سوريا ....ومعادلة التغيير
سوريا ... ومعادلة التغيير
شاهر جوهر
ليس مبالغاً به القول أن "الأزمة" في سوريا دخلت اليوم ذروتها , وأن الطرق باتت تفضي بصورة مباشرة أو غير مباشرة نحو التدويل , ما يعني أننا موشكون نحو حرب محتملة قد تفضي بالنهاية الى تدمير سوريا . ومن يدري ربما بفعل التحالفات الاقليمية التي إنتهجتها سوريا في السنوات العشر الأخيرة - ربما - أي خطوة عسكرية قد تعيد سوريا الى ما كانت عليه ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية . فقد بات من غير الممكن عند الحديث عن الأزمة في سوريا أن نتجاهل بقصد أو دون قصد لاعبين أساسيين في المنطقة هما إيران وحزب الله .
كسوريين نعلم جيداً أن قبول المبادرة العربية أو رفضها بشروطها المعروفة من قبل النظام السوري لن يؤتي نتائج حسنة , كما نعلم أن أي إقتراح أجنبي سواء أكان بإسم " مناطق عازلة " أو " ممرات إنسانية آمنه " هو لدى كل السوريين لا يعني سوى شيء واحد فقط هو إيجاد قنوات شرعية نحو التدويل , ما يعني " الحرب " .
هنا ينبغي لحزب البعث حتى يتفادى الإنقراض ويجنب سوريا والسوريين الأذى أن يتحول من حزب للثورة السياسية الى حزب ديموقراطي للإصلاحات الإجتماعية . فالبعثيين القدامى أنكروا إمكانية دعم التغيير السياسي كما تناسوا حالة البؤس الإجتماعي وإمكانية تزايد التناقضات داخل المجتمع السوري , لأجل هذا إنقسم المجتمع السوري بحكم الحالة الإجتماعية السيئة الى طبقتين بارزتين تذكرانا بحالة المجتمع العربي زمن الإحتلال العثماني ,إذ تمثل الطبقة الأولى الأرستقراطية المنفلشة عن أي إحترام أو أدنى حدود المسؤولية وتضم البعثيين القدامى وقواد الجيش والثانية هي القطاع العريض من المجتمع السوري الباحث عن الحياة البسيطة , ومن هذه الطبقة تشكلت فئات عدة رفعت راية الحرية والتحرر والإصلاح لكنها في قرارة نفسها تبحث عن السلطة والمجد خصوصاً بعد رفض البعثيين أن يقاسموها السلطة ..
وبعد فترة من الصراع المبطن بين الطبقتين نشأت طبقة ثالثة تضم المعتدلين من رجال الدين والمستقلين من مثقفين وغيرهم , حاولت هذه الطبقة لعب دور الوسيط بين الشعب والسلطة لكن مع مرور الزمن إصطدمت تلك الطبقة والمعروفة بمرونتها وميولها التغييرية بالبيروقراطية الداخلية, ما جعلها تنطوي على نفسها منتظرة الفرصة لإستعادة دورها السلمي في التغيير ..
ففي سوريا اليوم جيل كامل تربى على مبادئ حزب البعث وشعاراته , وهو نفسه الجيل الذي ثار اليوم على الفساد والرشوة والمحسوبيات , وفي هذا تناقض واضح بين ما يُطرح من نظرية وما يقابله من فعل . إذاً لم يصل حزبنا العضيم الى ما يصبوا إليه ويرغبه الشعب , وما يدلل على صحة ذلك أن الإتجاه الإصلاحي الجديد الذي جاءت به الإحتجاجات الشعبية اليوم ليست في نظر المثقفين السوريين سوى مظهر من مظاهر الحتمية التاريخية ..
فالتغيير والإصلاح والديقراطية هي كلمات ضخمة جداً لكن تحت لوائها دُهس الملايين من السوريين البسطاء . فكلنا لأجل التغيير سوريين , نسير في طرق صعبة المسالك , متكاتفين بقوة العاجزين الحائرين , ومن كل زاوية ضيقة يرمقنا الأعداء . فمن غير الممكن أن نلتف على كل ذاك الدم وكل أولئك القتلى والجرحى دون أن نتحرك أو نتحاور , كما لسنا ننسى كسوريين أننا قد نقدر على لملمة دمعنا ودمنا مساء الجمعة لكن لسنا نقدر بأي حال ألا نشيع قتلانا صباح السبت ..
هنا .. هنا فقط الحرية هي أعلى أشكال الأنانية .. فماذا أقول لطلابي إذاً وأنا ذاك الأستاذ الذي لطالما تفاخر بالسوريين عبر التاريخ ولطالما تفائل أمامهم بمستقبل جميل لسوريا .. ماذا أقول لهم وأنا أرى كل تيك الرمل وذيك اليتامى يصرخون في شوارع سوريا "الشعب يريد ..."
أأقول إن الجيش الحر هو جيش سوري وأن السوري هو من يقتلنا وأنا الذي تشدق طويلاً بوعي السوريين وثقافتهم .. أأقول هو من يقتّل في جيشنا وهو من يقودنا الى جهنم . ماذا أقول لمن ذاق الحريق إذاً..؟
أم أقول أن سوريا إستحالت الى سجن كبير ..الى لغم كبير .. وأن "المجلس الوطني المعارض" يراهن اليوم على دمنا برفضه الحوار ... بالله ما اقول...؟ هل أقول إن سمح لي البعض طبعاً أن تسيس الخبز والعلم هو الذي أودانا لهذا الطريق ..
أأقول لمن لم يفهم مقولتي أن إسرائيل ليست هنا .. كيف سيصدقوا ذلك وقد خبرنا سوياً عمراً نازفاً وسلاحاً موجهاً صوب إسرائيل فقط.. بالله ماذا أقول الآن.. أأقول أن كل ذاك الرصاص المسكوب في مدن سوريا هو موجه الى صدور السوريين ومن بنادق السوريين تحت إسم "الجيش الحر" أو إسم "مكافحة الإرهاب" ...
فيا أيها الجيش السوري "الحر" ويا أيها النظام السوري "الحر" .. الخوف القلق الحرمان والجوع كما الدم والبرد هي اسماء تلتف حولنا اليوم .. فماذا نصنع إن كنتم لم تفهموا ما نريد ...ماذا نفعل إن كان صراعكم لن يحل مسألتنا .. لأجل هذا تعالوا .. تعالوا الى الحوار فههنا المنجل الأول والمحراث الأول كما ههنا أول غرسة زيتون , هنا مملكة ماري، وأوغاريت، وراميتا، والبارة، ودورا أوربوس، وسرجيلا، وكرك بيزة، وجرارة، وقاطورة، وعين دارة، وشمس، وباصوفان، والنبي هوري، وأرواد، وقطنا، وفيليبولس، وقنوات، وصلخد، وأفاميا، وحمو كار، وبعودة، والمناره، وتوتال، ودير سنبل، وإيمار، والدانا، وسرمدا ...
من هنا خرج الكلام ومن هنا إنطلق السلام , من هنا الأبجدية الأولى والحضارة الأولى , هنا أقهات وأدونيس وعشتروت وإيل وأشمون , هنا أوربا وأفريقية وقرطاجة وفينيقيا . هنا خمسة آلاف سنة مرت قبل الميلاد , هنا سبعة الآف سنة إنصرمت ونحن نقاتل عدواً واحدة , نقاتل ذاك الذي لم يفهمنا يوماً .. ذاك الذي حاول طمس هويتنا وثقافتنا وديننا ... ديننا الذي علّمنا أن التغيير لا يأتي بالقتل ولا يوقّع بالدم ..
تعالوا الى الحوار لأن معادلة التغيير لا تمر في التدويل ..
|