الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش
جامعة المولى إسماعيل - مكناس - المغرب
إن أول ما يشد انتباه الدارس لعلاقات الجزيرة العربية بالعالم البيزنطي خلال المرحلة الإسلامية، ما تغطيه أخبار الحروب والنّزاعات بين الجانبين من مساحة واسعة في المصادر التاريخية العربية والبيزنطية على السواء، وهو نفس المنحى الذي نحته الدراسات الحديثة، إذ ركزت على الصراع العربي - البيزنطي في مختلف مراحله، ولم تهتم إلا نادراً بالجانب السلمي والصلات الودية بين الطرفين. وحتى الاتفاقيات السلمية التي ترد في تلك المصادر القديمة أو الدراسات الحديثة، لم يتم تناولها إلا بكيفية عرضية في سياق سرد أحداث الحروب العربية - البيزنطية، دون تجاوز هذا السقف السردي أو طرحها كإشكالية علمية مستقلة([1]) . لذلك نزعم أن هذه الورقة ستفتح ملفاً تاريخياً قليل الإضاءة، وتساهم في إثارة بعض الأسئلة في حقل لم تسبر أغواره بشكل عميق ودقيق على الرغم من أن نصوصه ووثائقه المتوافرة تتسم بالندرة والاقتضاب والغموض والتناقض، بل تحمل أحياناً شحنة من التعصب حتى أثناء سردها لمعاهدات الصلح، وتلوذ بالصمت حول أسماء الأباطرة البيزنطيين وتواريخ عقد المعاهدات في غالب الأحيان، مما يتعذر معه الإحاطة والإلمام بهذه الحلقة المفقودة من تاريخ السلام بين الجزيرة العربية وبيزنطة. ومع ذلك نعتقد أن تجميع تلك النصوص والوثائق وإعادة تنسيقها واستنطاقها استنطاقاً جديداً يسمح بقراءة الوجه الآخر للعلاقات بين المنطقتين، ونقصد بذلك العلاقات الودية البعيدة عن صخب المعارك وقعقعة السيوف، وهي العلاقات التي تجسدت في مجموعة من المشاهد يمكن اختزالها في سعي كل طرف للتعرف على الطرف الآخر، وتبادل البعثات والسفارات بينهما، وبروز مجموعة من المراسلات والمكاتبات والحوارات الدينية بين القيادات العربية والبيزنطية، فضلاً عن عقد عدد من الاتفاقيات السلمية، وحضور أشكال متنوعة من التعاون العلمي في نسيج تلك العلاقات من قبيل المساهمة في ترجمة التراث اليوناني وانتقاله للجزيرة العربية، وتبادل الخبرات والتفاعل في مجال الموسيقى والفن والعمران، وهي المحاور التي تشكل الأطروحة التي ستسعى هذه الدراسة إلى تشريحها، والوقوف عند معالمها الكبرى.
والجدير بالإشارة أن الفضاء الزمني الذي يغطيه موضوع الدراسة يتمثل في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، ويشمل عصر النبوة والخلفاء الراشدين ومعظم العصر الأموي، وهي مرحلة تاريخية دقيقة وحاسمة تزامنت مع ظهور الإسلام كقوة كبرى، مع ما رافق ذلك من تحول عميق في مشهد العلاقات الدولية آنذاك، ونحت لمنعطف جديد في العلاقات العربية - البيزنطية.
أما بالنسبة للعالم البيزنطي، فقد شهد هذا القرن بروز الدولة البيزنطية كقوة مؤثرة في العالم المتوسطي، كما حصل مد جزر في علاقتها بدولة الفرس، انتهت عسكرياً لصالح البيزنطيين( [2])
. وتربع خلال هذا القرن على عرش الإمبراطورية البيزنطية مجموعة من الأباطرة يهمنا منهم من كان له بصمة واضحة على العلاقات الودية بين الجزيرة العربية والعالم البيزنطي، نذكرهم حسب التطور الكرونولوجي لحكمهم:
ð الإمبراطور هرقل (610-641( م) الذي عاصر النبي r (1-11 ﻫ/622-632م).
ð قنسطانز الثاني Constans II (21-48ﻫ/64-668
م) وقسطنطين الرابع Constantine IV (48-66 ﻫ /668-685 م)، وهما الإمبراطوران اللذان عاصرا معاوية بن أبي سفيان (41-60 ﻫ /661-679 م).
ðجستنيان الثاني Justinian II (66-76ﻫ/685-695م) م) وليونتيوس (76-79 ﻫ/ 695-698 م) اللذان عاصرا الخليفة عبد الملك بن مروان (65-86#65259;684-705 م).
ð جستيان الثاني في مرحلة حكمه الثانية (87-93ﻫ/705-711 م) التي تزامنت مع فترة حكم الخليفة الوليد بن عبد الملك (ﻫ/ 705-714 م).
ð ليو الثالث III(99-124ﻫ/ 717-741 م) الذي عاصر في بداية حكمه الفترة التي حكم فيها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99-101 ﻫ/ 717-719 م)([3]).
أولاً: المؤشرات الأولى للتعارف العربي - البيزنطي في بداية الحقبة الإسلامية
عرف البيزنطيون في الجزيرة العربية باسم "الروم"، وهو مصطلح ورد في القرآن الكريم، وسميت به إحدى سوره([4]). وقد ورد المصطلح بهذه الصيغة في معظم المصادر العربية تمييزاً له عن مصطلح "الفرنجة" الذي يحيل على شعوب أوروبا الغربية إبان الحروب الصليبية. كما أطلق العرب عليهم أيضاً اسم "بنو الأصفر" نسبة إلى جدهم الأول الذي كان أصفر اللون([5])، أو نسبة لشعرهم الأشقر. وقد عزا المسعودي([6]) سبب تسميتهم بالروم إلى مدينة رومية، وأمدنا ببعض التفاصيل حول نسبهم، فأرجع أصلهم إلى روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم دون أن ينكر التضارب والغموض اللذان يلفان هذا النسب.
ومع أن الجزيرة العربية كانت على صلة بالعالم البيزنطي قبل ظهور الإسلام، فإن انتشار الدعوة الإسلامية ضخ دماً جديداً في مسيرة التواصل بين المنطقتين، وطبعه بصبغة روحية وأخلاقية ساهمت في بناء علاقات إنسانية؛ ومن ثَمّ لا نساير ما ذهب إليه البعض من أحكام تتسم بالشطط، مفادها أن مرحلة النبوة تمثل (أخطر مرحلة في التاريخ الطويل للعلاقات الإسلامية البيزنطية)، وأنها تشكل جذور الصراع العربي - البيزنطي([7]).
على عكس هذه الرؤية المتسمة بالتعميم، ثمة جملة من المعطيات التي نحسب أنها تجسد جنوحاً نحو تأسيس التعارف العربي - البيزنطي وفق قواعد إنسانية ودية منذ بداية تكوّن الدولة العربية الإسلامية بالمدينة المنورة نذكر منها:
1 - المعرفة الدقيقة والاطلاع الواسع للرسول r على تاريخ الدولة البيزنطية ونسب أباطرتها، ونظامها السياسي وقوتها العسكرية، وهو ما يستشف من حديث شريف مرفوع إليه عليه السلام يقول فيه عن الروم البيزنطيين: «إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ»([8])، مما يشي بوجود قسط واسع من المعرفة لدى القيادة العربية بتفاصيل وجزئيات النظام البيزنطي ومكوناته التاريخية والحضارية.
2 - ومن القرائن الدالة على عمق معرفة الرسول r بالدولة البيزنطية أنه كان يتابع أخبار صراعها ضد الإمبراطورية الفارسية اولاً بأول، ولم يخف موقفه المتعاطف معها. وحسبنا أن خبر هزيمتها في حربها مع الفرس هزّ مشاعره على اعتبار أن البيزنطيين أهل كتاب، بينما الفرس مجوس وعبدة نار، في الوقت الذي أبدى معارضوه من قريش ارتياحاً كبيراً لانتصارهم، وظلوا يشمتون فيه حتى أنزل الله سورة الروم التي تبشّر بانتصار البيزنطيين على الإمبراطورية الفارسية بعد سنوات قليلة من هزيمتهم([9])، وهي النبوءة القرآنية التي تحققت بالتمام والكمال.
3 - وبالمثل فإن معرفة الرسول r بدولة الروم البيزنطيين واهتمامه بها، جعلته يتنبأ أيضاً بآفاقها المستقبلية، وهو ما يتضح من خلال أحاديث نبوية صحيحة نسبت إليه، ويظهر فيها بعد نظر وإدراك واسع لمستقبل حضارة هذه الدولة([10]).
4 - من جانبهم كان الصحابة الكرام يتابعون عن كثب أخبار صراع بيزنطة مع الفرس، ونسجل في هذا الصدد موقف أبي بكر الصديق المتعاطف مع "القضية البيزنطية"، ووثوقه بأن النصر سيكون حليفها حتى أنه - قبل تحريم الرهان - راهن أبي بن خلف وهو آنذاك من أكبر وجوه كفار قريش، على مائة بعير حول حتمية انتصار الروم البيزنطيين على الإمبراطورية الفارسية([11]).
5 - ولا نعدم من النصوص ما يؤكد معرفة عمرو بن العاص ومتابعته لأوضاع المجتمع البيزنطي، وهو ما جعله يستنتج أربع ميزات تفرّد بها البيزنطيون عن غيرهم من الشعوب. فهم حسب شهادته «أحلم الناس عن فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف». يضاف إلى هذه الميزات خاصية أخرى - حسب شهادته دائماً - وتتمثل في نهج ملوكهم جادة العدل وابتعادهم عن الظلم([12]). ولا شك أن هذا الكلام الوارد على لسان شخصية من كبار شخصيات المجتمع العربي في المدينة المنورة -، والمعروفة بفطنتها وبعد نظرها، يعكس مبدأ معرفة الآخر معرفة واعية ومسئولة، والوقوف على مواطن قوته المتجلية في نظامه العسكري، وحسن إدارته للأزمات السياسية والعسكرية، واعتماده قاعدة التضامن في المجال الاجتماعي، والابتعاد عن الاستبداد في المجال السياسي، وكلها مؤشرات تعكس القراءة الدقيقة والواعية من جانب القيادة العربية لنظام الدولة البيزنطية.
6 - وبالمقابل، كانت القيادة البيزنطية أيضاً على دراية بأحوال العرب في الجزيرة العربية، لا بفضل الأخبار والمعلومات التي كان يزودهم بها أمراء الثغور الموالين لها فحسب، بل لأن الإمبراطور هرقل الذي عاصر النبي r كان حسب ما تؤكده النصوص ضارباً بسهم وافر في علم النجوم. وقد تمكن من خلال استخدام هذا العلم وبحثه عن عادة الختان عند شعوب الجزيرة العربية أن يتكهن بأن نبياً سيبعث من العرب([13]).
ولدينا من القرائن ما ينهض حجة على معرفة الإمبراطور البيزنطي هرقل بالنبي محمد r وتتبع أخباره قبل وبعد مبعثه. وفي هذا الاتجاه تستوقفنا ثلاث بيانات:
- البيان الأول: هو ما تخبرنا به الروايات - إذا صحت - حول وجود مجموعة صور للأنبياء من آدم إلى محمد r في أرشيفات قصر هرقل، وهي الصور التي شاهدها هشام بن العاص بأم عينه عندما استدعاه الإمبراطور البيزنطي السالف الذكر صحبة وفد من تجار قريش إلى قصره، حيث رأى هنالك صورة النبي محمد عليه السلام ومعها صورة أبي بكر رضي الله عنه([14]).
- البيان الثاني: كان أساقفة الكنائس البيزنطية يستطلعون أخبار العرب ونبيهم محمد اعتماداً على كتبهم المقدسة. وقد كان لهم اعتقاد راسخ بأن النبي عليه السلام سيبعث من جزيرة العرب كما بشرت بذلك كتبهم. وفي هذا المنحى، تذكر المصادر أنه بعد أن تسلّم الإمبراطور البيزنطي كتاب الرسول r الذي يدعوه فيه إلى الإسلام «كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرءونه يذكر لهم أمره ويصف له شأنه ويخبره بما جاء منه، فكتب إليه صاحب رومية أنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه»([15])، وهو قول ينهض قرينة على أن طبقة رجال الدين البيزنطيين على الأقل كانت لديهم معلومات أولية حول النبي عليه السلام.
- البيان الثالث: عبارة عن حوار جرى بين الإمبراطور هرقل وهو بإيلياء، ورئيس وفد تجار قريش أبو سفيان بعد عقد صلح الحديبية مع الرسول r.
كان الحوار عبارة عن أسئلة طرحها هرقل وأجاب عنها أبو سفيان، وكان يستهدف المزيد من التعرف على شخصية الرسول r.
وتسمح قراءة هذا "الاستنطاق" الذي وصفه ابن سلام([16]) «بالحديث الطويل» أنه انطلق من ثلاث قواعد:
1 - حرص هرقل على معرفة المسائل الجوهرية في نبوة محمد للتأكد من صحتها، فضلاً عن حرصه على معرفة مكونات شخصية النبي عليه السلام.
2 - إلحاح الإمبراطور البيزنطي وحرصه أيضاً على صحة المعلومات التي كان ينطق بها رئيس الوفد بخصوص شخصية الرسول r. وقد وضع لهذا الغرض مجموعة من الحواجز النفسية أمام محاوره حتى تكون المعلومات التي يقدمها له متسمة بالثقة والمصداقية. كما أن أبا سفيان نفسه كان خلال هذا الحوار حريصاً على الحفاظ على سمعته حتى لا تتلوث كرامته بفلتة كذب في إجاباته عن أسئلة هرقل.
3 - كثافة الأسئلة وتكاملها حرصاً على المعرفة الدقيقة التي كان هرقل يروم الحصول عليها حول زعيم عربي.
أما جوهر الحوار فدار حول نسب محمد r، وما إذا كان من بيت ملك أو ادعى أحد من قومه النبوة قبله. وأثيرت أيضاً استفسارات حول ما إذا كان ضعفاء قومه يشكلون أتباعه، وهل لا يزال عددهم في تزايد أم شرعوا في الارتداد عن دعوته. كما استهدفت أسئلته معرفة الشريعة التي جاء بها محمد وما إذا كان مجتمعه يتهمه بالكذب والغدر([17]). وقد أتاحت له أجوبة محاوره أبي سفيان عن كل هذه الأسئلة أن يستنتج ويتأكد بأن محمداً هو الرسول الذي بشرت به الكتب المقدسة.
ما يعنينا من لملمة خيوط هذه البيانات الثلاث، هو كشفها عن رصيد المعلومات التي كان يملكها زعيم بيزنطي حول زعيم عربي. ومن خلالها تبرز تجليات الاهتمام البيزنطي في البحث عن شخصية محمد r سواء في الكتب المقدسة أو اعتماداً على علم النجوم، أو من خلال المراسلات والاستفسارات حوله، وهو مما شكل أول لبنة في بناء هذا التعارف العربي - البيزنطي خلال المرحلة الإسلامية الباكرة.
أما اللبنة الثانية في بناء معمار التواصل العربي - البيزنطي في هذه المرحلة فتكمن في الرسالة التي بعثها الرسول r إلى هرقل إمبراطور بيزنطة يدعوه فيها إلى الإسلام.
ودون الدخول في تفاصيل الرسالة ورد فعل هرقل تجاهها، فإن ما يلفت النظر في سياق تتبع بداية مسار التعارف العربي - البيزنطي الذي يشكل مرتكز بحثنا، يكمن في الاحترام الذي أبداه هرقل إزاء دعوته من قبل الرسول r لاعتناق الإسلام، والتقدير الذي أبان عنه تجاهه، وهو ما يعتبر مؤشراً على الطابع السلمي الذي بصم بداية التعارف بين العرب والبيزنطيين في المرحلة الإسلامية، علماً أن الإمبراطور البيزنطي الذي خرج منهكاً من حربه الطاحنة مع الفرس كان في حاجة ماسة إلى سلام يعيد به توازن إمبراطوريته، خاصة بعد أن اسْتَنْزَف مواردها المالية بسبب الدين الكبير الذي كان قد تعهد بدفعه للكنيسة إبان حربه مع الفرس([18]).
وفي ذات الآن، كان النبي r في حاجة إلى سلام حتى يتفرغ لمواجهة أعدائه بمكة، وتحقيق عالمية الرسالة الإسلامية التي تدعو للسلام.
ومن الأسس التي ارتكز عليها التعارف السلمي العربي - البيزنطي أيضاً ما نسج من روايات حول النسب المشترك بين العرب والبيزنطيين. ينهض دليلاً على ذلك الحوار الذي دار بين القائد العربي عمرو بن العاص والقائد البيزنطي فلسطين بن هرقل. فخلال هذا الحوار حرص القائد البيزنطي على إبراز النسب المشترك بين الروم البيزنطيين والعرب انطلاقاً من الأبوة المشتركة في آدم ونوح وإبراهيم وعيصو بن إسحق الذي هو أخو إسماعيل. ومن الملفت في نص الحوار الجملة المعبرة التي أنهى بها المؤرخ السالف الذكر نص الحوار حيث قال: «ووافقه عمرو على ذلك»([19])، وكأنه تعبير عن اتفاق الطرفين معاً على الإقرار بالنسب المشترك الذي يرمز إلى "ميثاق" لعدم الاعتداء، وهو في حد ذاته مؤشر هام في إدراك البعد السلمي في الصلات العربية - البيزنطية في مرحلتها الباكرة.
والجدير بالإشارة أن سياسة الخلفاء الراشدين كانت تراهن على أمن المواطن المسلم وسلامته وسلمه، وتعطيه الأولوية على حساب الحروب والفتوحات في الأراضي البيزنطية، وهو ما يفسر قولة وردت في رسالة وجهها عمر بن الخطاب لأحد عماله للاطمئنان على سلامة الجيش الإسلامي في الجبهة البيزنطية قال فيها حرفياً: «فوالله لرجل من المسلمين أحب إلي من الروم وما حوت»([20]).
وبالمثل، فإن الشعر العربي حمل دلالات معبرة تعكس الطموح لإشاعة الروح السلمية وتجاوز العداوة بين العرب والبيزنطيين رغم الحروب التي استعرت بينهم، وهو ما يشير إليه الشاعر عمرو بن الأهثم بقوله:
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم
والروم لا تملك البغضاء للعرب([21])
نستشف من كل القرائن السابقة أن التعارف بين الجزيرة العربية والعالم البيزنطي عرف منحى جديداً في بداية تأسيس الدولة العربية - الإسلامية، وتميز بحرص كلا الطرفين على معرفة الآخر، وتدعيم ذلك بمبدأ النسب المشترك والاحترام المتبادل، وتسويق فكرة انتفاء العداوة بين العرب والبيزنطيين.
ثانياً: تبادل السفارات والهدايا بين العرب والبيزنطيين
جسّد إرسال المبعوثين والرسل وتبادل الهدايا انعكاساً أميناً للصالات الودية بين البيزنطيين والعرب خلال القرن الأول الهجري الذي شمل عصر النبوة والخلافة الراشدة ومعظم العصر الأموي.
ورغم تشكيك المستشرق "جرونباوم"([22]) في صحة السفارات النبوية بناء على قراءة سطحية لا تقيم للموضوعية وزناً، فإن إجماع المصادر ومنطق الأحداث تبين أنه وقع في شراك الوهم والخطأ، فعلى الرغم مما تتضمنه الروايات العربية من ابتسار وتضارب، فإنها تؤكد أن أول مبعوث بعثه الرسول r إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل هو دحيه بن خليفة الكلبي، حاملاً معه كتابه الكريم الذي يدعوه فيه للإسلام.
وتفصح الرواية الخاصة بهذه السفارة عن الحفاوة التي تَمّ بها استقبال المبعوث النبوي من قبل العاهل البيزنطي، وحسبنا أنه لم يمزق الكتاب كما فعل كسرى فارس، بل تعامل مع السفير العربي المسلم بكل احترام وتقدير كما تدل على ذلك الكلمات التالية التي جاءت على لسان مبعوث الرسول r: «وجهني رسول الله r إلى ملك الروم بكتابه وهو بدمشق، قال فناولته كتاب النبي r فقبَّل خاتمه، ووضعه تحت شيء كان عليه قاعداً ثم نادى، فاجتمعت البطارقة وقومه... ثم خاطب أصحابه فقال: هذا كتاب النبي r الذي بشر به المسيح من ولد إسماعيل بن إبراهيم»([23]).
يشي هذا النص بجملة من المعطيات التي تفصح عن الاحترام الذي أبداه الإمبراطور هرقل للسفير ولموضوع السفارة، وللنبي r وكتابه، وهو ما تعكسه عبارة «فقبّل خاتمه» التي جاءت كرمز ودليل على هذا التقدير والاحترام. كما أن عقد اجتماع لرجال الدين والشخصيات المشدودة إلى مراكز النفوذ في المجتمع البيزنطي تكشف ما حظي موضوع السفارة من أهمية بالغة من قبل العاهل البيزنطي. وبالمثل، يكشف مضمون النص عن اعتراف من قبل هرقل بنبوة محمد r وإقرار واضح بأنه النبي الذي بشر به المسيح.
وتفصح بقية الرواية أن مبعوث رسول الله r، أدخل إلى بيت فخم عظيم البناء، حيث توجد في إحدى غرفه صور لمجموعة من الأنبياء والمرسلين ومن بينها صورة النبي r كما سنفصل بعد حين..
ويستشف من سطور الرواية أن الإمبراطور البيزنطي أولى عناية كبيرة لكتاب الرسول r حيث وضعه تحت شيء كان يقعد عليه كعلامة دالة على الاهتمام الذي خصه به، ولو أن نصاً آخر ورد عند الطبري([24]) يذكر أنه وضعه بين فخديه وخاصرته، وفي كلتا الحالتين ثمة ما يوحي بأن العاهل البيزنطي أولاه كل العناية تقديراً للرسول ومبعوثه، حتى أنه تمنى لو أنه قصد النبي شخصياً وغسل قدميه.
لم يكتف الرسول عليه السلام بإرسال مبعوث إلى هرقل، بل أضاف إلى جملة سفرائه مبعوثاً آخر وجهه على عامله الذي كان يتولى إدارة دمشق ونواحيها، وكان آنذاك نازلاً بمرج الصفر([25]).
وفي الاتجاه المقابل، تشير النصوص أيضاً إلى أن الإمبراطور البيزنطي هرقل بعث بدوره سفارة إلى الرسول r وهو بتبوك. وقد استقبل المبعوث البيزنطي بحفاوة كبيرة من جانب المسلمين، وأهديت له هدية من قبل عثمان بن عفان كرمز للتقدير الذي يكنونه للإمبراطور البيزنطي ولمبعوثه الذي بقي في ضيافة أحد الأنصار مدة لم تحددها المصادر([26]).
وتطالعنا النصوص بخبر سفارة أخرى بعثها الخليفة أبو بكر الصديق إلى البيزنطيين. وإذا كان ابن حجر العسقلاني([27]) قد أورد هذا الخبر بشكل مقتضب لا يسمح بمعرفة موضوع السفارة ولا تاريخها، ويكتفي بذكر أسماء المبعوثين الذين كانوا ضمن الوفد المتجه نحو القسطنطينية ومنهم عدي بن كعب وعبادة بن الصامت وعمرو بن العاص وأخوه هاشم بن العاص ونعيم بن عبد الله، فإن رواية الدينوري([28]) تميط اللثام عن موضوع السفارة وتاريخها، وتمدنا بمزيد من التفاصيل حول مقابلة الوفد الإسلامي للإمبراطور هرقل. فبخصوص تاريخ السفارة، تحددها الرواية بالسنة الأولى من خلافة أبي بكر أي سنة 11 ﻫ/ 632 م. أما موضوع السفارة فتؤكد أن البعثة توجهت إلى القسطنطينية بهدف دعوة هرقل لاعتناق الإسلام فهل هي المرة الثانية التي يتم فيها دعوة هرقل للإسلام؟ سؤال يثيره الغموض الذي يلف النصوص العربية أحياناً. أما بخصوص تفاصيل نشاط الوفد السفاري فيستشف من الرواية أن الإمبراطور البيزنطي خصص اليوم الأول من استقباله للوفد الإسلامي لإجراء حوار معه حول الديانة الإسلامية. وفي اليوم الثاني أمر «بعتيدة فيها بيوت كثيرة، وفي كل بيت باب صغير»، وأخذ يخرج من كل باب خرقة صغيرة تشتمل على صورة من صور الأنبياء، فيقوم بتعريفهم بالنبي الذي تظهر صورته إلى أن انتهى لصورة محمد r، فلما رآها أعضاء الوفد المسلم تأثروا وأجهشوا بالبكاء، فلما سألهم عن سبب ذلك أخبروه بأنها صورة نبيهم، فكانت هذه الإشارة دليلاً لهرقل على صحة نبوة محمد. وبقي الوفد السفاري ثلاثة أيام في ضيافة العاهل البيزنطي، عاد بعدها محملاً بالهدايا.
وفي سنة 31 ﻫ/ 651 م أرسل الإمبراطور البيزنطي قنسطانز الثاني وفداً سفارياً برئاسة رجل يدعى منويل أو بروكوبيوس إلى معاوية بن أبي سفيان الذي كان لا يزال آنذاك والياً على الشام، وكان موضوع السفارة هو طلب عقد الصلح مع الدولة العربية([29]).
وفي العصر الأموي، ارتفع إيقاع تبادل السفارات بين الجانبين. ففي سنة 46 ﻫ/ 666 م، بعث الإمبراطور البيزنطي قنسطانز بمبعوث يدعى أندرو إلى معاوية بن أبي سفيان الذي كان قد تولى الخلافة. وكان هدف الإمبراطور البيزنطي من هذه السفارة ثني عزم الخليفة الأموي عن مساعدة الأرمن الذي تمردوا على البيزنطيين، بيد أن هذه السفارة لم تحقق نجاحاً يذكر([30]).
من جهته، بعث معاوية بن أبي سفيان سنة 53 ﻫ/ 674 م مبعوثاً يدعى عبد الله بن مسعدة الفزاري إلى الإمبراطور البيزنطي الذي لم تحدد الرواية العربية اسمه([31])، ونرجح أنه يكون الإمبراطور قسطنطين الرابع الذي يتزامن حكمه مع هذه المرحلة. وللأسف فإن النص لم يفصح عن موضوع السفارة، وإن كنا لا نستبعد أن يكون الهدف منها عقد معاهدة أو صلح بين الطرفين.
وبعد سنتين حسب الرواية البيزنطية، ثم تبادل الرسل بين العرب الأمويين والدولة البيزنطية حيث أرسل معاوية بن أبي سفيان مبعوثاً إلى الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع لعقد معاهدة سلمية. وقد تَمّ تخصيص استقبال حار للمبعوث العربي من قبل العاهل البيزنطي حيث لقي من الحفاوة والكرم ما يجل عن الوصف، ثم عاد بعد نهاية سفارته ومعه مبعوث بيزنطي يدعى يوحنا بتريجوس الذي استقبل بحفاوة عربية كبيرة، ونجح في عقد معاهدة سلمية مع الأمويين([32]).
وفي عهد عبد الملك بن مروان، يرد في المصادر ذكر سفارة أخرى بعثها الخليفة الأموي المذكور إلى أحد أباطرة بيزنطة. وإذا كانت المصادر العربية لم تحدد السنة التي تمت فيها السفارة ولا اسم الإمبراطور البيزنطي، فإننا نستطيع على الأقل أن نستشف أن هذا الأخير كان إما جستنيان الثاني أو تباريوس الثالث، وهما الإمبراطوران اللذان عاصرا الخليفة الأموي المذكور، مع ترجيح جستينيان لأنه يتزامن مع المرحلة التي كان خلالها عبد الملك بن مروان في ذروة الصراع مع الجبهة المعارضة لحكمه، ومن ثمة كان في مسيس الحاجة إلى جرعة سلام مع الطرف الخارجي. أما السفير العربي فكان العلامة الشهير أبو عمرو عامر بن شرحبيل الشعبي([33]).
ومهما كان الأمر فإن الإمبراطور البيزنطي استضاف المبعوث العربي مدة لم تكشف عنها المصادر، واكتفت بتحديدها بعدة أيام. ويفهم من الرواية التي ذكرت خبر السفارة أن الإمبراطور البيزنطي أعجب بالسفير عامر الشعبي إلى حد استغرابه وتساؤله حول عدم تبوئه منصب الخلافة بدل عبد الملك بن مروان، قاصداً بذلك الإيقاع بين المبعوث وخليفته([34]).
وتحوي المصادر أيضاً خبر سفارة بيزنطية تمت في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، ويبدو أنها كانت تضم وفداً بيزنطياً كبيراً بدليل قول ابن كثير بأن البعثة شملت «جماعة من بلاد الروم رسلاً من عند ملكهم». ولا يمكن من خلال نص الرواية أن نستشف موضوع السفارة، وإن كان يغلب على الظن أنها عبارة عن زيارة تعارف ومجاملة، بدليل أن أعضاء الوفد البيزنطي دخلوا دمشق من باب البريد وانتهوا إلى الباب الكبير للاطلاع على معالم المدينة المعمارية وفنون الحضارة العربية، فرأوا ما بهر عقولهم من روعة المسجد الجامع وسحر زخرفته، إلى درجة أن رئيس الوفد صعق من هول ما شاهده وسقط مغشياً عليه، وبقي أياماً بدمشق يتماثل للشفاء. وإذا صدقنا هذه الرواية رغم ما يشم فيها من رائحة المبالغة، فإن المبعوث البيزنطي بعد أن شوفي سئل عن سبب ما تعرض له فأجاب بأنه لم يكن يتصور أن العرب قد وصلوا إلى ذلك المستوى الراقي من النهضة العمرانية([35]).
وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، تَمّ إرسال سفارة عربية أخرى إلى الإمبراطور البيزنطي "ليو الثالث" الذي تسميه المصادر "أليون"، وكان هدفها دعوة هذا الأخير إلى الإسلام. وقد كلف بهذه المهمة عبد الصمد بن عبد الأعلى بن عمرة الذي طلب من الخليفة المذكور - نظراً لأهمية السفارة - أن يرافقه وفد نحو الديار البيزنطية([36]).
وقد تبعت هذه البعثة سفارة أخرى أرسلها نفس الخليفة، وإن لم تفصح النصوص عن موضوعها، حيث اكتفت بالقول أنها أرسلت لـ«أمر من أمور المسلمين»([37]). وقد تقودنا مسالك الاجتهاد بهدف ملء هذه الثغرة إلى تقديم فرضية أن البعثة كانت من أجل تبادل إطلاق سراح الأسرى.
وتنهض أخبار هذه السفارات وتحمل الأباطرة البيزنطيين إدارتها والإشراف عليها شخصياً قرينة على عدم صحة ما ذهب إليه "ستيفن رنسمان" من أن القائد المحلي Strategus في إيطاليا هو الذي كان يتولى معالجة الشئون الخارجية مع العرب([38]) وليس الإمبراطور البيزنطي المقيم في القسطنطينية.
وإذا كانت هذه السفارات والبعثات تروم إقامة جسور الود والسلام بين عالمي العرب والبيزنطيين، فغالباً ما كان المبعوثون يعودون إلى أوطانهم محملين بالهدايا المخصصة لهم ولملوكهم تدعيماً لهذا التوجه الودي، أو سعياً لنزع أي فتيل قد يؤثر على صفاء العلاقات بين الطرفين.
وقد أثبت الدارسون أنه كان من عادات وتقاليد البلاط البيزنطي تكليف السفراء بحمل مجموعة من الهدايا لتقديمها إلى عاهل الدولة الذي يستقبلهم([39]).
وفي هذا المنحى، نعثر في متون النصوص المصدرية ما يفيد أن العاهل البيزنطي هرقل أهدى إلى الرسول r مستقة من سندس، وهي عبارة عن فراء طويل الأكمام([40])، وقد فرح عليه السلام بالهدية رغم طول أكمامها واعتبرها رمزاً للصلات الودية والسلام مع البيزنطيين([41]).
وحسب رواية ابن كثير، فإن رجلاً من الروم قد صنع للرسول r منبراً وأهداه إياه. فبعد أن كان من عادته عليه السلام أن يتوكأ على خشبة عند إلقاء خطبة الجمعة، «أتاه رجل من الروم فقال إن شئت جعلت لك شيئاً إذا قعدت عليه كنت كأنك قائم، فقال له نعم فجعل له المنبر»([42])، علماً أن المنبر أصبح متداولاً بعد ذلك في كافة أرجاء العالم الإسلامي.
كما يرد نص حول هدية أخرى أهداها هرقل إلى النبي r وهو بتبوك، وهي عبارة عن هدية مالية لم يحدد النص مبلغها. وقد ردّ عليه السلام على هدية هرقل بهدية لمبعوثه، وهي عبارة عن حلة ذات طابع إسلامي([43]).
وفي نفس المنحى، احتفى الأمويون بسخاء بالمبعوثين البيزنطيين ومنحوهم الإنعامات والهدايا الثمينة، وفي هذا الصدد، يخبرنا المؤرخ البيزنطي "ثيوفانيس" أن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع بعث سنة 58 ﻫ/ 677 م رسولاً إلى معاوية بن أبي سفيان لعقد معاهدة سلمية، فاحتفى به الخليفة الأموي احتفاء كبيراً وأكرمه بالهدايا النفيسة([44]).
ولا يخامرنا شك في أن هذه الاتصالات الدبلوماسية نجحت في خلق روح من الثقة والاحترام المتبادل بين الجانبين، فإلى جانب ما أسلفنا ذكره حول إعجاب عمرو بن العاص بنظام الدولة البيزنطية، وإشادته بتفوقها الحضاري، فقد ظل البيزنطيون بدورهم يكنون الاحترام للعرب والنبي r، وهو ما تعكسه مواقف الإمبراطور هرقل وبعض البطارقة ورجال الكنيسة كما سبق توضيحه. وبالمثل، ظل المجتمع البيزنطي يحيط بعض الشخصيات العربية بهالة من الاحترام والتقديس من قبيل الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي دفن بالقرب من سور القسطنطينية، وظل عالقاً بالذاكرة البيزنطية حيث بقي قبره مزاراً للبيزنطيين، وموضع تقديس وتقدير من قبل أهالي القسطنطينية رغم الحملات الجهادية التي خاضها ضدهم([45]). لا بل بلغت درجة تعظيمهم له أن بنوا عليه بناء وعلقوا عليه أربعة قناديل رمزاً للاحترام الذي يكنون له([46]). وكانوا يستسقون به كلما حلّت بهم كارثة مناخية فكانوا «إذا قحطوا كشفوا عن قبره فأمطروا»([47]).
وفي سياق الاحترام والتقدير الذي كان يكنه البيزنطيون لبعض الشخصيات العربية، نسجل موقف أحد الأباطرة البيزنطيين، نرجح أن يكون "ليو الثالث" بحكم معاصرته للخليفة عمر بن عبد العزيز. فقد أشارت إحدى المرويات المناقبية أن أحد المسلمين - وكان في البلاط البيزنطي ضمن بعثة لافتداء الأسرى - رأى الإمبراطور السالف الذكر حزيناً مكتئباً في اليوم الموالي لاستقباله عكس الهيئة التي كان قد رآه فيها في اليوم الأول، فلما سأله عن سبب ذلك أجاب بأنه سمع في تلك اللحظة خبر وفاة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز([48]). ولعل هذا الموقف من جانب الإمبراطور البيزنطي وتعاطفه وحزنه الشديد على وفاة خليفة عربي غني عن كل بيان، وعلامة دالة على الصلات الودية بين العرب والبيزنطيين.
ثالثاً: المراسلات والحوار حول قضايا دينية
شهد القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي مجموعة من المراسلات والمكاتبات بين مختلف حكام الدولة العربية وأباطرة الدولة البيزنطية تنوعت بين دعوة هؤلاء للإسلام، وفتح الحوار حول بعض القضايا الدينية، وإثارة مشاكل الكنائس، فضلاً عن بعض المراسلات التي تتميز بنوع من الطرافة.
ولا يساورنا الشك في أن أبرز المراسلات التي تمت بين العرب والبيزنطيين تتجسد في الرسالة الشهيرة التي بعثها الرسول r إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام وهذا نصها([49]): «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين([50])، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباب من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأننا مسلمون»([51]).
إذا حاولنا استجلاء مضمرات هذه الرسالة النبوية الموجهة للعاهل البيزنطي هرقل، نستخلص أنها تتضمن إيماءات غنية وإيحاءات قيمة لا تظهر إلا بالفحص الدقيق لأسلوبها ووضع مصطلحاتها ومعانيها تحت المجهر، فهي ليست دعوة للإسلام فحسب، بل هي دعوة للسلام أيضاً، كما هي دعوة للحوار والتفاهم على أساس قيم أخلاقية دينية مشتركة، إذ أنها لم تستهدف سلب سلطة أو طمع في احتلال أرض، أو تهديد بالويل والثبور، أو حسم الأمر في معارك عسكرية، بل هي دعوة للتواصل عن طريق نشر الحق والفضيلة. كما أنها لا تحمل نزعة الاستعلاء وتصغير الآخر، بل تنطق من مبدأ المساواة المطلقة، وهو ما تعكسه عبارة «تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم».
واحتوت هذه الرسالة على لغة خاصة تنطوي على قاعدة الاحترام والتقدير، وحسبنا أن الرسول r استعمل مجموعة من الجمل التعبيرية التي تروم تحسيس المخاطب بالتقدير والرفعة وسمو الشأن من قبيل «عظيم الروم». وهي في نفس الوقت لغة تنطق بالكياسة واللباقة، وتبعث إلى الجانب المرسل إليه إشارات الاحترام والتقدير والرغبة في السلم.
وبالمثل تتضمن الرسالة النبوية فكرة وحدة الرسل بين المسلمين والمسيحيين من خلال الآية الكريمة التي ختمت بها. ولا شك أن مثل هذا الخطاب هو تذكير للمخاطب بوحدة الأصل البشري ووحدة مصدر الديانات اللذان يرمزان إلى المصير المشترك وإلى ضرورة التعاون والتواصل والتفاعل الذي يفرضه الإيمان بالله الواحد الأحد.
وتحيل عبارة «السلام على من اتبع الهدى» الواردة في الرسالة أيضاً على الطمأنينة وزرع الثقة بين المخاطب والمخاطب، وتوسع من دائرة الكياسة التي يقوم عليها السلام والصلات الودية.
كما تجنح الرسالة النبوية للإمبراطور البيزنطي نحو تحبيب الرسالة الإسلامية إلى قلبه دون تهديد أو إكراه، وهو ما تدل عليه عبارة «أسلم يأتك الله أجرك مرتين». ناهيك عما تحويه من أسلوب خاص ينطق بالنصح والموعظة الحسنة، بعيداً عن أي شكل من أشكال التلاسن أو القذف أو الشتم والتهديد، تاركاً لهرقل حرية التفكير وتحكيم ضميره وصفاء إنسانيته. لذلك فإن الشك يحوم حول الصيغة الثانية لنفس الرسالة المنسوبة للرسول عليه السلام لهرقل والتي أوردتها بعض المصادر([52]). لأنها صيغة تتعارض مع الأولى في توجهاتها السلمية، وتحوي جملة من التلميحات باستعمال العنف والتهديد التي لا تتلاءم مع روح الإسلام ولا مع شخصية النبي الداعية للسلام.
وأتصور أن الرسالة النبوية بصيغتها الأولى قد ترجمت إلى اللغة المتداولة في المجتمع البيزنطي على غرار الرسائل الأخرى التي وجهها الرسول الكريم إلى أمراء الجزيرة العربية والإمبراطورية الفارسية([53])، وهو سلوك ينم عن تقدير لغة الآخر واحترام هويته. وإذا لم يكن ذلك، فقد وجد في بلاط هرقل من يتحدث باللغة العربية، وقام بترجمة الرسالة للعاهل البيزنطي.
وإذا كان بعض المستشرقين قد شكوا في صحة هذه الرسالة بدعوى عدم ورود نصها في سيرة ابن إسحاق، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك حجة لنفيها، لأن سكوت مصدر من المصادر عن ذكرها لا يعد قرينة دامغة([54]). ومما يدحض هذا الشك أن الرسالة وردت حرفياً في مصادر أخرى لها قيمتها من ناحية التوثيق والمصداقية "كصحيح البخاري" حيث ذكرت بنصها الحرفي ضمن سند موثوق به، ناهيك عن كون مستشرقين آخرين أقروا بصحتها، معتمدين في ذلك على مبدأ عالمية الإسلام([55]).
من جهته، يورد العسقلاني([56]) نصاً على جانب من الأهمية يؤكد صحة كتاب الرسول r إلى هرقل، وحسبنا ما أورده في روايته التي نقلها من مصادر متعددة أن أحد ملوك الفرنجة استغل فرصة استقباله لأحد سفراء السلطان المملوكي قلاوون، فأغراه بالبقاء عنده عن طريق إتحافه بشيء لم يكن يتوقعه، وأدخله إحدى غرف قصره، وفتح صندوقاً مصفحاً بذهب، وأخرج منه مقلمة ذهب، ومنها أخرج كتاباً زالت أكثر حروفه، والتصق بخرقة حرير، وأوضح للسفير أن هذا الكتاب هو رسالة النبي عليه السلام إلى هرقل، مؤكداً أن أجداده توارثوها خلفاً عن سلف، واعتبروها حصناً يثبت أركان دولتهم، ولذلك كانوا يحرصون على رعايتها والحفاظ عليها.
ومهما يكن، فقد اتسم رد فعل هرقل تجاه هذه الرسالة بالطابع الودي الذي ينم عن كثير من الحكمة والميل نحو الود والسلم. ولا نرى صحة مقولة أحد الباحثين([57]) من أن الإمبراطور البيزنطي «لم يعن بالرسالة الموجهة إليه، فكان هذا بداية الحرب بين العرب والروم». على عكس هذا التخريج المتسرع، تثبت الشواهد التاريخية أن هرقل أولى عناية خاصة للرسالة النبوية، وحسبنا أنه بعث في هذا الأمر إلى أسقف كان يعتبره من أكبر المستشارين ممن يعتد برأيهم، وقرأ عليه الكتاب، ولما تأمله هذا الأخير تأملاً دقيقاً أسدى له النصح باعتناق الإسلام. ويبدو حسب بعض الروايات أن الإمبراطور البيزنطي كان يعتزم القيام بهذه الخطوة الجريئة لولا تخوفه من ردّ فعل المجتمع البيزنطي([58]). وفي رواية أخرى أنه جمع أعيان دولته في دسكرة - وهي بناء على هيئة قصر كبير - وناقش معهم موضوع الرسالة النبوية. وخلال هذا الاجتماع أبدى اعترافه وإقراره بنبوة محمد، فتبرّم منه المجتمعون، فلما تأكد له معارضتهم لفكرته، استخدم ذكاءه في مراجعتهم وتأويل قراره بأنه كان يستهدف التأكد من رسوخ إيمانهم والثبات على عقيدتهم([59]).
لا نملك نص رد كتابي لهرقل على رسالة النبي r، والراجح أنه اكتفى بجواب شفهي يبدي فيه احترام الرسول عليه السلام واعترافه بنبوته، وتقديره للدعوة الإسلامية إلى درجة أنه تمنى أن يدخل الإسلام لولا خوفه من رد الفعل العنيف من الكنيسة والمجتمع البيزنطي. ويبدو أن الرواة الذين أوردوا نص رسالة جوابية كتابية زعموا أن هرقل بعثها للنبي r يعلن فيها اعتناقه للإسلام، فيه كثير من المبالغة والقفز على ألياف الواقع([60])، لذلك حق لأحد الباحثين اعتبار هذا الزعم «من شطحات خيال بعض المؤرخين»([61]).
بيد أن ابن سلام([62]) يورد خبر رسالة بعثها هرقل إلى النبي r وهو بتبوك مع مبعوث خاص له يدعى التنوخي قرأها على مسامعه معاوية بن أبي سفيان. ومن أسف ابن سلام لم يذكر فحوى الرسالة التي تمكننا من معرفة ما إذا كانت هي الرسالة الجوابية على الرسالة التي حملها إليه دحية بن خليفة الكلبي، أم أن الأمر يتعلق برسالة أخرى. وأياً ما كان الأمر، فيتضح من خلال سياق الخبر أنها رسالة تنضح بمعاني الود والاحترام والرغبة في السلام وتوطيد العلاقة مع العرب، حتى أن حاملها حظي بهدية عربية نفيسة، واستضافه الأنصار بكرم وحفاوة، وكان هو نفسه يحمل هدية إلى الرسول r، ولكن الرسالة لا تتضمن أي إشارة حول إسلام هرقل.
ويتوفر التراث النبوي أيضاً على رسالة نبوية وجهت إلى ظغاطر أسقف البيزنطيين بالقسطنطينية، يؤكد فيها عليه السلام على وحدة الأنبياء والرسل. كما بعث برسالة أخرى إلى مريحنة بن رؤبة أسقف أيله، يوصيه خيراً بمبعوثيه، ويدعوه إلى الإسلام أو إعطاء الجزية، مذكراً إياه كذلك بوحدة الديانات السماوية والرسل([63])، وكلها رسائل تفيض بمعاني الود والسلم.
وعلى غرار العصر النبوي، شهد العصر الأموي كذلك مجموعة من المراسلات بين الأمويين والبيزنطيين؛ فالمسعودي([64]) يشير في سياق حديثه عن معاوية بن أبي سفيان أنه كان بينه وبين أحد ملوك الروم "مراسلات ومهادنات" حتى قبل توليه الخلافة، وكان له غلام يدعى فناق الرومي يتكلف بمهمة إيصال الرسائل بين الطرفين.
ومن بين المراسلات الطريفة التي سجلتها المصادر تلك الرسالة التي بعثها أحد أباطرة بيزنطة إلى معاوية بن أبي سفيان، وبعث مع الرسالة رجلان أحدهما طويل القامة والآخر قوي الجسم والبنية. وقد أبان فيها عن تحديه للخليفة الأموي أن يجد في بلده من يضاهي الرجل الأول في طول قامته والثاني في قوة عضلاته. فاستشار معاوية عمرو بن العاص الذي أشار عليه بقيس بن سعد بن عبادة ليضاهي الرجل الطويل القامة، بينما ترك اختيار الرجل العربي القوي البنية والعضلات للخليفة معاوية الذي اختار محمد بن الحنفية لهذا التنافس. فلما بدأ مجلس التباري رمى قيس بن سعد بن عبادة بسرواله إلى الرجل البيزنطي فلبسه حتى بلغ ثدييه. أما محمد بن الحنفية فنافس الرجل البيزنطي القوي البنية، فتمكن من إظهار قوة عضلاته على منافسه([65]).
ولدينا من المراسلات التي تحمل شحنة من التحدي والسعي لإثبات الذات، وهو ما تعكسه المراسلة التي تمت بين الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وجستنيان الثاني. ويرجع سبب هذه المراسلة إلى أن الخليفة المذكور كان أول حاكم عربي كتب في أعلى القراطيس المعدة لكتابة الرسائل الآية الأولى من سورة الإخلاص، مع عبارة الصلاة على النبي، وكان الأمويون قبل ذلك يكتبون على الورق الوافد إليهم من بيزنطة عن طريق مصر، وهو الورق الذي يتضمن شارات الدولة البيزنطية. ولم يستسغ العاهل البيزنطي هذا الأمر، فراسل الخليفة الأموي محذراً: «إنكم أحدثتم في طواميركم شيئاً من ذكر نبيكم، فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا ذكر ما تكرهونه»([66]).
ويبدو أن هذا التهديد لم ينفذ، فقد أمر عبد الملك بن مروان بسك دنانير عربية بديلة للدنانير البيزنطية حتى يسحب البساط من تحت أقدام العاهل البيزنطي([67])، وهو إجراء يفسر برغبة الدولة الأموية في تأميم السكة وتعريبها، والسعي لتحقيق الاستقلال المالي عن البيزنطيين، وبالتالي حماية الاقتصاد الأموي والحيلولة دون إحداث عمليات الغش والتزوير في العملة.
وتنبث في ثنايا المتون المصدرية خبر رسالة وجهها أحد الأباطرة البيزنطيين - جستينيان - إلى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان مع مبعوث كان قد أرسله إليه الخليفة نفسه وهو أبو عامر الشعبي السالف الذكر، طالباً منه عدم الاطلاع على الرسالة إلى حين تسليمها لخليفته، وفيها أبدى الإمبراطور البيزنطي استغرابه لعدم تنصيب المسلمين لمثل هذا المبعوث خليفة عليهم لما يتميز به من شخصية قوية وكفاءة عالية. وقد فهم الخليفة الأموي أن الهدف يكمن في الإيقاع بينه وبين مبعوثه. وعندما سمع الإمبراطور البيزنطي رد فعل عبد الملك بن مروان، اعترف بفشل مراسلته التي سعى من خلالها للإيقاع بينهما([68]).
وتختزن المصادر العربية أيضاً نص مراسلة كتابية أخرى جرت بين الخليفة الوليد بن عبد الملك وأحد أباطرة البيزنطيين دون تحديد اسمه، يحتمل أن يكون جستينيان الثاني خلال مدة حكمه الثانية التي تزامنت مع فترة حكم الوليد بن عبد الملك. وقد تمت بمناسبة قرار هذا الأخير تحويل إحدى كنائس دمشق إلى مسجد، وهو المسجد الأموي. ومما ورد في هذه الرسالة: «إذا كان أبوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه فإنه وصمة عليك، وإن لم يكن فهمه وفهمته أنت لوصمة عليه». ولما تبيّن للوليد ضرورة الجواب عن هذه الرسالة، جمع أعيان الكتاب للرد عليه، وكان من بينهم الشاعر الفرزدق([69]).
بيد أن هذا التوتر في المشاعر لم يحل دون تبادل الأفكار والآراء والاستشارات بين الأمويين والبيزنطيين، فعند بناء المسجد السالف الذكر، عثر البناة في حائط المسجد القبلي على لوح من حجر يتضمن نقوشاً كتابية، فأصدر الخليفة الوليد بن عبد الملك أمره بإرسال هذا النقش إلى بيزنطة لفك شفرات مضمون النص المكتوب عليه. ورغم أن البيزنطيين لم ينجحوا في فك لغز النقش([70])، فإن هذه الاستشارة تعكس وجهاً آخر من مشاهد الصلات الودية بين العرب والبيزنطيين.
وتكشف بعض النصوص أيضاً عن نوعية أخرى من المراسلات التي تتضمن جدلاً دينياً بين العرب والبيزنطيين، واستفسارات حول مسائل عقائدية.
ويعزى الجدل الديني حسبما يرجحه البحاثة أسد رستم([71]) إلى أن الخلفاء العرب كانوا بمجرد ما يتولون دفة الحكم، يبادرون إلى دعوة الملوك المعاصرين لهم بما في ذلك البيزنطيين إلى اعتناق الإسلام، لذلك كان يضطر هؤلاء إلى الرد عليهم في شكل حوارات دينية. كما أن تعاظم عملية التحول عن المسيحية إبان اكتساح العرب للأراضي البيزنطية، كان يقتضي أيضاً تقوية مناعة العقيدة لدى المسيحيين. وأضيف إلى ذلك حسب تصوري أن القادة البيزنطيين كانوا يسعون لاختبار مدى إلمام بعض الأمراء العرب المسلمين ببعض القضايا الدينية المستعصية على الفهم والإدراك.
ومع أن الأباطرة البيزنطيين الذين جاءوا بعد هرقل لم يكترثوا كثيراً بالدعوة الإسلامية، واعتبروها خروجاً عن الكنيسة الأم([72])، فقد أثيرت عدة قضايا ضمن سلسلة حلقات الجدل الديني بين العرب والبيزنطيين حول العقيدتين الإسلامية والمسيحية، ناهيك عن مسائل دينية أخرى.
في هذا المنحى يخبرنا السيوطي([73]) عن مراسلة تمت في العصر الراشدي بين الخليفة عمر بن الخطاب وأحد الأباطرة البيزنطيين نرجح أن يكون قنسطانز الثاني، وفيها يسأل الخليفة الراشدي عن معنى شجرة ليست بخليقة شيء من الشجر، تخرج مثل آذان الحمير، ثم تنشق عين مثل اللؤلؤ ثم يخضر فيكون كالزمرد ثم يحمر فيكون كالياقوت الأحمر، ثم ينبع فينضج فيكون كأطيب فالوذج أكل ثم ييبس فيكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر، ويتساءل الإمبراطور البيزنطي عَمّا إذا كانت هذه الشجرة من أشجار الجنة. فكان جواب عمر بن الخطاب كما يلي: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم، إن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا هي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها». وقد اهتبل الخليفة الراشدي فرصة هذا الحوار الديني ليطلب من الإمبراطور البيزنطي التخلي عن القول بالطبيعة الإلهية لعيسى عليه السلام، مؤكداً له أن هذا الأخير بشر خلقه الله مثل آدم من تراب.
وعلى شاكلة هذه الاستفسارات الدينية، بعث أحد أباطرة بيزنطة إلى معاوية بن أبي سفيان مراسلة تتضمن أسئلة حول قضايا دينية وكونية، نذكر منها:
- أحب الكلام عند الله عزّ وجلّ.
- أكرم الإمام عند الله عزّ وجل.
- أربعة زرعت فيهم الروح دون أن يرقدوا في رحم.
- قبر سار بصاحبه.
- مكان في الأرض لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة.
- ما هو قوس قزح وما هي المجرة؟
وللرد على أسئلة الإمبراطور البيزنطي، استدعى معاوية بن أبي سفيان عبد الله بن عباس الذي تمكن من الإجابة عن هذه الأسئلة برمتها، ولما قرأها الإمبراطور البيزنطي، استنتج بفطنته أنها ليست من أجوبة معاوية، وإنما أجاب عنها أحد من آل البيت.
رابعاً: الاتفاقيات السلمية العربية - البيزنطية في القرن الأول الهجري/
السابع الميلادي
بعد انتشار الإسلام، عرفت علاقة الجزيرة العربية مع كافة شعوب العالم منعطفاً حاسماً يصب في اتجاه السلم والتعايش. وبحكم أن الذهنية الإسلامية تصنف البيزنطيين في خانة أهل الكتاب ومعتنقي الديانات السماوية، فإن دولتهم تكون - حسب هذا التصور - أقرب الدول إلى العرب المسلمين في علاقاتهم الدولية، لذلك كان بديهياً أن يقع التقارب بين الجانبين رغم الاحتكاكات العسكرية.
وغير خاف أن الرسول r كان رجل سلام دون منازع، إذ لم ينهج الأسلوب الحربي إلا للدفاع عن النفس وتأمين حرية الدعوة الإسلامية. فمنذ بداية اتصالاته الأولية مع الروم البيزنطيين، عقد صلحاً مع يوحنا بن رؤبة صاحب أيله مقابل جزية حددت في ثلثمائة دينار، كما صالح أكيدر بن عبد الملك الذي كان نصرانياً على أن يدفع له جزية سنوية، وصادق الطرفان معاً على كتاب الصلح([74]). أما الحملات العسكرية التي بعثها لخوض غمار المعارك مع البيزنطيين، فلم تكن إلا نتيجة لفشل جهود السلام معهم.
ومع تواصل الفتوحات الإسلامية، جعل العرب من الصلح مبدءاً ثابتاً في علاقتهم بالأهالي البيزنطيين الذين فتحت أراضيهم، وحسبنا أن القائد العربي خالد بن الوليد وهو يعتزم فتح مرج الصفر «خرج إليه عظيم الروم يلتمس الأمان للمدينة فأمّنه»([75]).
وتزخر نصوص البلاذري بمجموعة من الأحداث التي تشير إلى التزام العرب المسلمين بالمنهج السلمي القائم على الصلح في معظم الأراضي البيزنطية التي كانوا يرومون فتحها، مما يغنينا عن التفصيل في هذا الجانب، ويكفي الإشارة إلى كتابي الصلح اللذان عقدهما خالد بن الوليد مع أهالي دمشق وحمص([76]) للدلالة على مدى سعي العرب الفاتحين لجعل السلام جسر تواصل مع الأهالي البيزنطيين.
وبعد الاستقرار الذي شهدته الدولة العربية عقب انتهاء الفتوحات الإسلامية، أخذ البيزنطيون يفكرون في عقد اتفاقيات سلمية مع الأمراء العرب في الثغور، خاصة في بلاد الشام التي كانت تمثل تخوم شمال الجزيرة العربية. وفي هذا الصدد يشير المؤرخ البيزنطي "ثيوفانيس" إلى معاهدة سلمية وقعت بين الدولة البيزنطية والدولة العربية في العصر الراشدي، وكان يمثلها معاوية بن أبي سفيان، وهو والي بلاد الشام آنذاك. ودخل مفعول المعاهدة ابتداء من 28 ذي الحجة من عام 29 ﻫ لينتهي في 8 محرم من عام 31 ﻫ (1 سبتمبر 650 م إلى 31 غشت 651 م)([77]).
وإذا كانت الرواية العربية لم تحدد أسباب عقد هذه المعاهدة السلمية، فإن الرواية البيزنطية تلقي بعض الأضواء حول الموضوع، إذ يشير "ثيوفانيس" إلى أن القائد العربي بشر بن أرطأة توغل في الأراضي البيزنطية وحمل معه 500 أسير، مما جعل الإمبراطور قنسطانز يرسل إلي معاوية بن أبي سفيا مبعوثاً خاصاً يعرض عليه رغبته في عقد اتفاقية للسلام، فقبل معاوية العرض شريطة أخذ بعض الرهائن ومن بينهم جريجوري ابن تيودور شقيق الإمبراطور لضمان تنفيذ الاتفاقية([78]). ويؤكد المؤرخ النصراني أجابيوس بن قسطنطين المعروف بالمنجبي هذه المعاهدة، مع اختلاف بسيط في تحديد سنة عقدها واسم المبعوث الذي بعثه الإمبراطور البيزنطي لتوقيعها([79]).
وقد أثارت الرواية العربية أيضاً هذه المعاهدة إذ أورد كل من البلاذري([80]) وابن سلام([81]) خبرها دون ذكر اسم الإمبراطور البيزنطي الذي عقدت معه أو السنة التي وقعت فيها. وقد نصّت في أحد بنودها على أن يؤدي معاوية بن أبي سفيان مبلغاً مالياً للبيزنطيين مقابل احتجازه بعض الرهائن، بيد أنهم لم يلتزموا بنصوص المعاهدة، ومع ذلك لم ينتقم الخليفة الأموي من الرهائن، بل أطلق سراحهم.
ويبدو أن الطرف العربي كان أكثر حرصاً على احترام الاتفاقيات السلمية، انطلاقاً من وازع ديني وأخلاقي. وفي هذا المعنى أورد ابن سلام([82]) ما يؤكد ذلك، فبعد أن تعرض لخبر المعاهدة التي عقدها والي الشام معاوية بن أبي سفيان مع البيزنطيين والتي دامت حوالي سنتين، بدأت جيوش هذا الأخير في التوغل داخل حدود الأراضي البيزنطية التي تشملها المعاهدة في انتظار انتهاء تاريخ مفعولها واستئناف الإغارة عليها، إلا أن الصحابي الجليل عمر بن عنبسة حذّر معاوية ونبهه إلى وجوب احترام العهد، وعدن شنّ أي هجوم حتى يتم إعلام العدو، وإلا اعتبر ذلك غدراً وإخلالاً بالمعاهدة جرياً على السنة النبوية.
وتشير المصادر أيضاً إلى اتفاقية سلمية أخرى بين معاوية بن أبي سفيان خلال فترة نزاعه مع علي بن أبي طالب. فقد استغل الإمبراطور قنسطانز الثاني ظروف الانقسام العربي بسبب هذا الصراع، وعزم على التوغل في بعض الأراضي الإسلامية المتاخمة لدولته. وهنا تتضارب الروايات العربية، فابن كثير([83]) يذكر أن معاوية كتب إلى الإمبراطور البيزنطي محذراً: «والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكفأ، وبعث يطلب الهدنة، ثم كان من أمر التحكيم ما كان».
أما الطبري([84]) والدينوري([85]) فيخالفان ابن كثير ويذكران أن عمرو ابن العاص هو الذي أشار على معاوية بن أبي سفيان بضرورة مسالمة الإمبراطور البيزنطي وشراء السلام بالمال، وإطلاق سراح الأسرى، فاستجاب معاوية لنصيحة عمرو بن العاص فعقد المعاهدة مع قنسطانز الثاني([86]).
ولا نتردد في تغليب الرواية الثانية باعتبارها أقرب إلى المنطق، لأن معاوية بن أبي سفيان كان في حاجة في حربه مع علي بن أبي طالب إلى سلام مع الجانب البيزنطي حتى يضرب عصفورين بحجر واحد. ونعلم أيضاً أن عمرو بن العاص كان داهية وسياسياً بارعاً، فلم يكن صدفة أن يصدر عنه رأي من هذا القبيل.
ومهما كان الأمر فقد وقعت هذه الاتفاقية في تاريخ غير محدد، ولو أن إشارة ابن كثير بأنها وقعت قبل بداية التحكيم تسمح بالاستنتاج أنها كانت ما بين سنتي 35 و37 ﻫ/ 655-657 م)، وهو ما يتوافق مع رواية المؤرخ ميخائيل السرياني الذي أورد أن معاوية بن أبي سفيان عقد هدنة مع الإمبراطور قنسطانز الثاني أثناء نزاعه مع علي بن أبي طالب([87]).
ومع استقرار أمور الدولة العربية في العصر الأموي، بدأت فترة من الصراع المرير مع البيزنطيين، ومع ذلك لم يخل هذا العصر من عدد من الاتفاقيات السلمية خاصة مع معاوية بن أبي سفيان الذي كانت له مع أحد ملوك بيزنطة «مراسلات ومهادنات»([88]).
وغير خاف أن الأمويين يجسدون آمال الطبقة التاجرة القرشية التي كانت تدرك قيمة وأهمية التجارة المتوسطية ودورها في ربط الاقتصاد المتوسطي باقتصاد الشرق الأوسط، وهو ما فطن إليه أحد الباحثين([89]) حيث ذهب إلى القول أن الصراع العربي - البيزنطي خلال العصر الأموي كانت تحركه مصالح اقتصادية. ومعلوم أن طبقة التجار تجنح دائماً للسلم لتسهيل ظروف مشروعاتها التجارية، لذلك لا غرابة أن يكون الأمويون أكثر حرصاً على عقد المعاهدات السلمية رغم الحروب الطاحنة التي خاضوها مع البيزنطيين، والتي لم يكن الهدف منها سوى السيطرة على منافذ التجارة، وربط الاقتصاد المتوسطي بالمحاور التجارية لشمال الجزيرة العربية.
ومن الإشارات الأولى التي توردها المصادر حول الاتفاقيات السلمية المنعقدة بين الأمويين والبيزنطيين، إشارة كل من المسعودي([90])، والنويري([91]) إلى أن معاوية بن أبي سفيان هادن الإمبراطور البيزنطي قنسطانز الثاني وابنه قسطنطين الرابع الذي يسميه المسعودي مورق بن مورق.
ويلاحظ أن الروايتين السابقتين لا تحددان سنة عقد الاتفاقية السلمية التي تمت بين العرب والبيزنطيين، على عكس رواية خليفة بن خياط([92]) الذي حددها في سنة 41 ﻫ، وأضاف اليعقوبي إلى ذلك الأسباب التي حدت بمعاوية إلى عقد تلك الاتفاقية، والمتمثلة على الخصوص في حاجته الماسة إلى ترتيب أمور دولته بعد البيعة التي بويع بها من طرف مختلف التيارات الإسلامية. يقول اليعقوبي([93]): «ورجع معاوية إلى الشام سنة إحدى وأربعين، وبلغه أن طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم، فخاف عمّا يحتاج إلى تدبيره وإحكامه، فوجه إليه فصالحه على مائة ألف دينار.. وكان معاوية أول من صالح الروم، وكان صلحه إياهم في أول سنة اثنين وأربعين، فلما استقام الأمر لمعاوية أغزى أمراء الشام على الصوائف فسبوا سنة بعد سنة... وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال فلم يجبه».
ويستشف من رواية اليعقوبي أنها تتضمن الإخبار عن صلحين: أولهما جرى سنة 41 ﻫ/ 661 م عندما كان لا يزال والياً على الشام، أي قبيل توليه الخلافة بمدة قصيرة. أما الاتفاقية الثانية فكانت سنة 42 ﻫ/ 662 م عندما أصبح خليفة على المسلمين، وهو ما جعل اليعقوبي يخرج بانطباع مفاده أن معاوية «كان أول من صالح الروم» في تلك السنة باعتبار أن الصلح السابق تَمّ قبل ولايته الخلافة. ومما يؤكد هذا الاستنتاج ما ذكره نفس المؤرخ في موضع آخر حين قال: «وغزا بالناس في ولايته سنة 41 ﻫ، وجه حبيب بن مسلمة، فصالح الروم وكره أن يشغله»([94]). فورود مصطلح "ولايته" في سنة 41 ﻫ، يفهم منه أن معاهدة عام 42 ﻫ التي عقدها معاوية - وهو خليفة - كانت نتيجة لاتفاقية سنة 41 ﻫ التي عقدها قبل خلافته بمدة يسيرة([95]).
وثمة اتفاقية سلمية ثالثة عربية - بيزنطية تمت كذلك في عهد معاوية بن أبي سفيان يسرد ابن الطقطقي([96]) تفاصيلها دون تحديد لتاريخ عقدها أو اسم الإمبراطور البيزنطي الذي عقدت معه. وحسب تلك الرواية، فإن الخليفة الأموي السالف الذكر بعث رسولاً من أقاربه لعقد هدنة مع البيزنطيين، وأمره بالتشدد في شروط المفاوضات، بيد أن الإمبراطور البيزنطي ساوم المبعوث العربي وأغراه بالمال حتى خفف عنه الشروط، وأمضى أمر الهدنة، ثم رجع المبعوث نحو معاوية الذي انتقده وأقاله من مهمته بسبب التفريط في شروط المفاوضات.
أما الاتفاقية السلمية الرابعة التي عقدها معاوية بن أبي سفيان مع البيزنطيين وهو في موقع الخلافة أيضاً فتمت سنة 58 ﻫ/ 678 م. وقد حددت مدتها في ثلاثين سنة. وتقتضي هذه المعاهدة التزام الخليفة الأموي بدفع ضريبة سنوية مقدارها ثلاثة آلاف قطعة من الذهب وخمسون عبداً وخمسون حصاناً عربياً أصيلاً، مع إطلاق سراح خمسين أسيراً من البيزنطيين([97]).
وكعادته، يعرض المؤرخ البيزنطي "ثيوفانيس" أسباب هذه الاتفاقية فيرجعها إلى القلاقل والاضطرابات التي أثارها الجراجمة المقيمون في الثغور الإسلامية المتاخمة للدولة البيزنطية، مما سبّب قلقاً لدى معاوية، وهو ما حدا به إلى إرسال سفارة للإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع لتأمين سلامة حدود بلاده الشمالية. وخلال هذه السفارة، حظي المبعوث الأموي باستقبال رائع من قبل العاهل البيزنطي، ولقي كل أشكال الحفاوة. وبدأت المفاوضات في القسطنطينية، ثم عاد السفير إلى العاصمة الأموية مصحوباً بالمبعوث البيزنطي لدى الإمبراطور لتتمة المفاوضات التي انتهت بالمصادقة على الاتفاقية، واحتفظ كلا الطرفان بنسخة منها. وبعد عقد الاتفاقية عاد السفير البيزنطي إلى القسطنطينية محملاً بالهدايا الثمينة، وهو مؤشر لا يقبل الجدل حول نجاح سفارته([98]).
ويرجع بعض الدارسين([99]) أسباب عقد هذه المعاهدة إلى أن معاوية بن أبي سفيان كان يتوخى منها تهييء ظروف انتقال الخلافة إلى ابنه يزيد في مناخ سلمي، وبالتالي إبعاد الخطر البيزنطي من دائرة المطبات التي قد تعيق توريثه الخلافة.
ويتولى عقد الاتفاقيات السلمية في شكل معاهدات أو صلح بين العرب والبيزنطيين في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وهو ما يؤكده المؤرخ ابن الأثير([100]) بقوله: «صالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدي له كل جمعة ألف دينار خوفاً على المسلمين».
وتسمح قراءة هذا النص الذي لم يفصح كذلك عن اسم الإمبراطور البيزنطي ولا السنة التي وقعت فيها معاهدة الصلح بالقول أنه حصر أسباب اتجاه الخليفة الأموي لعقدها في تخوفه على مصير المسلمين المقيمين بالقرب من الحدود البيزنطية. كما يكشف عن مقدار المبلغ المالي الذي التزم بأدائه للبيزنطيين.
وتأتي رواية البلاذري([101]) وابن كثير([102]) وابن العماد([103]) لتملأ هذه الثغرة فتحدد تاريخ عقد الصلح بسنة 70 ﻫ ، مما يعني أن المعاهدة أبرمت في عهد جستنيان الثاني. كما أنها تميط اللثام عن أسباب إقدام عبد الملك بن مروان على إبرام هذا الصلح "المهين". وتتمثل في تأزم الوضعية الداخلية للدولة الأموية خلال تلك المرحلة حيث كثر الخارجون عنها سواء من البيت الأموي نفسه أو من المعارضين لها كالخوارج وأتباع ابن الزبير، مما جعل الخليفة الأموي المذكور يسارع لخطب ودّ الإمبراطور البيزنطي من أجل تثبيت بيعته وإحكام قبضته على الحكم. ويعلق ابن العماد على هذه الاتفاقية بأنها «أول وهن دخل على المسلمين والإسلام»([104])، تعبيراً منه على الشروط المجحفة التي فرضها البيزنطيون على العرب الأمويين بسبب التشرذم والانقسامات الداخلية. بيد أن بعض الدارسين المحدثين([105])، اعتبروا مبادرة عبد الملك بن مروان لشراء السلم بالمال في مثل تلك الظرفية المتأزمة نصراً تمكن من خلاله إبعاد خطر الجراجمة. وبالتالي فتح له الطريق نحو القسطنطينية.
ولعلّ من الثمار الهامة التي تمخضت عن هذه البعثات والسفارات بين العرب والبيزنطيين، إطلاق سراح بعض الأسرى من الجانبين كوجه آخر من وجوه الصلات الودية بينهما.
وفي هذا المنحى، أسلفنا الذكر أن معاوية بن أبي سفيان أطلق سراح 500 أسير بيزنطي ضمن بنود معاهدة سلمية عقدها مع الإمبراطور قسطنطين الرابع([106]). وبالمثل، كان شراء عبد الملك بن مروان جزيرة مالطة من البيزنطيين مقروناً بإطلاق سراح مائة ألف أسير بيزنطي إذا تجاوزنا طابع المبالغة الذي يوحي به هذا العدد الضخم من الأسرى([107]).
وجرى أحياناً تبادل الأسرى بين العرب والبيزنطيين، ففي نص مناقبي يذكر ابن نعيم([108])، أنه تَمّ تبادل الأسرى بين الطرفين خلال عهد عمر بن عبد العزيز الذي أعطى هذه المسألة الإنسانية جهده ووقته، فكان «يعطي برجل من المسلمين عشرة من الروم»([109]). وقد حرص الفقهاء على افتداء الأسرى، وحسبنا أن الفقيه الأوزاعي كتب رسالة إلى الخليفة أبي جعفر المنصور يحثه فيها على افتداء الأسرى([110])، ولو أن الرسالة ترجع للقرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي.
وفي الاتجاه ذاته يورد ابن سعد([111]) في إحدى تراجمه أن أهل عائلة بيزنطية طلبوا افتداء غلام رومي صغير وقع أسيراً في أيدي المسلمين. وبعد جدل حول قبول الطلب من رفضه، تَمّ افتداؤه.
وبذلك تكون المساعي الحميدة المبذولة لإطلاق سراح الأسرى من البيزنطيين والعرب قد ساهمت إلى حدّ كبير في إشاعة الدفء في الصلات الودية بين العرب والبيزنطيين.
خامساً: التعاون العربي - البيزنطي في المجال العمراني والفني والعلمي
يعد هذا الشكل من التعاون في مجال العمران والفن والثقافة من العلامات المضيئة في الصلات الودية العربية - البيزنطية خلال القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي.
ورغم ضآلة النصوص التي تلقي شعاعاً من الضوء حول هذا الموضوع، فإنها على جانب عظيم من الأهمية، إذ أنها تؤكد انتقال بعض العمال البيزنطيين والمتخصصين في مجال البناء إلى الجزيرة العربية، كما تفصح عن مساعدات فنية بيزنطية للعرب. وقد تَمّ ذلك بشكل لافت في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الذي كتب رسالة سنة 88 ﻫ/ 707 م إلى أحد الأباطرة البيزنطيين لم تذكر المصادر اسمه، يخبره أنه بصدد إصلاح المسجد النبوي بالمدينة المنورة ويطلب منه تقديم مساعدة فنية من العمال والخبراء، فاستجاب الإمبراطور البيزنطي الذي نرجح أن يكون جستنيان الثاني لرغبة الوليد بن عبد الملك، فبعث إليه مائة عامل متخصص في مجال البناء، وأربعين حملاً من الفسيفساء، فضلاً عن مبلغ مالي قدر بألف مثقال من الذهب([112]). ويضيف البلاذري([113]) إلى ذلك كمية من الرخام بعثها إليه الإمبراطور البيزنطي السالف الذكر.
وقد ألقى أحد الباحثين([114]) بظلال الشك حول هذه الرواية التي تنص على استقدام عمال بيزنطيين لإصلاح المسجد النبوي تحت حجة أن الدولة البيزنطية كانت تناصب العداء للدولة العربية في عهد الوليد، واعتبر ذلك مجرد «فكرة أسطورية تتردد في المصادر العربية». بيد أننا نميل إلى التسليم بصحتها تأسيساً على أن فكرة العداء والحرب لم تقطعا حبل الصلات الحضارية بين الطرفين، والدليل على ذلك حضور بصمات الفن البيزنطي في العمران العربي - الإسلامي كما سنأتي على ذكره. وإذ كان الموسيقيون والمغنون البيزنطيون قد وفدوا على الحجاز كما سنذكر أيضاً، وإذا كانت لغة الإدارة والعملة المستعملة في بداية العصر الأموي وحتى عهد عبد الملك بن مروان هي اللغة والسكة البيزنطيين إلى جانب الفارسية، فما المانع من مشاركة البنائين البيزنطيين في إصلاح وإعادة بناء المسجد النبوي؟ ونضيف إلى ذلك أن معظم المصادر أوردت خبر هذه البعثة الفنية البيزنطية بما في ذلك ابن خلدون([115]) الذي عرف بدقته وموضوعيته في انتقاء الأحداث التاريخية الصحيحة. وحتى إذا قبلنا بفكرة أن العناصر البيزنطية من الأقليات المقيمة في الجزيرة العربية هي التي قامت بهذا الدور، فإن ذلك لا يغير من صحة فكرة المساعدة البيزنطية في مجال البناء والعمران. ناهيك عما عرفت به الدبلوماسية البيزنطية من سخاء كبير في بذل الهبات والإعانات لجميع الشعوب كما أثبت ذلك المتخصصون([116]). وليس هناك ما يثبت أن الجزيرة العربية شكلت استثناء في هذه الاستراتيجية الدبلوماسية للدولة البيزنطية.
ويخيل إلينا أن الدواعي الكامنة وراء هذا التشكك في صحة الرواية تكمن في أن الإقرار بمساهمة البيزنطيين في إصلاح وبناء المسجد النبوي قد تقلل من إنجازات العرب أو تبرز نواقصهم أو ضعفهم في مجال البناء والعمران. كما يمكن أن تكون تلك الدواعي نابعة من مبدأ التصدي لبعض التخريجات الغربية الملغومة التي تنظر للعرب نظرة دونية وتنطلق من أفكار مغلفة بالتحامل عليهم، كما يعكسه نموذج "ستيفن رنسمان"([117]) الذي بالغ في إبراز دور بيزنطة في الحضارة الإسلامية، وقلل من قيمة العرب الذين كانوا مجبرين - حسب زعمه - على جلب مهندسي العمارة البيزنطية بسبب انتمائهم لبيئة صحراوية يغلب عليها الزهد والتقشف. فإذا كان من غير المقبول تاريخياً مجاراة هذا الرأس المتعسف، فمن غير المقبول أيضاً إنكار أن الدولة العربية في العصر الأموي وغيره من العصور الأخرى تميزت بانفتاحها على كافة الحضارات بما في ذلك الحضارة البيزنطية. يضاف إلى ذلك أن الوليد بن عبد الملك الذي أعطى الضوء الأخضر لاستقدام البعثة البيزنطية لإصلاح المسجد النبوي وبناء مسجد دمشق لم يترك لها حرية التصرف، بل ألزمها بالاشتغال وفق الخطة التي اقترحها وأعدها سلفاً مع خبراء دولته، وهو ما يؤكده ابن خلدون بقوله: «وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد، وأن ينمقوها بالفسيفساء، فأطاع لذلك وتَمّ بناؤها على ما اقترحه»([118]).
ورغم إجماع عدد من المصادر العربية حول فكرة استقدام البناة البيزنطيين للجزيرة العربية للمساهمة في إصلاح المسجد النبوي، فإنها تختلف في عددهم الإجمالي كما تختلف حول المدينة التي تَمّ بها إصلاح المسجد، فياقوت الحموي([119])، يحصر عدد العمال البيزنطيين في أربعين عاملاً فقط، مع أربعين من الأقباط، مشيراً أنهم ساهموا في هدم المسجد المذكور وإعادة بنائه. أما ابن كثير([120]) فيؤكد العدد الذي أعطاه اليعقوبي حول العمال البيزنطيين وهو مائة، ولكنه يشكك في أن المسجد الذي كان موضوع الإصلاح هو المسجد النبوي، بل يتعلق الأمر بمسجد دمشق.
بيد أننا لا نتردد في ترجيح الرواية الأولى استناداً إلى ما جاء فيها من أن الوليد بن عبد الملك استشار عمر بن عبد العزيز الذي كان آنذاك والياً على المدينة المنورة. وربما وقع خلط للمؤرخين لكون المسجدين معاً أعيد بناؤهما وأصلحا في عهد الخليفة المذكور كما تؤكد ذلك رواية المسعودي([121]).
ومهما كان الأمر، فمن المحتمل أن تكون البعثة الفنية البيزنطية قد بقيت في المدينة المنورة ثلاث سنوات على الأقل. ومما يدعم هذا الاستنتاج رواية للطبري([122]) تحدد تاريخ استقدامها بسنة 88 ﻫ/ 744 م، وتاريخ الانتهاء منها بسنة 90 ﻫ/ 746 م، علماً أنه تَمّ تخصيص سنة كاملة لتخمير النورة لإعداد الفسيفساء والمواد الأخرى للبناء، مما يدل على أن المساعدة الفنية البيزنطية سعت إلى تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله على الوجه المطلوب.
وبعد التأثير البيزنطي في مجال العمران العربي انعكاساً للتعاون العربي - البيزنطي؛ وكما لاحظ ذلك البحاثة شارل دبل، فإن قبة الصخرة التي شيدها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في بيت المقدس ما بين 68 و71 ﻫ/ 687 م و690 م، تشكل من الناحية الفنية نموذجاً للفن البيزنطي في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، يشهد على ذلك شكلها المثمن الزوايا، وتلبيس جدرانها بالرخام، وتزيينها بالفسيفساء المذهبة على شاكلة الطراز البيزنطي.
وبالمثل، شكلت الموسيقى البيزنطية إحدى قنوات التواصل البيزنطي مع الجزيرة العربية خلال القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، مصداق ذلك نص فريد لابن خلدون يقول فيه: «وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب... وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم»([123]). ومعلوم أن ابن خلدون يفسر ظاهرة انتقال الموسيقى للحجاز بانتقال الدولة العربية من طور البداوة في العصر الراشدي إلى طور الحضارة والترف في العصر الأموي ثم العصور التي تليه، حيث انفتحت الجزيرة العربية على مختلف الحضارات بما فيها الحضارة البيزنطية.
يشي هذا النص بتفاعل قوي بين الموسيقى الحجازية ونظيرتها البيزنطية بفضل وفود عدد من المغنين البيزنطيين على الحجاز. ونظراً لإعجاب العرب بالألحان البيزنطية، فقد أقبلوا عليها ولحنوا بها قصائدهم الشعرية.
وفي مجال التعاون العلمي، يستوقف الباحث ظاهرة تتلمذ خالد بن يزيد الأموي على يد راهب بيزنطي يدعى "ماريانوس الروماني" إذ أخذ عنه صناعة الكيمياء، وألف فيها ثلاث رسائل خصص إحداها لذكر سيرته مع مريانوس الراهب وكيف تعلم منه الرموز التي تلقاها عنه([124]). كما يحوي ديوانه حواراً بينه وبين أستاذه البيزنطي، وهو عبارة عن أسئلة عجيبة حول صنعه الكيمياء([125]).
وفي سياق هذا التعاون العلمي أيضاً، يذكر أن يزيد بن خال السالف الذكر استقدم بعثة من الفلاسفة اليونانيين، وكلفهم بمهمة ترجمة الكتب اليونانية القديمة إلى العربية. ومن بين هؤلاء العلماء اصطفن القديم الذي طلب منه أن يترجم كتب ماريانوس إلى العربية([126]). وقد اعتبر ابن النديم هذه المبادرة «أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة»([127]).
والجدير بالذكر أن الإمبراطور "ليو الثالث" كان ملماً باللغة العربية، وكان متأثراً إلى حد كبير بالحضارة الإسلامية حتى أن البعض وصفه بـ«ليو ذي العقلية الإسلامية»([128]). وقد تأثرت اللغة العربية نفسها بدخول مصطلحات بيزنطية إلى قاموسها، وهي المصطلحات التي اعتبر ابن منظور أنها صيغت «بلسان الروم»، مما يعكس التأثير المتبادل في المجال العلمي([129]).
جماع القول أن البحث حاول إلقاء الضوء على إحدى الحلقات المعتمة في تاريخ السلام بين الجزيرة العربية والعالم البيزنطي، وسعى إلى تجاوز الرؤية التعميمية التي تجعل من العلاقات البيزنطية بصفة عامة والقرن الأول الهجري/ السابع الميلادي على الخصوص، علاقة عدائية أساسها الاقتتال والتطاحن والصراع الحضاري، إلى خانة أخرى لا تنفي طبيعة الصراع، ولكنها تنظر إليه بمنظار آخر أكثر دقة وفحصاً لاستشفاف المضمر والمسكوت عنه في تلك العلاقات من صور متنوعة من الصلات الودية والطابع السلمي الذي بصم علاقة الطرفين. وقد أبانت الدراسة بعد تجميع شتات النصوص والوثائق المبعثرة في بطون المصادر العربية والبيزنطية وغيرها، مجموعة من المشاهد الودية التي تراوحت بين سعي العرب والبيزنطيين الحثيث إلى التعارف المتبادل والانفتاح على الآخر، وإرسال سفارات وتبادل هدايا ومراسلات وحوارات دينية بين القيادات العربية والبيزنطية، إلى عقد العديد من الاتفاقيات السلمية وإطلاق سراح الأسرى، ناهيك عن التعاون في مجال البناء والعمران والمجال الموسيقي والفني، والتبادل العلمي وانتقال الأفكار بين الجزيرة العربية والدولة البيزنطية من خلال الترجمة، مما يعطي العديد من المؤشرات حول خطأ مقولة الصراع الحضاري بين العرب والبيزنطيين، وتعزيز القول بأطروحة التكامل الحضاري بين هذين المجالين الحضاريين رغم طابع التوتر السائد بينهما، والذي أفرزته أطماع أصحاب المصالح الكبرى وليس شعوب المنطقتين. وأحسب أن الموضوع في حاجة إلى المزيد من طرح الأسئلة، وتعميق معول البحث والتقصي في المراحل التي أعقبت القرن الأول الهجري، وهو ما نأمل أن تتجه إليه الأبحاث المستقبلية.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) انظر على سبيل المثال بالنسبة للفترة مدار البحث: عبد الرحمن أحمد سالم، المسلمون والروم في عصر النبوة، دراسة في جذور الصراع وتطوره بين المسلمين والبيزنطيين، دار الفكر العربي، القاهرة، 1979. وقد خصص الباحث حوالي 7 صفحات فقط للعلاقات السلمية بين العرب والبيزنطيين بمناسبة حديثه عن رسائل الرسول r إلى الملوك والأمراء: ص. 72-78، بينما خصص كل صفحات كتابه الأخرى للصراع العربي - البيزنطي. وانظر أيضاً: أسد رستم، الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، دار المكشوف، بيروت، 1955، ج 1. ومن الأمانة العلمية الإشارة إلى مقال الأستاذ محمد حميد الله الذي تناول ولو جزئياً أحد محاور الصلات الودية والسلمية بين الرسول r والبيزنطيين، وهو السفارة. انظر مقاله:
Les Ambassades du Prophète et du Calife Abu Bakr auprès de l’empereur Heraclus. In : Connaissance de l’Islam, n° 7, Paris, 1981, p. 14-20.
([2]) للمزيد من التفاصيل انظر: جوزيف نسيم يوسف، تاريخ الدولة البيزنطية، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، (د.ت)، ص. 104 وما بعدها.
([3])
http://www.encyclopedieenligne.com/l/li/...ntins.html
جوزيف نسيم، مصدر سابق، ص. 296. قارن مع أسماء الأباطرة البيزنطيين الذين يذكرهم المسعودي، مروج الذهب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط. 4، 1964، ص. 328-329.
([4]) سورة الروم، الآية 1.
([5]) الإمام البخاري، صحيح البخاري، دار الفخر للتراث، القاهرة، 2005، ص. 9؛ ابن منظور، لسان العرب، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان،
ج 4، ص. 465.
([6]) المسعودي، مروج الذهب، ص. 308.
([7]) عبد الرحمن أحمد سالم، المسلمون والروم في عصر النبوة، ص. 57.
([8]) صحيح مسلم، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2003، حديث رقم 7281، ص. 1084.
([9]) يقول الله تعالى: }ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون{، سورة الروم، الآية 1-4.
([10]) ورد في صحيح مسلم الحديث النبوي التالي: «حدثنا عبد الملك بن شعيب... قال المستورد القرشي عن عمرو بن العاص سمعت رسول الله يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس"». أنظر: صحيح مسلم، حديث رقم 7279، ص. 1083.
([11]) الطبري، تاريخ الطبري، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 1، ص. 468.
([12]) المصدر نفسه، ص. 1083، حديث رقم 7279.
([13]) الإمام البخاري، صحيح البخاري، ج 1، ص. 9.
([14]) ابن كثير، البداية والنهاية، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 6، ص. 63.
([15]) الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص. 130.
([16]) كتاب الأموال، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط. 1، 1409/1989، ص. 93.
([17]) الإمام البخاري، صحيح البخاري، ج 1، ص. 8-9؛ الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص. 128-131.
([18]) جوزيف نسيم، تاريخ الدولة البيزنطية، ص. 109-110.
([19]) الواقدي، فتوح الشام، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 2، ص. 21.
([20]) محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، ط. 5، 1985، ص. 497.
([21]) الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص. 190.
([22]) يقول جرونباوم عن المصداقية التاريخية لهذه السفارات أنه «لا يمكن أخذها مأخذ الجد». انظر: Graunebaum, Classical Islam, A History 600-1258, London, 1970, p. 42.
([23]) المحب الطبري، الرياض النضرة، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 1، ص. 345.
([24]) تاريخ الطبري، ج 2، ص. 128.
([25]) المسعودي، التنبيه والإشراف، تحقيق عبد الله إسماعيل الصاوي، المكتبة العصرية، بغداد، 1938، ص. 226-227.
([26]) ابن سلام، كتاب الأموال، ص. 345؛ محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ، ص. 114.
([27]) ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 4، ترجمة 5493، ص. 478؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص. 35.
([28]) الأخبار الطوال، نشر فلاديمير جرجاس، ليدن، مطبعة بريل، ط. 1، 1888، ص. 21-22.
([29]) المنجبي، المنتخب في تاريخ المنجبي، انتخبه وحققه عمر عبد السلام تدمري، لبنان، 1986، عن: إبرهيم المشيقح، مرجع سابق، ص. 142.
([30]) ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، بيروت، 1958، ص. 109.
([31]) ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص. 66.
([32]) Theophanes, The chronicle of Theophanes (A, D602-813) Translated by Idarry turtledove, U.S.A, Pensylvania, 1982, p. 54.
نقلاً عن: إبراهيم المشيقح، مرجع سابق، ص. 139.
([33]) المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص. 124؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 4، ص. 304؛ ابن العماد، شذرات الذهب، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 1، ص. 127.
([34]) الذهبي، سير النبلاء، ج 4، ص. 304.
([35]) ابن كثير، البداية والنهاية، ج 9، ص. 151.
([36]) المصدر نفسه، ج 9، ص. 205.
([37]) المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص. 195.
([38]) الحضارة البيزنطية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص. 185.
([39]) الحضارة البيزنطية، ص. 187.
([40]) ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص. 343، ويقول أن مصطلح "مستقة" من أصل فارسي.
([41]) ابن سعد، الطبقات الكبرى، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 1، ص. 456؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 4، ص. 310.
([42]) ابن كثير، البداية والنهاية، ج 6، ص. 131.
([43]) ابن سلام، كتاب الأموال، ص. 345؛ محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ، ص. 115.
([44]) Theophanes, op. cit., p. 53-54.
([45]) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 2، ص. 405.
([46]) القلقشندي، مآثر الإنافة في معالم الخلافة، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 1، ص. 113.
([47]) ابن العماد، شذرات الذهب، ج 2، ص. 412؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 3، ص. 228.
([48]) ابن نعيم، حلية الأولياء، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 5، ص. 290؛ المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص. 195.
([49]) ناقش الدكتور عبد الرحمن أحمد سالم موضوع الرسالة التي حملها دحية الكلبي إلى هرقل وهل هو قيصر الذي تشير إليه رواية الواقدي أم أن المقصود بقيصر هو حاكم بصرى كما يقترح "مونتغمروات"، فمال إلى هذا الرأي لعدم وجود جواب حاسم في المصادر العربية. انظر: المسلمون والروم...، ص. 64-65.
([50]) بعد أن أشار ابن منظور إلى رسالة النبي r لهرقل، شرح مصطلح (الأريسيين) بقوله: «أرس يأرس إذا صار أريساً، ورأس يؤرس تأريساً، إذا صار أكارا... وكانت العرب تسميهم الفلاحين»، انظر لسان العرب، ج 6، ص. 4-5.
([51]) الإمام البخاري، صحيح البخاري، ج 1، ص. 9؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 2، ص. 77.
([52]) أورد نص هذه الرسالة الأستاذ البحاثة محمد حميد الله في كتابه، مجموعة الوثائق...، ص. 110 اعتماداً على بعض المصادر.
([53]) علي النملة، النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية، مطبوعات مكتبة فهد الوطنية، السلسلة الثانية (4)، الرياض، ط. 2، 2006، ص. 88-89.
([54]) أسد رستم، الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، ص. 236.
([55]) أسد رستم، الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، ص. 237.
([56]) فتح الباري، المكتبة السلفية، القاهرة، د. ت، ص. 58؛ وانظر نسخة من صورة الرسالة عند: محمد حميد الله، مجموع الوثائق...، ص. 108؛ وانظر مقاله: La lettre du prophète à Héraclus et le sort de l’original, in: Arabica, Paris, 1955, II, p. 97-110.
([57]) جوزيف نسيم، تاريخ الدولة البيزنطية، ص. 110.
([58]) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 2، ص. 552.
([59]) ابن منظور، لسان العرب، ج 4، ص. 286.
([60]) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص. 78؛ ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأًصحاب، تحقيق محمد علي البجاوي، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، د.ت، ج 2، ص. 461.
([61]) عبد الرحمن أحمد سالم، المسلمون والروم في عصر النبوة، دراسة في جذور الصراع وتطوره بين المسلمين والبيزنطيين، ص. 77.
([62]) كتاب الأموال، ص. 345.
([63]) محمد حميد الله، مجموعة الوثائق...، ص. 115-116.
([64]) مروج الذهب، ج 1، ص. 329.
([65]) ابن العماد، شذرات الذهب، ج 1، ص. 89؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 5، ص. 337.
([66]) البلاذري، فتوح البلدان، مراجعة وتعليق رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978، ص. 241؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء، سيديروم مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية، الخطيب للتسويق والبرامج، الأردن، عمان، ج 1، ص. 218؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الفكر، بيروت، د.ت، ج 4، ص. 53.
([67]) إبراهيم أحمد العدوي، الأمويون والبيزنطيون، القاهرة، 1953، ص. 178.
([68]) الذهبي، ، سير أعلام النبلاء، ج 4، ص. 304؛ ابن العماد، شذرات الذهب، ج 1، ص. 127.
([69]) ابن كثير، البداية والنهاية، ج 9، ص. 147.
([70]) المصدر نفسه، ص. 157.
([71]) رستم أسد، الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، ص. 377.
([72]) رستم أسد، الروم ...، ص. 239.
([73]) تاريخ الخلفاء، ج 1، ص. 141.
([74]) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 72-73؛ أسد رستم، الروم...، ج 1، ص. 238.
([75]) ابن سلام، كتاب الأموال، ص. 269.
([76]) فتوح البلدان، ص. 128-136.
([77]) Theophanes, op. cit., p. 44.
([78]) Op. cit, p. 44-47. عن إبراهيم المشيقح، مصدر سابق، ص. 137.
([79]) المنجبي، المنتخب في تاريخ المنجبي، ص. 57.
([80]) فتوح البلدان، ص. 163.
([81]) كتاب الأموال، ص. 253-254.
([82]) المرجع نفسه، ص. 255، وقد ورد في الرواية على لسان هذا الصحابي عمرو بن عنبسة، «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحل عقده حتى ينبذ إليهم على سواء».
([83]) البداية والنهاية، ج 8، ص. 119.
([84]) تاريخ الطبري، ج 6، ص. 186.
([85]) الأخبار الطوال، ص. 168.
([86]) إبراهيم المشيقح، مرجع سابق، ص. 133.
([87]) Michel le Zyrien, Chronique, Texte syriaque, Traduit en français par J.B. Chabot, Paris, 1899, Vol. II, p. 450-469. عن إبراهيم المشيقح، مرجع سابق، ص. 142. ويرجح المرحوم عبد المنعم ماجد أن تكون هذه الاتفاقية قد عقدت سنة 36 ﻫ/ 656 م. انظر كتابه: التاريخ السياسي للدولة العربية، عصر الخلفاء الأمويين، مكتبة الأنجلو مصرية، ط. 7، 1983، ص. 35.
([88]) المسعودي، مروج الذهب، ج 1، ص. 329.
([89]) أسد رستم، الروم...، ص. 260.
([90]) مروج الذهب، ج 1، ص. 239.
([91]) نهاية الأرب، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1975-1976، ج 15، ص. 27.
([92]) تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق أكرم ضياء العمري، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط. 2، 1985، ص. 205.
([93]) تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص. 217.
([94]) المصدر نفسه، ص. 239.
([95]) يبدو أن المرحوم عبد المنعم ماجد وقع في سهو عندما ذكر أن هذا الصلح يعتبر امتداداً لصلح 42 ﻫ، والصواب هو العكس، أي أنه امتداد لصلح 41 ﻫ. أنظر: التاريخ السياسي...، ص. 35.
([96]) الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، نشره محمود توفيق الكتبي، المطبعة الرحمانية، د.ت، ص. 47.
([97]) Theophanes, op. cit., p. 54.؛ عن أسد رستم، الروم...، ص. 262-263؛ وإبراهيم المشيقح، مرجع سابق، ص. 139.
([98]) Theophanes, op. cit., p. 53-54.؛ نقلاً عن إبراهيم المشيقح، مرجع سابق، ص. 139.
([99]) عبد المنعم ماجد، التاريخ السياسي للدولة العربية، عصر الخلفاء الأمويين، ص. 172.
([100]) الكامل في التاريخ، ج 4، ص. 92؛ تاريخ الطبري، ج 3، ص. 516.
([101]) فتوح البلدان، ص. 164.
([102]) البداية والنهاية، ج 8، ص. 313.
([103]) شذرات الذهب، ج 1، ص. 77.
([104]) شذرات الذهب،ج 1، ص. 77.
([105]) إبراهيم أحمد العدوي، الأمويون والبيزنطيون، ص. 176.
([106]) انظر ص 303 من هذا البحث.
([107]) مآثر الإنافة، ج 1، ص. 143.
([108]) حلية الأولياء، ج 5، ص. 290.
([109]) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 5، ص. 260.
([110]) المصدر نفسه، ج 6، ص. 135.
([111]) الطبقات الكبرى، ج 5، ص. 394.
([112]) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 1، ص. 77.
([113]) فتوح البلدان، ص. 21.
([114]) عبد المنعم ماجد، التاريخ السياسي للدولة العربية، عصر الخلفاء الأمويين، ص. 185.
([115]) المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت، ص. 355.
([116]) ستيفن رنسمان، مصدر سابق، ص. 192.
([117]) المصدر نفسه، ص. 357.
([118]) المصدر نفسه.
([119]) معجم البلدان، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت، ج 5، ص. 87.
([120]) البداية والنهاية، ج 9، ص. 75.
([121]) مروج الذهب، ج 3، ص. 166.
([122]) تاريخ الطبري، ج 3، ص. 677. بينما يحدد ياقوت الحموي بداية إعادة بناء المسجد النبوي بمساهمة العمال البيزنطيين بسنة 87 ﻫ، والانتهاء منه بسنة 89 ﻫ. انظر: معجم البلدان، ج 5، ص. 87.
([123]) المقدمة، ص. 427.
([124]) ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 2، ص. 224.
([125]) ابن النديم، الفهرست، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، د.ت، ج 1، ص. 338.
([126]) انظر التفاصيل عند: رحاب عكاوي، موسوعة عباقرة الإسلام في الفيزياء والكيمياء والرياضيات، دار الفكر العربي، بيروت، 1934، ج 4، ص. 16-17.
([127]) المرجع نفسه، ص. 340.
([128]) محمد محمد مرسي الشيخ، تاريخ الإمبراطورية البيزنطية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1994، ص. 121.
([129]) ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص. 353؛ ج 13، ص. 180، حيث اعتبر لفظتي "البستق" و"الرساطون" من المصطلحات ذات الأصل الرومي.