الفصل الثالث
الآثار: الأعضاء الأثرية والأجنة والتصميمات الرديئة والجينات الميتة
‘‘لا شيء في علم الأحياء يكون له معنى منطقي إلا في ضوء التطور’’
Theodosius Dobzhansky
في أوربا القرون الوسطى، قبل أن يكون هناك ورق، كانت تصنع المخطوطات بالكتابة على الرقاق والرقاع، صفحات من جلد الحيوان المجفف. ولأن إنتاجها كان صعباً، أعاد كثير من كتبة القرون الوسطى ببساطة استعمال الكتب القديمة بكشط الكلمات القديمة والكتابة على الصفحات النظيفة من جديد. هذه المخطوطات المعاد تدويرها تُدعى في الإنجليزية Palimpsests من الكلمة اليونانية Palimpsestos أي "مكشوطة مجدداً".
غالباً، رغم ذلك، بقيت آثار رقيقة من الكتابة الأقدم. هذا تكشف عن دور هام في فهمنا للعالم القديم. فكثير من النصوص العتيقة في الحقيقة معروفٌ لنا فقط بالتحديق أسفل طبقة الكتابة الفوقية لتغطية الكلمات الأصلية. ربما أشهر هؤلاء هي مخطوطة أرخميدس، كُتِبَت أولاً في القسطنطينية في القرن العاشر الميلادي ثم استُنظِفت وُكتِب فوقها بعد ثلاثة قرون لاحقة كتاب صلاة من قِبَل كاهن. في عام 1906 تعرف عالم كلاسيكيات دنماركي على النص الأصلي لأرخميدس. منذ ذلك الحين، استُعملت مجموعة من أشعة X ، وإدراك ألفبائي بصري، ووسائل معقدة أخرى لكشف النص الأصلي التحتي. أنتج هذا العمل المضني ثلاثة أبحاث رياضية لأرخميدس مكتوبة في اليونانية العتيقة. اثنان منهم كانا مجهولين سابقاً وهامان على نحو ماس في تاريخ العلم. بمثل هذه الوسائل الملغزة نسترجع الماضي.
كمثل هذه النصوص القديمة، الكائنات مخطوطات تاريخية معاد كشطها، التاريخ التطوري. فضمن أجساد الحيوانات والنباتات توجد مفاتيح لأصلها السلفي، مفاتيح هي شهادة على التطور، وهي كثيرة. خُفِيَت هاهنا سمات خاصة "أعضاء أثرية"، التي يكون لها منطق فقط كبقايا سمات كانت قديماً مفيدة في سلف. ونجد أحياناً "تأسل" أي عودة إلى صفات الأسلاف تَنتج بالانبعاث المُجَدَّد العَرَضيّ لجينات سلفية أُسكِتَتْ منذ زمن بعيد. اليوم لأننا يمكننا قراءة تسلسلات الحمض النووي مباشرة، نجد أن الأنواع هي أيضاً مخطوطات تاريخية أحيائي جزيئية معاد كشطها: ففي جينوماتها (مجاينها) كُتِب الكثير من تاريخهم التطوري، متضمناً حطام الجينات التي كانت مفيدة قديماً. ما هو فوق هذا، أنه في تطورهم من أجنة، الكثير من الأنواع تمر بتحويرات غريبة للشكل: أعضاء وسمات أخرى تظهر، ثم تتغير بطريقة درامية أو حتى تختفي تماماً قبل الولادة. والأنواع ليست بذلك التصميم الجيد تماماً، فأيضاً يُظهر الكثير منهم عيوباً هي علامات ليس على مهندس سماوي، بل على التطور.
دعا Stephen Jay Gould هذه المخطوطات الحيوية معادة الكتابة عليها بـ "العلامات الخالية من المعنى للتاريخ". لكنهم ليسوا بلا معنى في الحقيقة، إذ أنهم يؤلفون بعض أقوى الأدلة على التطور.
الأعضاء الأثرية
عندما كنت طالباً متخرجاً في Boston، كنت متطوعاً لمساعدة عالم متقاعد قد كتب ورقة عما إذا كان أكثر فعالية للحيوانات حارة الدماء أن تسير على رجلين أم أربعة. اعتزم على إرسال الورقة إلى دورية الطبيعة Nature، إحدى أكثر الدوريات العلمية مهابة، وسألني أن أساعده على أخذ صورة أخاذة كفاية لوضعها على غلاف الدورية ولجذب الانتباه إلى عمله. متحمساً للخروج من المعمل، قضيت عصراً كاملاً طارداً حصاناً ونعامة حول حظيرة، آملاً الحصول عليهما جاريين جوار بعضهما، مظهراً أسلوبَيْ الركض في صورة واحدة. غني عن القول أن الحيوانين رفضا التعاون، و_كون كليهما قد أُنهِك_أقلعنا عن الأمر في النهاية، رغم أننا لم نحصل على الصورة قط.(14) لقد علمتني الخبرة درساً بيولوجياً: أن النعام لا يقدر على الطيران، لكن لا يزال يقدر على استعمال جناحيه. فعندما يجري يستخدم جناحيه للتوازن، ناشراً إياهما على الجانبين لحفظه من الانقلاب. وعندما تصير نعامة مستثارة_كما حاولت أن تفعل عندما طاردتها حول حظيرة_تجري اتجاهك مباشرة، ناشرة جناحيها في استعراض مهدد. هذه إشارة للابتعاد عن الطريق، لأن النعامة المستاءة يمكنها بسهولة نزع أحشائك بركلة سريعة واحدة. يستخدمون أجنحتهم أيضاً في استعراضات التزاوج (15)، وينشرونها لتظليل أفراخهم من الشمس الإفريقية القاسية. الدرس_مع ذلك_يصير أعمق. إن جناحي النعامة هما صفة أثرية: سمة لنوع كانت تكيفاً في أسلافه، لكنها إما فقدت فائدتها على نحو كامل أو_كما في النعام_اكتسبت استعمالات جديدة. ككل الطيور غير الطائرة، ينحدر النعام من أسلاف طائرين. نعلم هذا من كلٍ من الدليل الأحفوري ومن نمط السلفية الذي تحمله الطيور غير الطائرة في حمضها النووي. إلا أن الأجنحة_رغم أنها لا تزال موجودة_لم تعد تقدر على مساعدة الطائر في الطيران إلى علف أو الهرب من المفترِسين أو الطلاب المتخرجين المزعِجين. ومع ذلك فالأجنحة ليست غير مفيدة، فقد طورت وظائف جديدة. فهي تساعد الطائر في الحفاظ على التوازن، والتزاوج، وتهديد أعدائه.
النعام الإفريقي ليس الطائر غير الطائر الوحيد. فبجوار طائفة مسطحات الصدر (مجموعة طيور غير طائرة ذوو عظم صدر مسطح بلا بروز للقص_المترجم): الطيور غير الطائرة التي تتضمن الرِيَة الجنوب إفريقي والإيمو الأسترالي والكيوي الأسترالي، هناك دستات من أنواع الطيور الأخرى التي فقدت على نحو مستقل القدرة على الطيران. هؤلاء يتضمنون الـ rais، والطيور الغواصة، والبط، وبالتأكيد البطريق. ربما الأكثر غرابة هو الكاكابو Kakpo النيوزيلندي، ببغاء بدين غير طائر يعيش بشكل رئيسي على الأرض لكن يمكنه أيضاً تسلق الأشجار والهبوط بلطف إلى أرض الغابة. إن الكاكابو عرضة لخطر الانقراض على نحو خطر: أقل من مئة لا زالوا يوجدون في البرية. بسبب عدم قدرتهم على الطيران، هم فريسة سهلة للمفترِسين المجلوبين إلى البيئة كالقطط والفئران.
كل الطيور غير الطائرة لديها أجنحة، في بعضها_كالكيوي_تكون الأجنحة صغيرة جداً، فقط بضع بوصات طولاً ومدفونة تحت ريشهم، إلى حد أنه لا يبدو أن لها أية وظيفة. هم فقط بقايا. في آخرين¬_كما رأينا مع النعام_الأجنحة لها استعمالات جديدة. في البطاريق تطورت الأجنحة السلفية إلى زعانف، تُمكِّن الطائر من السباحة تحت الماء بسرعة مدهشة. ومع ذلك كلهم لديهم نفس العظام بالضبط التي نراها في أجنحة الأنواع التي تستطيع الطيران. ذلك لأن أجنحة الطيور غير الطائرة ليست مُنتَج تصميم مُتعَمَّد (لماذا سيستخدم خالقٌ نفس العظام بالضبط في الأجنحة الطائرة وغير الطائرة، بما في ذلك أجنحة البطاريق السابحة؟)، بل منتج التطور من أسلاف طائرين.
دائماً ما يقول معارضو التطور نفس الجدلية عندما يُستشهد بالسمات الأثرية كدليل على التطور، يقولون: "السمات ليست بلا فائدة، فهم إما مفيدون لشيء ما، أو إننا لم نكتشف بعدُ لأجلِ ماذا هي." هم يدعون_بعبارة أخرى_أن السمة لا يمكن أن تكون أثرية إن كانت لا يزال لها وظيفة، أو وظيفة لم تُكتشَف بعد.
لكن هذا الجواب يفتقد غرضه. فالنظرية التطورية لا تقول أن الخصائص الأثرية ليس لها وظيفة بالضرورة. فيمكن لصفة أن تكون أثرية ووظيفية في نفس الوقت. إنها أثرية ليس لأنها لا وظيفية، بل لأنها لم تعد تقوم بالوظيفة التي تطورت لأجلها. فجناحا النعامة مفيدان، لكن هذا لا يعني أنهما لا تقولان شيئاً عن التطور. ألن يكون غريباً لو ساعد خالقٌ النعامَ على موازنة أنفسهم بإعطائهم لواحق يصادف تمامً أن تبدو مثل الأجنحة الضامرة، ومبنية بنفس الطريقة بالضبط التي للأجنحة المستخدمة للطيران؟
في الواقع نحن نتوقع أن الصفات السلفية سوف تطور استعمالات جديدة، هذا هو ما حدث تماماً عندما بنى التطور صفات جديدة من القديمة. لاحظ دارون نفسه أن: "عضوٌ يُجعَل_خلال عادات الحياة المتغيرة_لا وظيفياً أو مؤذياً لأحد الأغراض، يمكن بسهولة أن يُعدَّل ويُستخدَم لغاية أخرى."
لكن حتى عندما نحدد أن صفة هي أثرية، لا تنتهي الأسئلة. ففي أي أسلافٍ كانت وظيفية؟ ما الذي كانت تُستعمَل له؟ لماذا فقدت وظيفتها؟ لماذا ما زالت موجودة بدلاً من الاختفاء على نحو كامل؟ وأي وظائف جديدة_إن يكن هناك أيٌ منها_قد طورتها؟
فلنتناول الأجنحة مجدداً. على نحو واضح، هناك أفضليات كثيرة لامتلاك جناحين، أفضليات تشاركتها الأسلاف الطائرة للطيور غير الطائرة. وبالتالي لماذا فقدت بعض الأنواع قدرتها على الطيران؟ إننا لسنا متأكدين على نحو جازم، إلا أن لدينا بعض المفاتيح القوية. فمعظم الطيور التي طورت عدم الطيران عملت ذلك على جزر: الدودو المنقرض على جزيرة Mauritius، الـ rail الهاوييّ، الكاكابو والكيوي في نيوزيلاند، والكثير من الطيور غير الطائرة تُسمى بأسماء بعد أسماء الجزر التي تسكن فيها: (the Samoan wood rail, the Gough island moorhen, the Auckland Island teal، وهلم جراً). كما سنرى في الفصل القدام، أحد السمات الملاحظة للجزر البعيدة افتقارها للثدييات والزواحف، الأنواع التي تفترس الطيور. لكن ماذا عن مسطحات الصدر التي تعيش على القارت، كالنعام والإيمو؟ كلُ من هذين قد تطور في نصف الكرة الجنوبي حيث هناك مفترسون ثدييون أقل بكثير مما في الشمال.
إن خلاصة الموضوع هي هذا: الطيران مكلف أيضياً، يستنفد وفرة من الطاقة يمكن بدلاً من ذلك أن تُحوَّل إلى التكاثر. إن كنت تطير على نحو أساسي للابتعاد عن المفترِسين، لكن المفترسين غالباً مفتقدون في الجزر، أو الطعام منال بسهولة على الأرض، كما يمكن أن يكون على الجزر (والتي غالباً ما تفتقر إلى الأشجار الكثيرة)، من ثم لماذا تحتاج أجنحة وظيفية بالكامل؟ في وضع كهذا، الطيور ذوات الأجنحة الضامرة لها أفضلية تكاثرية، ويمكن للانتخاب الطبيعي أن يؤيد عدم الطيران أيضاً بضمورها. في كلتا الحالتين، سيؤيد الانتخاب مباشرةً الطفرات التي تؤدي إلى أجنحة أصغر تدريجياً، مؤدياً إلى عدم القدرة على الطيران.
إذن لماذا لم يختفوا على نحو كامل؟ في بعض الحالات هم تقريباً لديهم: جناحا الكيوي هما نتوآت لاوظيفيان، لكن عندما يقوم الجناحان باستعمالات جديدة_كما في النعام_سيُبقي الانتخاب الطبيعي عليهما. برغم أنهما في شكل لا يُمكِّن من الطيران. في أنواع أخرى، ربما تكون الأجنحة في عملية الاختفاء، ونحن ببساطة في وسط هذه العملية.
العيون الأثرية شائعة أيضاً، فالعديد من الحيوانات، بما في ذلك الحفارون وقاطنو الكهوف، تعيش في ظلام تام، لكننا نعلم من بناء الأشجار التطورية أنهم انحدروا من أنواع عاشت فوق الأرض وكان لها عيون وظيفية. كالأجنحة، العينان عبء عندما لا تحتاجهما. فهما يستهلكان طاقة للبناء، ويمكن أن يُجرَحوا بسهولة. بالتالي فإن أي طفرات تؤيد فقدانها ستكون مفيدة بجلاءٍ عندما يكون هناك ظلام لا يُمكِّن من الرؤية تماماً. بشكل اختياري، يمكن أن تتراكم الطفرات الوراثية المقللة للرؤية طالما أنها لا تساعد ولا تؤذي الحيوان.
تماماً مثل الفقدان التطوري للعيون الذي حدث في أسلاف الجرذ الخلدي الأعمى في منطقة شرق البحر المتوسط، وهو قارض طويل إسطواني ذو أرجل قصيرة غليظة، يشبه قطعة سجق مكسوة بالفرو ذات فم صغير. يقضي هذا الكائن كل حياته تحت الأرض. ومع ذلك فلا يزال يحتفظ بأثر عين، عضو صغير قطره مليمتر واحد فقط ومخبأ بالكامل تحت طبقة حامية من الجلد. لا يمكن أن تصنع العين المتبقية صوراً. يخبرنا الدليل الجزيئي أن منذ حوالي 25 مليون سنة ماضية، تطورت الجرذان الخلدية العمياء من قوارض مبصرة، وعيونهم الضامرة تشهد على هذه السلفية. لكن لماذا تبقى هذه البقايا على العموم؟ تُظهر الدراسات المعاصرة أنها تحتوي على صبغيات رؤية حساسة لمستويات منخفضة من الضوء، وتساعد على تنظيم إيقاع نشاط الحيوان اليومي. هذه الوظيفة المتبقية، مقادة بكميات ضئيلة من الضوء النافذ إلى تحت الأرض، يمكنها تفسير استمرار العيون الأثرية. (انظر صورة 14أ)
أما الخِلدان الحقيقية، التي ليست قوارض بل ثدييات آكلو حشرات، قد فقدت على نحو مستقل عيونها، محتفظة بعضو أثري مغطى بالجلد فقط. يمكنك رؤيته بدفع الفرو الذي على رأسه جانباً.
على نحو مماثل، في بعض الثعابين الحفارة تكون العيون مخبأة على نحو كامل تحت الحراشف. الكثير من حيوانات الكهوف كذلك لها عيون ضامرة أو مفقودة. هذا يتضمن سمكاً (مثل سمكة الكهوف العمياء، يمكنك شراء واحدة من محلات الحيوانات الأليفة)، وعناكب، وسلاماندرات، وجمبري، وخنافس. هناك حتى جراد بحر أعمى لا يزال لديه سويقتي العينين لكن لا عينين فوقهما.
الحيتان هم كنز مكتشف من الأعضاء الأثرية. الكثير من الأنواع الحية لديها عظام حوض وأرجل خلفية أثريين، تشهد_كما رأينا في آخر فصل_على تحدرهم من أسلاف برية رباعية الأرجل. إن نظرت إلى هيكل عظمي كامل لحوت في متحف، غالبا سترى عظام الرجلين الخلفيتين والحوض الصغار معلقين ببساطة ببقية الهيكل العظمي بأسلاك. هذا لأنهم في الحيتان الحية ليسوا مربوطين ببقية العظام، بل ببساطة مطمورون في النسيج. لقد كانوا قديماً جزءً من الهيكل العظمي، لكن صاروا غير مرتبطين وصغاراً لما لم يعد لهم احتياج. إن قائمة الأعضاء الأثرية في الحيوانات يمكن أن تملأ دليلاً كبيراً. دارون نفسه_الذي كان جامع خنافس نهم في صغره_أشار إلى أن بعض الخنافس غير الطائرة لا يزال لديها آثار الأجنحة تحت الأغطية الجناحية المدموجة ("قوقعة" الخنفس).
نحن البشر لدينا الكثير من الصفات الأثرية المثبتة أننا تطورنا. أشهرها هو الزائدة. المعروفة طبياً بالزائدة دودية الشكل Vermi form ، إنها إسطوانة رفيعة بحجم القلم من النسيج الكيسي أو المصران الأعور، الذي يتموضع عند ملتقى أمعائنا الغليظة والرقيقة، كالكثير من الصفات الأثرية، فإن حجمها ودرجة تنميها متنوعة بدرجة عالية: ففي البشر، يتراوح طولها ما بين حوالي البوصة إلى ما فوق القدم. حتى أن بعض الناس تولد بدون واحدة.
في الحيوانات آكلي العشب كالكوالات والأرانب والكانجارو، يكون الأعور وطرفه المستدق الزائدي أكبر مما لدينا. هذا أيضاً ينطبق على الرئيسيات آكلي الأوراق كالليمورات، والليمورات البليدة (ليمور صغير بطيء الحركة عديم الذيل يسعى ليلاً بغابات آسيا)، والقرود العنكبوتية. يُستعمَل الكيس المتسع كوعاء تخمر (كـ "الأمعاء الإضافية" لدى الأبقار)، محتوياً على بكتريا تساعد الحيوان على تحليل السليلوز إلى سكريات قابلة للاستعمال. أما في الرئيسيات الذين يحتوي نظامهم الغذائي على أوراق أقل، كالأورانجوتانات (إنسان الغاب) والمكاك، يكون الأعور والزائدة ضامرين. في البشر الذين لا يأكلون أوراق الشجر ولا يمكنهم هضم السليلوز، قد انقرضت الزائدة تقريباً. على نحو واضح، كلما كان الحيوان أقل عشبية، صغر المصران والزائدة. بعبارة أخرى: فإن زائدتنا هي ببساطة بقية عضو كان هاماً على نحو خطر لأسلافنا آكلي الأوراق، لكن بلا قيمة فعلية لنا اليوم.
هل تقوم الزائدة بأي فائدة لنا على الإطلاق؟ إن تكن كذلك، فهذا غير واضح. فإن إزالتها لا تؤدي إلى أية آثار جانبية سيئة أو زيادة معدل الوفاة (في الحقيقة، يبدو أن إزالتها تقلل التهاب القولون). باحثاُ حول الزائدة في كتابه الدراسي الجامعي الشهير (الجسم الفقاري)، علق عالم الإحاثة Alfred Romer باقتضاب: "أهميتها الرئيسية تتبدى كدعم مالي لمهنة الجراحة". لكن لنكون متحرين الدقة، ربما تكون ذات استعمال ضئيل. تحتوي الزائدة على قطع من النسيج ربما تعمل كجزء من النظام المناعي. لقد اقتُرِح أيضاً أنها تُزوِّد بملجأ للبكتريا المعوية عندما تُزيلها عدوى من بقية جهازنا الهضمي.
لكن هذه الفوائد الثانوية مرجوحة حتماً بالمشاكل الخطيرة التي تأتي من الزائدة البشرية. فضيقها يجعلها تنسد بسهولة، مما يمكن أن يؤدي إلى إصابتها بالعدوى والالتهاب. أو ما يُعرف بالتهاب الزائدة الدودية. إن لم تعالج، فالزائدة المنفجرة يمكن ان تقتل المصاب. لديك احتمال واحد على خمسة عشر للإصابة بالتهاب الزائدة في حياتك. لحسن الحظ، بفضل الممارسة الحديثة المتطورة للجراحة، فاحتمال الموت عندما تُصاب بالتهاب الزائدة هو فقط 1%. لكن قبل أن يبدأ الأطباء في إزالة الزوائد الملتهبة في أواخر القرن التاسع عشر، لربما فاق معدل الوفاة 20%. بعبارة أخرى، قبل عصر الإزالة الجراحية، أكثر من شخص من كل مئة مات من التهاب الزائدة. هذا كان انتخاباً طبيعياً قوياً جيداً.
خلال حقبة التطور البشري المديدة_أكثر من 99% منها_لم يكن هناك جراحون، وقد عشنا بقنبلة موقوتة دقاقة في حشانا. عندما تزن المزايا الضئيلة للزائدة مقابل مضارها الفادحة، فمن الواضح أنها إجمالاً شيء سيء امتلاكه ببساطة. لكن بصرف النظر عما إذا كانت جيدة أم سيئة، لا تزال الزائدة البشرية أثرية، لأنها لم تعد تقوم بالوظيفة التي تطورت لأجلها.
إذن لماذا لا زلنا نملك واحدة؟ لم نعرف الإجابة بعد. ربما في الحقيقة قد كانت في طريقها إلى الاختفاء، لكن الجراحة قد تخلصت من الانتخاب الطبيعي ضد الناس ذوي الزوائد الدودية. هناك احتمالية أخرى ان الانتخاب لا يمكنه تقليص الزائدة أكثر من ذلك دون أن تصير ضارة بدرجة أكبر: الزائدة الأصغر ربما تشكل خطراً أكثر بانسدادها. ذلك ربما هو عقبة طريق تطورية لاختفائها بالكامل.
تعج أجسادنا ببقايا أخرى من السلفية الرئيسية. فلدينا ذيل أثري: العصعص، أو النهاية مثلثية الشكل لعمودنا الفقري، إنها مصنوعة من فقرات مستقلة مدموجة معلقة أسفل أحواضنا. إنها ما تبقى من الذيل الطويل المفيد لأسلافنا (الصورة 14). إنها لا تزال لها وظيفة (بعض العضلات المفيدة مرتبطة إليها)، لكن تذكر أن أثريتها لا تُشخَّص بعدم فائدتها بل لأنها لم يعد لها الوظيفة التي تطورت أصلاً لأجلها. على نحوٍ معبر، بعض البشر لديهم عضلة ذيلية أثرية (العضلة الباسطة العصعصية)، متطابقة للتي تحرك ذيول القرود والثدييات الأخرى. إنها لا تزال متصلة بعصعصنا، لكن بما أن العظام غير قادرة على التحرك، فإن العضلة غير مفيدة. ربما يكون لديك واحدة لكنك لا تعرفها حتى.
عضلات أثرية أخرى تصير ظاهرة في الشتاء، أو عند مشاهدة أفلام الرعب. هذه هي العضلات ناصبة الشعر، عضلات ضئيلة متصلة بقاعدة كل شعرة من شعر الجسد. عندما تنقبض يقف الشعر، معطياً إيانا "نتوآت إوزية"، تسمى هكذا بسبب تشابها مع جلد الإوزة منتوفة الريش. لا تقوم النتوآت الإوزية والعضلات التي تسببها بأي وظيفة نافعة، على الأقل في البشر. أما في ثدييات أخر_رغم ذلك_فهي توقف الفرو للعزل عندما يكون الجو بارداً، وتجعل الحيوان يبدو أكبر عندما يقوم بالتهديد أو يتلقاه. فكر في القط، الذي يتشعث فروه عندما يكون الجو بارداً أو غاضباً. تَنتج نتوآتنا الإوزية الأثرية بنفس المنبهات: البرد أو اندفاع الأدرينالين.
وهاكم مثالاً أخيراً: إن كنت تستطيع لي أذنيك، فأنت تثبت التطور. إننا نملك ثلاث عضلات تحت فروة رأسنا المتصلة بآذاننا. في معظم الأفراد هي غير مفيدة، لكن القليل من الناس يمكنهم استعمالها للي آذانهم (أنا واحد من هؤلاء المحظوظين، وكل عام أعرض هذه المهارة لفصلي التطوري، في المعظم لتسلية الطلاب). هذه هي نفس العضلات المستعملة من قِبَل حيوانات أخرى_كالقطط والأحصنة_لتحريك آذانهم هنا وهناك، مساعِدة إياهم على تحديد مواضع الأصوات. في هذه الأنواع، يساعد تحريك الآذان على كشف المفترسين، وتعيين مواقع صغارهم، وما إلى ذلك. لكن في البشر هذه العضلات جيدة فقط للتسلية. (16)
كإعادة صياغة للاقتباس من عالم الوراثة Theodosius Dobzhansky الذي افتتَح هذا الفصل، يكون للصفات الأثرية معنى فقط في ضوء التطور. أحياناً مفيدة، لكن في الأغلب ليست، إنها بالضبط ما سنتوقع إيجاده إذا كان الانتخاب الطبيعي أزال تدريجياً السمات غير المفيدة أو عدَّلها إلى أخرى جديدة أكثر تكيفاً. إن الأجنحة الضئيلة غير الوظيفية، والزائدة الدودية الخطرة، والعيون التي لا ترى، وعضلات الأذنين المضحكة ببساطة لا يكون لها معنى أو منطق إن تكن تعتقد أن الأنواع قد خُلِقَت خلقاً خصوصياً.
التأسل
من حين لآخر يطرأ فرد ذو شيء شاذ يبدو كعودة ظهور لصفة سلفية. يمكن ان يولد حصان ذو أصابع إضافية، طفل بشري ذو ذيل. هذه البقايا الظاهرة على نحو متقطع من السمات السلفية تدعى تأسلات atavisms، من الكلمة اللاتينية atavus أي سلف (وفي العربية تأسل الابن أباه أي نزع إليه في الشبه). تختلف عن الصفات الأثرية لأنها تحدث من حين إلى آخر فقط بدلاً من أن تكون في كل فرد.
التأسلات الحقيقية ينبغي أن تستعيد صفة سلفية، وبنفس الطريقة بالضبط. هم ليسوا حيوانات مشوهة ببساطة. فالإنسان المولود برجل إضافية _كمثال_ليس تأسلاً إذ لا أحد من أسلافنا كان له خمسة أطراف. لعل أشهر التأسلات الحقيقية هي أرجل الحيتان. لقد تعلمنا من قبل أن بعض أنواع الحيتان تحتفظ بأحواض وأرجل خلفية أثريين، إلا أن حوالي حوتاً واحداً من كل خمسمئة يولَد برجلين خلفيتين ناتئتان خارج جدار الجسد. تُظهِر هذه الأطراف كل درجات التشذيب، مع كون العديد منهم يحتوون بوضوح على عظام الرجل الرئيسية للثدييات البرية: عظم الفخذ والساق والشظية الصغرى، البعض لديه حتى أقدام وحوافر!
لماذا تحدث تأسلات كهذه على العمو؟ أفضل نظرياتنا أنها تأتي من عودة تعبير جينات كانت وظيفية في الأسلاف، لكنها أُسكِتت بفعل الانتخاب الطبيعي عندما لم يعد هناك حاجة لها. إلا أن هذه الجينات الخاملة يمكن في بعض الأحيان أن تستيقظ مجدداً عندما يسير شيء ما بشكل منحرف في التطور الجنيني. لا تزال الحيتان تحتوي بعض المعلومات الجينية لعمل الأرجل، لبس أرجلاً كاملة، حيث أن المعلومات قد أُفسِدت خلال ملايين السنين التي كمنت فيها غير مستعملة في الجينوم (المجين)، إلا أنها أرجل رغم ذلك. وتلك المعلومات هي هناك لأن الحيتان تحدرت من أسلاف رباعية الأطراف. كأحواض الحيتان التي في كل أفرادها، فإن أرجل الحيتان النادرة دليل على التطور.
تُظهِر الأحصنة الحديثة_والتي انحدرت من أسلاف خماسية الأصابع وأصغر_تأسلات مماثلة. يُوَثِّق السجل الأحفوري الخسارة التدريجية للأصابع خلال الزمن، نتيجة لهذا تبَقَّى في الأحصنة الحديثة الأوسط فقط: الحافر. إنه يَظهر أن أجنة الأحصنة تبدأ التطور بثلاثة أصابع، والتي تنمو بمعدلات متساوية، لاحقاً_رغم ذلك_يبدأ الإصبع الأوسط في النمو أسرع من الأخريين، واللتين تُتركان عند الولادة كعظام شظوية رفيعة على كلا جانبي القدم (العظام الشظوية هي سمات أثرية صحيحة، عندما يلتهبان يُصاب الحصان بالتضخم العظمي في عظم الشظية). في أحيان نادرة_رغم ذلك_ تستمر الإصبعان الإضافيتان في التطور حتى تصيرا إصبعين زائدتين حقيقيتين، كاملين مع حافريهما. غالباً لا تمس هذه الأصابع الأرض إلا إذا ركض الحيوان. هذا ما كان يبدو عليه بالضبط الحصان العتيق منذ 15 مليون عام ماضٍ. قديماً كانت تُعتبر الأحصنة زائدة الأصابع عجائب خارقة للطبيعة، فقيل أن كلاً من يوليوس القيصر والإسكندر الأعظم قد ركبا عليهم. وهم عجائب من نوع معين، عجائب الاتطور، لأنهم يُظهرون بجلاء النسب الجيني بين الأحصنة العتيقة والحديثة.
أكثر التأسلات إدهاشاً في نوعنا يُدعى بـ "البروز العصعصي"، يُعرف أكثر بالذيل البشري. كما سوف نتعلم على نحو موجز، مبكراً في تطور الأجنة البشرية يكون لديهم ذيل شبه سمكي كبير، والذي يبدأ في الاختفاء عند حوالي الأسبوع السابع (تُمتَص عظامه وأنسجته ثانية ببساطة من قِبَل الجسد). نادراً_رغم هذا_أن لا يرتد على نحو كامل، ويولَد طفل ذو ذيل يبرز من قاعدة عموده الفقري (الصورة 14في ملحق الصور). تتنوع الذيول على نحو واسع: فالبعض رقيق بلا عظام، بينما الأخرى تحتوي فقرات. الفقرات عينها التي تندمج على نحو طبيعي مع بعضها في عظم ذيلنا. بعض الذيول طولها بوصة، وأخرى قدم تقريباً. وهي ليست مجرد سِدْلات من الجلد، بل يمكن أن يكون لديها شعر، عضلات، أوعية دموية، وأعصاب. البعض يمكن حتى أن يتلوَّى! لحسن الحظ، هذه البروزات غير الملائمة تُزال بالجراحة بسهولة.
ما الذي يمكن أن يعنيه هذا، سوى أننا لازلنا نحمل برنامجاً تطورَ جنينيّ لعمل الذيول؟ في الحقيقة، فإن البحث الوراثي المعاصر قد أظهر أننا نحمل نفس الجينات بالضبط التي تعمل الذيول في الحيوانات كالفئران، إلا أن هذه الجينات تُعطَّل على نحو طبيعي في الأجنة البشرية بعد ثلاثة أشهر. تتضح الذيول كتأسلات حقيقية.
يمكن إنتاج بعض التأسلات في المعمل. أكثرها إدهاشاً هو ذلك المثال النادر: أسنان الدجاج. في عام 1980، ضم E. J. Kollar and C. Fisher من جامعة University of Connecticut نسيجي نوعين، لاحمين النسيج المبطن لفم جنين دجاجة بأنسجة من فك فم متطور. على نحو مدهش، أنتج النسيج الدجاجي آخر الأمر بينوات شبيهة بالأسنان، بعضها بجذور وتيجان واضحة! وبما أن أنسجة الفم الأساسي وحدها لا يمكن أن تنتج أسنان، فقد خمنا أن الجزيئات من الفم أعادت إيقاظ برنامج تطور جنيني خامل لعمل الأسنان في الدجاج. هذا عنى أن الدجاج لديه كل الجينات الصحيحة لعمل الأسنان، إلا أنها كانت تفتقد عامل تنشيط والذي استطاع النسيج الفمي تقديمه. بعد عشرين سنة لاحقة، كشف العلماء الأحياء الجزيئي وأثبتوا أن اقتراح Kollar and Fisher كان صائباً: الطيور لديها حقاً السبل الجينية لإنتاج الأسنان، إلا أنها لا تعملها لأن بروتيناً واحداً حاسماً مفتقد. عندما يتم الإمداد بذلك البروتين، تتكون البنيوات الشبيهة بالأسنان على المنقار. ستتذكر أن الطيور تطورت من زواحف ذوي أسنان. لقد فقدوا تلك الأسنان منذ أكثر من ستين مليون سنة، إلا أنهم بجلاء لا زالوا يحملون بعض الجينات لعملها. جينات هي بقايا من سلفيتهم الزاحفية.
الجينات الميتة
ترينا التأسلات والصفات الأثرية أنه عندما لا تعود صفة مستعملة، أو تصير ضامرة، لا تختفي الجينات التي تعملها فورياً من الجينوم: فالتطور يوقف عملها بتعطيلها، لا بقصها من الحمض النووي. من هذا يمكننا عمل تنبؤ. نتوقع أن نجد_في جينومات الكثير من الأنواع_جينات مُسكَتَة أو "ميتة": الجينات التي كانت قديماً مفيدة لكنها لم تعد سليمة أو معبرة. بعبارة أخرى، ينبغي أن يكون هناك جينات أثرية. بالمقارنة فإن كل فكرة أن كل الأنواع قد خُلِقَت من تصميم تتنبأ بأن لا جيناتِ كهذه ستوجد، بما أنه لن يكون هناك أسلاف مشتركة كانت تعمل بهم تلك الجينات.
منذ ثلاثين عاماً ماضية لم نكن نستطيع اختبار هذا التنبؤ لأنه لم يكن لدينا سبيل لقراءة شفرات أحماضهم النووية. اليوم_مع ذلك_سهلٌ تماماً قراءة تسلسل الجينومات الكاملة للأنواع، وقد تم هذا للكثير منهم، بما فيهم البشر. هذا يعطينا أداة فريدة لدراسة التطور عندما ندرك أن الوظيفة الطبيعية لجين هي صنع بروتين، بروتين تسلسلاته من الأحماض الأمينية محددة بتتابعات القواعد النيوكليوتيدية التي تؤلف الحمض النووي. وحالما يكون لدينا تسلسل الحمض النووي لجين محدد، يمكننا عادةً تقرير ما إذا كان يُعَبَّر على نحو طبيعي، أي: ما إذا كان يصنع بروتيناً وظيفياً أم مُسكَتَاً ولا يصنع شيئاً. يمكننا أن نرى_كمثال_ما إذا كانت الطفرات الوراثية قد غيَّرت الجين لذا لم يعد يمكنه صنع بروتين صالح للاستعمال، أم أن المناطق "المتحكمة" مسؤولة عن تشغيل جين قد عُطِّل. الجين الذي لا يعمل يسمى جيناً زائفاً a pseudogene.
وقد تحقق التنبؤ التطوري بأننا سنجد جينات زائفة، بإسهاب. فعلياً تؤوي كل الأنواع جينات ميتة، الكثير منها ما زالت نشطة في أقاربها. هذا يتضمن أن تلك الجينات كانت أيضاً نشطة في سلف مشترك، وحُطِّمَت في بعض المتحدرين ولكن في آخرين استمرت.(17) كمثال، من حوالي ثلاثين ألف جين، نحمل نحن البشر أكثر من ألفي جين زائف. إن جينومنا_والآخرين الذي للأنواع الأخرى_عامرون حقاً بمقابر الجينات الميتة.
أشهر جين زائف بشري هو GLO، سُمي هكذا لأنه في الأنواع الأخرى يُنتِج إنزيماً يُدعى L-gulono--lactone oxidase . يُستعمَل هذا الإنزيم في عمل ڤيتامين C (الحمض الأسكوربي) من سكر الجلوكوز البسيط. إن ڤيتامين C أساسي لتمثيل غذائي سليم، وفعلياً كل الثدييات لديها السبيل لصنعه، الكل، أي عدا الرئيسيات وخفافيش الفاكهة وقوارض خنازير غينيا. في هذه الأنواع، يُحصَل على ڤيتامين C مباشرة من طعامهم، والأنظمة الغذائية الطبيعية عادة بها كفاية. إن لم نتناول كمية كافية من ڤيتامين C، تعتل صحتنا: فقد كان داء الإسقربوط شائعاً بين البحارة المحرومين من الفواكه في القرن التاسع عشر. السبب في أن الرئيسيات وهذه الثدييات القلائل الأخرى لا تصنع ڤيتامين C الخاص بها هو أنها لا تحتاج إلى ذلك. إلا أن تتابع الحمض النووي يخبرنا أن الرئيسيات لا تزال تحمل معظم المعلومات الجينية اللازمة لصنع الڤيتامين.
يتضح أن سبيل صنع ڤيتامين C من الجلوكوز يتضمن تسلسلاً من أربع مراحل، كل واحدة تؤسَّس بنِتاج جين مختلف. لا يزال لدى الرئيسيات وقواراض خنازير غينيا جينات نشطة لأول ثلاث مراحل، لكن آخر مرحلة، التي تتطلب إنزيم GLO، لا تحدث، فقد عُطِّل GLO بطفرة وراثية. لقد صار جيناً زائفاً، يدعى ψGLO (حيث ψ هي الحرف اليوناني Psi يرمز إلى Pseudo أي زائف). لا يعمل ψGLO بسبب افتقاد نيوكليوتيد واحد في تسلسل الحمض النووي للجين. وهذا بالضبط نفس النيوكليوتيد المفتقد في سائر الرئيسيات. هذا يُظهر أن الطفرة التي دمرت قدرتنا على صنع ڤيتامين C كانت موجودة في سلف كل الرئيسيات، ومُرِّرَت إلى متحدريه. إنه مرجح بدرجة عالية أنه بما أن خفافيش الفاكهة وخنازير غينيا والرئيسيات نالت وفرة من ڤيتامين C في تغذيتهم، لم يكن هناك عاقبة لتعطيل السبيل الذي يصنعه. هذا ربما كان حتى مفيداً بما أنه يتخلص من بروتين ربما يكون مكلفاً في إنتاجه.
الجين الميت في نوع، والذي يكون نشطاً في أقاربه هو دليل على التطور، لكن هناك ما هو أكثر. عندما ننظر إلى ψGLO في الرئيسيات الحية، نكتشف أن تسلسلاته أكثر تشابهاً بين الأقارب الأوثق عما بين الأقارب الأكثر بعداً. تسلسلات ψGLO للإنسان والشمبانزي _ كمثال_تشابه بعضها الآخر على نحو وثيق، لكن تختلف أكثر عن ψGLO للأوانجوتانات (إنسان الغاب)، الذين هم أقارب بعيدون. ما هو أكثر، تسلسل ψGLO لخنازير غينيا مختلف جداً عن الذي لكل الرئيسيات.
فقط التطور والسلفية المشتركة يمكن أن يُفسِّرا هذه الحقائق. كل الثدييات قد ورثت نسخة عاملة من جين GLO. منذ حوالي أربعين مليون سنة ماضية، في السلف المشترك لكل الرئيسيات، الجين الذي لم يعد له حاجة عُطِّلَ بطفرة وراثية. ورثت كل الرئيسيات نفس الطفرة. بعد أن أُسكِتَ جين GLOاستمرت طفرات أخرى في الحدوث في الجين الذي لم يعد يُعَبَّر. تراكمت هذه الطفرات خلال الزمن_فهي غير ضارة إذا كانت تحدث في جينات ميتة فعلياً_ونُقِلت إلى الأنواع المتحدرة. وبما أن الأقارب الأوثق صلة يتشاركون سلفاً مشتركاً أكثر حداثة، فإن الجينات التي تتغير بطريقة ترتهن بالزمن تتبع نموذج السلفية المشتركة، مؤدية إلى أن تسلسلات الحمض النووي تكون أكثر تشابهاً في الأنواع الأقارب الأوثق صلة عن بعيديها. هذا يحدث سواء كان الجين ميتاً أم لا. إن تسلسل ψGLO في خنازير غينيا مختلف جداً لأنه قد عُطِّل على نحو مستقل، في خط تحدر قد انفصل عن الثدييات سابقاً. و ψGLOليس فريداً في إظهاره هذ النماذج، فهناك جينات زائفة كثيرة أخرى.
لكن لو اعتقدتَ أن الرئيسيات وقوارض خنازير غينيا قد خُلِقوا خلقاً خصوصياً، لا يكون لهذه الحقائق منطق. فلماذا سيضع خالقٌ سبيلاً لصنع ڤيتامين C في كل هذه الأنواع، ثم يعطله؟ ألن يكون من الأسهل ببساطة حذف كل السبيل منذ البداية؟ لماذا ستوجد نفس الطفرة المُعطِّلة في كل الرئيسيات، وأخرى مختلفة في قوارض خنازير غينيا؟ لماذا تعكس تسلسلات الجينات الميتة بالضبط نموذج التشابه المتنباً به من السلفية المعروفة لهذه الأنواع؟ وفي المقام الأول لماذا لدى البشر أكثر من ألفي جين زائف؟
نحن أيضاً نؤوي جينات ميتة أتت من أنواع أخرى، أعني الڤيروسات. البعض منها_ويدعي "الڤيروسات العكسية داخلية المنشأ" يمكنه نسخ جينومه وإدخاله إلى الحمض النووي الخاص بالأنواع التي يُعيدها (HIV المسبب للـ AIDS نقص المناعة المكتسبة أحدهم). إذا عدت الڤيروسات الخلايا التي تصنع الحيوانات المنوية والبييضات، يمكن أن يُنقلوا إلى الأجيال المُستقبلية. يحتوي الجينوم البشري على آلاف من الڤيروسات كهذه، كلهم تقريباً قد جُعِلوا غير ضارين بطفرات. هذه هي آثار عداوى قديمة. لكن بعض هذه البقايا توجد في نفس المواضع على صبغيات البشر والشمبانزي بالضبط. هذه كانت بالتأكيد ڤيروسات عدت سلفنا المشترك ونُقِلَت إلى كلا المتحدِرَيْن. وبما أنه لا احتمال تقريباً لأن تُدخِل الڤيروسات نفسها على نحو مستقل في نفس النقاط بالضبط في النوعين، فهذه النقاط تشير بقوة إلى السلفية المشتركة.
حكاية مثيرة أخرى عن الجينات الميتة تتضمن حاسة شمنا، أو بالأحرى حاسة شمنا البائسة، إذ البشر حقاً متشممون رديئون بين الثدييات البرية. ومع ذلك، لا نزال نقدر على التمييز بين فوق العشرة آلاف رائحة. كيف يمكننا إنجاز مثل هذه المهارة؟إلى وقت قريب كان هذا لغزاً بالكامل. الإجابة توجد في حمضنا النووي، في جيناتنا العديدة المستقبِلة الشمية (م ش) أو olfactory receptor (OR) genes.
إن قصة الـ OR أو الجينات المستقبلية الشمية قد أُنجِزت من قِبَل Linda Buck and Richard Axel ، الذين فازا بجائزة نوبل لأجل هذا الإنجاز في عام 2004، فلننظر إلى جينات OR في متشمم ممتاز: الفأر.
يعتمد الفئران على نحو كثيف على حواس شمهم، ليس فقط لإيجاد الطعام أو تجنب المفترِسين، بل أيضاً لاستبيان فرمونات أحدهم الآخر. العالم الحسي لفأر مختلف على نحو واسع عن الخاص بنا، الذي فيه الرؤية أهم بكثير من الشم. لدى الفئران حوالي ألفي جين مستقبل شمي نشط. كلها تنحدر من جين سلفي واحد نشأ منذ ملايين السنين وصار مضاعفاً مرات كثيرة، كل جين يختلف قليلاً عن الآخرين. وكل واحد يُنتِج بروتيناً مختلفاً_مستقبِلاً شمياً_يتعرف على جزيء منقول جواً مختلف. كل بروتين مستقبل شمي يُعَبَّر عنه بنمطٍ مختلف قليلاً من الخلايا المستقبِلة في النسيج المبطِّن للأنف. تحتوي الروائح المختلفة على مجموعات مختلفة من الجزيئات، وكل مجموعة تثير مجموعة مختلفة من الخلايا. تبعث الخلايا إشارات إلى المخ، الذي يدمج ويحل شفرة الإشارت المختلفة. تلك هي كيفية تمييز الفئران رائحة القطط عن التي للجبن. بدمج مجموعات الإشارات، تقدر الفئران أن تتعرف على روائح أكثر بكثير مما يملكون من جينات مستقبلة شمية (OR) genes.
إن القدرة على التعرف على الروائح المختلفة مفيد: فهي تمكنك من تمييز القريب من غير القريب، وإيجاد العشير، وتحديد مواقع الطعام، والتعرف على المفترِسين، ورؤية من يغزو منطقتك. أفضليات البقاء ضخمة. فكيف اختارها الانتخاب الطبيعي؟ في البدء، صار جين سلفيّ مضاعفاً عدداً من المرات. تضاعف كهذا يحدث من وقتٍ إلأى آخر كحادثٍ أثناء انقسام الخلية. على نحو تدريجي، اختلفت النسخ المضاعفة أحدها عن الآخر، والتي كلٌ منها مربوط بجزيء رائحة مختلف. نشأ نوع مختلف من الخلايا لكلٍ من العشرة آلاف جين مستقبل شمي. وفي نفس الوقت، صار المخ ممداً بوصلات جديدة لجمع الإشارات من الأنواع الكثيرة من الخلايا لعمل أحاسيس الروائح المختلفة. إنه حقاً لإنجاز مذهل للتطور، مُقاداً بالقيمة البقائية المحضة للشم الفطِن!
لا تداني حاسة شمنا تلك التي للفأر إطلاقاً. أحد الأسباب أننا نعبِّر جينات OR أقل، حوالي أربعمئة فقط، لكننا لا نزال نحمل مجموع ثمانمئة جين OR، تشكل 3% تقريباً من جينومنا الكلي. ونصف هذه الجينات تماماً جينات زائفة. عُطلت باستمرار بطفرات. نفس الأمر صحيح بالنسبة إلى معظم الثدييات الأخرى. كيف حدث هذا؟ ربما لأننا نحن الرئيسيات_الذين ننشط أثناء النهار_نعتمد على الرؤية أكثر من الشم، ولذا لا نحتاج إلى التمييز بين روائح كثيرة جداً. تصير الجينات غير المحتاج لها مُزاحَة بالطفرات. على نحو قابل للتنبؤ، فإن الرئيسيات ذوي الرؤية اللونية، ومن ثم التمييز الأعظم للبيئة، لديهم جينات OR ميتة أكثر.
إن نظرتَ إلى تسلسلات جينات الاستقبال الشمي البشرية OR، كلٌ من النشطة والمعطلة، فهي أكثر تشابهاً مع التي للرئيسيات الأخرى، أقل تشابهاً للتي لثدييات بدائية كالبلاتيبوس (مفلطح الفم أو منقار البطة الأسترالي)، وأقل شبهاً أكثر إلى جينات الاستقبال الشمي لأقارب بعيدين كالزواحف. لماذا ستُظهِر الجينات الميتة علاقة كهذه، إن لم يكن لأجل التطور؟ وحقيقة أننا نؤوي جينات معطلة كثيرة جداً دليل بدرجة أكبر على التطور: نحن نحمل هذه الأمتعة البالية لأنها كانت محتاجاً لها في أسلافنا البعيدين الذين اعتمدوا على حاسة شم قوية للبقاء أحياء.
إلا أن أكثر الأمثلة إدهاشاً على التطور_أو إزالة التطور_جينات الاستقبال الشمي للدولفين. لا تحتاج الدلافين إلى استبيان روائح متطايرة في الهواء، حيث أنهم يمارسون شؤون حيواتهم تحت الماء، ولديهم مجموعة مختلفة بالكامل من الجينات لاستبيان المواد الكيميائية المنقولة بالماء. كما قد يتنبأ المرء، فإن جينات OR للدلافين معطلة. في الحقيقة فإن 80% منها معطلة. مئات منها لا تزال موجودة بصمت في جينوم الدولفين، شهادة صامتة على التطور. وإن تنظر إلى تسلسلات الحمض النووي لهذه الجينات الميتة للدلافين، ستجد أنها مشابهة للتي للثدييات البرية. هذا يصير له منطق عندما تدرك أن الدلافين تطورت من ثدييات برية والذين صارت جينات الاستقبال الشمي أو ORالخاصة بهم بلا فائدة عندما لجؤوا إلى الماء. (18) هذا لا يكون له منطق أو معنى إن كانت الدلافين قد خُلِقت خلقاً خصوصياً.
يمكن أن تتماشى الجينات الأثرية مع التراكيب الأثرية. لقد تطورنا نحن الثدييات من أسلاف زاحفية، كانت تضع البيض. استغنت الثدييات عن وضع البيض، وتغذي الأمهات صغارها مباشرةً من خلال المشيمة بدلاً من التزويد بمستودع من المح (صفار البيض). باستثناء رتبة أحاديات المخرج التي تحتوي على آكل النمل الشوكي والبلاتيبوس أو مفلطح الفم الأستراليين). وتحمل الثدييات ثلاثة جينات تقوم في الزواحف والطيور بإنتاج البروتين المحي المغذي (Vitellogenin)، والذي يملأ كيس المح. إلا أن هذه الجينات ميتة فعلاً في كل الثدييات. معطلة تماماً بالطفرات. فقط أحاديات المخرج لا تزال تنتج الـ Vitellogenin ، ممتكلة جيناً واحداً نشطاً واثنين ميتين. ما هو أكثر من ذلك، فإن الثدييات مثلنا لا تزال تُنتج كيس مح، لكنه أثري وبلا مح، بالون مليء بالسائل، مربوط بالقناة الهضمية الجنينية (الصورة 15في ملحق الصور). في الشهر الثاني من الحمل البشري ينفصل عن الجنين.
مع منقاره الشبيه بالبطة، وذيله السمين، والمهامز الحادة على الأرجل الخلفية لذكوره، وقدرة إناثه على وضع البيض، فإن البلاتيبوس أو مفلطح الفم الأسترالي (صورة 15ب في ملحق الصور) شاذ من أوجه عديدة. إن كان هناك على الإطلاق كائن يبدو مصمماً بطريقة غير ذكية_أو ربما لأجل تسلية صانع_ فهو هذا. إلا أن البلاتيبوس لديه صفة أخرى إضافية غريبة: إنه يفتقد المعدة. فبخلاف كل الفقاريات تقريباً، الذين لديهم معدة شبيهة بالجراب فيها تُحلل الإنزيمات الهضمية الطعام، فإن "معدة" البلاتيبوس هي مجرد انتفاخ ضئيل للمريء حيث يتصل بالمعى. تفتقد هذه المعدة بالكامل الغدد المنتِجة للإنزيمات الهضمية في الفقاريات الأخرى. لسنا متأكدين من سبب إزالة التطور للمعدة، ربما النظام الغذائي للبلاتيبوس من الحشرات اللينة لا يتطلب معالجة كثيرة. لكننا نعلم ان البلاتيبوس أتى من أسلاف ذوي معدات. أحد الأسباب هو أن جينوم البلاتيبوس يحتوي على جينين زائفين لإنزيمات ترتبط بالهضم. لم يعد لهما احتياج، فعُطِّلوا بطفرة، لكنهما لا يزالان يشهدان على تطور هذا الحيوان الغريب.
المخطوطات المعاد الكتابة عليها في الأجنة
في الواقع منذ ما قبل عصر دارون، كان علماء الأحياء منشغلين بدراسة كلٍ من علم الأجنة (كيف تتنمى الحيوانات) وعلم التشريح المقارن (التشابهات والاختلافات في بنيتي حيوانين مختلفين). كشف جهدهم عن الكثير من الأشياء الغريبة التي _في ذلك الوقت_لم يكن لها منطق. على سبيل المثال، تبدأ كل الفقاريات في التنمي بنفس الطريقة، بادية إلى حد ما كسمكة جنينية. عندما يتقدم التنمي، تبدأ الأنواع المختلفة في الاختلاف، لكن بطرق غريبة. تختفي فجأة الأوعية الدموية، والأعصاب، والأعضاء التي كانت موجودة في أجنة كل الأنواع في البداية، بينما تمر الأخرى بتحويرات غريبة وهجرات. في آخر الأمر، فإن رقصة التنمي تبلغ أوجها في الأشكال المختلفة للغاية للأسماك والبرمائيات والزواحف والثدييات والطيور. مع أنه حين يبدأ التطور الجنيني يبدون متشابهين جداً. أخبر دارون بقصة كيف صار عالم الأجنة الجرماني العظيم Karl Ernst von Baer مرتبكاً بالتشابه بين الأجنة الفقارية. كتب von Baer إلى دارون:
"بحوزتي جنينان صغيران في الكحول، اللذان أهملتُ لصقَ اسميهما، وفي الوقت الحاضر أنا غير قادر تماماً على التقرير إلى أي تصنيف ينتميان. ربما كانا سحليتين أو طيرين صغيرين، أو ثديين صغيرين جداً، كامل جداً هو التشابه في طريقة تشكل الرأس والبدن في هذين الحيوانين."
ومجدداً، كان دارون من وفَّق بين الحقائق المتنوعة بصدد علم الأجنة التي شغلت الكتب الدراسية في عصره، وأظهر أن السمات الملغزة للتطور الجنيني فجأة يكون لها معنى كامل تحت فكرة التطور المُوَحِّدة:
"يزداد علم الأجنة أهميةً على نحو عظيم، عندما ننظر هكذا إلى الجنين كصورة_باهتة إلى درجة ما_للشكل الأبوي المشترك لكل التصنيفات الكبرى للحيوانات."
فلنبدأ مع ذلك الجنين المتكون (بعد الشهر الثاني_المترجم) السمكي لكل الفقاريات، بلا أطراف ومبدياً ذيلاً شبه سمكي. ربما أكثر السمات شبه السمكية إدهاشاً هي سلسلة من خمسة إلى سبعة أكياس، مُباعَدة بأخاديد، تقع على كلا جانبي الجنين قرب رأسه المستقبلي. تُدعى هذه الأكياس بالأقواس الخيشومية، لكننا سندعوها بالأقواس على سبيل الاختصار (الشكل التوضيحي 16). يحتوي كل قوس على أنسجة تتطور إلى أعصاب، وأوعية دموية، وعضلات، وعظم أو غضروف. أما عندما تتطور أجنة الأسماك والقروش، فإن أول قوس يصير الفك ويصير البقية تراكيب خيشومية: الشقوق بين الأكياس تنفتح لتصير الشقوق الطولية الخيشومية وتُطوِّر الأكياس أعصاباً للتحكم في حركة الخياشيم. وأوعية دموية لنقل الأكسجين من الماء، وقضيبين من العظم أو الغضروف لدعم بنية الخيشوم. إذن، ففي الأسماك والقروش، فإن تطور (تنمِّي جنيني) الخياشيم من الأقواس الخيشومية الجنينية مباشر تقريباً: فهذه السمات الجنينية ببساطة تُكَبَّر دون تغير كبير لتُكوِّن الجهاز التنفسي الناضج.
لكن في الفقاريات الأخر الذين ليس لديهم خياشيم في الناضجين، تتحول هذه الأقواس إلى بنيوات مختلفة جداً، بنيوات تؤلِّف الرأس. ففي الثدييات_كمثال_تشكِّل العظام الصغيرة الثلاثة للأذن، وقناة إستاكيوس، والشريان السباتي، ولِوَز الحلق، والحنجرة، والأعصاب الدماغية. في بعض الأحيان تخفق الشقوق الخيشومية الجنينية في الانغلاق، مؤدية إلى طفل رضيع ذي كيس على رقبته. هذه الحالة_وهي بقية تأسلية من أسلافنا السمكيين_يمكن تصحيحها بالجراحة.
شكل توضيحي16: أقواس خيشومية لجنين قرش (في اليسار بالأعلى) وجنين بشري (في اليسار بالأسفل). في القروش والسمك (مثل القرش المنمش basking shark Cetorhinus maximus الذي يبدو في الأعلى) تتطور الأقواس مباشرة إلى البنيوات الخيشومية الناضجة، بينما في الإنسان والثدييات الأخر تتطور إلى بينوات متنوعة في الرأس الناضجة والجذع العلوي.
تمر أوعيتنا الدموية بالذات بتعرجات غريبة. ففي السمك والقروش، يتطور النموذج الجنيني للأوعية الدموية دون تغير كبير إلى الجهاز الناضج. أما حينما تتطور أجنة الفقاريات الأخر، تتحرك الأوعية هنا وهناك، وبعضها يختفي. تُترَك الثدييات_مثلنا_بثلاثة أوعية دموية رئيسية فقط من الستة الأصلية. الشيء المثير حقاً أنه حين يتقدم تطورنا الجنيني تشابه التغيرات تسلسلاً تطورياً. إن جهازنا الدوري المشابه للسمكي يتحول إلى مشابه للذي للأجنة البرمائية. في البرمائيات، تتحول الأوعية الجنينية مباشرة إلى أوعية ناضجة، لكن الخاصة بنا تستمر في التغير إلى جهاز دوري مشابه للذي للأجنة الزاحفية. في أجنة الزواحف، يتطور هذا الجهاز بعد ذلك مباشرة إلى ناضج. إلا أن التغيرات تمضي أكثر عندنا، مضيفة تعرجات قليلة أكثر تحوله إلى جهاز دوري ثديي صحيح، كاملاً مع الشريان السباتي، والرئوي، والشرايين الظهرية. (الشكل التوضيحي 17)
شكل توضيحي 17: تبدأ الأوعية الدموية للأجنة البشرية (والثديية) مشابهة للتي لجنين سمكة، مع وعائين علوي وسفلي مرتبطين بأوعية متوازية، واحد على كل جانب، "أقواس أورطية". في السمك تحمل هذه الأوعية الجانبية الدم إلى ومن الخياشيم. لدى الأسماك الجنينية والناضجة ستة أزواج من الأقواس، هذا هو التصميم القاعدي الذي يظهر عند بداية تطور أجنة كل الفقاريات. في الجنين البشري، تتشكل الأقواس الأول والثاني والخامس لفترة وجيزة عند بداية التطور الجنيني، لكنها تختفي عند عمر أربعة أسابيع، بينما تتشكل الأقواس الثالث والرابع والسادس (مميزة بدرجات مختلفة من التظليل). بعمر سبعة أسابيع تعيد الأقواس الجنينية تنظيم نفسها، بادية أكثر شبهاً بالأوعية الجنينية لزاحف. في النهاية شكل ناضج، حيث يُعاد تنظيم الأوعية أكثر بعد، مع تلاشي البعض أو تحويل أنفسها إلى أوعية مختلفة. لا تمر الأقواس الأورطية للسمك بمثل هذا التغير.
هذه الأنماط تطرح الكثير من الأسئلة. أولاً، لماذا تبدأ الفقاريات المختلفة التي تنتهي إلى أن تبدو مختلفة للغاية عن بعضها البعض، كلها التطور الجنيني بادية كجنين سمكة؟ لماذا تشكِّل الثدييات رؤوسها ووجوهها من نفس البينوات الجنينية ذاتها التي تصير الخياشيم في السمك؟ لماذا تمر الأجنة الفقارية بمثل هذه السلسلة المتعرجة من التغيرات في الجهاز الدوري؟ لماذا لا يبدأ الجنين البشري، أو جنين السحلية التطور مع جهازهم الدوري الناضج في ذلك الحين في وضعه العادي، بدلاً من عمل الكثير من التغيرات لما تتطور أبكرَ؟ ولماذا تحاكي سلسلة تطورنا الجنيني ترتيب أسلافنا (السمك إلى البرمائيات، إلى الزواحف إلى الثدييات)؟ كما جادل دارون في (أصل الأنواع)، فهذا ليس لأن الأجنة تُخْبُر سلسلة من البيئات خلال التطور الجنيني إلى ما يجب أن يتكيفوا معه بنجاح، أولاً مشابه للسمك، ثم زاحفي، وما إلى ذلك:
"إن مراحل البناء، التي تشابه فيها أجنة الحيوانات المختلفة إلى حد كبير من نفس التصنيف بعضها للبعض، غالباً ليس له علاقة مباشرة بظروف وجودهم. فلا نستطيع _كمثال_افتراض أن طريقة التطور الجنيني الغريبة في أجنة الفقاريات الشبيهة بأنشوطة للشرايين قرب الشقوق الخيشومية تتعلق بالظروف المتماثلة. في الثديي الصغير الذي يُغذى في رحم أمه، وفي بيضة الطائر التي تُفقَس في عش، وفي جرثومة ضفدع تحت الماء."
يُرى "التلخيص" لسسلة تطورية في السلسلة التطور جنينية لأعضاء أخرى، كُلانا، على سبيل المثال. فخلال التطور الجنيني، يُكَوِّن الجنين البشري في الحقيقة ثلاثة أنواع مختلفة من الكلى، واحدة تلو الأخرى، مع نبذ أول اثنتين قبل أن تنشأ كلانا النهائية. وهاتان الكليتان المؤقتتان تماثلان اللتان نجدهما في النوعين الذين نشآ قبلنا في السجل الأحفوري: الأسماك عديمة الفك والزواحف، على التوالي، ما الذي يعنيه هذا؟
يمكنك الإجابة على هذا السؤال ظاهرياً كالتالي: يمر كل فقاري بالتطور الجنيني في سلسلة من المراحل، وهذه السلسلة من هذه المراحل يظهر مصادفة أنها تتبع السلسلة التطورية لأسلافه. لذا، فعلى سبيل المثال، تبدأ سحلية التطور الجنيني مشابهة سمكة جنينية، ثم لاحقاً قليلاً برمائياً جنينياً، وآخِراً زاحفاً جنينياً. تمر الثدييات بنفس السلسلة، لكن تُضيف المرحلة النهائية لثديي جنيني.
هذه الإجابة صحيحة، لكنها في النهاية تطرح مسائل أعمق. لماذا يحدث التطور الجنيني عادة بهذه الطريقة؟ لماذا لم يُزِل الانتخاب الطبيعي مرحلة "جنين السمكة" في التطور البشري، بما أن تركيب الذيل، والأقواس الخيشومية المشابهة للسمك، والجهاز الدوري المشابه للسمك لا يبدون ضروريين لجنين بشري؟ لماذا لا نبدأ ببساطة التطور الجنيني كبشر صغار_كما ظن بعض علماء الأحياء في القرن السابع عشر أننا نفعل_ وفقط نصير أكبر فأكبر حتى نولد؟ لماذا كل التحول وإعادة التنظيم؟
الإجابة المرجحة_وهي جيدة_تتضمن أن عندما يتطور نوع إلى آخر، فإن المتحدر يرث البرنامج التطور جنيني لسلفه، بما يعني:كل الجينات التي تشكل البنيوات السلفية. والتطور الجنيني هو عملية مقاومة للتغير جداً. فالكثير من البنيوات التي تتكون لاحقاً في التطور الجنيني تتطلب "تلميحات" كيميائي حيوية من السمات التي تنشأ أبكر. فإذا_على سبيل المثال_حاولت سمكرة الجهاز الدوري بإعادة تصميمه من بداية التطور الجنيني ذاتها، ربما تسبب كل أنواع الآثار الجانبية المؤذية، فإنه عادةً أسهل إلحاق تغيرات أقل عنفاً ببساطة على ما هو خطة تطور جنينية صحية وقاعدية. إنه أفضل للأشياء التي تطورت لاحقاً أن تُبرمَج على التطور الجنيني لاحقاً في الجنين.
يشرح مبدأ "إضافة جوهر جديد على القديم" هذا أيضاً لماذا تعكس سلسلة التغيرات التطور جنينية السلسلة التطورية للكائنات. عندما تنشأ مجموعة من أخرى، فهي عادة تضيف برنامجها التطور جنيني فوق القديم.
ملاحِظاً هذا المبدأ، صاغ عالم التطور الجرماني Ernst Haeckel والمعاصر لدارون "قانوناً نشوءَحياتيٍّ" في عام 1866، أُجمِل على نحو شهير كـ "تلخيصات النشوء للنمو التطوري". هذا يعني أن التطور الجنيني لكائن ببساطة يعيد عرض تاريخه التطوري. لكن هذه الفكرة العامة صحيحة في معنى محدد فقط: لا تشابه المراحل الجنينية الأشكال الناضجة لأسلافها، كما ادعى Haeckel، بل تشابه الأشكال الجنينية لأسلافها. فالأجنة البشرية المتشكلة (بعد الشهر الثالث)_على سبيل المثال_لا تشابه البتة سمكاً أو زواحف ناضجة، بل يشابهون في نواح معينة الأسماك والزواحف الجنينية. أيضاً، فإن التلخيص ليس تاماً ولا حتمياً. ليس كل سمة لسلفٍ للجنين تظهر في متحدريه، ولا تتطور كل مراحل التطور الجنيني في ترتيب تطوري صارم. بالإضافة إلى ذلك، بعض الأنواع_كالنباتات_تستغني عن كل آثار سلفيتها تقريباً خلال تطورها الجنيني. لقد سقط قانون Haeckel في سوء السمعة ليس فقط لأنه ليس صحيحاً على نحو تام، بل أيضاً لأنه اتهم _على نحو ظالم إلى حد بعيد_بالتلاعب ببعض رسومات الأجنة المبكرة لجعلهم يبدون أكثر تشابهاً مما هم عليه حقيقةً. (19) إلا أننا لا ينبغي أن ننبذ الجمل بما حمل. تظل الأجنة تُظهِر شكلاً من التلخيص: السمات التي نشأت أبكر في التطور غالباً ما تظهر أبكر في التطور الجنيني. وهذا يكون له منطق فقط لو كان للأنواع تاريخ تطوري.
وبعد، فأننا لسنا متأكدين بشكل مطلق لماذا تتذكر بعض الأنواع الكثير من تاريخها التطوري أثناء التنمي الجنيني. إن مبدأ "إضافة جوهر جديد على القديم" هو نظرية فحسب، تفسير لحقائق علم الأجنة. إنه من العسير إثبات أنه كان أسهل لبرنامج تطور جنيني أن يبدأ بسبيل معين بدلاً من آخر. لكن تبقى حقائق علم الأجنة، ويكون لها منطق فقط في ضوء التطور. تبدأ كل الفقاريات التطور الجنيني مشابهة لسمك جنيني لأننا كلنا تحدرنا من سلف شبيه بالسمك ذي أجنة شبيهة بالسمك. إننا نرى تعرجات غريبة واختفاآت أعضاءٍ، وأوعيةٍ دموية، وشقوقٍ خيشومية لأن المتحدرين لا يزالون يحملون جينات وبرامج الأسلاف التطور جنينية. وأيضاً سلسلة التغير التطور جنيني لها منطق: في إحدى مراحل التطور الجنيني يكون للثدييات جهازاً دورياً جنينياً كالذي للزواحف، لكننا لا نرى الحالة المعاكسة؟ لماذا؟ لأن الثدييات تحدرت من زواحف عتيقة وليس العكس.
عندما كُتِب (أصل الأنواع)، اعتبر دارون علم الأجنة أقوى أدلته على التطور. اليوم لكان على الأرجح أعطى أفضل مكانة للسجل الأحفوري. ومع ذلك، يستمر العلم في تكديس معالم آسرة عن التنمي الجنيني تدعم التطور. فالحيتان والدلافين الجنينية تُكَوِّن براعم أرجل خلفية، نتوآت نسيج، والتي في الثدييات رباعية الأرجل تصير الأرجل الخلفية. لكن في الثدييات البحرية يُعاد امتصاص البراعم بعد أن تتكون بقليل. تُظهر الصورة 18(في ملحق الصور) هذا الارتداد في التنمي الجنيني للدولفين المنقط.
إن الحيتان صفائحية الأسنان Balen whales التي تفتقد الأسنان لكن أسلافها كانت حيتاناً ذوي أسنان، تنمي أسناناً جنينية تختفي قبل الميلاد.
أحد حججي المفضلة من أدلة علم الأجنة على التطور هي الجنين البشري المتشكل (بعد الشهر الثالث) المكسو بالفراء. نحن معروفون على نحو شهير كـ "قرود جرداء" لأننا _على خلاف الرئيسيات الأخرى_ليس لدينا غطاء سميك من الشعر. لكن في الحقيقة لفترة قصيرة_كأجنة_ نفعل. فحوالي الشهر السادس بعد الحمل، نصير مغطين بالكامل بكسوة رقيقة زغباء من الشعر تدعى الزغب Lanugo. يتساقط الزغب عادة قبل شهر من الولادة تقريباً، عندما يُستبدَل بشعر موزع على نحو أكثر تناثراً والذي نولَد به. (رغم ذلك، فالأطفال الخدج أحياناً يولدون بزغب، والذي يتناقص خلال فترة وجيزة). الآن حيث أن ليس هناك حاجة لامتلاك جنين بشري لكسوة شعر مؤقتة، فمع ذلك إن الحرارة في الرحم هي 37 درجة مئوية دفئاً. يمكن أن يُفسَّر الزغب فقط كبقايا سلفيتنا الرئيسية: فإن الأجنة القردية المتشكلة أيضاً تنمي كسوة شعر في نفس مرحلة التنمي تقريباً. إلا أن شعرهم لا يتساقط، بل يستمر ليصير الكسوة الناضجة. وأجنة الحيتان المتشكلة_كالبشر_لديها أيضاً زغب، بقية من أسلافهم عندما عاشوا على الأرض.
المثال الأخير من البشر يأخذنا إلى مجال التخمين، لكنه أكثر جاذبية من أن نحذفه. إنه (رد الفعل الإمساكي) للأطفال المولودين حديثاً. إن دخلت على رضيع، ولاطفت راحتي يديه. سيُظهر الرضيع رد فعل انعكاسي بعمل قبضة حول إصبعك. في الحقيقة فإن الإمساك أكثر إحكاماً عن قدرة رضيع، فلا يمكنه استعمال يديه، ليتعلق عدة دقائق من عصا مكنسة. (تحذير: إياك أن تحاول عمل تجربة كهذه في المنزل!). ربما يكون رد الفعل الإمساكي_الذي يختفي بعد عدة أشهر من الميلاد_سلوكاً تأسلياً تماماً. فالقرود والقرود العليا لديهم نفس رد الفعل، لكنه يستمر خلال فترة الحداثة، ممكِّناً الصغار من التشبث بفرو أمهاتهم بينما يحملنهم هنا وهناك.
إنه لمن المحزن أنه بينما يقدم علم الأجنة كنزاً ذهبياً من الأدلة على التطور، غالباً ما تخفق الكتب الدراسية لعلم الأجنة في الإشارة إلى هذا. لقد قابلت أطباء ولادة_على سبيل المثال_يعرفون كل شيء عن الزغب عدا سبب ظهوره في المقام الأول.
كالسمات الغرائبية للتطور الجنيني، هناك أيضاً سمات غرائبية لبنيوات الحيوانات يمكن تفسيرها بالتطور فقط. هذه هي حالات (التصميم الرديء)
التصميم الرديء
في الفلم السينمائي المعرض للنسيان عادة "رجل السنة" Man of the year ، يلعب الممثل الكوميدي Robin Williams دور مضيف برنامج حوارات تلفزيوني، والذي خلال سلسلة من الأحداث العجيبة يصبح رئيس الولايات المتحدة. خلال نقاشٍ قبل الترشيح، تُسْأَل شخصية روبن وليامز بصدد التصميم الذكي. فيجيب: "يقول الناس التصميم الذكي، ينبغي أن نُدرِّس التصميم الذكي. انظروا إلى جسد الإنسان، هل ذلك ذكي؟ لديكَ آلة معالجة نفاية متموضعة بجوار منطقة استجمام!"
إنها إشارة جيدة، فرغم أن الكائنات المتعضية تبدو مصممة جيداً لتلائم بيئاتها، فإن فكرة التصميم الكامل وهم. كل نوع معيب في عدة نواحٍ. فالكيوي لديه جناحان عديما الفائدة، والحوت لديه حوض أثري، وزائدتنا هي عضو شنيع.
ما أعنيه بـ(التصميم السيء) هو مفهوم أن الكائنات لو كانت من تصميمِ مُصَمِّمٍ_الذي استعمل قوالب البناء الحيوي من الأعصاب والعضلات والعظم وما إلى ذلك_لما كانت لديهم مثل هذه العيوب. التصميم الكامل كان سيكون حقاً علامة على مصمم ماهر وذكي. إن التصميم المعيب هو علامة التطور، في الحقيقة هو ما تتوقعه بالضبط من التطور. لقد تعلمنا أن التطور لا يبدأ من رسمِ تصميمٍ. تتطور الأجزاء الجديدة من القديمة، ويحتاج إلى العمل على الأجزاء التي قد نشأت من قبل فعلياًً. بسبب هذا، ينبغي أن نتوقع تسويات: بعض السمات التي تعمل على نحو جيد تماماً، لكن ليس كما ينبغي لها، أو سمات_كجناحي الكيوي_لا تعمل على الإطلاق، لكنها بقايا تطورية.
مثال جيد للتصميم السيء هو سمك الـ Flounder المفلطح (سمك موسى،كمثال)، الذي تأتي شعبيته كسمك مأكول جزئياً من تسطحه، ما يجعله سهل نزع العظم. هناك حقيقة حوالي خمسمئة نوع من السمك المفلطح: الهلبوت، وسمك الترس، وسمك موسى، وأقربائهم. كلهم يوضعون في رتبة Pleuronectiformes. وهي كلمة تعني (السابحات جانبياً)، وصف هو الأساسي لتصميمهم البائس. تولد الأسماك المفلطحة كأسماك تبدو عادية تسبح رأسياً، مع عين متوضعة على كلا جانبي الجسد فطيري الشكل. لكن بعد ذلك بشهر، يحدث شيء غريب: تبدأ إحدى العينين في التحرك إلى الأعلى. إنها تهاجر على الجمجمة وتنضم إلى العين الأخرى على جانب واحد من الجسد، إما اليمين أو اليسار، تبعاً للنوع. تغيِّر الجمجمة شكلها أيضاً لتعزيز هذه الحركة، وهناك تغيرات في الزعانف واللون. في تناغم، تميل السمكة على جانبها الجديد عديم العين، نتيجة لهذا كلا العينين تصيران بالأعلى. إنها تصير ساكنة قاع البحر مسطحة مموهة تفترس الأسماك الأخرى. عندما تحتاج إلى السباحة، تقوم بذلك على جانبها. السمك المفلطح هو أشهر الفقاريات اللامتماثلة الجانبين في العالم. خذ عينة المرة القادمة عندما تذهب إلى سوق السمك.
إن أردت أن تصمم سمكة مفلطحة، لما كنت فعلتها بتلك الطريقة. لكنت أنتجت سمكة تشبه المزلجة، مسطحة من الميلاد وتنام على بطنها، ليس واحدة تحتاج إلى إنجاز التسطح بالنوم على أحد جانبيها، محركة عينها، ومشوهة جمجمتها. لقد صُمِّمَت الأسماك المفلطحة على نحو رديء. لكن التصميم الرديء يأتي من ميراثهم التطوري. إننا نعلم من شجرة عائلتهم أن الفلاوندر_ككل الأسماك_تطوروا من أسماك عادية متماثلة. بجلاء، لقد وجدوا أنه من المفيد الميل على جوانبهم والاضطجاع على قاع البحر، مخبئين أنفسهم من كلٍ من المفترِسين والفرائس. هذا_ بالتأكيد _خلق مشكلة: العين السفلى ستصير عديمة الاستعمال وسهلة الانجراح كلا الأمرين. لحل هذا، أخذ الانتخاب الطبيعي السبيل المتعرج لكنه المتاح لنقل عينها، هذا غير تشويه جسدها. (انظر صور 18ب في ملحق الصور)
إحدى أسوأ تصميمات الطبيعة نراه في العصب الحنجري المنعطف للثدييات. ممتداً من المخ إلى الحنجرة، يساعدنا هذا العصب على الكلام والابتلاع. الشيء الغريب أنه أطول بكثير مما يحتاج أن يكون. فبدلاً من مسلك مباشر من المخ إلى الحنجرة_مسافة حوالي قدم في البشر_يمتد العصب سفلاً إلى صدرنا، متحلقاً حول الشريان الأورطي ورباط ممتد من شريان، ثم يطوف عائداً علواً "يرجع" للاتصال بالحنجرة (الشكل التوضيحي 19). أنه يصل وطوله ثلاثة أقدام. في الزراف، يتخذ العصب مساراً مماثلاً، باستثناء أنه يسلك كل الطريق الذي للرقبة الطويلة سفلاً ثم يعود صعداً مجدداً: مسافة أطول بخمسة عشر قدماً عن المسلك المباشر.! عندما سمعت أول مرة عن هذا العصب الغريب، عانيت مشكلة في تصديق هذا. راغباً في الرؤية بنفسي، استجمعت شجاعتي لعمل زيارة إلى معمل تشريح بشري وفحصت أول جثة في حياتي. أراني أستاذ جامعي لطيف العصب، متتبعاً مساره بقلم رصاص نزولاً إلى الجذع وصعوداً راجعاً إلى الحنجرة.
هذا السبيل غير المباشر للعصب الحنجري المنعطف ليس تصميماً رديئاً فحسب، بل إنه تكيف رديء. لأن الطول الإضافي يجعله أكثر عرضة للانجراح. فيمكن له_كمثال_أن يتضرر بضربة على الصدر، جاعلاً التكلم أو البلع صعباً. لكن المسلك يصير له منطق عندما نفهم كيف نشأ العصب الحنجري المُعاوِد. كان في أسلافنا شبيهي الأسماك_مثل الشريان الأورطي نفسه في الثدييات_ينحدر من تلك الأقواس الخيشومية في الأجنة المبكرة الشبيهة بالسمك لكل الفقاريات، يمتد العصب من الأعلى إلى الأسفل جنباً إلى جنب مع الوعاء الدموي القوسي الخيشومي السادس، إنه قوس لأطول الأعصاب الجمجمية وهو العصب المبهم الذي يطوف على طول الظهر إلى المخ. وفي الأسماك الناضجة، يظل العصب في ذلك الوضع، واصلاً المخ إلى الخياشيم ويساعدها على ضخ المياه.
أثناء تطورنا، اختفى الوعاء الدموي من القوس الخامس، وتحركت الأوعية الدموية من الأقواس الرابع والسادس إلى الأسفل إلى الجذع المستقبلي، لكي يستطيعوا أن يصيروا الشريان الأورطي وشرياناً يصل الأورطي بالشريان الرئوي. لكن العصب الحنجري_الذي ما زال خلف القوس الخامس_يحتاج إلى البقاء متصلاً بالبنيوات الجنينية التي تصير الحنجرة، البنيوات التي ظلت قرب المخ. لأن الشريان الأورطي المستقبلي تطور إلى الوراء اتجاه القلب، أجبر العصب البصري على التطور إلى الوراء جنباً إلى جنب معه. لكان اكثر فعالية للعصب الحنجري ان ينعطف حول الأورطي، متوقفاً ثم يعيد تشكيل نفسه في مسلك أكثر مباشرة، لكن الانتخاب الطبيعي لم يمكنه تحقيق ذلك، لأن فصل وإعادة وصل عصب هي خطوة تقلل الكفاءة. لمجاراة التطور الخلفي للأورطي، احتاج العصب الحنجري أن يصير طويلاً ومنعطفاً. وذلك السبيل التطوري يُلخَّص أثناء التنمي الجنيني، فعندما نكون أجنة نبدأ بنمط سلفي شبه سمكي للأعصاب والأوعية الدموية. في النهاية، نُترَك بتصميم رديء.
الشكل التوضيحي 19: المسلك الملتف للعصب الحنجري المنعطف الأيسر في البشر هو دليل على تطورهم من سلف شبيه بالسمك. في الأسماك فإن القوس الخيشومي السادس الذي يصير لاحقاً خيشوماً، يغذى بالقوس السادس الأورطي. يمتد القوس الرابع للعصب المبهم الجمجمي وراء هذا القوس.تظل هذه البنيوات جزئياً في الجهاز الخيشومي في الأسماك الناضجة، مُعَصِّبة الخياشيم وجالبة الدم من الخياشيم. إلا أنه في الثدييات، تطور جزء من القوس الخيشومي إلى الحنجرة. ظلت الحنجرة وعصبها متصلين أثناء هذه العملية، لكن القوس السادس الأورطي على جانب الجسد الأيسر تحرك سفلاً إلى الصدر ليصير بقية لاوظيفية يدعى ligamentum arteriosum. لأن العصب الحنجري ظل خلف هذا القوس لكن لا زال باقياً متصلاً إلى البنية في الرقبة، فقد أُجبِر على تطوير مسلك يطوف سفلاً إلى الصدر، متحلقاً حول الأورطي وبقايا العصب السادس الأورطي. ثم يطوف راجعاً صعداً إلى الحنجرة. لا يعكس هذا السبيل غير المباشر تصميماً ذكياً، لكن يمكن أن يُفهَم فقط كنتاج تطورنا من أسلاف كان لها أجساد مختلفة جداً.
بالاتساق مع التطور، فإن أجهزة التكاثر البشري أيضاً مليئة بالسمات المجهزة بلهوجة. لقد تعلمنا من قبل أن الخصى الذكرية_نتيجة لتطورها من غدد تناسلية سمكية_تخلق نقاطاً ضعيفة في التجويف البطني يمكن أن تسبب حالات الفتق. الذكور أكثر تضرراً بعد بسب التصميم الرديء للإحليل، الذي يصادف أنه يمتد خلال غدة البروتستاتا تماماً التي تنتج بعضاً من سائلنا المنوي. كإعادة لصياغة كلام روبن وليامز، إنه أنبوب قاذورات بالوعة يجري مباشرة خلال منطقة استجمام. يتعرض جزء كبير من الذكور لتضخم البروتستاتا متأخراً في حيواتهم، مما يضغط على الإحليل ويجعل التبول عسيراً ومؤلماً. (من المحتمل أن هذه لم تكن مشكلة خلال معظم تطور البشر، حين عاش القليل من البشر حتى الثلاثين). لم يكن مصمم ذكي ليضع قناة قابلة للانهيار خلال عضو عرضة للعدوى والتورم. لقد حدث هذا بهذه الطريقة لأن غدة البروتستاتا الثديية تطورت من أنسجة في جدران الإحليل.
لا يحدث للنساء ما هو أفضل. فهن يلدن من خلال الحوض، وهي عملية مؤلمة وغير كفأة كانت_قبل الطب الحديث_تقتل عدداً يمكن تقديره من الأمهات والأطفال الرضع. المشكلة هي أننا حين طورنا دماغاً كبيرة، صارت رأس الجنين أكبر بكثير بالنسبة إلى فتحة الحوض، والتي احتاجت إلى أن تظل ضيقة لتمكِّن من مشي منتصب (على رجلين) كفء. أدت هذه التسوية إلى صعوبات الولادة البشرية وألمها الشنيع. إن صممتَ أنثى بشرية، ألم تكن لتعيد توجيه جهاز التكاثر الأنثوي بحيث يخرج الطفل من خلال أدنى البطن بدلاً من الحوض. تخيل كم كانت ستكون الولادة أسهل! لكن البشر قد تطوروا من كائنات وضعت البيض ثم وضعت مواليد حية_بطريقة أقل ألماً منا_من خلال الحوض. إننا مقيدون بتاريخنا التطوري.
وهل كان مصمم ذكي سيخلق الفجوة الصغيرة بين المبيض البشري وقناة فالوب، نتيجةً لذلك يجب أن تعبر البيضة هذه الفجوة قبل أن يمكنها الانتقال خلال القناة والانغراس في الرحم؟ أحياناً لا تقوم بييضة ملقحة بالقفزة بنجاح وتنغرس في البطن. هذا يسبب (الحمل البطني)، وهو دوماً تقريباً مميت للطفل و_إذا لم يتم التدخل الجراحي_للأم. هذه الثغرة هي بقية من أسلافنا السمك والزواحف، الذين طرحوا البيض من الرحم مباشرة إلى خارج إجسادهم. قناة فالوب هي رابط معيب، لأنها تطورت لاحقاً، كإضافة في الثدييات. (20)
يجيب بعض الخلقيين بأن التصميم الرديء ليس برهاناً على التطور. ذلك أن مصمماً ذكياً فائقاً للطبيعة يمكن أنه قد خلق مع ذلك سمات معيبة. يدعي نصير التصميم الذكي Michael Behe في كتابه (الصندوق الأسود لدارون): "السمات التي تدهشنا كغريبة في تصميم ربما وُضِعَت هناك من قِبَل مصمِّمٍ لسبب، لأسباب فنية، للتنوع، للتباهي، لأغراض_مع ذلك_عملية غير غير ممكن اكتشافها، أو لأسباب غير ممكن تخمينها، وربما لا تكون كذلك." لكن هذا يفتقد الحجة. أجل، قد يكون لمصمِّمٍ أفكار لا يمكن سبر أغوارها. لكن التصميمات الرديئة المعينة التي نراها لها منطق فقط لو كانت تطورت من صفات أسلاف أقدم. إن كان لمصمم أفكار قابلة للإدراك عند خلق الأنواع، فلابد أن إحداها بالتأكيد هو خداع علماء الأحياء بعمل كائنات تبدو كما لو كانت تطورت.
ملاحظات
1- لا تزال النظرية الحديثة للتطور تدعى بالـ(دارونية) أو (الدارونية الحديثة)، رغم أنها قد تقدمت كثيراً للغاية عما افترضه دارون أولاً (فهو لم يعرف شيئاً_كمثال_عن الحمض النووي أو الطفرات). هذا من النمط من التسمية الشخصية غير معتاد في العلم. فنحن لا ندعو الفيزيائيات التقليدية بالـ "نيوتنية" أو الفيزياء النسبية بالـ "أينشتاينية". إلا أن تشارلز دارون كان صائباً للغاية ومنجِزاً في كتاب (أصل الأنواع)، لدرجة أن علم الأحياء التطوري قد صار بالنسبة لكثير من الناس مرادفاً لاسمه. سأستعمل أحياناً لفظة (الدارونية) خلال الكتاب، لكن فليتذكر القارئ أن ما أعنيه هو (النظرية التطورية الحديثة).
ملاحظة من المترجم: لم أستحب تسمية النظرية باسم أشهر واضعيها ومؤسسيها دارون، لأن كثيرين قبله لاحظوها دون أن يتعرفوا على آلياتها، ومعاصره ألفرد والس اكتشفها بُعَيدَه بقليل جداً على نحوٍ مستقل، وإن كان لم يحشد لها كل ذلك البحث والشواهد كدارون، لذا آثرت ترجمة الدارونية Darwinism إلى (نظرية التطور).
2- على خلاف علب الكبريت، فإن لغات البشر توجد في تسلسل متداخل، مع تشابه بعضها مع بعضها الآخر (كالإنجليزية والجرمانية) أكثر بكثير من اللغات الأخرى (مثلاً الصينية). يمكنك في الحقيقة أن تبني شجرة تطورية للغات بناءً على التشابه في الكلمات والقواعد. سبب كون اللغات يمكن أن تُصنف هكذا هو أنها اجتازت شكلها الخاص من التطور، متغيرةً تدريجاً خلال الزمن ومستنوِعةً كلما تحرك الناس إلى مناطق جديدة وفقدوا التواصل مع بعضهم الآخر. كالأنواع، فإن اللغات لها استنواع وسلفية مشتركة. لقد كان دارون هو أول من لاحظ هذا التشابه الجزئي.
3- لقد انقرضت فيلة الماموثات ذوات الصوف منذ حوالي عشرة آلاف سنة، على الأرجح اصطيدت حتى الانقراض من قِبَل أسلافنا. على أية حال لقد كانت إحدى النماذج محفوظة على نحو جيد للغاية بالتجمد لدرجة أنها استُعمِلت كطعام لعشاء نادي مستكشفين عام 1951م في نيويورك.
4- إنه مرجح أن الثدييات السلفية قد احتفظت بخصاها الناضجة في البطن (بعض الثدييات كمفلطح الفم البلاتيبوس والفيل لا تزال تفعل)، مما يجعلنا نتساءل لماذا أيَّد التطور تحركَ الخصيتين إلى موضع سهل الانجراح خارج الجسد. إننا لا نزال لا نعرف الإجابة بعد، لكن مفتاحاً هو أن الإنزيمات المتضمنة في صنع الحيوانات المنوية ببساطة لا تعمل بشكل جيد عند درجة حرارة الجسد الداخلية (هذا سبب نصح الأطباءِ الآباءَ المستقبليين بتجنب الحمامات الساخنة قبل الجنس). إنه مرجح أن عند نشوء حرارة الدم في الثدييات، أُجبِرَت الخصى في بعض المجموعات على النزول لتظل باردة. إلا أنه قد تكون الخصى الخارجية قد تطورت لأسباب أخرى، وفقدت ببساطة الإنزيمات المتضمنة في صنع الحيوانات المنوية قدرتها على العمل في درجات الحرارة الأعلى.
5- كثيراً ما يدعي معارضو التطور أن نظرية التطور يجب أن تفسر كذلك كيفية نشوء الحياة، وأن الدارونية تخفق لأننا لا نملك الإجابة بعد. إن هذا الاعتراض مضلل. فالنظرية التطورية تتعامل فقط مع ما يحدث بعد مجيء الحياة إلى الوجود (والتي سأُعرِّفها ككائنات أو جزيئات ناسخة لنفسها). أما نشوء الحياة ذاتها فلا يُحال إلى علم الأحياء التطوري، بل إلى علم النشوء الذاتيّ abiogenesis، وهو مجال علمي يشمل الكيمياء وعلم طبقات الأرض وعلم الأحياء الجزيئي. ولأن هذا المجال لا يزال في مهده، ولم يعطِ حتى الآن سوى إجابات قليلة، فقد أهملتُ في هذا الكتاب أي بحث عن كيفية بدء الحياة على الأرض. لإلقاء نظرة عامة على النظريات العديدة المتنافسة، انظر ما هو بمثابة سفر تكوين Robert Hazen: (البحث العلمي بصدد نشأة الحياة) The Scientific Quest for Life’s Origin.
6 - مع ملاحظة أنه للنصف الأول من تاريخ الحياة كانت الأنواع الوحيدة هي البكتريا. ولم تظهر الكائنات عديدة الخلايا المعقدة حتى آخر 15% من تاريخ الحياة. لرؤية تسلسل زمني تطوري في مقياس صحيح، مظهراً كيفية نشوء الكثير من أشكال الحياة المألوفة حالياً، زر موقع
http://andabien.com/html/evolutiontimeline.htm and keep scrolling.
7- كثيراً ما يستعمل الخلقيون المفهوم الكتابي لـ"الأنواع" للإشارة إلى المجموعات التي خُلِقَت خلقاً خصوصياً (انظر سفر التكوين 1: 12-25)، لكن ضمنها بعض التطور مفسوح له المجال. يدعي أحد المواقع الخلقية، شارحاً لفظة "الأنواع": "كمثال، قد يكون هناك أنواع كثيرة من الحمام، لكنها تظل كلها حماماً. لذا، يكون الحمام "نوعاً" من الحيوان، طائراً، في الحقيقة". هكذا، فإن التطور الضئيل مفسوح له المجال ضمن "الأنواع"، لكن التطور الكبير بين الأنواع غير ممكن الحدوث ولم يحدث حسب اعتقادهم. بعبارة أخرى، أعضاء النوع لهم سلف مشترك، وأعضاء الأنواع المختلفة ليس لها حسب اعتقادهم. المعضلة هي أن الخلقيين لا يقدِّمون معياراً لتعريف (الأنواع)، فهل يقابلون الجنس البيولوجي؟ أم الأسرة؟ هل كل الأعضاء الطائرين من نوع واحد، أم أنواع مختلفة؟، لذا فلا يمكننا الحكم على ما يرونه كحدودٍ للتغير التطوري. إلا أن كل الخلقيين يتفقون على شيء واحد: الإنسان الحكيم Homo Sapiens هو (نوع) وحدَه، ولذا ينبغي أن يكون قد خُلِقَ. إلا أنه ليس هناك شيء في نظرية التطور ولا معطياتها يدل على أن التغير التطوري يمكن أن يُحدَّ: بقدر ما يمكننا أن نرى، فإن التطور الكبير هو ببساطة التطور الضئيل ممتداً خلال حقبة طويلة من الزمن. انظر لرؤية وجهة النظر الخلقية عن (الأنواع)
http://www.clarifyingchristianity.com/creation.shtml و
http://www.nwcreation.net/biblicalkinds.html ولرؤية دحض
http://www.geocities.com/CapeCanaveral/H.../kinds.htm .
8- يعتقد علماء المتحجرات اليوم أن كل الديناصورات الرشيقة Therapods_وهذا يتضمن Tyrannosaurus rex الشهير_كانت مغطاة بشكل ما من الريش. هذا لا يُظهَر عادةً في إعادات بناء المتاحف للمتحجرات، أو في أفلامٍ كالحديقة الجوارسية Jurassic Park. سيكون من السيء لسمعة T. rex المرعِب أن يُعلَم أنه كان مغطى بالزغب!
9- لأجل وصف مشوق لكيفية العثور على أول عينة للـ Sinornithosaurus إعدادها، والمسماة "Dave"، انظر
http://www.amnh.org/learn/pd/dinos/markmeetsdave.html.
10- قامت قناة NOVAبتقديم برنامج تلفزيوني رائع موثق للعثور على الـ Microraptor gui والجدل التالي بصدد ما إذا كان استطاع الطيران. يمكنك مشاهدة "الديناصور رباعي الأجنحة" على الهواء، بموقع
http://www.pbs.org/wgbh/nova/microraptor/program.html..
11- في إنجاز مدهش معاصر، قد نجح علماءُ في الحصول على شظايا من بروتين الكولاجين من متحجرة عمرها 68 مليون عام للـ T. rex، وتعيين تسلسل الحمض الأميني لهذه الشظايا. يُظهِر التحليل أن الـ T. rex أوثق صلةً إلى الطيور الحية (الدجاج والنعام) من أي فقاريات حية أخرى. تؤكد العينة ما ظنه العلماء منذ زمن طويل: لقد انقرضت الديناصورات ما خلا خط تحدر واحد أدى إلى نشوء الطيور. على نحو متزايد، يقر علماء الأحياء بأن الطيور مجرد ديناصورات مُعدَّلة إلى حدٍ كبير. في الواقع، كثيراً ما تُصنَّف الطيور كديناصورات.
12- يثبت تسلسل الحمض النووي والبروتيني للحوت أنه من بين الثدييات فالأوثق صلةً به هي شفعيات الأصابع، وهو اكتشاف يتسق تماماً مع الدليل الحفري.
13- لرؤية Chevrotain مائي ينزل إلى الماء ليفر من نسر، زر موقع
http://www.youtube.com/watch?v=GQbTljxs .
14- لقد نُشِرَتْ الورقة_رغم ذلك_وأثبتت أن رغم نمطي جريهما المختلفين، يستهلك النعام والخيول كميات متماثلة من الطاقة لقطع نفس المسافة:M. A. Fedak and H. J. Seeherman . ويثبت تقييم جديد لطاقات التحرك تكلفاتٍ متطابقة في ثنائيات ورباعيات الأرجل بما في ذلك النعام والخيول. Nature 282: 713-716.
15- يعرض هذا الڤيديو كيف تُستعمَل الأجنحة في التزاوج:
http://revver.com/video//masai-ostrich-mating/.
16- الحيتان_التي تفتقد الآذان الخارجية_لديهم أيضاً عضلات أذن لاوظيفية (وأحياناً فتحات آذان ضئيلة لاوظيفية)، كلها موروثة من أسلافهم البريين.
17- الجينات الزائفة_على حد علمي_لا يُعاد ابتعاثها أبداً. فعندما يخضع جين لطفرة تعطله، سرعان ما تتراكم طفرات أخرى تفسِد معلومات ِ صنع بروتينه أكثر. احتمال أن تُبطِل تلك الطفراتُ نفسَها لتعيد إحياء الجين هو صفر تقريباً.
18- على نحوٍ قابل للتنبؤ، فإن الثدييات البحرية التي تقضي جزءً من وقتها على البر_كأسد البحر وكلب البحر_لديها جينات المستقبلات الشمية (OR) أكثر مما لدى الحيتان أو الدلافين، من المحتمل لأنها لا تزال تحتاج استبيان الروائح المحمولة جواً.
19- كثيراً ما يستشهد الخلقيون برسوم Haeckel "الملفقة" كوسيلة للهجوم على التطورعامةً، فيدعون أن التطوريين يحرفون الحقائق لدعم "الدارونية المضلِّلة". لكن قصة Haeckel ليست بهذه البساطة. لعل Haeckel ليس مذنباً بانتهاك القانون، بل بالإهمال فقط: لأن "حيلته" تألفت كليةً من رسم ثلاثة أجنة مختلفة مستعملاً نفس القالب. عندما سوئِل، اعترف بالغلط وأصلحه. ليس هناك ببساطة دليل على أنه حوَّر عن قصدٍ مظهر الأجنة ليجعلهم يبدون أكثر تشابهاً مما هم عليه. يحكي R. J. Richards (2008، الفصل 8) القصة كاملةً.
20- لقد تركت لنا سلفيتنا كوارث جسدية كثيرة أخرى.كالبواسير، والظهور الرديئة، والفواق (الزغطة)، والزوائد الدودية الملتهبة. كل هذه الحالات هي ميراث تطورنا.يصف Neil Shubin هذه الحالات والكثير غيرها في كتابه (سمكتك الداخلية) Your Inner Fish.
21- لقد ألهمت أيضاً قصيدةَ William Cowper: (عزلة ألكسَندر سلكيرك)، بمطلعها الشهير:
أنا ملك كل ما يمتد إليه بصري
لا أحد يجادل في حقي
من المركز كله وحتى البحر
أنا سيد الطير والوحش
22- للاطلاع على رسم متحرك للانجراف القاري خلال المئة وخمسين مليون عام الأخيرة، زر موقع
http://mulinet.li.mahidol.ac.th/cd-rom/...onanim.gif ، ورسوم متحركة أكثر شمولاً خلال كامل تاريخ الأرض بموقع
http://www.scotese.com/ .
23- هذه العبارة، التي هي بالتأكيد أشهر عبارات Tennyson، مقتبسة من قصيدته في In Memoriam A.H.H.
(الإنسان) الذي يثق بأن الرب كان محبةً حقاً
وأن الحب قانونُ الخلقٍ النهائيّ
رغم أن الطبيعة_حمراءَ الأسنان والحافرةَ للشِعْبِ_
تصرخ ضد اعتقاده.
24- ڤيديو تصويريّ لافتراس دبابير يابانية لنحلٍ مجلوب، وطبخها حتى الموت بدفاع النحل الياباني، يمكن رؤيته بموقع
http://www.youtube.com/watch?v=DcZCttPGyJ . لقد وجد العلماء مؤخراً وسيلة أخرى يقتل بها النحلُ الدبابيرَ، بالخنق. ففي قبرص، يُكَوِّن النحل أيضاً كرةً حول الدبابير الداخلة عنوة. فالزنابير تتنفس بنشر وتقليص بطونها، نافخةً الهواء إلى أجسادها عبر ممرات صغيرة. تمنع كرة النحل الضيقة الزنابيرَ من تحريك بطونها، حارمةً إياها من الهواء.
25- في كتابه (الطفيليّ الملك) يسرد Carl Zimmer الكثير من الوسائل الأخرى الفاتنة والمريعة التي قد طورتها الطفيليات للتلاعب بمضيفيها.
26- هناك جانب آخر في هذه القصة بنفس درجة الإثارة تقريباً: فالنمل الذي يقضي الكثير من الوقت على الأشجار، قد طور قدرة على التزلج الهوائي. فعندما يسقطون من فرع، يمكنهم أن يناوروا في الهواء لكي_بدلاً من الهبوط على أرضية الغابة المعادية_ينقضون مجدداً على جذع الشجرة الآمن. إنه غير معلومٍ بعد كيف تستطيع نملة ساقطة أن تتحكم في اتجاه تزلجها، لكن يمكنك رؤية ڤيديوهات لهذا السلوك الجدير بالملاحظة على موقع
http://www.canopyants.com/video.html .
27- يستشهد الخلقيون أحياناً بهذا اللسان كمثال لصفة لا يمكن أن تكون قد تطورت، بما أن المراحل المتوسطة للتطور عن الألسنة القصيرة إلى الطويلة كانت على نحوٍ افتراضي سيئة التكيف. هذا الزعم لا أساس له. للاطلاع على وصفٍ للسان الطويل والكيفية التي تطور بها بالانتخاب الطبيعي على نحوٍ مرجح، انظر موقع
http://www.talkorigins.org/faqs/woodpeck...ecker.html .
28- بينما أكتب هذا الكتاب، ظهر تقريرٌ تواً يُثبِت أن الحمض النووي المستخرج من عظام البشريين النندرثاليين يحتوي على شكل آخر للون الفاتح من الجين. من ثم، فإنه مرجح أن بعض البشريين النندرثاليين كان لديهم شعر أشقر.
29- تُعتبَر كل السلالات المختلفة من النوع Canis lupus familiaris لأنهم يمكنهم التهجن بنجاح. لو كانوا وُجِدوا كمتحجرات فقط لكانت اختلافاتهم الهائلة قد أدت إلى استنتاجنا أن هناك بعض الحواجز الجينية المانعة إياهم من التهجن، وبالتالي أنهم يجب أن يُمثِّلوا أنواعاً مختلفة.
30- لقد تكيفت الحشرات أيضاً مع كيميائيات أنواع النباتات، لدرجة أن كل شكل جديد من البقة ينمو بشكلٍ أفضل على النباتات المجلوبة التي يسكنها أكثر من أجمة الصابون العتيقة.
31- لمشاهدة وصف لكيفية تخثر الدم وكيف يمكن أن يكون السوط قد تطور من خلال الانتخاب الطبيعي، انظر كتاب Kenneth Miller "مجرد نظرية"، وكذلك M. J. Pallen and N. J. Matzke (2006) .
32- لمشاهدة الطيهوج الحكيم متبختراً في المُستعرَض أمام الإناث، اذهب إلى موقع http://
www.youtube.com/watch?v=qcWxVbT_j8..
33- أقدم كائن متكاثر جنسياً معروف حتى الآن هو طحلب أحرم، يُسمَّى على نحو ملائم Bangiomorpha pubescens. الجنسان مرئيان بوضوح في متحجراته منذ 1.2 مليار سنة ماضية.
34- إنه من الهام أن نتذكر أننا نتحدث عن الاختلاف بين الذكور والإناث في تفاوت النجاح التزاوجي. على النقيض من هذا، فإن متوسط النجاح التزاوجي للذكور والإناث ينبغي أنه متساوٍ، لأن كل نسلٍ لابد أن له أباً واحداً وأماً واحدة. في الذكور، يحوز هذا المتوسط القليل منهم منجَباً لهم معظم النسل بينما البقية ليس لهم نسل...على جانب آخر، فإن كل أنثى لها نفس العدد تقريباً من النسل.
35- عندما يُضغَط عليهم، يفسر الخلقيون ثنائيات الأشكال الجنسية باللجوء إلى الأهواء الغامضة للخالق. في كتابه (دارون في المحاكمة)، يجيب مناصر التصميم الذكي Phillip Johnson على سؤال التطوري Douglas Futuyma: "هل يفترِض علماء الخلق حقاً أن خالقهم رأى أنه ملائمٌ خلق طائر لا يمكنه التكاثر بدون ستة أقدام من الريش ثقيل التحريك مما يجعله فريسة سهلة للنمور؟" يجيب Johnson: "لا أعلم ما قد يفترضه علماء الخلق، لكن يبدو لي أن الطاووس والطاووسة هما تماماً نوع المخلوقات التي سيُفضِّلها خالقٌ ذو أهواء، لكن عملية آلية غير مبالية كالانتخاب الطبيعي ما كانت ستسمح لها بالتطور." لكن فرضيات قابلة للاختبار كالانتخاب الطبيعي تفوق بالتأكيد لجوءً غير قابل للاختبار إلى الأهواء الغامضة لخالقٍ.
36- قد تتساءل لماذا_إن تكن الإناث لديها تفضيل للصفات غير المبداة_لم تنشأ هذه الصفات قط في الذكور. أحد التفسيرات هو أن الطفرات الملائمة لم تحدث ببساطة. وآخَر هو أن الطفرات الملائمة قد حدثت، لكنها قلّلت بقاء الذكر أكثر مما عزَّزت قدرته على جذب العشيرات.
37- قد تعترض بأن هذا التوافق يثبت فقط أن كل الأدمغة البشرية متصلة عصبياً لتصنيف ما هو في الحقيقة سلسلة متصلة من الطيور عند نفس النقاط الاعتباطية. لكن هذا الاعتراض يفقد قوته عندما نتذكر أن الطيور نفسها تدرك نفس المجموعات. فعندما يحين وقت التكاثر، يتودد طائر أبي الحناء الذكر فقط إلى طيور أبي الحناء الإناث، ليس إلى طيور الدوري أو الزرزور أو الغربان الإناث. إن الطيور_كالحيوانات الأخرى_ جيدة في التعرف على الأنواع المختلفة.
38- على سبيل المثال، إن ينقرض 99% من كل الأنواع المُنتَجَة، سنظل نحتاج استنواعاً ذا معدل من نشوء نوع جديد واحد فقط لكل مئة مليون سنة لإنتاج مئة مليون نوع حي.
39- للاطلاع على عرضٍ واضح لكيفية إعادة بناء العلم للأحداث القديمة في علم طبقات الأرض والأحياء والفضاء، انظر كتاب C. Tunney (عظام وصخور ونجوم: علم متى حدثت الأشياء) Bones, Rocks, and Stars: The Science of When Things Happened. MacMillan, New York
40- هنا وصف أكثر تفصيلاً لكيفية نشوء نوع متعدد الصبغيات متباين جديد. تحمل معي، إذ رغم أن فهم العملية ليس صعباً، فإنها تتطلب تسلسل أفكار قليلة العدد. يحمل كل نوع_عدا البكتريا والڤيروسات_نسختين من كل كروموسوم (صبغي). فنحن البشر_كمثال_لدينا 46 كروموسوماً، تؤلف 22 زوجاً أو مقترناً، إضافةً إلى كروموسومي الجنس: XX في الإناث، و XY في الذكور. يورث واحد من كل زوج كروموسومات من خلال الأب، والآخر من خلال الأم. عندما يصنع أفرادُ نوعٍ الأمشاجَ (الحيوانات المنوية والبييضات في الحيوانات، اللقاح والبييضات في النباتات)، تنفصل المقترنات عن بعضها البعض، ويذهب فرد واحد من كل زوج إلى الحيوان المنوي أو حبة اللقاح أو البييضة. لكن قبل ذلك، يجب أن تصطف المقترنات وتقترن مع بعضها الآخر لكي يمكنها الانفصال بنجاح. إن لا تستطع الكروموسومات الاقتران بنجاح، لا يستطع الفرد إنتاج الأمشاج ويكون عقيماً.
إن هذا الإخفاق في الاقتران هو أساس الاستنواع تعددي الصبغيات التبايني. افترض_كمثال_أن نوعاً من النبات (فلنكن خياليين ونسمِه أ) له ست كروموسومات، أي ثلاثة أزواج من المقترنات. افترض علاوة أن له قريب، هو النوع (ب)، ذو عشرة كروموسومات، أي خمسة أزواج. سيكون الهجين بين النوعين ثمانية كروموسومات، حاصلاً على ثلاثة من النوع أ وخمسة من النوع ب (تذكر أن مشيجي كلا النوعين يحملان نصف كروموسوماتهما فقط). هذا الهجين قد يكون صالحاً للحياة ونشطاً، لكنه عندما يحاول تكوين حبوب لقاح أو بييضات يدخل في الاضطراب. حين تحاول خمس كروموسومات من نوعٍ الاقترانَ مع ثلاثة من نوع آخر تصنع فوضى. يخفق تكوين المشيج، ويكون الهجين عقيماً.
لكن افترض أن الهجين بطريقة ما استطاع مضاعفة كل كروموسوماته، رافعاً العدد من 8 إلى 16. سيكون هذا الهجين الفائق الجديد قادراً على اقتران كروموسومي سليم: فكلٌ من الصبغيات الستة من النوع أ ستجد قرينها، وبطريقة مماثلة الصبغيات العشرة من النوع ب. ولأن الاقتران يحدث على نحو سليم، سيكون الهجين الفائق خصيباً، منتِجاً حبوب لقاح أو بييضات تحمل ثمانية صبغيات. يعرف الهجين الفائق اصطلاحياً بـ allopolyploid، من الكلمتين اليونانيتين بمعنى (مختلف) و(مضاعَف عدةَ أضعافٍ). في صبغياته الستة عشر يحمل المادة الجينية الكاملة لكلا النوعين الأبويين أ و ب. وسنتوقع أنه يبدو متوسطاً بين الأبوين نوعاً ما. وقد تمكِّنه تأليفته الجديدة من السمات من العيش في كوة بيئية جديدة.
متعدد الصبغيات أ ب ليس فقط خصيباً، بل سينتِج نسلاً لو لُقِّحَ من قِبَل متعدد صبغيات مماثل آخر. كلٌ من الوالدين يسهم بثمانية صبغيات للبذرة، والتي ستنمو لتكونَ نبات أ ب ذا 16 كروموسوماً آخر، تماماً كوالديه. تؤلف مجموعة من مثل هذه المتعددات الصبغيات مجموعة سكانية متزاوجة مديمة لذاتها. وسيكون أيضاً نوعاً جديداً. لماذا؟ لأن متعدد الصبغيات أ ب معزول تكاثرياً عن كلا النوعين الأبويين. فعندما يتهجَّن سواء مع النوع أ، سينتِج متعدد الصبغيات أمشاجاً ذوات ثمانية صبغيات ثلاثة منها تعود أصلاً إلى النوع أ وخمسة من النوع ب. هذه تتحد مع أمشاج النوع أ والتي تحتوي على ثلاثة صبغيات. سيكون لدى النبات الناشئ من هذا الاتحاد 11 كروموسوماً. وسيكون عقيماً، لأنه بينما كل صبغي (كروموسوم) أ له شريك مقترن، فليس لصبغيات ب. تحدث حالة مشابهة عندما يتزاوج متعدد الصبغيات أ ب مع النوع ب: سيكون للنسل 13 صبغياً، ولا تستطيع الخمسة صبغيات الخاصة بـ أ الاقترانَ أثناء تكوُّن المشيج.
إذن، يُنتِج متعدد الصبغيات الجديد هجناً عقيمة فقط عندما يتزاوج مع أي النوعين الأبويين على السواء اللذين جلباه للوجود. لكن عندما تتزاوج متعددات الصبغيات مع بعضها الآخر، سيكون النسل خصيباً، ممتلكاً كل الستة عشر صبغياً لأبويه. بعبارة أخرى، يشكِّل متعدد الصبغيات مجموعة متزاوجة معزولة تكاثرياً عن المجموعات الأخرى، وهذا ما يحدد نوعاً حيوياً متميزاً. وقد نشأ هذا النوع بدون انعزال جغرافي، ذلك بالضرورة لأنه إذا كان نوعان سيكونان هجناً، فلابد أن يعيشا في نفس المكان.
كيف يتكوَّن النوع متعدد الصبغيات في المقام الأول؟ لا نحتاج إلى الدخول في التفاصيل الصعبة هنا عدا القول أنه يتضمن تكوُّن هجين بين نوعين أبويين، متبوعاً بسلسلة من الخطوات فيها تُنتِج تلك الهجنُ حبوبَ لقاح وبييضات حاملة مجموعات مضاعفة من الصبغيات في جيلين فقط. وكل هذه الخطوات قد وُثِّقَتْ في كلٍ من البيوت الزجاجية والطبيعة.
41- كمثالٍ على تعدد الصبغيات الذاتي، فلنفترض أن أفراد نوعٍ نباتٍ لهم 14 صبغياً، أو 7 أزواج. قد يُنتِج فردٌ أحياناً أمشاجاً غير مُقلَّلة تحتوي كلَّ الـ 14 صبغياً بدلاً من 7. لو اندمج هذا المشيج مع طبيعي، أي مشيج ذي 7 صبغيات من فردٍ آخر من نفس النوع، سيَنتُج نبات شبه عقيم له 21 صبغياً: إنه عقيم تقريباً لأن أثناء تكون المشيج، تحاول ثلاثة صبغيات مقترنات (أو قرينات أو متشابهات أو أنداد homologous) الاقتران بدلاً من الاثنين الطبيعيين، وهذا لا يعمل على نحوٍ حسن. لكن إن يُنتِج هذا الفردُ مجدداً أمشاجاً ذوات 21صبغياً غير مقللة قليلة لتتحد مع الأمشاج الطبيعية من نفس النوع، يَنتُج فردٌ ذاتي التعدد الصبغي ذو 28 صبغياً. إنه يحمل نسختين كاملتين من الجينوم الأبوي. يمكن أن تُعتبَر مجموعةٌ من مثل هؤلاء الأفراد نوعاً جديداً، لأنهم يمكنهم التزاوج مع ذاتيات التعدد الصبغي المماثلة الأخرى، لكن عندما يحاولون التزاوج مع النوعين الأبوين سيُنتِجون أفراداً عقيمين إلى حدٍ بعيد ذوي21صبغياً. هذا الذاتي التعدد الصبغي له بالضبط نفس جينات فرد من نوع أبوي واحد، لكن في أربعة أضعاف بدلاً من ضعفين.
وحيث أن ذاتي التعدد الصبغي المتكوِّن جديداً له نفس جينات نوعيه الأبويين، فكثيراً ما يشابهمها على نحوٍ وثيق. أحياناً يمكن التعرف على أفراد النوع الجديد فقط بإحصاء صبغياتهم تحت المجهر ورؤية أنهم لديهم ضعف عدد صبغيات أفراد النوعين الأبويين. ولأنهم يشابهون آباءهم، فبالتأكيد يوجد الكثير من الأنواع ذاتية التعدد الصبغي في الطبيعة والذين لم يتعرفهم عليهم بعد.
42- رغم أن حالات الاستنواع غير تعددي الصبغيات المتباين الحادثة في "وقت التجربة" نادرة، فإن هناك واحدة على الأقل تبدو جديرة بالتصديق. هذا يتضمن مجموعتين من البعوض في لندن، والتي عادة ما تُسمَّى كأنواع فرعية إلا أنها تُظهِر انعزالاً تكاثرياً هاماً. فـ Culex pipiens pipiens هي إحدى أكثر أنواع البعوض المدني شيوعاً، تضع إناثه البيض فقط بعدما يحصلن على وجبة دماء. أثناء الشتاء، يموت الذكور لكن الإناث يدخلن في حالة شبيهة بالسبات الشتوي تُدعى (التوقف الخِلاليّ) diapause. عند التزاوج، يُشكِّل الـ pipiens حشوداً كبيرة يتزاوج فيها الذكور والإناث بشكلٍ جماعيّ.
أسفل بخمسة عشر قدماً، خلال أنفاق قطار لندن التحت أرضي، يعيش نوع فرعي وثيق الصلة، هو Culex pipiens molestus، يُدعى هكذا لأنه يفضل لدغ الثدييات، خاصة الذين يركبون القطار. (لقد صار إزعاجاً حقيقياً أثناء غارة الحرب العالمية الثانية، عندما اضطر آلاف اللندنيين إلى النوم في محطات السكة الحديدية أثناء الغارات الجوية). بجانب التطفل على الفئران والبشر، لا يحتاج molestus وجبة طعام ليضع البيض، و _كما قد يتوقع المرء بالنسبة لساكني القنوات معتدلة الحرارة_يفضِّلون التزاوج في مساحات ضيِّقة ولا يتوقفون خلالياً خلال الشتاء.
الاختلاف في طريقة تزاوج هذين النوعين الفرعيين تؤدي إلى انعزال جنسي قوي بين الضربين في كلٍ من الطبيعة والمعمل. ذلك_مقترناً مع الاختلاف الجيني الهام بين الضربين_يدل على أنهما في طريقهما ليصيرا نوعين مختلفين. فإن بعض علماء الحشرات فعلياً يصنفونهما بهذه الطريقة باعتبارهما Culex pipiens و Culex molestus. وبما أن تشييد القطار تحت الأرض لم يُشرَع فيه حتى ستينيات القرن التاسع عشر، والكثير من الخطوط عمرها أقل من مئة عام، فإن هذا الحدث "الاستنواعي" ربما قد حدث خلال فترة الذاكرة المعاصرة. إن سبب كون هذه القصة ليست محكمة_رغم ذلك_هي أن هناك زوجاً مشابهاً من الأنواع في نيويورك: أحدهما فوق الأرض والآخر في أنفاق القطار النفقي الكهربي. يُحتمل أن يكون كلا الزوجين نماذج لزوجٍ متماثل ومختلف منذ زمن طويل والتي تعيش في كل مكان آخر في العالم، كل منهم قد هاجر إلى مكانه الخاص في لندن ونيويورك. ما نحتاجه لحل هذه المعضلة_وليس لدينا بعد_هو شجرة عائلة مبنية على الحمض النووي جيدة لهذا البعوض.