الإعجاز العلمي في القرآن - أحمد القبانجي
يقول العلاّمة صاحب تفسير الميزان:
«وقد تحدّى بالعلم والمعرفة خاصة بقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) النحل ـ 89. (ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين)الانعام: 59. إلى غير ذلك من الآيات، فإن الإسلام كما يعلمه ويعرفه كل من سار في متن تعليماته من كلياته التي أعطاها القرآن وجزئياته التي أرجعها إلى النبي، متعرّض للجليل والدقيق من المعارف الإلهية الفلسفية والأخلاق الفاضلة والقوانين الدينية الفرعية من عبادات ومعاملات وسياسات واجتماعيات وكل ما يمسّه فعل الإنسان وعمله، وقد بيّن بقاءها جميعاً وانطباقها على صلاح الإنسان بمرور الدهور وكرورها»( ).
وقال في «المنار» في تقرير هذا المضمون الاعجازي:
«الوجه الخامس: اشتماله على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية، وأحكام العبادات وقوانين الفضائل والآداب وقواعد التشريح السياسي والمدني والاجتماعي الموافقة لكل زمان ومكان; وبذلك يفضل كل ما سبقه من الكتب السماوية، ومن الشرايع الوضعية، ومن الآداب الفلسفية، كما يشهد بذلك أهل العلم المنصفون من جميع الأمم الشرقية والغربية، من آمن منهم بكونه من عند الله تعالى أنزله على رسوله الأمي، ومن لم يؤمن بذلك،..
ولا شك أن هذا الوجه من أهم وجوه الإعجاز، فإن علوم العقائد الإلهية والغيبية والآداب والتشريع الديني والمدني والسياسي هي أعلى العلوم، وما ينبغ فيها من الذين ينقطعون لدراستها السنين الطوال إلا الأفراد القليلون، فكيف يستطيع رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولا نشأ في بلد علم وتشريع أن يأتي بمثل ما في القرآن منها تحقيقاً وكمالاً، ويؤيده بالحجج والبراهين بعد أن قضى ثلثي عمره لا يعرف شيئاً منها، ولم ينطق بقاعدة ولا أصل من أصولها، ولا حكم بفرع من فروعها إلا أن يكون ذلك وحياً من الله تعالى؟»( )
* * *
ونلاحظ عليه:
1 ـ ليس في الآية المذكورة اشارة إلى التحدي والتنوية بالإعجاز من هذه الجهة، فالآية تقول (فيه تبيان لكل شيء) وهي إخبار عن حقيقة قرآنية لا أكثر.
2 ـ إن العلوم والمعارف القرآنية لا تتناول جميع العلوم والمعارف البشرية حتى تكون ظاهرة اعجازية، لأن من الواضح أن العلوم الطبيعية من قبيل الفيزياء والكيمياء والفلك والاحياء وأمثال ذلك أكبر من أن يسع كلياتها كتاب واحد، والآية الكريمة تصرح بأن كل ما يحتاجه البشر في طريق الكمال الإلهي والسلوك إلى الله الذي هو الهدف والغاية من القرآن موجود في هذا الكتاب السماوي، والعموم المذكور في الآية لابد وأن يتطابق مع الهدف من إنزال هذا الكتاب، ومن الواضح أن الهدف ليس هو تعليم البشر أنواع الصناعات والمهارات الدنيوية والعلوم الطبيعية، لأن الإنسان يكفيه عقله ودوافعه الدنيوية للسير به في هذا الطريق.
3 ـ من عجيب إستشهادات العلامة هو أنّه استشهاد بالآية (ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين) لإثبات المطلوب، في حين أن الآية تقرر حقيقة غيبية وأن كل حادثة تقع في عالم الخلق غير خافية عن علم الله، ومذكورة في عالم اللوح المحفوظ، أو لدى الملائكة وما إلى ذلك، وأين هذا من ذكرها في القرآن الكريم؟!
وهل يسع القرآن لإيراد كل هذه الأحداث اللامتناهية؟!
وهذا هو ما نقصده من العقل الديني الذي يغطي على العقل السليم ويمنعه من إدراك الحقائق، ويؤمن بالعلوم الدينية الموروثة قبل غربلتها وتهذيبها.
4 ـ إن إدعاء أن الإسلام فيه جميع المعارف السياسية والإجتماعية والحقوق والقوانين والأخلاق وما إلى ذلك هو ادعاء لا يقوم عليه برهان لا من خارج دائرة الدين ولا من داخلها. وقد اثبتت التجربة الإسلامية في ايران خواء هذا التصور الشمولي عن الدين لإسلامي وأنّها محتاجة في جميع انساقها الإجتماعية والإقتصادية ومنظومتها الحقوقية والقضائية إلى المعارف البشرية والتجارب الحضارية والثقافية للشعوب المتقدمة، فبعد أكثر من عشرين عاماً على شروع هذه التجربة الإسلامية نجد أن القوانين الحاكمة والمناهج السائدة في النظام الإقتصادي والسياسة الخارجية والعلاقات التجارية وغير ذلك هي نفسها التي تحكم الروابط البشرية المعاصرة ونتاج عقل بشري خالص.
وعلى سبيل المثال سعى الخبراء في النظام الإقتصادي في الحكومة الإسلامية بكل جهدهم لحذف الربا من البنوك وممارسة تجربة البنك اللاربوي فلم يوفقوا في ذلك وما زالت البنوك في ايران تتعامل بالربا والفائدة.
* * *
تصوير آخر للتحدّي بالعلم:
ويذكر العلماء وجهاً آخر للتحدّي بالعلم أو ما يسمى بالاعجاز العلمي، يقول الإمام الخوئي في تقرير هذا الوجه:
«6 ـ القرآن وأسرار الخليقة: أخبر القرآن الكريم في غير واحد عما يتعلق بسنن الكون ونواميس الطبيعة وغيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الاسلام إلاّ من ناحية الوحي الالهي، وبعض هذه القوانين وان علم بها اليونانيون في تلك العصور، أو ممن لهم سابق معرفة بالعلوم، إلاّ أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك، وان فريقاً مما أخبر به القرآن لم يتضح إلاّ بعد توفّر العلوم وكثرة الاكتشافات، وهذه الأنباء في القرآن كثيرة ..»( )
ثم يورد عدة آيات كشاهد على هذا المدعى، منها قوله تعالى:
(وأنبتنا فيها من كل شيء موزون( )) للدلالة على أن لكل نبات وزن خالص.
(وأرسلنا الرياح لواقح( )) للدلالة على تأثير الرياح في تلقيح النباتات.
(ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين( )) للدلالة على قانون الزوجية.
(رب المشرقين ورب المغربين( )) للدلالة على كروية الارض.
ويذكر الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره الموضوعي «نفحات القرآن» آيات اخرى في هذا الصدد منها:
(الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها( )) للدلالة على قانون الجاذبية.
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان( )) اشارة إلى بداية خلق العالم.
(وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب( ))للاشارة إلى حركة الأرض ودورانها.
(والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم( ))وفيها تصريح بحركة المنظومة الشمسية.
(والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( )) وفيها دلالة على توسّع السماء.
(ومن آياته خلق السموات والأرض وما بثّ فيهما من دابّة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير( )) للاشارة إلى وجود الحياة في الكرات السماوية الاخرى.
(أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه( ))
ونكتفي بهذا القدر من الآيات التي استشهدوا بها لاثبات هذا المطلب حرصاً على الاختصار وإيراد ما هو واضح البطلان من الاستشهادات الاخرى.
* * *
المناقشة:
يمكننا مناقشة هذا الادعاء بطريقين:
1 ـ الجواب بالحلّ
وهو أن نقوم بتحليل المراد من الآيات المذكورة لنرى مدى صلاحيتها لاثبات المدعى المذكور، وهو الإعجاز العلمي، فنقول:
أما «الآية الاولى» في اثبات أن لكل شيء في عالم النبات وزن خاص ونسبة معينة على مستوى العناصر والمواد الاولية الدخيلة في تركيب النبات، فلا يفهم مقصود هذا العالم الجليل في كون هذا الكشف المكشوف لدى جميع الناس معجزة علمية، لذا نورد نص كلامه لعل القاريء الكريم يكتشف ما عسر علينا ادراك المعجزة فيه، قال(رحمه الله) الله بعد ذكر الآية الشريفة:
«فقد دلّت هذه على أن ما ينبت في الارض له وزن خاص، وقد ثبت أخيراً أن كل نوع من انواع النبات مركّب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركباً آخر (ثم ماذا؟)، وأن نسبة بعض الأجزاء إلى البعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقاً بأدق الموازين المعروفة للبشر» ـ وهو كما ترى!!
أما «الآية الثانية» فان المفسرين الاقدمين كما يقول السيد صاحب البيان حملوا اللقاح في الآية على معنى الحمل، وفسّروا الآية المباركة بحمل الرياح للسحاب أو المطر، ولكن مكتشفات علماء النبات في العصر الحديث يقررون مهمة الرياح في تلقيح النبات، إلاّ أن هذا المعنى المذكور للآية لا أظنه قد خفي على المزارعين في قديم الايام فضلاً عن المحققين، وعلى أية حال فإن أحد المعنيين للآية كان واضحاً لدى القدماء (سواء كان تلقيح السحاب أو النباتات)وبذلك يسقط الاستشهاد بالآية على المطلوب.
«الآية الثالثة» تقرر قانون الزوجية في النبات، وهناك آيات اخرى تذكر هذا القانون بصفة شمولية لجميع المخلوقات، كقوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) ـ الذاريات 49.
ولكن ليس في هذا المعنى شيء من الإعجاز العلمي، ففي عالم النبات وبما أنّها تتمتع بروح الحياة فمن السهل قياس النباتات على الحيوانات والإنسان حيث يشتركون جميعاً في روح الحياة. وبما أن الزوجية مشهودة في كل من الإنسان والحيوان، فكذلك للنبات وخاصة بعد وجود قانون الزوجية في النخل الذي هو من افراد النبات.
ثم إنه لم يثبت هذا القانون علمياً في جميع الكائنات، أي لم يستطع العلم اكتشاف أن هذا القانون سار في جميع الكائنات على مستوى الاستقراء التام، بل اكتشف البعض منها مما لا يحقق صفة الشمولية لهذا القانون بصورة جازمة، بل أن موارد كثيرة ثبت عدم صحة هذا القانون فيها، من قبيل انواع البكتريا الاحادية الخلية التي تتكاثر بوسيلة الانشطار وبعض الديدان التي تعيش في أمعاء الإنسان والحيوان (الدودة الشريطية) أو عالم النجوم والكواكب والمجرات السابحة في الفضاء اللامتناهي، فاين الذكر منها وأين الانثى، وكذلك الكلام على مستوى الملائكة التي ورد أنّها من جنس واحد، فلا هي مذكر ولا مؤنث، وغير ذلك.
«الآية الرابعة» التي استدل بها على كروية الارض باعتبار أن لكل جانب منها مشرقاً ومغرباً، ولو كانت مسطحة لكانت ذات مشرق واحد ومغرب واحد كذلك. ولكن هذا المعنى أيضاً لا يصلح لكونه معجزة علمية، فالعلماء وخاصة علماء الاغريق قبل ميلاد المسيح بعدة قرون اثبتوا كروية الأرض بالعديد من الادلة كما نقرأ ذلك في كتب «ارسطو» وغيره من فلاسفة اليونان، وهذا المفهوم انتشر حتماً بين الناس بتطاول الزمان وتمادي الاعوام وتلاقح الحضارات، فلا يعتبر كشفاً علمياً للقرآن الكريم.
ثم إنه قد يكون المراد بالمشرقين والمغربين معان اخرى ذكرها المفسرون في أسفارهم ومسطوراتهم، منها: أن المراد مشرق الشمس والقمر ومغربهما، أو مشرق الشمس في الشتاء والصيف ومغربها كذلك حيث تشرق الشمس في الشتاء من مكان غير مكان شروقها في الصيف، وكذلك الغروب.
والآية لا تعين المراد منها وأنّه الأول من هذه المعاني حتماً.
«الآية الخامسة» يستدل بها المدّعي للاعجاز العلمي على أساس كشفها عن قانون الجاذبية بتقريب أن العمد الذي لا يرى في رفع السماء هو عمد الجاذبية بعد أن أثبت العلم الحديث أن الاجرام السماوية خاضعة في حركتها ودورانها لتأثير الجاذبية، ولكن هذا الادعاء بعيد عن مفهوم الآية، بل تحميل صريح على معناها، فالآية بقولها: (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها) تلفت ذهن الإنسان إلى القدرة الإلهية في خلق السموات وتوحي اليه بعظمتها وأنّه كيف يعجز الإنسان عن رفع سقف بيته أو خيمته بدون عمد رغم تفاهة هذا الشىء وخفته بينما ترتفع السماء مع كل ما فيها من أجرام عظيمة وشموس منيرة من دون عمد!! ألا يكون ذلك دليل القدرة الإلهية العظيمة التي تقف وراء هذه الظاهرة؟!
فالغاية المقصودة من هذه الآية كما في سائر الآيات المماثلة هي تبيين عظمة القدرة الإلهية المدبّرة لهذا العالم لا اكثر، ولذلك تصرح الآية «الله الذي رفع ..»، فلو كان المقصود الاشارة لقانون الجاذبية لكانت الآية (أفلا يرون إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلاّ الرحمن)اشارة إلى قانون ضغط الهواء الذي يستفاد منه في تحليق الطائرات، وقوله: (وترى الفلك فيه مواخر) اشارة إلى قانون ضغط الماء .. وهكذا. والحال أن هذه التحميلات غير مقصودة من الآيات قطعاً.
والآخر أن تشبيه الجاذبية بالعمد لا يخلو من غرابة، فمتى كانت الجاذبية على شكل العمود؟ ولو كان التشبيه بالسلسلة كان أقرب حتماً، فالعمود يشكل لما يحمله قوة دافعة تمنعه من السقوط، والجاذبية قوة جاذبة للشيء تمنعه من الابتعاد والفرار.
«الآية السادسة» التي تتحدث عن بداية خلق السموات والارض وأنّها كانت على شكل دخان كما هو المقبول في الاوساط العلمية الفلكية في العصر الحديث، فهي بدورها لا تشكل كشفاً علمياً خارقاً، لأن علماء الفلك في هذا المجال لا يتحدثون عن قضية علمية مسلّمة لا تقبل النقاش، بل هي احدى الفرضيات المقبولة إلى جانب فرضيات اخرى، أي إن أدوات العلم الحديث قاصرة عن تناول مثل هذه المواضيع المتوغلة في الزمن بالتجربة المنتجة لليقين والجزم، فتبقى المسألة مجرد فرضية علمية مظنونة كما في نظرية زحزحة القارات، وتكامل الانواع لداروين، وانفجار الشمس وتولّد الكواكب السيارة وامثال ذلك.
«الآية السابعة» التي استدل بها على إخبار القرآن الكريم بحركة الارض ودورانها من خلال التصريح بحركة الجبال:
(ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب).
ولكن هذه الآية كمثيلاتها لا تعدّ فتحاً علمياً وكشفاً إعجازياً للقرآن الكريم، لأن ادنى تصور لحركات الاجرام السماوية الدائبة ودورانها في الفضاء يمتد هذا التصور إلى الارض كأحد هذه الكرات السابحة في الفضاء، أي انه لا يحتاج إلاّ إلى التفاتة صغيرة من كل إنسان متدبّر في أمر السماء ونجومها، وأما القول بسكون الارض فلم يكن في ذلك الزمان كحقيقة مسلّمة إلاّ ما كان من نظرية بطليموس في محورية الارض لجميع الكواكب والاجرام السماوية، وسكونها ودوران الافلاك حولها. فليس القول بحركة الارض دورانها بالشيء الجديد الذي افرزته النهضة العلمية في اوربا، وما كان من «كوبرنيك» البولندي ونظريته في دوران الارض حول الشمس وإبطاله لنظرية بطليموس السابقة هو أنّه طرح هذه المسألة بصورة مستدلّة وأثبت ذلك بالبراهين العلمية، لا أنّه مبتكر هذه الفكرة.
على أنّه لو كانت الارض ساكنة واقعاً لرأيت هؤلاء العلماء والمفسرين المحدثين يتحركون في تفسيرهم لهذه الآية بما يوافق سكونها أيضاً، فصدر المتألهين مثلاً يستدل بهذه الآية على نظريته في الحركة الجوهرية، وآخرون فسّروها في حركة الجبال يوم القيامة والآية لا تأبى الحمل على كلٍّ من هذه التفاسير المذكورة.
ثم إن لقائل أن يقول إن الجبال لا تتحرك واقعاً، فما نسب إلى الجبال من الحركة والسير في الآية لابد أن يحمل على المجاز على اساس الحركة التبعية للارض، فالارض هي التي تسير واقعاً لا الجبال، وحينئذ وبارتكاب المجاز في المعنى لا تكون الآية صريحة على حركة الارض وان كان هذا التفسير هو الاقرب والافضل.
«الآية الثامنة» استدل بها على حركة الشمس مع منظومتها في ضمن حركة المجرة «مجرة درب التبانة» مما يحقق نصراً علمياً للقرآن لم يكن قد اكتشف في السابق.
وانت ترى ما في هذا الكلام من تحميل للآية، فحركة الشمس محسوسة من الشرق إلى الغرب، ولم يقل أحد بأن الشمس ثابتة اطلاقاً، أما أنّها كيف تجري وتتحرك؟ هل حول الأرض، أو حركة مركزية حول نفسها، أو مع منظومتها حول مدار معين في المجرة العظمى؟ فهذا لم تتحدث عنه الآية، ومن التعسّف أن نحمّل الآية ما ليس فيها.
«الآية التاسعة» تصرح بأن الله تعالى خلق السموات بقدرته، وهو مستمر في توسعتها، أو أنّه سوف يقوم بتوسعتها في اللاحق كما هو مقتضى الفعل المضارع «وانا لموسعون»، وهذا المعنى كما يدعي صاحب النفحات والتفسير الامثل وغيره من العلماء أنّه موافق لآخر الكشوفات العلمية في عالم الفلك، حيث يؤكد بعض علماء الفلك بأن العالم في حالة توسعة مستمرة.
وهذا الادعاء كما ترى غير مفهوم من الآية حتماً، أي أن الآية لا تصرح بأن عملية التوسعة هي عملية فعلية، بل جاءت بصيغة اسم الفاعل، فيحتمل أن التوسعة تتحقق فيما بعد، كأن تقع يوم القيامة.
مضافاً إلى أننا قلنا أن هذه الكشوفات العلمية لا تتعدى مستوى النظرية وتفتقد إلى ادوات الاثبات العلمي. والعلماء لا يطرحونها كأمر مسلّم لا يمكن الخدشة فيه، وحتى لو ثبت قول بعض علماء الفلك كجورج كاموف وغيره بأن المجرات السماوية تبتعد عن مركز العالم باستمرار، فان زيادة الفواصل بين الكواكب والمجرات العظيمة لا يعني اتساع السماء لو أخذنا بالنظرية المشهورة في لا محدودية العالم، فاللامحدود واللامتناهي لا يعقل في حقّه الاتساع إلاّ على سبيل المجاز بأن يكون المراد من التوسعة المذكورة سعة الفاصلة بين الاجرام السماوية لا سعة نفس السماء.
«الآية العاشرة» وفيها يُدّعي أنّها تحكي عن وجود عنصر الحياة في الكرات السماوية كما يظهر من قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والارض وما بث فيهما من دابّة) على اساس أن «فيهما» يعود إلى السماوات والارض، ولكن متى أثبت العلم الحديث وجود الحياة والكائنات الحيّة في الكواكب السماوية حتى يدّعي هذا المفسّر المحترم بأن هذه الآية تعتبر كشفاً علمياً اعجازياً للقرآن الكريم؟
«الآية الحادية عشر» ادّعي أنّها تشير إلى بصمات الأصابع حيث ثبت أن لكل فرد من افراد البشر بصمات خاصة لا يشاركه فيها أحد، وهذا الكشف العلمي لم يكن في سالف الزمان وقديم الايام، بل هو من انجازات التطور العلمي الحديث وخاصة العلم الجنائي، والقرآن سبق العلم الحديث بعدّة قرون في هذا الكشف.
ولا أعلم ما إذا كان هؤلاء المدّعون جادّين في دعواهم هذه، أم يخاطبون أنفسهم والآخرين بلغة الاحاسيس المذهبية؟ فلو خلينا مع الآية ومن دون تصور لهذا الكشف الحديث فان المعنى سيكون بقرينة السياق للآية أن الله تعالى سوف يجمع عظام الإنسان يوم القيامة ولا يترك منها شيئاً حتى عظام الانامل التي هي أصغر العظام في بدن الإنسان، فهي تؤكد للمنكرين والنافين للبعث بأن الله سيعيد الإنسان بكامل اجزاء بدنه، صغيرها وكبيرها:
(أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوّي بنانه).
واين هذا من الكشف المذكور في أن بصمات كل فرد تختلف عن الافراد الآخرين؟! أي أن هذا المعنى المذكور آنفاً يجتمع مع تشابه البصمات لافراد البشر كما يجتمع مع اختلافها، لأنه اساساً غير ناظر إلى اختلاف البصمات وتماثلها كما هو واضح، ولا نطيل أكثر في ردّ هذه المزاعم والتصورات الموهومة التي لا يتحرك اصحابها من موقع الامانة العلمية والحياد العقلي لدراسة القضايا الدينية، بل ينطلقون من موقع الحسّاسية المذهبية والعقل الديني لإثبات ودعم ما آمنوا به سابقاً، فتكون النتيجة تشويه حقائق الدين وإدخال ما ليس في الدين في الدين.
2 ـ عدم معقولية التحدّي العلمي
اساساً لا يعقل أن يتحدى القرآن العرب في صدر الاسلام بأن يأتوا بمثله من حيث الاعجاز العلمي الذي سوف يثبت صحته بعد أكثر من الف سنة، فمثل هذه الدعاوي لو فرض صحتها لم تكن مورد نظر القرآن الكريم في دائرة التحدي قطعاً.
3 ـ الجواب بالنقض
اصحاب العقل الديني الذين يسعون دائماً إلى الدفاع عن معتقداتهم الدينية بشتى الوسائل خوفاً على ايمانهم من الإهتزاز والسقوط في مقابل الحقيقة، ويغفلون أو يتغافلون عن قضية مهمة. وهي أن كل سلاح يستخدمونه لإثبات حقانية مذهبهم إذا لم يكن قائماً على اساس الحق، فهو سلاح ذو حدين وذو وجهين، وبامكان المخالف أن يستخدمه في تزييف حقائق الدين وثوابت المذهب التي يؤمن بها الإنسان الملتزم، وهذا هو السبب الذي دفعنا لتأليف هذا الكتاب، وذلك من أجل تزييف وإزاحة ما تراكم على حقائق الدين من أدلة واهية وتخرصات ذهنية عقيمة ظن علماء الكلام والمفسرون أنهم يدفعون بها شبهات المنكرين ويجيبون بها على استفهامات المخالفين. فاذا بهم يدفنون الحقيقة الناصعة تحت نفايا عقولهم وركام أفكارهم، في حين أن الحق بنفسه كفيل بازاحة الوهم والشبهة فيما لو ظهر للناس على حقيقته، فالنور لا يطرد الظلام، بل أن نفس وجود النور يعني انعدام الظلام، كما يصرح القرآن بهذه الحقيقة المهمة بقوله: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق)( ) فالحق لا يقوم بالقضاء على الباطل وإزهاقه، بل أن الباطل سيضحى زاهقاً بمجرد حضور الحق.
وعلى سبيل المثال فقد أورد الفلاسفة وعلماء الكلام في العديد من الادلة العقلية لاثبات وجود الله تعالى، في حين أنّها قضية وجدانية بحتة وليس للعقل المجرد أو الديني من سبيل إلى ادراكها فضلاً عن اثباتها. ولكننا رأينا كيف أنهم توسّلوا بهذا العقل البشري الناقص في اثبات الحقائق الوجدانية، فكانت النتيجة أن المنكرين استخدموا نفس الوسيلة لاثبات عدم وجود الله وإبطال أدلة الموحّدين.
ونفس الكلام يأتي في مجال العدل الالهي وحرية الإنسان حيث تمسك الشيعة وأهل السنة بالأدلة العقلية والنقلية لتأييد مذهبهم الموروث وتزييف أدلة الطرف المقابل، والحال أن مسألة العدل أو الحرية هي من المسائل الوجدانية التي يدركها الإنسان بوجدانه من دون تدخل العقل والنقل في ذلك.
وسيأتي نفس الكلام في الامامة، فالشيعة مثلاً يتمسكون دوماً بالادلة النقلية والروايات الكثيرة في دعم وجهة نظرهم واثبات أن الحق مع الإمام علي(عليه السلام) دون غيره من الصحابة، في حين أن الطرف المقابل لديه من الروايات والاحاديث المنسوبة إلى النبي في إثبات وجهة نظرهم اكثر مما لدى الشيعة، فان قيل أنّها روايات مجعولة، لقالوا مثل ذلك في روايات الشيعة، أو انها على الأقل روايات معتبرة في ذلك المناخ الديني، ولا يصح للشيعي أن يطعن بروايات الطرف المقابل وهو يعلم كثرة الوضع والاختلاق في مذهبه.
نعود إلى أصل الموضوع لنؤكد ـ كما سيأتي ـ أن القرآن حقيقة وجدانية صرفة والدليل على النبوة ينبغي أن يمرّ من قناة العقل الوجداني، فلا فائدة في تجميع الادلة العقلية لإثبات حقّانية النبي والقرآن، لأن الخصم سوف يستخدم الدليل ذاته في تزييف هذه الحقائق الدينية، ومنها المعجزة القرآنية على مستوى الكشوفات العلمية، وقد رأينا وهن ما يتمسك به أصحاب العقل الديني في اثبات المعجزة العلمية للقرآن، وبامكان المخالف أن يستخدم نفس هذا الدليل لإبطال الحقيقة القرآنية وأن هذا الكتاب هو من الله تعالى، وذلك بالبحث والتنقيب عن الآيات القرآنية المتقاطعة مع الكشوفات العلمية الحديثة وهي ليست بأقل مما استشهد بها الموافق في دعم وجهة نظره، وعلى سبيل المثال قوله تعالى:
1 ـ (وإلى الارض كيف سطحت)( ) حيث تصرح الآية بأنّ الارض مسطحة وليست كروية.
2 ـ (الذي خلق سبع سموات طباقاً)( ) وهذه المقولة تتفق مع نظرية بطليموس القديمة في الافلاك السماوية، وقد أثبت العلم الحديث بطلانها وأن السماء واحدة لا اكثر.
3 ـ (وقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين).( )
فهذه الآية ومثلها آيات اخرى تصرح بأن ظاهرة الشهب والنيازك معلولة لصعود الشياطين إلى السماء ليستمعون إلى حديث الملائكة ـ كما ورد في سورة الجن ـ والحال أن العلم الحديث أثبت أن هذه الظاهرة الطبيعية معلولة لجاذبية الارض، وأن الشهب والنيازك ما هي إلاّ أحجار متناثرة في الفضاء الفسيح المحيط بالكرة الارضية. وعندما يقترب أحدها من جو الجاذبية الارضية ينجذب إليها بسرعة خارقة ولدى اصطدامه بالغلاف الجوي للارض يحترق ليكون على شكل شهاب.
4 ـ (يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجّداً لله)( ) وآيات اُخرى مماثلة حيث تقرر أن الظلال يسجد لله مع أن حقيقة الظل أمر عدمي، أي عدم النور، فما نرى من ظلالنا على الارض هو في حقيقته عدم وصول النور إلى الارض لوجود الحاجب والمانع، فما معنى أن يقال أن الظل يسجد لله؟
5 ـ (يد الله فوق أيديهم)( ) الظاهرة في مقولة التجسيم، مع أن الهم تعالى منزّه عن الجسم والمادة قطعاً، وكذلك قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)( ) أو (وجاء ربك والملك صفاً صفاً)( ) وغيرها من الآيات المجسّمة.
6 ـ (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان)( )
(وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فراتٌ وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً»( )
حيث تصرّح هذه الايتين على وجود بحر ماء عذب، وإلى جنبه بحر ماء مالح بحيث لا يختلط الماء العذب بالمالح ابداً، وكان القدماء يتصورون وجود هذان البحران في مكان مّا من الدنيا ولكن الواقع ومكتشفات العلم خيّبت ظنونهم وأوهامهم، فلا يوجد مثل هذان البحران على مستوى الواقع الخارجي، وبالتالي وقع المفسّرون الجدد في حيص بيص في تأويل مثل هذه الايات.
ولا نريد أن نطيل في ذكر النقوض العلمية في ردّ مزاعم اتباع التراث الديني لأن الغرض يتحقق بذكر نماذج قليلة. رغم أن هذه النقوض لها جواباتها أيضاً وليست بالشبهات المستعصية على الحلّ، ولكن الحلّ لا يتأتى إلاّ باستخدام سلاح التأويل وصرف النظر عن الاخذ بالظواهر، فاذا كان الأمر كذلك فمن الأجدر بنا أن لا نرد هذا المورد في اثبات المعجزة القرآنية، لأن سلاح التأويل ذو حدّين كما تقدم، فتارة يكون لك واخرى عليك.
وسيقول بعضهم أن فلان يطرح الشبهات ليوهن من عقائد الناس، ولكن الصحيح أن الجيل المعاصر بدأ يقرأ الدين بعينين مفتوحتين. وسواء شئنا أم أبينا فسوف يصطدم بهذه الشبهات وتثور في ذهنه أكثر من علامة استفهام حول صحة معتقداته ومفاهيمه الدينية بخلاف الاجيال السابقة التي كانت تمرّ على الثوابت الدينية مغمضة العيون وتتهم عقولها على حساب الحفاظ على ايمانها، فاذا لم نسبق الشباب الواعي والمثقف في حلّ المشاكل المعرفية التي تواجههم لدى قراءتهم للتراث الديني فسوف يتوجهون إلى مصادر اخرى للعثور على الجواب وحل المشكلة، وتلك المصادر والمذاهب الفكرية مخالفة لنا بالاصول والفروع، ولا يؤمن معها على ايمان الجيل الجديد وسلامة فطرته ودينه وأخلاقه، ولهذا آثرنا أن نقوم بحل هذه المشكلة لعدم عثورنا على جواب مقنع في كتب الأصحاب.
حلّ النقوض:
إن أكثر النصوص القرآنية المخالفة في ظاهرها للثوابت العقلية والعلمية لا تشكل معضلة في واقعها الديني والعقلي بعد قبول عنصر التأويل واتساع اللغة لممارسة المجاز والكناية والمثال والتشبيهات وغيرها من الاستعمالات اللغوية الضرورية في مقام الافهام والتخاطب وخاصة لكتاب سماوي يريد قولبة المعاني الوجدانية في قوالب لفظية محدودة، فلهذا لا نجد ثمة مشكلة في فهم الآية التي تشير إلى أن الأرض مسطحة، أو أن لله يداً، أو سجود الظلال وأمثال ذلك، انما المعضلة في بعض الآيات التي تستعصي على التأويل والمجاز كما في السموات السبعة، أو رجم الشياطين بالشهب والنيازك، فلابدّ من التدبّر والامعان في هذه الحقائق القرآنية وطرق ابواب اخرى لحل المعضلة:
المعضلة الاولى: «السموات السبع»:
في البداية لابد من استعراض فكرة بطليموس عن العالم التي كانت سائدة في الاجواء العلمية اكثر من الفي عام، فحتى بعد النهضة العلمية في اوربا نجد كثير من الفلاسفة المسلمين في العصور المتأخرة متأثرين بتلك الرؤية الكونية كما في كتابات صدر المتألهين في اسفاره، والسبزواري في منظومته، وأحد مجلدات الاسفار، وهو السادس منها مختص ببيان العالم العلوي والافلاك السماوية وفقاً لنظرية القدماء، وخلاصتها أن الارض تعتبر في هذه الرؤية الكونية محور العالم، وتحيط بها (9) افلاك حسب نظرية بطليموس، و (7) حسب نظرية الفلاسفة المسلمين بعد تصريح القرآن بالعدد (7) للسموات ولكن بعد اضافة الكرسي والعرش المحيطان بالسموات السبع لا يبقى كثير فرق بين الرؤية الاسلامية ونظرية بطليموس حيث يكون عدد الافلاك (9) في النهاية.
أما ترتيبها حسب هذه النظرية من حيث القرب والبعد عن الارض وكما جاء في كتاب «المجسطي» لبطليموس أن الارض ثابتة تقع في الوسط وتعتبر مركز الكرات الاخرى، ويحيط بها الهواء من كل جانب، وتحيط بالهواء كرة النار، وبعده يأتي أول فلك من الافلاك التسعة، وهو (فلك القمر)، وبعده فلك (عطارد). ثم فلك (الزهرة)، ثم فلك (الشمس)، ثم فلك (المريخ)، ثم (المشتري)، ثم (زحل)، إلى هنا يتحصل لدينا سبعة افلاك وهي السيارات السبع، واحد منها محيط بالآخر، ثم يأتي فلك البروج الذي هو عبارة عن السماء الثامنة حيث مقر النجوم والكواكب الثابتة والتي نراها معلقة في السماء ومثبتة (مثل المسامير المثبتة في خشبة)، وآخرها فلك الافلاك، أو فلك (اطلس) وهو الفضاء اللامتناهي الذي لا يعلم قطره الاّ الله تعالى ولا توجد فيه نجمة واحدة.
وهكذا تتحصل لدينا صورة للارض والسموات مثلها كمثل البصل المكوّن من طبقات تحيط أحدهما بالاخرى تماماً.
والرؤية القديمة لعلماء الاسلام لا تكاد تختلف اختلافاً مهماً مع هذه الرؤية وخاصة بعد ورود روايات كثيرة تؤكد صحة هذه الرؤية، وليست هذه الرؤية للكون اعتباطية، فالاساس فيها هو الحسّ والرؤية البصرية، فالكواكب السبعة وهي التي تسمى بالسيارات السبع مشاهدة ومحسوسة، وما سواها من النجوم هي الثوابت وتشغل السماء الثامنة، أما التاسعة فهي فرضية بحتة، وبعد أن ثبت علمياً بطلان هذه الرؤية الكونية، فان السؤال المهم هو كيف نوفّق بين الرؤية الجديدة وإخبار القرآن الكريم بوجود سبع سموات حيث يظهر منها مساندتها وتأييدها للرؤية القديمة في نظرية الافلاك التسعة (أو السبعة مع حذف الكرسي والعرش)؟ علماً بأن الرؤية الجديدة وخاصة على فرضية لا محدودية العالم تلغي وجود سبع سموات، وتختزلها إلى واحدة لا أكثر.
المعاصرون من العلماء والمفكرين الاسلاميين تقدّموا بحلّين لهذه المعضلة:
«أحدهما»: ما أجاب به غير واحد من المفسّرين وعلماء الدين من أن العلم الحديث لم يثبت عدم وجود سماوات اخرى غير هذه السماء الاولى. وعدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود. ولعل العلم الحديث سوف يتوصل فيما بعد إلى اكتشاف هذه العوالم التي أخبر القرآن بوجودها. ولذلك لا يمكن القول بأن الإخبار القرآني بوجود سبع سماوات يتقاطع مع رؤية العلم الحديث. يقول صاحب التفسير الامثل في هذا الصدد:
«الأصح في رأينا أن المقصود بالسماوات السبع، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد، وتكرر هذه العبارة في آيات الذكر الحكيم يدلّ على أن العدد المذكور في هذه الآيات لا يعني الكثرة، بل يعني العدد الخاص بالذات.
ويستفاد من آيات اُخرى أن كل الكرات والسيارات المشهودة هي جزء من السماء الاولى، وثمة ستة عوالم اُخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم، وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع.»( )
ولكن هذه الجواب أو الحلّ غير مقبول لعدّة امور:
1 ـ مع قبول فرضية لا محدودية الكون المادي يكون قبول وجود عوالم اخرى محيطة بهذا العالم محالاً، وحتى لو قلنا بالمحدودية فان تصديق وجود عوالم محيطة بهذا العالم الفسيح جداً ـ والذي يبلغ قطره المكتشف لحدّ الآن آلاف المليارات من السنين الضوئية عسير للغاية وخاصة إذا اخذنا بأخبار المعراج وأن النبي عرج إلى السماء السابعة.
2 ـ إن القرآن نفسه يكذب هذا الإدعاء. وذلك في تعبيره عن السموات بـ «طرائق»( ) جمع (طرق)، وهو ما يتطابق مع الكواكب السيارة في مسيرها ودورانها حول الشمس.
3 ـ إن هذا التصور لا يتلاءم مع تأكيد القرآن الكريم في العشرات من آياته بوجود سبع سموات ويذكرها في مجال التذكير بنعم الله تعالى على الإنسان كنعمة الشمس والقمر والماء والهواء وما إلى ذلك، فلو كانت السموات الاخرى غير مرئية ولا محسوسة لشدّة بعدها عن الارض، اذن فما فائدة هذا التذكير الدائم بها والتأكيد على وجودها؟!
4 ـ إن القرآن حينما يتحدث عن السموات السبع يتحدث إلى المؤمنين والكافرين على اساس أن القضية من الوضوح إلى درجة لا تقبل الانكار، فهذا «نوح» يخاطب الكافرين في ذلك الزمن الغابر ويقول لهم:
(ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً)( )
ولو كان المقصود هو ما ذكره مكارم الشيرازي لجاز لاولئك الكفار انكار هذه المقولة وأنهم لا يرون ذلك، مع أن لحن الخطاب يوحي بقبولهم لها، وإلاّ لما خاطبهم نوح بمثل هذا الخطاب.
«ثانيهما»: ما نجده في كتابات المفكرين الجدد امثال الدكتور سروش( ) وغيره الذين يذهبون إلى «بشرية الخطاب القرآني»، وتتلخص هذه الرؤية بأن الخطابات القرآنية رغم أنّها الهية، إلاّ انها قد لبست ثياب البشرية وتجسدت المعاني السامية بلغة محدودة ومفاهيم بشرية ضيقة، فكان أن خضعت لتأثير البيئة والثقافة السائدة آنذاك، فكانت الخطابات القرآنية تخاطب الناس من خلال فهمهم للاحداث ورؤيتهم للكون والطبيعة، فلا اشكال في هذه الإخبارات رغم عدم واقعيتها لأنها تحكي عن ثقافة خاصة بعصر النزول كما هو مقتضى من اُنزل عليه القرآن وهو النبي الاكرم(صلى الله عليه وآله) ومقتضى ثقافته وظروفه التاريخية.
وفيه: أن هذا الحل وان كان أفضل من صاحبه وأقرب إلى القبول، إلاّ أنّه يواجه مشكلة تكريس الجهل في الثقافة البشرية وتقرير للخطأ وتصديق لرؤية كاذبة عن الواقع الخارجي، وسوف ينكشف هذا الخطأ في الرؤية في المستقبل حتماً كما حصل ذلك فعلاً، فكيف يسوّغ القرآن لنفسه بأن يبقي البشرية على جهلهم ويؤيد رؤيتهم الخاطئة وهو لم يأتِ إلاّ لمحاربة الجهل والخرافة، ولتوعية الناس وتحريك عقولهم وتنوير أفئدتهم!!
«والصحيح» في حلّ هذه المعضلة أن نقول:
إن القرآن الكريم عندما أقر الرؤية القديمة (المشاهدة والمحسوسة في حركة السيارات السبع) لم يقرّها على علاّتها، بل سعى إلى تصحيحها بما يتفق مع الواقع المتحرك في الكون، وذلك يعني أن المراد من (سبع سموات) هي السيارات السبعة (الشمس بدل الارض) لأنها مشاهدة ومحسوسة لجميع البشر، وفيها من الفوائد الجمّة ما لا يحصى، وخاصة في تعيين البروج والاشهر الشمسية وهداية السفن وما إلى ذلك، فالتصور الارضي كان يقوم على أساس أن لكل سيارة سماء على حدة، أي أن هذه الكرات لا تسير في فراغ، بل في سماء منطبقة على السماء الدانية وهكذا حتى يصل إلى (فلك الافلاك)، والتصحيح القرآني لهذه الرؤية ينطلق من مفهوم السماء والفلك وانها ليست سوى مدارات وهمية و(طرائق) تتحرك فيها هذه السيارات (وكلّ في فلك يسبحون).
التصحيح أو التعديل الآخر الذي أجراه القرآن على الرؤية الكونية القديمة هو أنّه اختزل السماوات التسع (الافلاك التسعة) في نظرية بطليموس إلى سبع سماوات كما هو المشاهد من السيارات السبع، وما ورد في الاخبار وافكار حكماء الاسلام من تصوير الكرسي والعرش بمثابة السماء الثامنة والتاسعة في احاطتهما بالكون فهو من بنات افكار هؤلاء الحكماء المتأثرين بالعلوم اليونانية إلى حدّ كبير، والروايات ضعيفة ومجعولة حتماً، لأنها تخالف كتاب الله، لأننا لا نجد هذا المعنى للكرسي والعرش في القرآن الكريم، غاية ما هناك أن القرآن يتحدث تارة عن الكرسي بانه:
(وسع كرسيه السموات والارض)( )
والسعة لا تعني الاحاطة كما هو واضح، والمفسرون يذهبون إلى أن المراد من «الكرسي» القدرة الإلهية، وهذا يعني أن القدرة الإلهية نافذة في جميع انحاء الكون ومتخللة في جميع مفاصل عالم الوجود، أي أن قدرة الله مقرونة مع الموجودات لا انها محيطة بالكون.
اما بالنسبة إلى «العرش» فالقرآن أنزله من وراء السماء السابعة إلى الارض وجعله على الماء:
(وكان عرشه على الماء)( )
والتعديل الثالث أن القدماء كانوا يتصورون أن النجوم الثوابت واقعة في السماء الثامنة (فلك البروج) بينما يقول القرآن في حديثه عن محل النجوم أنّها في السماء الدنيا:
(إنّا زيّنا السماء الدّنيا بزينة الكواكب)( )
وبما أن الرؤية البطليموسية كانت راسخة في افكار رجال الدين والحكماء المسلمين (ولحدّ الآن) فقد فهموا من هذه الآية أن القرآن يقرر محل النجوم في السماء الاولى. ولذلك رأينا أن حكماء ومحققين امثال الشهيد المطهري يرى أن جميع الكواكب والنجوم في الفضاء الفسيح تعود إلى السماء الاولى. والحال أن القرآن يصرح بأنها في السماء الدنيا، أي السماء الموجودة فعلاً في عالم الوجود، وهذا يوحي أيضاً إلى اختزال السماوات السبعة في سماء واحدة وهي «السماء الدنيا»، مما يقترب بالانسان كثيراً إلى الواقع الموضوعي لعالم الوجود والكون.
أما لماذا لم يصرح القرآن بالحقائق العلمية المكتشفة حديثاً عن الكون والتشكيلة الواقعية للاجرام السماوية؟ فذلك يعود إلى أن القرآن كتاب هداية بالدرجة الاولى، وليس العلوم الطبيعية مقصودة في الخطابات القرآنية، هذا من جهة، ومن جهة اخرى صعوبة إفهام الناس في ذلك الوقت بالحقائق العلمية جملة واحدة، فلابد من التدرّج في الافهام والتأني في عملية الترشيد الفكري لئلاّ يثقل الأمر على الناس وخاصة أن الاسلام كان يعيش مرحلة مواجهة صعبة مع المشركين، وليس من الصحيح فتح ثغرة في سور الآيات القرانية ينفذ منها الخصم يتخذها ذريعة في تكذيب القرآن، ولكن هذا لا يعني تجويز الإخبار المخالف للواقع من قبل القرآن كما رأينا في المحاولة الثانية لتفسير السماوات السبع، ولا الاخبار عن وجود سبع سماوات لم يكتشف البشر لحد الآن سوى السماء الاولى منها كما في المحاولة الاولى، أما إمضاء التصور السائد مع تعديله بما يقترب من الواقع الكوني فهو المتعين في مثل تلك الظروف، وهذا هو ما نجده في مجمل الخطابات القرآنية.
المعضلة الثانية: علاقة الشياطين بالشهب
ولحلّ هذه المعضلة الفكرية لابدّ من تقديم بعض المقدمات بعد التسليم بعدم صحة الحمل على الظاهر كما تقدم.
المقدمة الاولى: في استبعاد الحمل على الظاهر، فمن جهة فان الشياطين موجودات مجردة (غير مادية) فكيف يؤثر فيها سلاح مادي كالنيازك والشهب وحملها على الفرار والعودة إلى الارض؟ وأيضاً ما معنى أن تقوم الشياطين باستراق السمع لحديث الملأ الأعلى؟ وهل يعقل أن الملائكة في أقصى السماء السابعة ومحيطة بالعرش يصل صوتها في عملية المحادثة إلى جو الارض (حيث أن الشهب محيطة بالارض وليست في مدارات بعيدة جداً)؟ ولماذا تتحدث الملائكة بأسرار الكون فيما بينها؟ وما هي الاسرار الممنوعة على الشياطين؟ ولماذا سمح للملائكة ولم يسمح للشياطين؟ وما هي علاقة البعثة للنبي الخاتم مع منع الشياطين من استراق السمع وقد كانوا يسترقون السمع فيما سبق من دون عائق؟ وكيف صدر هذا المنع في هذا الوقت بالذات مع العلم بأن ظاهرة الشهب والنيازك قديمة قدم العالم وظاهرة معاصرة لجميع المجتمعات البشرية، فكيف يقول القرآن بأنها مختصة بما بعد البعثة:
(وإِنا كنّا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصدا)( ) أي بعد نزول القرآن.
وعشرات الاسئلة من هذا القبيل التي تثير في جو الفكر زوبعة من الشك في مصداقية الحمل على الظاهر، وتدفعنا إلى طرق ابواب اخرى للفهم السليم والمعقول لهذه الآيات.
«المقدمة الثانية»: حول الخطاب القراني وفرقه عن الخطاب العلمي، فكما هو معلوم أن الخطاب العلمي خطاب وصفي بحت ولا مجال للمعيارية فيه، فعندما يقرر العلم قانون الجاذبية أو سرعة الضوء أو الخسوف والكسوف، والمد والجزر، فإنّما يقرر ظاهرة طبيعية على مستوى الوصف والإخبار فقط، أي من دون دعوة أخلاقية أو خطاب إنشائي.
في حين أن القرآن كتاب هداية بالدرجة الاولى لا كتاب علم، وهذا يعني أن الخطاب القرآني خطاب معياري وإنشائي وإن ظهر بلباس العلم والخبر العلمي.
وبعبارة اُخرى: إن الآيات القرآنية ذات بعدين في الخطاب: أحدهما وصفي وهو الظاهر، والآخر معياري ويتضمن توصية وإنشاء في محتواه الداخلي، وهذا هو الأصل والمراد من الخطاب القرآني، وهو الموافق للغرض الأصل من القرآن بما هو كتاب هداية ودين، أو نقول كما في علم «السيمانطيقيا» وهو علم العلامات والدلالات حيث يقرر علماء السيمانطيقيا أنّ الخطاب يحوي على ألفاظ رمزية لا يقصد بها معانيها الموضوعة لها، بل قد يكون مراد المتكلّم شيئاً آخر غير معاني الألفاظ، مثل استخدام الجملة الإنشائية للتهديد، كقول الأب لابنه «العب كثيراً» ويقصد من ذلك تهديده وحثه على ترك اللعب، فنجد أنّ المعنى الأولي للجملة أعلاه غير مقصود، ويبحث علماء الاُصول هذا الموضوع في الدلالة التصورية والتصديقية وأنّ المتكلّم قد لا يريد الدلالة التصورية من الالفاظ، ولذلك قالوا بالدلالة التصديقية، فيكون المعنى الأولي للجملة غير ملحوظ، أي تكون الجملة بلا معنى في مدلولها التصوري، ولذلك يجري التأكيد على اكتشاف مراد المتكلّم والدلالة التصديقية الجديّة للخطاب في علم «السيمانطيقيا».
بعد هذا نقول: إن الجانب الوصفي في الآيات القرآنية لا يعني بالضرورة الحكاية عن الواقع الخارجي، لأنه ليس هو المقصود بالاصل، فلذلك يمكن أن يأتي هذا الجانب من الآيات محايثاً للثقافة السائدة في ذلك الزمان، فاذا كان السائد في تصور الناس أنّ الظل يسجد، أو أن الشهب والنيازك عبارة عن كواكب نارية تنطلق لقمع الشياطين وصدّهم عن الصعود إلى السماء، فما المانع من الاستفادة من هذا المفهوم في عملية التربية والإرشاد الديني للناس؟ ومع فرض عسر تغيير وجه النظرة المذكورة للناس لانعدام الوسائل والأدوات العلمية، أو لاحتمال إثارة بلبلة في افكار الناس الذين أخذوا هذه التصورات الخاطئة من الاسلاف مأخذ الحقيقة المسلّمة بما لا يخدم أهداف الدين في التربية الروحية والتوصية المعنوية، فما المانع أن يقرّ الدين هذا التصور ويستفيد منه في مجال تعميق الإيمان بالله تعالى والصعود بالإنسان من الواقع الجاهلي إلى مراتب عالية من الكمال المعنوي والإنساني بعد أن لا يكون مراده الجدي من الخطاب هو المدلول التصوري أو الوصفي؟
وعلى سبيل المثال كان الأب في عوائلنا الملتزمة دينياً يقول لأطفاله في معرض تفسير ظاهرة رفع الطيور والدجاج رؤوسها بعد تناول الماء بأن هذه الحيوانات إنّما تشكر الله بعد شرب الماء، ولذلك ترفع رأسها إلى السماء، ومن الواضح أن هذا الفرض لا يقوم على اساس معقول، وبعد أن يكبر الطفل وتتوسع إدراكاته يدرك زيف هذا الادعاء. ولكن هل يعني هذا أن الأب كان يكذب؟ كلاّ، لأن الغرض الأساس من تفسيره لهذه الظاهرة ليس هو الوصف والإخبار، بل عبارة عن توصية مبطنة وإرشاد للطفل بأن يشكر الله بعد كل شربة ماء كما تفعل هذه الحيوانات. فالمصب الحقيقي لهذا النوع من الخطاب هو التوصية لا الوصف، ولو كان مجرد وصف وحكاية عن حقيقة في عالم الواقع الخارجي لأمكن أن يكون خبراً كاذباً.
وهكذا في قول إبراهيم (بل فعله كبيرهم) فهو لا يريد أن يقرر خبراً عمّا وقع في الخارج ليكون الخبر كاذباً. بل قصد التوصية والإنشاء الموجود في باطن هذا الخبر، وهو الايحاء لهؤلاء الجهلاء بأن هذه الأوثان لا تضر ولا تنفع وأنّه لا جدوى من عبادتها.
إذن، فالجانب الوصفي الظاهر في الخطاب القرآني ليس هو المقصود.
فعندما يقرر القرآن حقيقة أن الله واحد، أو عندما نجد في الروايات أن «كلمة لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي» هل أن المقصود هو أن يعتقد الإنسان بهذا الخبر فقط؟ أي هل أن المقصود منه الجانب الوصفي، أو الجانب الإنشائي والمعياري بأن يتحرك الإنسان في سلوكه العملي والأخلاقي والعبادي بما يتوافق مع هذه الحقيقة التي تتضمنها كلمة التوحيد؟
لا شك في أنّ المراد هو الثاني، وإلاّ لما كان هناك معنى معقول لأن تكون هذه الجملة «لا إله إلاّ الله» حصناً من العذاب، لأن المشركين أيضاً كانوا يقرّون بهذه الحقيقة (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولنّ الله)( ).
بعد هذا نعود إلى ما نحن فيه، فالجانب الوصفي من الآية محل البحث قد لا يتوافق مع معطيات العلم الحديث، ولكن هذا لا يعني الخطأ في تشخيص الظاهرة، أو الكذب في الإخبار، لأن الإخبار ليس مقصوداً من الاساس، بل يشكل قشرة لفظية لحكاية توصية معيارية هي المقصودة بالاصل، وإذا أردنا أن ندرك معالم التوصية في سياق هذه الآيات فعلينا أن نتحول من العالم الخارجي إلى عالم الباطن والنفس الانسانية، ونفترض أن الآيات تتحدث عن عالم النفس في عملية تشبيه واستعارة من ظواهر العالم الخارجي لتقريب المعنى إلى الافهام، وبالاستفادة من بعض المفاهيم والتصورات، منها: أن الشياطين يوسوسون في صدور الناس كما صرح القرآن بذلك:
(من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس)( )
فمحلهم ومكانهم هو في عالم النفس وفي صدور البشر.
ومنها: تزامن منعهم من الصعود إلى السماء مع بعثة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)الذي غرس الايمان في قلوب الناس، فمن أجل المحافظة على هذا النور الالهي في قلب الإنسان منعت الشياطين من الاقتراب منه.
ومنها: أن العرش الالهي الوارد في الروايات الشريفة هو «قلب المؤمن»:
«قلب المؤمن عرش الرحمن»
والعرش محل تلاقي الملائكة ومنبع الأوامر الإلهية والعلوم الغيبية المتعلقة بهذا الإنسان، فلو استمعت الشياطين إلى ما سيجري في المستقبل على هذا الإنسان، فانها ستكون قادرة اكثر مما مضى على مستوى احباط عناصر الخير وترشيد عوامل الشر في الفرد المؤمن.
ومنها: أن الرسالة المحمدية عملت على تقوية عقول الناس واذكاء الفهم الواقعي والتفكير المنطقي للإنسان المسلم، وهذا يعني أن كل وسوسة لهؤلاء الشياطين القابعين في صدر الإنسان ونفسه الامارة ستواجه بالشهب العقلية على شكل استدلال عقلي يعمل على تحريك الإنسان في طريق الخير ودفعه إلى سلوك جادة الصواب وتجنب الشكوك والاوهام التي تثيرها الشياطين في نفسه.
النتيجة: إن تصوير علاقة الشياطين بالشهب والنيازك يمكن أن يحمل على هذا المعنى من تشبيه المعاني العقلية بالمحسوسات والغرض منه الايحاء للناس بأن الشياطين لا يمكنها التدخل في الوحى بعد الآن والتشويش على حامل الرسالة الإلهية للبشر كما كان الاعداء وخاصة اليهود يثيرون هذه التشكيكات في جو الرسالة، ولا يخفى ما في هذا الايحاء من تثبيت لقلوب المسلمين على الايمان من موقع الوضوح في الرؤية والتعامل مع الرسالة السماوية من موقع الوثوق والاطمئنان.
كتاب سر الإعجاز القرآني - أحمد القبانجي
الإعجاز العلمي في القرآن - أحمد القبانجي
يقول الطباطبائي في معرض حديثه عن هذه الجهة الإعجازية:
«وقد تحدّى ـ القرآن ـ بالاخبار عن الغيب بآيات كثيرة، منها اخباره بقصص الأنبياء السالفين وأممهم كقوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا)هود ـ 49. ومنها الإخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى: (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) الروم ـ 2 ـ 3 وقوله تعالى في رجوع النبي إلى مكة بعد الهجرة: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد)القصص ـ 85 ... ومن هذا الباب آيات اُخر في الملاحم نظير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون..)الأنبياء: 95، وقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا ليستخلفنّهم في الارض)النور: 55 ومن هذا الباب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبّهم ويحبون)المائدة: 54، إلى غير ذلك من الآيات التي تنبيء عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الأمة الإسلامية أو الدنيا عامة بعد عهد نزول القرآن).
ويقول الإمام رشيد رضا في «المنار»:
«الوجه الثالث: اشتماله على الإخبار بالغيب من ماض كقصص الرسل مع أقوامهم، وقد تقدم بعض الكلام فيه، ومن حاضر في عصر تنزيله كقوله تعالى «غلبت الروم...»... وكقوله تعالى «سيقول المخلفون...» ـ ثم ذكر جملة من الآيات التي تخبر بالمغيبات كما ذكر الطباطبائي آنفاً ـ ثم قال: ـ فهذه الاخبار الكثيرة بالغيب دليل واضح على نبوة نبينا وكون القرآن من عند الله تعالى اذ لا يعلم الغيب غيره سبحانه، ولا يمكن معارضتها بما يصح بالمصادفة أو القرائن احياناً من أقوال الكهّان والعرافين والمنجمين، فان كذب هؤلاء اكثر من صدقهم، إن صح تسمية ما يتفق لهم صدقاً منهم».
* * *
ونلاحظ عليه:
1 ـ إن مسألة الإخبار بالغيب لا تختص بالقرآن الكريم ولا تعدّ معجزة بحدّ ذاتها، فالكثير من المرتاضين والعرفاء والكهنة كانوا يخبرون بالغيب، والقرآن نفسه يشير إلى طرف منها هي قصة أم موسى لما خافت على إبنها من القتل فألقته في اليم:
(وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم..)
ويذكر المفسرون في شرح هذه الواقعة أن كهنة فرعون وعلماء البلاط كانوا قد اخبروا فرعون بأنه سيولد من بني اسرائيل من يطيح بعرشك، فأمر بقتل جميع أطفال بني اسرائيل حين الولادة، والقصة مفصلة فراجع.
وعلى كل حال لا يكون الإخبار بالمغيبات دليلاً عقلياً على أن هذا الخبر الغيبي أنما هو من الله تعالى، بل من مصادر اخرى كما كان الكهنة يأخذونه من الجن، والقرآن يقرّ هذه الحقيقة وأن بعض الجن كانوا يسترقون السمع من الملأ الأعلى:
(وانا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً)
واما انقطاع الكهانة واستراق السمع من قبل الجن بعد البعثة فهو من ادعاء القرآن نفسه، ومعلوم أنّه لا يمكن قبول هذا الادعاء ما دمنا لم نصل بعد إلى مرحلة التسليم بأنه من الله تعالى، أي أن الاستناد في عملية الاستدلال على النصوص القرآنية يوقعنا في ورطة الدور الباطل.
2 ـ يذكر العلامة من موارد الإخبار بالغيب قصص الأنبياء، والآية المذكورة صريحة في ذلك، ولكنها لم تورد هذه القصة بعنوان معجزة، ومجرد أن النبي(صلى الله عليه وآله)لم يكن يعلمها ولا قومه لا يعد بحدّ ذاته اعجازاً ينبغي للآخرين التسليم به، فبإمكانهم أن يقولوا أنّه اكتسب اصولها من علماء أهل الكتاب، وبعد تعديلها وتهذيبها طرحها بالشكل المذكور في القرآن، أو أنّها من بنات أفكاره وخاصة مع عدم وجود ما يؤيد صحة هذه الاخبار والقصص.
وإلى هذا المعنى ذهب السيد المرتضى في نقضه على الاعجاز بالمغيبات، وقال:
«وأيضاً فان الاخبار عن الغيوب في القرآن على ضربين: خبر عن ماض، وخبر عن مستقبل. فالأول الاخبار عن أحوال الأمم السالفة، والثاني مثل قوله تعالى «لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصّرين لا تخافون» وقوله تعالى «ألمّ غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون» وأمثال ذلك من الأخبار التي وقعت مخبراتها موافقة للإخبار عنها.
فأما القسم الاول: فهو خبر عن أمور كائنة ومشهورة شائعة، وذلك لا يسمّى خبراً عن غيب، وليس في ذلك إلا ما يمكن للمخالف أن يدّعى أنّه مأخوذ من الكتب أو من أفواه الرجال... والقسم الثاني: إنما يكون دالاً إذا وقع عن مخبر مطابق للخبر وقبل أن يقع ذلك لا فرق في الخبر بين أن يكون صدقاً أو كذباً، ومن المعلوم أن الحجة بالقرآن كانت لازمة قبل وقوع مخبرات هذه الأخبار.»
3 ـ ويذكر العلاّمة الآية الشريفة التي تخبر عن انتصار الروم على الفرس كنموذج للإعجاز الغيبي في القرآن الكريم، وفيه مع ما تقدم من الإشكال، أن التاريخ المستقل لم يحدثنا بحادثة من هذا القبيل وقعت في ذلك الزمان الخاص إلاّ ما ورد في كتب المسلمين، ومعلوم أنّها لا تكون حجة لإثبات المطلوب، لأنها تخبر عن القرآن وبدافع من ايمان المسلمين بصحة جميع ما ورد في الآيات من أخبار، وهو من الدور الباطل، أي أن المفروض اثبات هذه القضية من خلال المصادر التاريخية المستقلة.
4 ـ أما الآية التي تتحدث عن عودة النبي(صلى الله عليه وآله) إلى مسقط رأسه فغير واضحة المفهوم وغير صريحة في بيان المراد، ولو أن النبي لم يوفق للعودة إلى مكة لرأينا أن المفسرين احتالوا لتأويلها طرقاً متنوعة مما تحتمله الآية، كأن يقولوا أن المقصود بالمعاد هو لقاء الله وما إلى ذلك.
5 ـ وأضعف ما في هذا الباب من الشواهد هو ما أورده من قصة يأجوج ومأجوج بعنوان انها ملاحم غيبية، ولا ندري ما ربطها بالإعجاز القرآني؟ وهل يمكن عقلاً قبول هذه الأخبار والملاحم التي ينفرد القرآن بها بعنوان معجزة؟
6 ـ وأضعف منه ما ذكر من وعد الله تعالى للذين آمنوا انه سيستخلفهم في الارض، لعدم تقييد هذا الوعد بمدة معينة من الزمان، فيبقى الوعد مفتوحاً إلى آخر الزمان، وفي أي عصر تحققت دولة صغيرة للمؤمنين يقال أن الوعد القرآني قد تحقق.
7 ـ ونفس الاشكال يرد على ما ذكره من الآية الكريمة التي تعد المؤمنين أن الله سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه، بل في هذه الآية نجد أن الوعد الإلهي مشروط بـ (من يرتد منكم عن دينه) فإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط وينتفي موضوع الوعد من الاساس، بل يمكن لأحد أن يقول أنّه قد ثبت ارتداد اكثر المسلمين بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله)، وخاصة أبان حروب الردة، ولكن هذا الوعد الالهي لم يتحقق!!
طبعاً هذه الاية محل نقاش كثير بين الشيعة والسنة، فالشيعة توردها في حق عليّ (عليه السلام) واصحابه، وأهل السنة يوردونها في ابي بكر حيث قاتل أهل الردة.
8 ـ أنّه لا يعقل أن يتحدى القرآن الكريم الناس في ذلك الزمان بما سوف يثبت صحته بعد عشرات السنين. فظاهر التحدي القرآني الفعلية في مسألة الاعجاز، ودعوة الناس إلى الإتيان بسورة من مثله تكاد تكون صريحة في أن التحدي واقع في زمن نزول آيات التحدي، وهذا يدل دلالة أكيدة على أن منظور القرآن من كونه معجزة شيئاً آخر غير الاخبار بالغيب.
9 ـ إن التحدي وقع بجميع سور القرآن لا على التعيين، فقد طُلب من العرب الإتيان بسورة واحدة من مثله، ومعلوم أن الكثير من سور القرآن خالية من الاخبار بالغيب، يقول السيد المرتضى:
«والذي يبطل هذا أن كثيراً من القرآن خال من خبر بغيب، والتحدي وقع في سورة غير معينة».
أحمد القبانجي - سر الإعجاز القرآني
نقد الإعجاز البلاغي في القرآن - أحمد القبانجي
يقول الطباطبائي صاحب الميزان في تصوير التحدي القرآني للبشر:
«وقد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فان لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وان لا اله الا هو فهل أنتم مسلمون)والآية مكية .. وفيها التحدي بالنظم والبلاغة فان ذلك هو الشأن الظاهر من شؤون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغاً لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدمة عليهم والمتأخرة عنهم..»
ويقول صاحب تفسير «المنار» في بيان المعجزة البلاغية للقرآن:
«الوجه الثاني: بلاغته التي تقاصرت عنها بلاغة سائر البلغاء قبله وفي عصر تنزيله وفيما بعده، ولم يختلف أحد من أهل البيان في هذا، وانما أورد بعض المخالفين بعض الشبه على كون بلاغة كل سورة من قصار سوره بلغت حدّ الاعجاز فيه. والقائلون به لا يحصرون اعجاز كل سورة فيه، ويتحقق التحدي عندهم باعجاز بعض السور القصيرة بغيره، كاخبار الغيب في سورة الكوثر التي هي أقصر سورة، على أن مسيلمة تصدى لمعارضتها بمحاكاة فواصلها، فجاء بخزي كان حجة على عجزه وصحة اعجازها...»
* * *
ونلاحظ عليه:
1 ـ إن الآية محل الشاهد لا إشارة فيها للتحدي البلاغي كما يدعى، وانما هو مجرد تحدٍّ لأن يأتوا بعشر سور مثله، ولا دليل على أنّها مثله في خصوص البلاغة والفصاحة، وقول العلامة أنّه هو الشأن الظاهر من شؤون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ هو أول الكلام، فحتى على فرض أن العرب يومئذ كانوا قد بلغوا من البلاغة مبلغاً، إلاّ أنّه مجرد شأن ظاهر كما يقول، وهو مبني على خلفية ذهنية ومسبوقات فكرية على أن العرب مهروا في البلاغة والفصاحة، في حين أن هذا المعنى مجرد ادعاء، فلكل لغة وقوم بلاغتهم وفصاحتهم وشعراؤهم وادباؤهم، فمن قال بأن العرب وشعراءهم أبلغ من الفرس أو الفرنسيين في لغتهم وأدبهم وشعرهم؟
فنحن امام قضية يستحيل الحكم فيها لصالح أحد الأقوام والثقافات البشرية، لأن مقاييس بلاغة كل لغة وثقافة مختصة بتلك اللغة لا تتعداها إلى غيرها، فالأدباء العرب يرجحون الأدب العربي الجاهلي من حيث البلاغة والفصاحة، والأدباء الفرس يرون في شعر حافظ وسعدي وبهار (ملك الشعراء) أنّه أبلغ من جميع الأشعار، وهكذا ترى كل امة في أدبائها وشعرائها ذلك.
2 ـ إن القرآن نفسه يكذّب هذا الإدعاء بالتحدي البلاغي، لأنه يتحدى الانس والجن قاطبة ويقول:
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
ومعلوم أن الأقوام البشرية لا تتكلم العربية بأجمعها، بل أن العرب لا يشكلون إلاّ جماعة صغيرة ونسبة قليلة جداً من الذين يتكلمون باللغات غير العربية، فاذا أضفنا الجن اليهم ازدادت نسبة الطرف المقابل كثيراً، ولا يعقل أن يتحدى الله سبحانه كل هؤلاء بأن يأتوا بمثل هذا الكتاب العربي في بلاغته وهم لا يفهمون من بلاغته شيئاً، ولو طلب منهم الإتيان بكتاب مثله بلغتهم لأمكن أن يدّعوا بأن كتابهم أفصح وأبلغ، ولا معيار في البين يمكن التحاكم إليه لتشخيص الفائز في هذه المسابقة.
فالمفروض في المقام أن يتحدى القبائل العربية فقط لا الإنس والجن.
3 ـ إذا كان معنى المعجز كون العرب لا يستطيعون الإتيان بمثله في البلاغة، فنهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام) كذلك، فالعلماء وأهل الأدب والبلاغة يصفون هذا الكتاب أنّه: «فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق» ومحل الشاهد هو الجملة الأولى، فلو فرضنا أن كلام الإمام علي(عليه السلام) فوق كلام البشر من جهة البلاغة، فيصح تسميته بالمعجزة على التعريف المذكور، ولم يبق فرق حينئذ بينه وبين القرآن من هذه الجهة إلاّ من حيث التحدي، أي أن الإمام لو كان قد تحدى العرب على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا، فثبت أن مجرد الإتيان بكتاب بليغ لا يستطيع الآخرون على الإتيان بمثله يمكن أن يصدر من البشر ولا يختص ذلك بالله تعالى. فاذا استطاع الإمام علي أن يأتي بكتاب أعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله، فالنبي الذي هو أبلغ وأفصح من الإمام علي بإمكانه أن يأتي أيضاً بكتاب تعجز العرب جميعاً عن الإتيان بمثله، وبعبارة اُخرى: أنّه كما عجزت العرب عن الإتيان بمثل نهج البلاغة وهو كلام بشري، فكذلك عجزوا أيضاً عن الإتيان بكتاب مثل القرآن الذي جاء به محمد(صلى الله عليه وآله)، وعليه فما المانع من أن يكون هذا الكتاب، وهو القرآن، كلام بشري أيضاً؟
4 ـ لماذا لا يمكن القول ـ مع تفريغ الذهن من المسبوقات العقائدية ـ أن نهج البلاغة في بعض موارده أبلغ من بعض آيات القرآن، فمع مقارنة بسيطة بين بعض الآيات من القرآن الكريم وفقرات من نهج البلاغة يتضح هذا المعنى جلياً وعلى سبيل المثال نختار من «نهج البلاغة» قوله (عليه السلام):
«فيا عجبا!! بينا هو ـ ابو بكر ـ يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم وإن اسلس لها تقحّم، فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس وتلون واعتراض. فصبرت على طول المدة وشدة المحنة»
أو قوله (عليه السلام) في الموعظة:
«أما بعد، فان الدنيا أدبرت وآذنت بوداع، وإن الاخرة قد اقبلت واشرفت باطلاع، الا وإن اليوم المضمار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار، أفلا تائب من خطيئته قبل منيته، الا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه... الا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، الا وانه من لا ينفعه الحق يضره الباطل. ومن لا يستقيم به الهدى يجر به الضلال إلى الردى...»
ومنها قوله (عليه السلام) في «دعاء الصباح»:
«اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه، وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه، وأتقن صنع الفلك الدوّار في مقادير تبرجه، وشعشع ضياء الشمس بنور تأجّجه، يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وجلّ عن ملائمة كيفياته، يا من قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون وعلم بما كان قبل أن يكون، يا من أرقدني في مهاد أمنه وأمانه، وأيقظني إلى ما منحني به من مننه وإحسانه، وكفّ اكفّ السوء عني بيده وسلطانه...»( )
ثم لنضع هذه العبارات إلى جانب سورة قرآنية للمقارنة البلاغية، ولتكن هذه السورة:
«لايلاف قريش، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا ربّ هذا البيت. الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»
أو سورة النصر:
«إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجاً، فسبح بحمد ربّك واستغفره إنه كان توابا».
فمع مقارنة سريعة بين الطائفتين من المقاطع الادبية والبلاغية يتضح لنا جلّي الحال وأن الاعجاز البلاغي للقرآن ليس سوى أدعاء فارغ يتشبث به من لم يعِ حقيقته ويتحركون في اثبات أرجحية الآيات المذكورة على مقاطع نهج البلاغة من موقع التعصب والحساسية المذهبية، ولكن لو تقدمنا في مسألة التحكيم بين هذه النصوص إلى غير المسلمين من الادباء العرب مثل: جرجي زيدان، جورج جرداق، جبران خليل جبران (رحمهم الله) والذين لا يخفى على كل باحث فضلهم وأثرهم المشكور على الثقافة العربية والاسلامية، فماذا تتصورون نتيجة التحكيم؟
غاية ما يتوقع من نتيجة التحكيم هو القول بالتساوي، وحتى على فرض أن تكون الآيات أقوى على مستوى البلاغة والفصاحة، فان هذا الامتياز للآيات لا يكون بشكل فاضح وسافر بحيث يمكن أن يعدّ معجزة، ومن مقومات الاعجاز أن يكون بشكل سافر إلى درجة لا يمكن قياسه ومقارنته بفعل البشر، كاحياء عيسى للموتى، أو انقلاب العصا إلى ثعبان حقيقي بحيث أهوى السحرة أنفسهم إلى السجود بمجرد رؤيته. أما لو كان الاختلاف طفيفاً بحيث يتردد فيه بعض الناس ويحملونه على نبوغ مدعي النبوة وأعلميته بالنسبة إلى سائر الناس فلا يصح ادعاء الاعجاز، وما نحن فيه من هذا القبيل، فالافضلية البلاغية للآيات ـ لو سلمت ـ لا تكون بمستوى أن يقال أنّها معجزة بالنسبة إلى عبارات النهج. نعم قد تكون معجزة فيما إذا قورنت بكلام ركيك وسخيف مثلما أوردوا من آيات قرآن مسيلمة «الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل. له ذنب قصير وخرطوم طويل...».
وأعجب ما يقال: إن «نهج البلاغة» كلام معصوم ومسترفد من منهل الوحي والنبوة، فهو معجز من هذه الجهة أيضاً، ولذا لا يصح مقارنة المعجز بالمعجز، وهذه ـ كماترى ـ حيلة العاجز، لأن المقصود هو مقارنة القرآن بكلام البشر أياً كان، والإمام علي (عليه السلام)بشر، وكلامه كلام بشر، والقرآن تحدى جميع البشر ـ بما فيهم الإمام علي ـ على أن يأتوا بمثله، والعرف والعقل المنصف والوجدان المحايد يشهدون على أن عبارات نهج البلاغة المذكورة مثل الآيات في البلاغة، والاختلاف الطفيف لو سلّم، لا يعدّ دليلاً قاطعاً على الاعجاز كما تقدم، بل يقال أن هذا أفضل من ذاك.
والسرّ في ذلك أن القرآن جاء (تبياناً) ولتفهيم السواد من الناس وهدايتهم، ولذلك كانت الآيات القرآنية أسهل مؤونة وأوضح معنى من عبارات نهج البلاغة، ولم يكن غرض القرآن من أول الأمر التنافس مع بلغاء العرب وادبائهم كما توهم العلامة وكثير من العلماء والمفسرين، غاية الأمر أن القرآن بما أنّه كلام الله فلابد أن يكون بليغاً وخالياً من الخطأ البلاغي، ولكن أن يكون أبلغ من غيره بالضرورة فهو أول الكلام.
5 ـ على فرض أن عبارات نهج البلاغة وكلمات النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام) لا تناظر القرآن الكريم في بلاغته، ولكننا نفتقد إلى الميزان الذي نزن بلاغة الكتب والقصائد الأدبية المعاصرة للقرآن، ومن ثم اجراء مقايسة بينها وبين القرآن، لأن الأدباء الذين يفترض كونهم حكماً في مثل هذه المقارنة الأدبية إن كانوا من غير المسلمين لم تسمع حجتهم فيما لو حكموا لصالح تلك الكتب والقصائد الشعرية، وان كانوا من المسلمين فعقيدتهم تفترض عليهم التحيّز لصالح القرآن وتبرير كل ما يوهم ضعفاً بلاغياً بتخريجات وذرائع مختلفة ليحفظوا للقرآن تفوقه البلاغي كما هو المشاهد في منهج العلماء والمفسرين في عملية المقارنة بين القرآن وبين غيره من الكتب، فالملاحظ أنهم يقارنون بين آيات القرآن وآيات يدّعون أنّها من مسيلمة الكذاب في قرآنه المزعوم «الفيل ما الفيل، له خرطوم طويل..» ويسخرون من سخافة هذا الكلام بالنسبة إلى القرآن الكريم، في حين أن الأجدر بهم مقارنة القرآن بنهج البلاغة و«تحف العقول لآل الرسول» الذي يجمع بين دفتيه درر وجواهر من كلمات المعصومين(عليهم السلام) هي آية في البلاغة والفصاحة، لا أن يخلقوا كلاماً تافهاً وينسبونه إلى المنافس للقرآن ثم يجلسون ليتفكّهوا على سخافة ذلك الكلام وركاكته!!
وعلى أية حال نحن أمام اشكالية معيارية خاصة في هذه المقارنة، لأن هؤلاء المحكّمين يعتبرون القرآن معجزة في البلاغة في مرحلة سابقة بل هو الميزان للفصاحة والبلاغة، وحينئذ لا يوجد ميزان ومعيار خارج دائرة المتسابقين ليقاس به درجة كل واحد من أفراد حلبة السباق.
6 ـ على فرض أن القرآن تحدى العرب بالبلاغة، إلاّ أن نظرة تاريخية سريعة للموقف في ذلك الزمان يشير إلى عدم تحقق الفرصة للمشركين للموافقة على هذا التحدي وقبوله، وحينئذ يبقى التحدي القرآني البلاغي مجرد شعار واطروحة تفتقد الميدان العملي لترجمتها على أرض الواقع، المشركون عاشوا لمدة عشر سنوات (فترة وجودة النبي في مكة منذ الاعلان عن الدعوة إلى زمان الهجرة) لا يتصورون أن هذا الدين الجديد قد يبلغ به الخطر إلى أن يهدد وجودهم وكيانهم بين القبائل، فما هو إلاّانحراف جزئي عن مسيرة قريش في عبادة الاوثان وسلوك شاذ لدى فئة قليلة من الفقراء والعبيد يمكن معالجته بأدوات الارعاب والقهر والتعذيب. فلم يشعروا بالخطر الجدّي على دينهم وكيانهم حتى يهتموا للإتيان بكتاب نظير القرآن في البلاغة، وخاصة إذا علمنا أنّ أول آيات التحدّي نزلت في سورة الاسراء وهي من السور المكّية التي نزلت قبل الهجرة بسنة أو سنتين، وسائر آيات التحدّي نزلت في المدينة، ولما أحسّ المشركون بالخطر وهاجر النبي إلى المدينة انشغلوا بالحروب والقتال مع أنصار هذا الدين الجديد وكانت المواجهة بينهما قد أخذت طابعاً عسكرياً وميدانياً، والغلبة لمن يغلب خصمه في ميدان القتال لا في البلاغة، واستمر الحال على هذا المنوال عشر سنوات اُخرى تقريباً حتى دخل المشركون وعلى رأسهم قريش في الإسلام جميعاً، وحينئذ أغلق باب التحدي عملياً، لأن أحد المسلمين مهما كان بليغاً لا يتجرأ على منازلة القرآن وقبول تحديه بل ولا يفكر في مثل هذا الأمر لأن مصالحه ستتعرض حتماً إلى الخطر، وأهون ما يصير إليه أن تضرب عنقه بتهمة الإرتداد وتكذيب القرآن.
7 ـ إن مثل هذه المسابقات لا تقبل التحدي لمجموعة من الأفراد فضلاً عن جميع العرب وبالتعاون فيما بينهم، أي أن هذا التحدي يقوم على أساس فردي لا جماعي، وعلى سبيل المثال نلاحظ في المسابقات الرياضية أن بعض المسابقات يقبل التحدي الجماعي وبعضها لا يقبل، فالمصارعة ورفع الاثقال تقبل التحدي الجماعي بأن يتحدى شخص قوي عشرة من الأشخاص أن يتعاونوا فيما بينهم على مصارعته، أو على رفع الثقل الذي يرفعه لوحده، وأما في مثل السباحة أو العدو فالأمر يختلف، فالمتحدي هنا لا يتحدى المتسابقين بأجمعهم وبالتعاون فيما بينهم، بل يتحدى كل واحد على حدة، لأنه لا معنى للتعاون بين السابحين أو العدّائين ضد شخص واحد، فكل منهم يريد السبق والفوز بالجائزة، وحينئذ لابد وأن يكون أحدهم هو السابق.
بعد هذا نقول: إن التحدي البلاغي هو من النوع الثاني لا الأول، فليس بامكان بلغاء العرب أن يتفقوا على الإتيان بقصيدة موحّدة لمعارضة القرآن، لأن فن البلاغة والشعر لا يقبل اشتراك الكثيرين على نص واحد، فكل شاعر له قريحته ومزاجه وذوقه الشعري والأدبي، والقصيدة الرائعة لابد وأن تكون من نسيج شخص واحد، وعلى هذا لا معنى لأن يتحدى القرآن جميع البشر بالتحدي من النمط الأول ويقول «ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً»، ولابد وأن يكون النزال في هذه المسابقة على شكل فردي، وحينئذ لابد وأن يكون الفائز أحد المتسابقين ولا يمنع من أن يكون أحد افراد البشر، ولا عجب في ذلك ولا معجزة، فقد يأتي أحد العدّائين ويسجّل رقماً قياسياً لا يستطيع أحد من البشر أن يصل إليه أو يسبقه، أو يحمل ثقلاً لا يستطيع أحد من الناس أن يحمله على انفراد، ومعه هل يمكنه أن يدعي قيامه بمعجزة ويتحدى الآخرين على هذا الأساس؟!
8 ـ سلّمنا أن القرآن معجزة بلاغية ولم يستطع العرب أن يأتوا بمثله، إلاّأن ذلك لا ينفعنا من قريب أو بعيد، لأن القضية سوف تكون تاريخية فحسب، ولا يمتد ذلك التحدي القرآني ليشملنا نحن العرب فضلاً عن غيرنا، لاختلاف الانساق البلاغية ومناهج الفصاحة والبلاغة في هذا الزمان عن زمن نزول القرآن بحيث إن الأساليب البلاغية في عصر نزول القرآن أصبحت قديمة ومرفوضة في الأدب العربي الحديث، فلو أن الأدباء المعاصرين لم يستطيعوا أن يأتوا بمثل القرآن لم يكن دليلاً على ضعفهم الأدبي والبلاغي، بل لأنهم لم يمارسوا مثل هذا الأسلوب الأدبي القديم.
قد يقال: يكفي في إثبات معجزة القرآن البلاغية وكونه حجة علينا وعلى جميع الأقوام البشرية أنّه تحدى العرب في تلك الفترة الزمنية وعجزوا عن الإتيان بمثله، فثبت أنّه من الله تعالى لا من البشر.
فنقول: بأن هذا الكلام يساوي بين القرآن وبين معجزات الأنبياء السالفة كعصا موسى واحياء الموتى لعيسى، ويجعله معجزة تاريخية محضة، في حين أن علماء الإسلام في ردّهم على أرباب الأديان السابقة وأبطال مدّعاهم يتمسّكون بهذه الحجة وأن المعجزات المذكورة للأنبياء الماضين مثل موسى وعيسى قد أصبحت في ذمة التاريخ وزالت بزوال أصحابها، في حين أن معجزة الإسلام باقية وحيّة إلى يومنا هذا، وهذا المعنى لا ينسجم مع الإدعاء المذكور.
9 ـ المفروض أن تكون المعجزة الإلهية متماشية مع ما هو سائد في ذلك المجتمع وأن يكون التحدي في الأمور التي يرتضيها الطرف المقابل ومستعد للمبارزة وترجمتها على أرض الواقع العلمي بأن يكون له رموز وافراد تتوفر فيهم اللياقة الكافية والمهارة المتميّزة لقبول التحدي، في حين أن هذا المعنى غير متوفر في تحدي القرآن البلاغي للعرب، لأن العرب يومئذ كانوا شعراء فقط، وقد جاءهم القرآن بما لم يألفوا مثله ولم تكن لهم سابقة في هذا الميدان الأدبي إذ لم يكن في قريش ممن يعرف القراءة والكتابة سوى سبعة نفر، والنثر الأدبي يعتمد اشدّ الاعتماد على الكتابة والممارسة على الورق وليس كالشعر الذي يعتمد على القريحة فقط، وكان الأجدر بالقرآن فيما لو قصد التحدي البلاغي لهم أن يأتيهم على صورة شعر كما كان الشعر هو السائد، لا أن يأتيهم بشيء لا يعرفونه أو غير متمرسّين عليه.
10 ـ لو سلمنا كل ذلك، وقبلنا أن القرآن معجزة شاملة وخالدة وفوق طاقة البشر، إلاّ أنّه يبقى شيء واحد، وهو أنّه كيف يمكن إثبات أن هذه المعجزة وهذا الكلام إنما هو من الله تعالى؟ فالعقل غاية ما يمكن أن يقوله في هذا الصدد أن هذا الكلام بهذا السبك البلاغي المعجز لا يمكن أن يكون من محمد(صلى الله عليه وآله) ولا أحد من البشر، بل هو صادر حتماً من قوة غيبية فوق طاقة البشر، ولكن هل أن هذه القوة الغيبية هي الله تعالى، أو الملائكة، أو الجن، أو مخلوقات من عالم آخر؟ العقل ليس له طريق إلى الكشف عن الجواب الصحيح، فتبقى العهدة حينئذ على الوجدان، وهذا هو ما سنفصله فيما بعد.
قد يقال: إن الله تعالى سوف يقوم بفضح كل ما هو خارق للعادة إذا كان فيه اضلالاً للعباد وكذباً على الله، والاّ كان تركه والحال هذه اغراءً بالجهل وامضاءً للباطل، وذلك محال على الله تعالى ومخالف لمقتضى حكمته.
فنقول: إنّه تقدم في الفصل الاول ما يدحض هذا الاشكال وانه لا يقبح على الله تعالى ذلك وخاصة في هذا المورد بالذات، لأن القرآن الكريم لا يعدّ اظلالاً للعباد واغراءً لهم بالجهل والباطل، فلماذا يتصدى الله تعالى لفضح المتحدث به؟ وبعبارة اخرى: إن القرآن ليس كتاب ضلال حتى يستدعي أن يقوم الله تعالى بمقتضى قاعدة اللطف بالكشف عن هذا الزيف والدجل، بل هو كتاب نافع جداً للبشرية على مستوى الدعوة إلى الله والاخلاق والقيم الانسانية.
هذا أولاً، وثانياً: إن الواقع التاريخي يكذب هذا الادعاء، فكم من المنحرفين وأهل البدع والرياضات قد ضلّوا وأضلّوا جماً غفيراً من الناس ولم يتصد الله تعالى لمنعهم من اغواء الناس واضلالهم، بل ترك الامر لعقول الناس ووجدانهم ليتحركوا من موقع المسؤولية والعقل لا من موقع الاهواء والاوهام.
يقول السيد المرتضى في ردّه على من ذهب إلى أن حكمة الله تقتضي المنع من الاغراء بالباطل من قبل المدّعين والمنحرفين: «وهذا غير صحيح، لأن الذي يمنعه أن يفعل الله تعالى الاستفساد، فأما أن يمنع منه فليس بواجب، لأن هذا يوجب أن يمنع الله تعالى كل ذي شبهة من شبهته، وأن لا يمكّن المتعبدين المنخرقين من شيء دخلت منه شبهة على أحد.
وقد علمنا أن المنع من الشبهات وفعل القبائح في دار التكليف غير واجب، وليس يجب إذا كان تعالى لا يستفسد أن يمنع من الاستفساد، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه في دار التكليف...
ثم يقال للمعلّق بهذا: أليس قد ضلّ بزرادشت وماني والحلاج ومن جرى مجراهم من المنخرقين والملتمسين جماعة وفسدت بهم اديانهم، فألا منعهم الله من هذا الاستفساد إن كان المنع منه واجباً؟».
وعلى أية حال: فهذا الاشكال الاخير على مقولة الاعجاز البلاغي هو ما ذهب اليه السيد المرتضى علم الهدى في «الذخيرة» حيث قال:
«وقد بيّنا في كتابنا في جهة اعجاز القرآن أن من لم يقل في جهته ما اخترناه من الصرفة يلزمه سؤالان لا جواب عنهما إلاّ لمن ذهب إلى الصرفة:
(السؤال الأول) أن يقال: ما أنكرتم أن يكون القرآن من فعل بعض الجنّ ألقاه إلى مدّعي النبوة، وخرق به عادتنا، وقصد بنا إلى الاضلال لنا والتلبيس علينا. وليس يمكن أن يدعي الاحاطة بمنبع فصاحة الجن وأنّها لا يجوز أن يتجاوز عن فصاحة العرب. ومع هذا التجويز لا يحصل الثقة بأن الله تعالى هو المؤيد بالقرآن لرسوله (صلى الله عليه وآله).
وقد يمكن ايراد معنى هذا السؤال على وجه آخر، فيقال: إن محمداً (صلى الله عليه وآله) لم يدّع في القرآن أنّه كلامه، وانما ذكر أن ملكاً هبط به اليه، وقد يجوز أن يكون ذلك الملك كاذباً على ربه، وأن يكون القرآن الذي نزل به من كلامه لا من كلام خالقه، فان عادة الملائكة في الفصاحة ممّا لا نعرفه، وعصمة الملائكة قبل العلم بصحّة القرآن والنبوة لا يمكن معرفتها، فالسؤال متوجه على ما ترويه»
ولهذا السبب ذهب السيد المرتضى والشيخ الطوسي والمفيد وجمع من المعتزلة إلى مذهب الصرفة وأن الاعجاز القرآني يتمثل في أن الله تعالى صرف العرب عن الإتيان بمثل القرآن وحال دون ذلك تكويناً، والاّ فالقرآن الكريم لا يعدّ معجزة بلاغية بحدّ ذاته بحيث يعجز البشر عن الإتيان بمثله.
القول بالصَّرفة
وفي تقريره لهذا القول يقول السيد المرتضى (قدس سره): «في جهة دلالة القرآن على النبوة:
اختلف الناس في ذلك، فقال قوم: إن وجه دلالة القرآن على النبوة أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته، وسلبهم العلم الذي به يتمكنون من مماثلته في نظمه وفصاحته، ولو لا ذلك لعارضوا.
وإلى هذا الوجه أذهب، وله نصرت في كتابي المعروف بالموضح عن جهة اعجاز القرآن، وقد حكي عن ابي اسحق النظام القول بالصَّرفة من غير تحقيق لكيفيتها وكلام في نصرتها... .
ثم قال: فان قيل: بيّنوا كيفية مذهبكم في الصرفة
قلنا: الذي نذهب اليه أن الله تعالى صرف العرب عن أن يأتوا من الكلام بما يساوي أو يضاهي القرآن في فصاحته وطريقته ونظمه، بأن سلب كل من رام المعارضة العلوم التي يتأتى ذلك بها، فان العلوم التي بها يمكن ذلك ضرورية من فعله تعالى فينا بمجرى العادة».
ثم يورد (قدس سره) بعض اشكالاته على من يقول بوجوه اُخرى من الاعجاز القرآني ومنها ما تقدم آنفاً من أن العقل بعد تسليمه أن هذا القرآن ليس من النبي (صلى الله عليه وآله) لا يأبى أن يكون من الجن أو الملائكة، والمطلوب من الاعجاز اثبات أن هذا الكتاب هو كلام الله تعالى، فالدليل قاصر عن اثبات المدعى.
ولكن سيأتي أن القول بالصرفة كذلك قاصر عن اثبات المدعى، وليس لاثبات ذلك سوى استخدام منهج «العقل الوجداني» لمعرفة حقيقة الاعجاز القرآني من خلال التفصيل بين «المعجزة المنصوبة» و «المعجزة المنسوبة» كما سيتبيّن في الفصل الاخير.
مناقشة القول بالصرفة
هذا وقد تصدى غير واحد من العلماء والمفسرين إلى دحض هذه المقولة واثبات أن القرآن معجز من حيث الفصاحة والبلاغة لا من حيث القول بالصرفة، ولكنك سترى أن اجوبتهم وردودهم لا تقوم على شيء من البرهان العقلي والمنطقي، ولم يأتوا بحجة مقنعة لابطال مذهب الصرفة المذكور.
كلام الشيخ السبحاني
ونبدأ في استعراض ما ذكر لابطال الصرفة بما قرره الشيخ السبحاني في «الالهيات» في هذا المجال حيث قال:
«والحق أنّها (نظرية الصرفة) ليست بنظرية قيّمة قابلة للاعتماد، وقد اورد عليها وجوه من النقاش والاشكال نكتفي بذكر ثلاثة منها:
الاول: ان المتبادر من آيات التحدّي ان القرآن في ذاته متعال، حائز أرقى الميزات وكمال المعجزات حتى يصح ان يقال في حقه بانه لو اجتمع الجن والانس الخ، وإلى هذا الوجه يشير الخطابي بقوله: «ان قوله سبحانه: «قل لئن اجتمعت الانس والجن» الآية: يشهد بخلاف هذه النظرية، لانها تشير إلى امر طريقه التكلف والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد، وما فسرت به الصرفة لا يلائم هذه الصفة».
الثاني: لو كان عجز العرب عن المقابلة لطارىء مباغت ابطل قواهم البيانية، لاثر عنهم انهم حاولوا المعارضة، ففوجئوا بما ليس في حسبانهم، ولكان ذلك مثار عجب لهم، ولأعلنوا ذلك في الناس، ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن في ذاته. وقد أشار إلى هذا الوجه علي بن عيسى الرماني في «نكت الإعجاز» كما اشار اليه الإمام يحيى بن حمزة العلوي.
الثالث: لو كان الوجه في اعجاز القرآن هو الصرفة كما زعموا، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، ولما ظهر منهم التعجب لبلاغته وحسن فصاحته كما اثر عن الوليد بن المغيرة، فان المعلوم من حال كل بليغ فصيح سمع القرآن يتلى عليه، انه يدهش عقله ويحير لبّه وما ذاك الا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف وحسن مواضع التصريف في كل موعظة وحكاية كل قصة، فلو كان كما زعمه اهل الصرفة لم يكن للتعجب من فصاحته وجه، فلمّا علمنا بالضرورة اعجابهم بالبلاغة، دلَّ على فساد هذه المقالة».
وأنت خبير بما في هذا البيان من الخلل والقصور، فالتحدي للانس والجن لا ينافي أن الله تعالى قد صرفهم عن الإتيان بمثله وسلبهم المقدرة عن مجاراة بلاغته وفصاحته.
والتبادر المدعى في جوابه الاول لا يكون له شأن الاّ في دائرة البحث اللغوي والبلاغي لا في دائرة البرهان العقلي والمنطقي.
اما ما ذكره ثانياً من أن الصرف الالهي لو كان لاثر عنهم ذلك ولكان مثار عجب لهم، فهو من غريب الكلام، فأي ملازمة بين أن يصرف الله تعالى المنتحلين والمحرّفين عن المساس بآيات القرآن من موقع التحريف والعبث بآياته وسوره على مستوى الزيادة والنقصان، وبين أن ينتبهوا إلى أن الله قد سلبهم القدرة وصرفهم عن ممارسة التحريف لكتاب الله؟ فما وقع للعرب في دائرة التحدي القرآني وعجزهم عن الإتيان بمثله لصارف الهي لا يلازم بالضرورة علمهم بوجود هذا الصارف الغيبي.
واما الثالث من بيانه فهو ثالثة الاثافي، وكأن تعجب الوليد بن المغيرة من بلاغة القرآن يكفي شاهداً على هذا الادعاء العظيم وأن هذا الكتاب هو كلام الله تعالى!! وما اكثر ما تعجب اهل البلاغة والفصاحة من خطب الإمام علي (عليه السلام) واستعظموا بلاغتها ودقة معانيها كما مرّ علينا آنفاً، الاّ أنّه لم يدع أحد أنّه كلام الله، وما اكثر ما نتعجب نحن من مصنوعات البشر وما وصل اليه الإنسان في دائرة التقدم العلمي والتكنولوجي ولا يلازم ذلك أن نرتفع في صانع هذه الادوات والمصنوعات إلى مستوى الآلهة!!
هذا والعجيب من الشيخ السبحاني واضرابه أنهم لم يتعرضوا لدليل القائلين بالصرفة بالذكر ولم يوردوا له جواباً. وكان الأحرى بهم التحرك نحو حلّ ذلك الاشكال الذي دعا اولئك الاساطين من اهل المعرفة من علماء الشيعة والمعتزلة إلى سلوك مذهب الصرفة، وهو اشكال صدور القرآن من الجن أو الملائكة، ولا أظن أحداً يقدر على الخروج بمخلص منه الاّ بالقول بالصرفة، أو بما انتهينا اليه من الفصل بين المعجزة المنصوبة والمنسوبة واستخدام منهج العقل الوجداني في اثبات الاعجاز القرآني.
كلام السيد الخوئي:
وأعجب مما ذكر في ردّ القول بالصرفة هو ما أورده السيد الخوئي في «البيان»، حيث قال:
«وهذا القول ـ أي القول بالصرفة ـ في غاية الضعف:
أولاً: لأن الصرفة التي يقولون بها، إن كان معناها أن الله قادر على أن يُقدر بشراً على أن يأتي بمثل القرآن، ولكنه تعالى صرف هذه القدرة من جميع البشر، ولم يؤتها لأحد منهم فهو معنى صحيح، ولكنه لا يختص بالقرآن، بل هو جار في جميع المعجزات!! (ثم ماذا؟ فعلى فرض انه جار في جميع المعجزات فهل يبطل القول بالصرفة؟)
وإن كان معناها أن الناس قادرون على أن يأتوابمثل القرآن. ولكن الله صرفهم عن معارضته فهو واضح البطلان، لأن كثيراً من الناس قد تصدّوا لمعارضة القرآن، فلم يستطيعوا ذلك. واعترفوا بالعجز. (فنفس عجزهم وعدم استطاعتهم يدل على الصرفة، وكأن السيد تصور أن القول بالصرفة يعني صرفهم عن اصل التصدي والمعارضة).
ثانياً: لأنه لو كان إعجاز القرآن بالصرفة لوجد في كلام العرب السابقين مثله قبل أن يتحدى النبي البشر ويطالبهم بالاتيان بمثل القرآن، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر لتكثر الدواعي اليه».
وهذا أعجب من سابقه، لأن العرب لم يكونوا في صدد الاتصال بعالم الغيب والإتيان بكتاب من الله للبشر حتى يقال هذا الكلام، بل كان ديدنهم الشعر، ومعلوم أن الشعر ابلغ من النثر، ومعه لا حاجة لهم إلى الإتيان بنثر بليغ يوازي القرآن الكريم في بلاغته، وقد تقدم أن القرآن بمجرده وبغض النظر عن كونه كلام الله لا يعد معجزة بلاغية، وبالامكان العثور على بعض النصوص الادبية وخاصة من نهج البلاغة هي أبلغ من بعض آيات القرآن الكريم، الاّ أنّه تبقى العذوبة والحلاوة في القرآن متميزة عن غيره، وليس ذلك لبلاغته كما يتوهم، بل لكونه من الله تعالى وصادر من اعماق وجدان الإنسان، لأن الله ليس منفصلاً عن خلقه، بل هو أقرب اليهم من حبل الوريد ويمثل بعداً وجودياً من ابعاد وجود الإنسان.
والسبب الذي دعا هؤلاء العلماء إلى التمسك بمثل هذه الطحالب لردّ القول بالصرفة ـ مع كونهم اساطين الفكر والاستدلال في دائرة الفقه والاصول ـ هو اعتقادهم المسبق بكون القرآن معجزة، لتصريح القرآن بذلك، ولمّا لم يجدوا في التحدي القرآني بما يناسب ذلك الزمان سوى عنصر الفصاحة والبلاغة، توهموا أن الاعجاز القرآني يتمثل في هذه الدائرة واصروا على كون القرآن معجزة على مستوى البلاغة والفصاحة، ومن ذلك جاءت كلماتهم بعيدة عن افق البرهان المنطقي وكانت أشبه بالخطابيات والاستحسانات من حيث انطلاقهم في الدفاع عن هذه المفردة العقائدية من موقع الدفاع عن العقيدة والخوف لا من موقع الانصاف والتجرد من المسبوقات الدينية والعقائد الموروثة، وتصوروا أن انكار المعجزة البلاغية للقرآن سيوقعهم تحت ضغط تحديات المخالفين ويجردهم من الدليل على نسبة هذا الكتاب إلى الله تعالى، أي أنهم سلكوا في عملية اثبات أن هذا القرآن هو كلام الله تعالى من قناة الاعجاز وأن القرآن معجزة، وبما أنّه معجزة فهو من الله، ولكن سيأتي في المنهج المختار أنّه لا حاجة لسلوك هذا المسلك فحتى لو لم يكن القرآن معجزة فهو من الله، وبما انه من الله فهو معجزة، لا انه معجزة فهو من الله.
الصحيح في ردّ القول بالصَّرفة
والصحيح في مقام الردّ على مذهب الصرفة هو أن نقول بأنه لا لزوم إلى الصرفة اساساً، لأن البشر عموماً، فضلاً عن العرب، يستحيل عليهم بمقتضى كونهم بشراً أن يأتوا بكلام يخالف مقتضاهم ويماثل كلام الله تعالى، أي أن كلام البشر يتباين بالذات مع كلام الله تعالى، لا لأجل البلاغة والفصاحة، ولا الاخبار بالمغيبات، ولا شيء آخر، وقد وردت الاشارة إلى هذا المعنى في الاية الشريفة: (فان لم تفعلوا ولن تفعلوا) وكلمة «لن» اشارة إلى هذا المحال والتباين الذاتي بين الكلامين.
وعليه فالعرب غير قادرين على الإتيان بمثل القرآن لأنه كلام الله وكل افعال الله معجزة، والبشر لا يقدرون على الإتيان بأي شيء يماثل ما يصدر عن الذات المقدسة مهما كان تافهاً، فلا حاجة بعدها إلى اعمال القدرة الإلهية لصرف العرب عن الإتيان بمثله. ولكن هذا المعنى يتوقف اولاً على اثبات أن هذا القرآن هو كلام الله، ومن ثم الاعتراف بكونه معجزاً للبشر، وهو ما سيأتي الحديث عنه في الفصل الأخير
كتاب سر الإعجاز القرآني - أحمد القبانجي
السيد أحمد القبانجي - كتاب سر الإعجاز القرآني اقل من نصف ميقا
http://www.4shared.com/document/M4PHppbT/___-_____.html