جالت عيناى على الحاضرين ... وعلى وجوه المقربين ... أعرف بعضاً منهم والبعض الآخر أجهله ، ولا أستطيع تذكره أو معرفته ... أرى الدمع ... أرى كآبة المنظر معكوسةً على وجوههم وعيونهم ... لم أسمع ثمة أصوات سوى صوت أنفاسى المتصاعدة صعوداً سريعاً لم يوقفه أحد ... تصاعدت الأنفاس ... أأبى أن أغمض عينى - رغم تعبٍ ألم بها ليلة أمس - أخشى أن أفتقدك يا دنيا ... أن لا أراكِ دائماً ... لا أرى لوحة الحزن فى وجهى الفتى والفتاة .
وجلستِ على حافة الفراش تنتظرين أن يتحرك الجسد الساكن ... فرفعت عينى أنظر إليكِ ... وتبسمتِ لى يا دنيا ... وحييت ... أفقت ... والتزم الجميع الصمت التام .
تعبيرات وجوههم توحى بأن خطراً سيحل بى ... بل مصيبة ستحدث .
أخيراً جاء الطبيب المختص بسماعته ... واضعاً إياها على صدرى ... ممسكاً بنبضِ اليد فى يده ... وارتسمت على وجهه ابتسامة الحزنِ القادم .
- الحمد لله ... القلب سليم ... الدقات منتظمة ... النبض عادى وطبيعى .
ثار غضبى ... وانتفض جسدى بعنف ... ودنيا يدعوها آخر بغلق شباك الغرفة وشد الستائر .
وبكيتِ يا دنيا ... وآهة مزلزلة تخرج من صدرك :-
- لا ترحل ... خذنى معك .
وهنا وفى الغرفة ... كسا الحزن الوجوه ... حاولت الصراخ ... الكلام ... الهمس :-
- لن أرحل ... وسأبقى معكِ يا دنيا .
ولكن ليس بمقدورى إلا السكوت وعدم الحركة .
وهنا قبالة باب الغرفة المفتوح يجلس رجل أعرفه ... متأملاً الوجوه ... يستقبل منهم السلام ويرده عليهم ... ويستقبل النظرات المشفقة على فقد عزيز .
- أعزائى ... إلى اللقاء ... مع السلامة .
الباب مفتوح ... والشيخ موجود ... وأنا طريح الفراش وحدى.
تسللت حرارة إلى عروقى ... جرى الدم وتدفق .
يتحسس حبيب وجهى المشتعل ... تتحسس دنيا قدمايا الباردتان .
وجلستِ يا دنيا جوارى ... بينما شيخ عجوز مترقب لحدوث حدثٍ ما ينتظره قد اتكأ على عكازه ... رافعاً رأسه ... ناظراً إلى .
- ماذا ينتظر أن يحدث لى ؟!!!
كانت توقعات المبكين حولى تنبأ بأن حدثاً عظيماً جليلاً سوف يحدث ... إما فى هذه اللحظة التى أتنفس فيها عبق الحياة الأولى ... وإما فى الدقائق أو الساعات المتبقية لاستقبال نورٍ فياض يغمرنى ... ويذهبنى إلى مكانٍ أجهله ... أصاب عنده بحدة البصر .
وارتعشت عينى أمام عينيكِ يا دنيا لأول مرة ... اهتزت صورتكِ أمامى ... حاولت تثبيت رؤيتك وتثبيت حدقة العين ... ولكن دون جدوى ... فالعين غير ثابتة ... تهتز دنيا ويهتز المكان ويختل الزمن ... وتجف الدموع وترتجف القلوب ... ووجدت نفسى تحن إليكِ يا دنيا .
- أين أنتِ يا دنيا ؟!!!
- أهكذا بمنتهى البساطة أصبحت وحيداً !!!!
ينادينى أحدهم من خلف ستارٍ :-
- تعالى ...
مددت إليه يدى ... خذ بيدى ... وشد ذراعى بعنفٍ لم أتحمله ... فبرغم قوة الجذب إلا أننى قد اشتقت فى سبيل ذلك بالذهاب معه .. إلى أى مكانٍ يختاره هو .
وأثناء حالتى هذه ... هبطت يده من يدى ... وانفكت الأصابع وانحلت ... وخلى المكان من الأصوات .. ومن الأنفاس ... إلا صوت واحد يجتاحنى بعنف :-
- أقبل ولا تخف .
فنهضت من مكانى ... مستسلماً إليه ... خاضعاً له .... وقد خرجت بدونكِ يا دنيا .
***
فى هذه اللحظة حيث تخرج مقاليد الموقف من يدى ... أنزل دون إدراك لمعنى النزول ... وكأن معناه هو انفصالى الآتى عن هذا العالم ... وعن دنيا ... لكن ما أن غشيت عينى ظلام المخبأ ... حتى ثار وجدانى ... فكأنى استشعر ما يعنيه نزولى هذا ... استشعر خطر اللحظة التى انفصل فيها عن دنيا .
أدرك أن الانفصال عن دنيا قد تم واقعاً ... بدليل هذا الظلام ... وجدتنى انتفض ... يدق قلبى فى عنفٍ واضطراب ... وأخرج رأسى محاولاً التشبث بضوء نافذ يخترق ما حدد لى ... يخترق هذا الجزء المحدد لإقامتى ... هذه القطعة من الغرفة المفصولة عن الحياة مع دنيا ... أطل إلى سماء راحلة عنى ... أرفض الانفصال ...محاولاً لمقاومة هذا الموقف العصيب ... وطالعنى وجه كأول شئ أراه وكآخر شئ تراه عينى ... دنيا .... رأيتكِ يا دنيا ... تتحسسين صدرى ودقات قلبى الآذنة بالرحيلِ ... بالنقصانِ ... بالتلاشى ... بالعدم .
- مع السلامة يا دنيا .
مع السلامة يا أهل .
ونضحك ... ونمد أيدينا ... نحاول أن نجذب أنامل بعض ... نرفض الانفصال ... وينادى أحدهم على دنيا ... يطالبها بسحب يدها ....
- وانشغلتِ عنى يا دنيا .
وبكينا فى أسىً على قلوبٍ قد عشقناها ... ودروبٍ قد مشيناها... وسمعت أصواتاً تتواعد على اللقاء .
جن جنونى ... أبحث عن منفذٍ استرق منه لحظةً ... أو مشهداً ... أو منظر أخير .... فلم أجد .
تفاجئنى دموع حبيب تتساقط ... أسأله :-
علام هذه الدموع ؟!!!
فتجيب دموعه :-
- حسرةًَ على فراقك يا عزيز ... يا غالى .