ابرز مظاهر الازمة الثقافية.. في الداء يكمن الدواء
ابرز مظاهر الازمة الثقافية.. في الداء يكمن الدواء
لا ادري ان كان هذا العنوان مكررا, لكني لم اشغل نفسي كثيرا في اختيار عنوان هذا الموضوع , وان كان قد تداعى الى ذهني عنوان مثير, اردته ان يكون كالومضة في ليل سباتنا الثقافي, علها تلامس جانبا من اهتمامات اولي الامر فينا, الا اني آثرت ان يكون العنوان معتدلا كي اتجنب حفيظة كبار المثقفين ... وانما حسبي هذه الاشارة, وهي دعوة لكافة المثقفين لاعادة الحوار حول هذا الامر.
نكاد جميعنا نشعر بالسخط على كل ماتعرضه علينا وسائل الاعلام , في الصحافة, في السينما, في التلفزيون, من اعمال ادبية وفنية هابطة, نجتر ذاكرتنا, نستحضر الماضي القريب, حين كانت هذه الوسائل تقدم متعة اكبر وغذاء اشهى, تمام لو ان احدنا غلبه شوقه الى شعر جيد فتراه يبحث عن ديوان المتنبي.
لكن هل هذا الامر صائبا ؟ ام هي غريزة الرفض لكل جديد, وارتفاع قيمة القديم لانه اصبح نادرا .
سؤال يستدعي الاجابة, فهذا الشعور موجود سواء كان خطأ ام صواب, فهو في حد ذاته اشكالية تتطلب الوقوف والتامل.
يشير بعض مؤرخي الفكر والثقافة الى ان المبدعين لايتواصلون, لكنهم اشبه بحركة الموج في البحر, نجد في كل قمتين من الموج العالي نقطة منخفضة, ومنهم من ذهب ابعد من هذا اذ اضاف ان جيلا من القمم من شانه ان يلقي بظلاله على الجيل التالي, فلا يوفر له فرص النمو, تماما كالشجرة الضخمة تلقي بظلالها على النباتات الاخرى فتموت لانها تحجب الشمس عنها, وتمتص منها الماء والغذاء فلاتنمو حولها الا الحشائش .
قد يكون هذا الراي صحيحا, ولكن هل يفسر هذا الراي حالة الانحطاط الثقافي ؟ انا لا ارى ذلك, لاننا اذا ما تاملنا الى ماهو اوسع, فاننا نرى وعلى مساحة شاسعة اسباب ومبررات ذاك الانحطاط... وبعض هذه الاسباب مرضي ويحتاج الى علاج, وبعضها الاخر يعتبر من امراض النمو التي لابد من الاصابة بها للوصول الى العافية .
نتامل نموذجا من امراض النمو .. جميعنا ندعو ونعمل من اجل ديمقراطية الثقافة وانتشارها... تحضرني الان الضجة التي اثارها الاديب طه حسين عندما طالب بان يكون التعليم في مصر مثل الماء والهواء... وكان يرى ان العبرة في القاعدة العريضة, وتعرض حينها لانتقادات الصفوة الذين قالوا ان الماء في النهر اذا ترك يتدفق دون حساب فانه يغرق ماحوله, والجدوى تكون في ضبطه.
وجهتي نظر لخصتا معركة احتدمت رحاها بين المفكرين الى ان اصبح التعليم مجانيا في جميع الدول العربية, واقيمت الجامعات وتحركت بذلك موجة ماكان ممكنا لاحد ان يوقفها, الى ان تحولت القضية الان الى معالجة عيوب التعليم, وهي عيوب تعبر عن القصور في اكمال الرسالة وليس في الرسالة ذاتها.
لكن السؤال هو كيف اثر ذلك على الثقافة العامة ؟ وكيف نتج عن الخير بعض الشر ؟.
لاحظوا معي حتى تكتمل الصورة , ان انتشار وسائل الاعلام كان سببا في اتساع دائرة التعليم, المطابع الحديثة , ظهور الاذاعة, ثم السينما فالتلفزيون, الاقمار الصناعية, واخيرا شبكة الانترنت, وهي وسائل تصل الى الجميع, وتخاطب حتى من لايقرا ولايكتب, هذه القفزات العلمية تقاطعت مع اتساع التعليم وارتفاع نسبي في مستوى المعيشة فاحدثت تفاعلا مثيرا.
اصبحت منابر التثقيف من الكتاب الى التلفزيون محكومة باعتبارين هما : ان جمهورها الاكبر اصبح من الجمهور شبه المتعلم وهي تفضلهم باغلبيتهم العددية على ان يكون روادها قلة من المثقفين بسبب عقلية التاجر, فانتشر الانتاج الهابط الخالي من اية قيمة فنية او فكرية .
الثاني : ان تعدد وازدياد وسائل الاعلام حولها اشبه بالمعدة الشرهة التي لاتشبع, فالصحيفة اصبحت عدة صحف, والقناة التلفزيونية اصبحت عدة قنوات, وهي بحاجة الى طعام .. الى انتاج, فاخذت تتلقف اي شيء يقدم لها, لان سوق الطلب اكبر من العرض, والتاجر عليه ان ياخذ الثمار الناضجة مع الثمار المتعطنة .
هذا الامر شكل احد اسباب مانسميه الانحطاط الثقافي, الا انه وفي هذه الحدود يكون مرضا من امراض النمو, لان مستقبل الانسانية مرتبط بازدياد التعليم واتساعه, وبتعدد وسائل التخاطب الثقافي, وعلينا توقع هذه الامراض وعلاجها لنصل الى العافية .
على ان هناك امراضا قد تستفحل, وتصبح مزمنة وتقضي على الجسم الثقافي وساذكر عددا منها.
1) دور المؤسسات في تحسين التعليم وتغيير فلسفته من مجرد تلقين المعلومات الى عملية تكوين شاملة, والى تحريض مقدرات الطالب الشمولية, فاستيراد ثمرات الثورة العلمية قد يكون دليل ثراء, لكنه ابدا لن يكون دليل تطور, علينا معرفة هذه الحقيقة والالتفات لها, ومالم نباشر الى تعديل انظمتنا التعليمية وتطوير ادواتنا الثقافية فان الفجوة بيننا وبين العالم المتحضر سوف تتسع كثيرا, وحينها يكون الحديث عن عبورها محض خيال شعراء, لاتخطيط علماء .
٢) تعليب الظواهر, كثيرا من مثقفينا ومن القائمين على حياتنا الثقافية يميلون الى تبسيط التجارب الثقافية والحضارية لنا ولغيرنا,
ويصورون لنا الحياة تصورا مقولبا جاهزا, فتراهم مثلا ينظرون الى موضوع التراث على انه شيء موجود هناك وكل مانحتاجه هو ان نكشف عنه الغطاء, فيعيش في ذاكرتنا عمر بن الخطاب وطارق بن زياد وصلاح الدين جنبا الى جنب, كما لو كانوا من جيل واحد, ويهملون عناصر التتابع الزمني الذي يؤكد معنى النمو والتطور.
ويتحدثون عن الحضارة الغربية كما لو كانت كيانا معلبا ويتجاهلون اختلافات المكان وتنوع العناصر وتعاقب العصور.
يمتد هذا المنهج الى السياسة, فالذين يطالبون بالعودة الى الشريعة الاسلامية يتصورونها كيان جاهز للتطبيق الفوري, وبذلك لايرون المتغيرات التي لم يكن لها اشباه في عهد نشاة الفقه الاسلامي.
والذين ينادون بتطبيق نظام اقتصادي وسياسي محدد ينجاهلون ماتتعرض له النظم في تطبيقها ونقلها من بيئتها من تغير وتبدل في مكوناتها .
3) النظرة الاحادية, فمانسميه الحضارة العربية المعاصرة, هو نتاج مركب ساهمت في صنعه شعوب متعددة, واجيال متعاقبة, وتفاعل شعوب وحضارات اخرى نهلنا منها ونهلت منا, وكان من الجائز ان يكون هذا التنوع مصدرا لثراء الجيل المعاصر لو لم ينقسم على نفسه, فالبعض انحاز للماضي على اختلاف عصوره, والبعض الاخر انحاز للحاضر ورفض قطعيا تركة الماضي.
هذه النظرة الاحادية تحتاج الى تامل, وهي قائمة في حياتنا الثقافية التي اصبحت ساحة معارك بين انصار السلفية وانصار التجديد او الحداثة, وهي معركة شقاء للامة باسرها في انحيازها لهذين البعدين, والنتيجة تصبح الفنون الابداعية موضع جدال طويل بين انصار يدافعون وخصوم يهاجمون .
4) غياب الابداع , فبغير الابداع سنظل مقلدين وتابعين, الابداع كعطاء حر للخيال وعقل تتفتح له الافاق ويشترط ارادة تملك الخيار, فهو بحاجة الى الحرية التي ترعاه لينمو ويتبلور, واذا كانت حياتنا الثقافية لاتخلو من مبدعين, الا انهم فلتات قدرية تشق طريقها وسط ركام من القمع والقهر, وفي مجتمعات لاتقبل الا بالتوافق الكامل مع المجموع والانصياع للمسلمات المالوفة التي يعتبر الخروج عنها هرطقة وانشقاق, ان غياب الابداع قد فتح الابواب امام الرتابة والسطحية والتكرار, واصبحت الثقافة بين ايدي حفنة من المتاجرين بها فاغلقوا الابواب امام الانتاج المثمر والمتميز , وروجوا للاعمال الهابطة التي لاتحرك فكرا ولاتستثير خيالا ولاتخدم قيمة .
5) عدم وضوح الاهداف, ان حركة الفكر الانساني عموما لاتنمو ولا تتقدم الا بمقدار اقترابها من اهداف محددة, بل ان جوهر المسالة الثقافية هو تامين خدمة هذه الاهداف من خلال عملية الابداع, فمهمة الفكر والثقافة مهمة مزدوجة في تقديري, المهمة الاولى هي السيطرة على الطبيعة وبناء الكون بقوانين العلم, والثانية هي ترشيد العلاقات الانسانية باشاعة العدل والحرية والسلام, واذا كان التخلف يهدد المهمة الاولى فان التقدم المادي يمكن ان يهدد الثانية, وفي مجتمعات يعيش فيها التخلف مع بعض التقدم فان الثقافة تحتاج الى نوعين من القيم, قيم الحركة والنمو والتقدم المادي, وقيم ترشيد لنوعية العلاقات, فالفكر الذي لايخدم قيم العمل واتقان الاداء هو فكر متخلف لايخدم الثقافة, والانتاج الثقافي الذي يسقط من حسابه قضايا الحرية والعدل فكر يهدد الحضارة في صميمها, وهنا تبرز مهمة معالجة هذا الامر ومقاربته بواقعنا بدلا من استهلاك الطاقات الفكرية واذكاء روح العراك بين الفكر ونفسه .
6) ازمة الحوار , الذي بات مظهرا من مظاهر الازمة الثقافية المعاصرة, فالجميع يردد بغير مناسبة ان تعدد الاراء خير ورحمة ودليل ثراء حضاري, ومع ذلك لايكاد احدنا ينحاز الى موقف يلتزم به في قضية من القضايا حتى يضيق صدره بالمخالفين, ويشتد لسانه في اتهامهم بالضلال وتستولي عليه الرغبة في اسكاتهم ومصادرة حرياتهم, واصبحنا نتهم بعضنا دون جريرة وندين الاخرين دون محاكمة ولم تعد هناك جدوى من الحوار, وكاننا جماعة من الصم يتحدثون الى بعضهم دون ان يستمع احدهم الى الاخر.
ماذا بعد ....
جميعنا مسؤولون عن الثقافة ومستواها, كمسؤوليتنا عن تربية الابناء ورعايتهم, وكمسؤولية اية مؤسسة عن زيادة انتاجها وتحسين جودته, وان لايكون حرصنا هنا شبيه بحرصنا على ان يكون لدينا فنادق بسبعة نجوم للسياح وكبار الزوار فقط.
الامر لايحتاج الى شهداء , يحتاج فقط الى قدر من الجدية والاحساس بالمسؤولية...........
|