارد لتصطدم بالكرة السوداء التي تقع على بعد ثلاثة انشات من الفتحة.
" العنف لا ينفع دائما، خذ عبرة من لعبة البليارد "

في مقهي الأتراك، تلقيت اول شتيمة رسمية من ولدي ياسين، يمكنني الآن بسهولة ذكر تاريخها، لو رجعت الى الصفحات الأخيرة من مذكرة سنة 97 حيث سجلت الحادثة بالتفصيل، كما احطتها ايضا بسطر أحمر غليظ . حين نصحته بضرب الكرة الأقرب من الثقب المخصص .. قال لي وهو يصوب نحو الهدف الذي اختاره و بلغة نرويجية لن اتقنها و لو عشت ألف سنة .
" أغلق فمك! "
شعرت كأن سطل ماء بارد قد سكب علي، انهرت جالسا على اقرب كرسي، تذكرت على الفور حديثا كذّبه العلماء، وآمنت أنا بصحته، الحديث يقول: " بعد مائة عام من زمني هذا ستكون تربية كلب انفع من تربية ولد !". تمنيت ساعتها لو تركت ياسين و أمّه في تونس ليتربّى هناك، و تحمّلت وحدي ألم الغربة.

في أول الأمر، كنت اترك يوسف أحمد يهزمني، وبعد مدة قصيرة أصبح يتفوّق عليّ بسهولة!

ــــــ ص 138 ــــــــ

منذ أول وهلة، فتح لي يوسف أحمد قلبه... أخبرني ان قصف جيش سياد برّي قريته قد تسبب في قتل أبيه وأمه و شقيقتيه و أربعة من أطفاله فيما فقدت زوجته مع طفليها الصغيرين، اجبر يوسف أحمد على الهجرة لأثيوبيا و منها الى النرويج، مرت عليه تسع سنوات دون ان يسمع جديد عن زوجته المفقودة، فاعتبرها في عداد الأموات، رافعا خسائره العائلية الى سبعة أفراد.

ذات ليلة، طرق علينا يوسف أحمد باب شقتنا.. بانفاس متقطعة اخبرنا ان أحد أبناء قريته الذي حلّ امس بمركز اللجوء، قد بشّره في التوّ بوجود زوجته الفقيدة في أثيوبيا رفقة طفل وحيد، و انهما ينتظران الترحيل الي النرويج أو الى السويد .. كنت فرحا لفرح يوسف أحمد، لم أستوعب الحدث بعد، كي أدرج يوسف أحمد في قائمة خيبات وحيدة الا حينما سمعت زوجتي تسأله:
ـــ أخ يوسف، هل تعرف صوماليا آخر في مثل وضعيك؟ يعني ...
لم يفهم يوسف أحمد ما تعنية زوجتي، بقي يوزع نظراته بيننا. فيما استمرت زوجتي:
ـــ أعني هل تعرف صوماليا يئس من وجود زوجة مفقودة أو خطيبة ضائعة حتى يسترد زوجته أو يلتقي بخطيبته بمجرّد خطبته شقيقتي وحيدة ؟!

بعد ثلاثة أشهر غادرت ساند نوشون تاركا ورائي يوسف أحمد، و هو ينتظر بلهفة قدوم زوجته وولده من أثيوبيا.. كان قد أتصل بها و أخبرها بموقعه من الكرة الأرضية.. بعد أقل من سنتين، و حين التقيت يوسف احمد في أوسلو سالته عن زوجته، شكرني على اهتمامي بحياته الزوجية، قبل أن يعلمني بأنه قد طلّق زوجته قبل مرور سنة واحدة من قدومها للنرويج! كما أعلمني أنه قد أضاع رقمنا الهاتفي لطلب يد وحيدة من جديد! وفي نهاية الأمر تزوج بأخرى وهو يفكر في تطليقها!
ـــ تصوّر يا سامي كان كل همّ زوجتي حال حلولها بالنرويج، جمع المال و الحصول على رخصة سياقة!

حين سمعت زوجتي بمشعوذ أردني يعالج المسحورين، طارت الي الدانمرك، و جاءت معها بوصفة تتمثل في ثلاث أوراق صفراء مكتوبة بالحبر الصيني عليها آيات قرآنية.. أوصاها المشعوذ بوضع ورقة في سطل ماء فاتر ثم إستحمام المتضررة، أي وحيدة، بذلك الماء بعد كل صلاة فجر، لمدة ثلاثة ايام.. بواسطة البريد السريع، أرسلت زوجتي الأوراق الى تونس واجتهدت في الدعاء اثناء الصلاة.. بعد استعمال وحيدة لتلك الوصفة العجيبة باقل من نصف شهر تقدم لها خاطب. فور دخول الخاطب الى البيت استقبل بلكمتين على فكه و ركلة على خصيتيه من طرف شقيقها الذي كان في حالة سكر مطبق، ظنه لصا فأراد تأديبه. إستقبل الخاطب تلك الضربات الموجعة بروح رياضية و قبل اعتذار معنفه، مصرا على خطبة وحيدة حتى لو تعرض الى النسف. في الأسبوع الموالي قدم العريس مع اهله .
حين دخلت الى البيت استقبلتـني زوجتي ضاحكة:
" لقد حدثت المعجزة و تمت الخطبة .. تمّت خطبة وحيدة و رجع الخاطب الى قواعده دون خسائر ماديّة أو بشريّة!"

و بقى سؤال :" كيف حدث ذلك؟" معلقا .

في احيان كثيرة تحدث أشياء تستعصى عن التفسير، من ذلك ما حدث لي في طفولتي، منذ
ـــ ص 139 ــــــ

بلوغي التاسعة حتى اتمامي الرابعة عشر كنت اصاب بمعدل مرتين في السنة بتورّم تحت جفن عيني اليمني أو اليسري، سرعان ما يتضخّم متحوّلا الي جيب يحتوي على صديد، كنا نسمي ذلك الورم شعيرة، ربما لأنه يتخذ شكل حبّة شعير، و كنا نرجع سببه الى ان المصاب قد التقط مليما (1) كان قد ألقاه احد المصابين بالشعيرة للتخلص من مرضه. لأجل ذلك كلما مررنا بمليم ملقى على الأرض تجنّبناه.

ذات يوم، اثار مرضي أشفاق إحدى جارتنا، فاشارت على والدتي بحملي الى قبر سيدي خريصان...( وليّ بجرزونة، البلدة التي تقع على ضفة القنال المواجهة لمدينة بنزرت)، ثم تضرّعي امام ضريحه وطلب مساعدته في شفائي، متعهدا بعدم تناول اكلة معينة ما دمت حيا، والا رجع لي ذلك المرض.. الأكلة المختارة تكون هامشية، لنقل مثلا أذن خروف، أو لسان بقرة... فعلت كل ذلك ..الغريب، انني لم أصب بشعيرة أخرى على مدى أربعين عاما!

كانت صلتنا باولياء الله وطيدة، كان لكل اسرة في تونس وليّها الخاص، كما يوجد لكلّ أسرة نرويجية طبيبها الخاص.. كل أسرة كانت تتعهد بزيارة سنوية تؤديها لذلك الوليّ، تقدم له فيها ديكا أو خروفا، كبرهان على ايمانها بكرامته، و عرفانا منها بخدماته الجليلة في التسريع بميلاد ذكر، أوانجاح طفل، أو شفاء مريض أو تزويج عانس. كنا نذهب سنويا الي سيدي عامرالموجود على بعد ثلاثة اميال من بلدة منزل جميل لنذبح ديكا بجوار قبره، ثم نقوم بطبخه واكل لحمه دون ان ننسى التصدق بجزء منه على بعض الغرباء،( غالبا ما يكون المشرف على رعاية القبر).

بالإضافة الي سيدي عامر" طبيب عائتنا الخاص"، كان لنا سيدي عبد الرحمن.. الأخير كان يعدّ بمثابة الطبيب الإستعجالي لكامل الحي! كان قبر سيدي عبد الرحمن يقع على مرمي حجر من بيتنا، حين أمرض كنت أسمع أمي تصدر أوامرها الى شقيقاتي بجرّي الي سيدي عبد الرحمن و دقّ مسمار فوق رأسي، ثم إشعال شمعه على قبر الوليّ بعد طلبهم شفائي العاجل، أوّل مرة أصبت برعب شديد، كنت اظن أن المسمار سيغرز في رأسي، لأجل ذلك اضطروا الى جرّي الى الوليّ بعدما أستعصى عليهم حملي. كل ما في الأمر أنه تمّ إلصاق ظهري بجدار البناية المنخفضة التي تضم قبر الولي، في حين وضعت إحدى شقيقاتي إصبعها فوق راسي لتحديد موضع المسمار بعد ذلك وقع إبعادي عن الحائط ثم دق المسمار اللعين على النقطة المؤشّرة.

بعد أربعين سنة، و حين أحتاج اهل بلدتي الى تحويل قبرسيدي عبد الرحمن من أجل استغلا ل أرضية مدفنه لبناء مسجد . اثبت أكثر من شاهد عيان أن الهيكل العظمي الذي عثر عليه داخل القبر كان بقايا حمار. اختلف الآراء في القضية، من الناس من زعم ان الله كرم سيدي عبد الرحمن سيدي عبد الرحمن فرفعه كما رفع المسيح من قبله.. و منهم من أكّد حماريّة سيدي عبد الرحمن و منهم من سكت. ومنهم من ارجع علم ذلك الى الله وحده.

سألت زوجتي :
ـــ كم عمر خادمة خديجة؟
ــــــــــــــــــــــــ
(1) عملة تونسية.

ــ ص 140 ـــــ


ـــ ثلاثون سنة .. و اسمها نونجة و لم يسبق لها ان تزوجت، وهي جميلة.
أضافت زوجتي و هي تتّجه الى المشجب حيث حقيبتها اليدوية:
ـــ انتظر عندي صورتها.
كانت نونجة جميلة فعلا .. تمّت اجراءات استقدامها بسرعة .

قبل ذلك اتصلت هاتفيا بليف، اعلمتها بالأمر.. سالتها عن وجهة نظرها، وهل لديها أدنى رغبة في الرجوع الى عماد قبل ان يتم زواجه من نونجة المغربية، رحبت ليف بالفكرة، و نفت رغبتها في الرجوع الى عماد... بعد ذلك، سارت الأموربسرعة ، تمت خطبة نونجة ثم سافر عماد الى المغرب للقيام بتراتيب الزواج.

بعد رجوعه من المغرب، اكتشفت ان عمادا ما زال مدمنا على المخدرات، إتصلت فورا بنونجة و نصحتها بفسخ الخطبة، بعدما اخبرتها بأنني قد سحبت ثقتي في عماد، لم تفاجأ نونجة بالأمر اكتفت بالقول بانه سيتوب على يديها.. بعد أقل من نصف سنة حلّت نونجة باوسلو.. بعد أسبوع تمّ الزواج التعيس..


كنت قد دربت عماد على استعمال الطريقة الصينية لمنع الحمل، حين سالني عن كيفيتها اخرجت مفكرتي و فتحتها امامي و طفقت اشرح :
ـــ في الأسبوع الذي يسبق الأحد عشر يوما من بدء الحيض الموالي استخدم واقي الذكر أو الكندوم .
ابدى عماد تذمره من استعمال الكندوم،تعلل بانه لم يتعود عليه.
ـــ صحيح ان الجماع بالكندوم كما يقال كأكل قطعة حلوى بغلافها الورقي، و لكنك لست مؤهلا الآن للإهتمام بمولود جديد، خصوصا و انت تصرّ على ادمانك... فلو تبيّن عدم صلوحية نونجة كزوجة فستصرفها دون ندم .
بعد اقل من شهرين من زواجهما، أخبرني عماد ان نونجة حامل، حين لمته ضحك ثم قال :
ـــ لم يرق لي تناول قطعة الحلوى بغلافها!

كانت نونجة أميّة وجاهلة.. منذ الأسبوع الأول لزواجهما اندلعت الحرب بينها و بين عماد. حدث ذلك حين قدمت ليف تحمل باقة ورد لتهنئة العروسين.. اتجهت مباشرة الى عماد و طبعت قبلة على خدّه.. لم تحتمل نونجة تلك الجرأة النرويجيّة، فأمسكت بباقة الورد ولطمت بها وجه ليف . لم يحتمل عماد تلك الإهانة الصريحة لليف، فصفع نونجة في الحال..أسرعت نونجة الى صورة آمنة و يوسف ولدي عماد فمزقتهما ثم صاحت في عماد:
ــ إمّا أنا و إمّا ولديك!
أخذ عماد بيد ليف ثم غادر البيت. لم يعد الا في اليوم الموالي.

كانت نونجة تغار بصفة مرضيّة، كانت لا تحتمل مجرّد تلقّي زوجها مكالمة هاتفية من مطلقته ليف، قلنا لها اكثر من مرّة، ان تلك المكالمات ضرورية، خصوصا بعد هرب الطفلين الى أمهما نتيجة سوء معاملتها لهما.. حاولنا مرّات عديدة ارجاعها الى الصواب :
ــ ص141/251 ـــــ


ــ ثقـي يا نونجة ان عماد لم يعد يفكر في ليف كزوجة.
كانت نونجة حمقاء مثل سلفيّ، و عنيدة مثل بغل.
ـــ لكنه لا يكف عن ذكرها في كل مناسبة.
ــ لو كانت لعماد رغبة فيها لما جاء بك من المغرب.

رغم ذلك اصرت نونجة على حماقتها و تـنغيص حياة عماد الي حد انغماسه الكليّ في المخدّرات. و انغماسي في اكتئاب عميق تضاعف حين ولدت زينب.. بعد مائتي سنة ستقدر ذرية عماد بعشرة الاف شخص. سيكون بينها المئات من المنحرفين و المومسات و مدمني الكحول و المخدرات كل ذلك بسببي .اي جرم اقدمت عليه .
منذ ذلك الحين اصبح اسم نونجة يثير غضبي واكتئابي .
08-21-2011, 07:36 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  استجابة قصة قصيرة حمادي بلخشين حمادي بلخشين 1 879 09-18-2012, 09:00 AM
آخر رد: Deeseefew
  ثبات قصة قصيرة حمادي بلخشين حمادي بلخشين 0 836 09-04-2012, 12:01 AM
آخر رد: حمادي بلخشين
  انفعال قصة قصيرة حمادي بلخشين حمادي بلخشين 4 1,396 05-30-2012, 08:19 PM
آخر رد: حمادي بلخشين
  قراءة في رواية الكاتب الافغاني خالد حسيني...ألف شمس ساطعة youssefy 5 4,274 05-18-2012, 08:20 PM
آخر رد: نيو فريند
  نجاح قصة قصيرة حمادي بلخشين حمادي بلخشين 0 613 05-11-2012, 01:00 PM
آخر رد: حمادي بلخشين

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS