قد يتذكر البعض Timothy McVeigh , وهو اسم لاينسى في التاريخ الامريكي الحديث، إذ قام، عام 1995، بتفجير طن من المتفجرات في مبني حكومي في اوكلاهاما الامريكية جعلته يسبق القاعدة في اكبر عمل ارهابي شهدته الاراضي الامريكية. في خلال البحث عن الفاعل كانت الشرطة الجنائية تبحث عن McVeigh الذي اطلق عليه اسم John Doe 1, إضافة الى مشتبه اخر اطلق عليه اسم John Doe 2. احد العاملين في الورشة التي استأجر منها McVeigh سيارة الشحن التي فجرها تذكر بكل وضوح انه رأى McVeigh بمرافقة شخص اخر. على اساس وصف الميكانيكي قامت الشرطة الجنائية برسم صورة تخيلية للشخصين، وجرى نشرها في الاعلام. في خلال التحقيق شهد 26 شخص انهم شاهدوا McVeigh مع John Doe 2. غير ان John Doe 2. لم يعثر عليه على الاطلاق، والشخص الذي رآه الميكانيكي كان قد التقاه في اليوم التالي للالتقاءه McVeigh. لقد قام الميكانيكي بالخلط بين حادثتين منفصلتين وخُلقت ذكرى وهمية، ادت الى تعطيل عمل الشرطة.
يشير بروفيسور علم االنفس Daniel Schacter, من جامعة هارفارد، الى ان الاعمال الاضافية ليست وحدها التي تنشأ بفضل الذاكرة الوهمية. انه يؤكد ان العديد من التحقيقات تضرر من الذاكرة الوهمية وتؤدي الى احكام ضد ابرياء. مثلا تحليل جرى قبل بضعة سنوات اظهر ان خطأ شهود العيان كان موجود في 36 حالة من اصل 40، من حالات القتل التي جرى تحليلها تحت رعاية وزارة العدل الامريكية. هذه الارقام هي قمة جبل الثلج، لكون علماء النفس يعلمون منذ زمن طويل ان ذاكرتنا ليست مثل ذاكرة كاميرا التصوير التي تعكس صورة دقيقة للماضي.
البروفيسورة Elizabeth Loftus, من جامعة كاليفورنيا اشارت الى عمق الازمة من خلال مجموعة تجارب جرت في تسعينات القرن الماضي. لقد تمكن فريقها للبحث العلمي من بعث " ذاكرة مفصلة لمعايشة شخصية" عند العديد من الافراد الذين خضعوا للتجربة، منها مثلا كيف اضاعوا الطريق في طريقهم الى السوق، عندما كانوا اطفال. المشكلة فقط ان هذه الذكريات لم تحدث في الحقيقة ابداً.
هذا الاكتشاف ادى الى تركيز الاهتمام على مايسمى "حرب الذاكرة"، حيث جرى نقد علماء النفس لكونهم في العديد من الحالات قاموا بخلق ذاكرة وهمية ، عندما كانوا يسعوا لتحرير الذاكرة المتنحية والمقموعة. احدى الامثلة على هذا الامر هو الاتهام بالاستغلال الجنسي في الطفولة الذي ظهر على السطح بعد جلسات العلاج النفسي. ذكريات ملتبسة ومشوشة تصبح فجأة صلبة وتشكل اساس للاتهام او البراءة.
هل ذاكرتنا سيئة فعلا الى هذا الحد؟
هل الهوموسابينس (الانسان المفكر) عاش هذه الفترة الطويلة وهو يملك ذاكرة ذات نوعية منخفضة؟
علماء العديد من فروع علم الارتيفيسيل انتجلنسيا يؤكدون ان الجواب هو نعم، حسب البروفيسور John Anderson, من جامعة كرنيجي ميللون في بنسلفانيا. في فروع تجهيز البرامج الذكية غالبا تكرر عبارة " بالطبع لن يملك برنامجنا ذاكرة غير موثوقة كما التي لدى الانسان". غير ان ذلك لايعني ان ذاكرة الانسان تطورت الى شكل سئ وانما تطابق ذلك تماما مع حاجة الانسان.
كما يظهر مثال John Doe 2، فإن ذاكرتنا عبارة عن قطع مجمعة لصورة من الانطباعات، حيث نقوم بنفسنا بتجميع القطع الى بعضها لتظهر الصورة الكلية، واحيانا نحصل على نتائج سيئة. لهذا السبب يتكلم علماء النفس عن " الذاكرة التركيبية" على العكس من ذاكرة الكاميرا التي تعتبر انعكاسية. إذا فكرنا بالطريقة الكلاسيكية سيكون من الصعب علينا ان نفهم لماذا اصبحت الذاكرة بهذا الشكل. بالنسبة للكثير من التجارب الحديثة ينطلق المرء من ان الماضي ومدى الدقة في إعادة خلقه هو مضمون الذاكرة.
غير ان الكثير من الباحثين مثل Daniel Schacter and Anderson, يؤكدون الى ان هذا الامر هو نصف الحقيقة فقط. كون الذاكرة تركيبية يعود الى انها تطورت اانطلاقا من متطلبات المستقبل وليس الماضي الذي رأته العين. عندما نفكر بالمستقبل تكون حاجتنا اكبر للتفكير الديناميكي والسريع بالمقارنة مع حاجتنا لدقة تذكر الماضي.
هذه الفكرة ليست جديدة، غير ان حادثة تراجيدية في بداية الثمانينات من القرن الماضي هي التي اعادتها الى الاهتمام. K. C. اصبح مشهورا عالميا بعد ان اصيب بأضرار كبيرة في الدماغ عقب خروج موتورسيكله عن الطريق. عقب الحادث كانت اغلب قواه العقلية سليمة ولكن الباحث الكندي Endel Tulving اكتشف ان ان المريض لديه فقدان ذاكرة من نمط خاص. الذاكرة المفقودة تخص التاريخ الشخصي للمريض، في حين ليس لدى المريض اي مشكلة في تذكر الاشياء الاخرى التي لاعلاقة لها به شخصيا مثل التاريخ والرياضيات.
الاضرار المصاب بها دماغ K. C. موجودة في منطقة الهيبوكامبوس في مركز الدماغ وجزء من الفص الامامي. هاتين المنطقتين لهم وظيفة مركزية في بناء الذاكرة الشخصية. غير ان المفاجأة التي ادهشت الباحث تولفين ان المريض لم يستطع ان يتصور مستقبله. اسئلة من قبيل " ماذا ستفعل في المساء، او غدا"، جعلت المريض ينظر الى الباحث بإستفهام ولم يحر جواباً.
باحثي الدماغ كانوا منذ فترة طويلة، يعلمون الدور الحاسم الذي يلعبه الهيبوكامبوس في حفظ الذاكرة الشخصية، ولكن حالة K. C. تشير الى ان الامر لايقف عند هذا الحد. هذا الامر دفع الباحثين Demis Hassabis and Eleanor Maguire من جامعة كوليدج في لندن، الى دعوة خمسة اشخاص مصابين بأضرار في الهيبوكامبوس الى مقابلة للجواب على بضعة اسئلة كجزء من اختبار تجريبي. الاشخاص الخمسة يتمتعون بأحاسيس سليمة فيما عدا فقدان الذاكرة كنتيجة لتضرر الدماغ. الباحثين طلبوا منهم ان يصفوا بدقة وتفصيل سيناريو لزيارة متحف او التمشي على الساحل في ليلة صيفية او مقابلة مع صديق في المستقبل، ولكنهم جميعا واجهتمه صعوبات جمة في ذلك. عندما تمكن احدهم من وصف شئ بنجاح لم يتعدى ذلك قوله "السماء كانت زرقاء" او "الابواب كانت كبيرة"، وفيما عدا ذلك كان الفشل تام.
من الاسهل الادعاء ان الهيبوكامبوس هو المسؤول عن هذا الخلل، ولكن من المستحيل الوثوق بمثل هذا الاستنتاج بدون استخدام احد انواع التصوير الدماغي مثلا fMRI- الذي يرينا مكان وجود النشاطات الدماغية.
من احلام اليقظة نعلم ان الرحلات التصورية تجري الى الامام والخلف ، من حيث الزمن، بدون مشاكل. Endel Tulving اقترح ان القدرة على رؤية تصورات عن المستقبل الشخصي هو الذي كان المحرك وراء نشوء الذاكرة الشخصية عند الانسان. إذا كان هذا الافتراض صحيحا فيجب ان تكون الذاكرة الشخصية والقدرة على التفكير المستقبلي مرتبطين ببنية واحدة.
أذن ماهي الفروقات في نشاط مناطق الدماغ عندما نقوم بإستدعاء ذكرى حفلة عيد ميلاد جرت قبل بضعة سنوات وبين ان نفكر بالتحضير لحفلة عيد الميلاد القادمة؟
فريق الباحثين يجيب: الفرق قليل للغاية، حسب نتائج تصوير الدماغ الذي جرى عام 2007. فريق الباحثين على رأسهم Kathleen McDermott, عالمة النفس من جامعة واشنطن ، قاموا بتصوير النشاطات الدماغية لدى 21 شخص اثناء تذكرهم لحوادث شخصية قديمة وتفكيرهم بحوادث يجري التخطيط لها مستقبليا.
الباحثين كانوا واثقين ان بعض المناطق ستكون في حالة نششاط عندما يفكر الخاضعين للتجربة بالمستقبل، زلكن المدهش ان جميع المناطق التي كانت نشيطة عند تذكر الماضي كانت هي نفسها النشيطة عند التفكير بالمستقبل. التفسير لذلك لايمكن الا ان يكون ان التفكير بالمستقبل مرتبط الى درجة كبيرة بالذاكرة، وهو امر منطقي للغاية، بإعتبار ان مايدخل في صورة المستقبل قادم من ماجمعته الذاكرة عن الماضي.
تجربة جديدة لفريق McDermott اكد هذا الاستنتاج. لقد طلب الباحثين من اشخاص التجربة ان يتصوروا سيناريو لمستقبلهم الشخصي مرتبط بالاماكن التي يتذكروا بشكل جيد (الجامعة) او الاقل جودة ( الثانوية) . كان من الاسهل للطلبة تصور السيناريو بالارتباط مع الجامعة لكون الذاكرة المستقبلية استخدمت التفاصيل المخزونة طازج، مما يشير الى ان الذاكرة عبارة عن احجار متفرقة يجري تجميعها لبناء صورة تخيلية عن المستقبل.
نفس الاستنتاجات توصلت اليها الباحثة Donna Addis, من مختبرات جامعة هارفارد، غير انها اكتشفت شيئا اخر ايضا. الهيبوكامبوس كان اكثر نشاطاً خلال الرحلة التخيلية في المستقبل بالمقارنة مع تذكر الماضي الشخصي. هذا الامر يدعم الاستنتاج القائل اننا نتذكر الماضي من اجل المستقبل. هذا الامر يساعد على رؤية المستقبل على قاعدة الماضي للتخطيط من اجل البقاء، مستخدمين في ذلك مقاطع من الماضي لخلق صورة محتملة وديناميكية عن المستقبل، بإعتبار ان الماضي لن يتكرر ابدا بصورته الكاملة. هذا الامر يحسن قدرتنا على البقاء.
هذا الامر يوضح العديد من الظواهر النفسية. إذا طلبنا من مجحوعة من الطلاب ان تتذكر لائحة ببعض الكلمات، جميعها متقاربة بالمعنى، سيقوم العديد بالتذكر خطأ، بعض الكلمات المشابهة والغير موجودة في اللائحة. عادة سيكون الاشخاص اصحاب الذاكرة الطبيعية قادرين على ابعاد الكلمات التي مضمونها يختلف عن كلمات اللائحة، ولكن، وفي نفس الوقت، ستنشأ لدى هؤلاء الاشخاص ذاكره وهمية تعطيهم الانطباع بأنهم رآو الكلمة في اللائحة. المشكلة ان هذه الذاكرة المزورة تتزايد مع تقدم العمر عند الاطفال مع كبر وتطور ذاكرتهم. هذا الامر يشير الى ان بعض " النواقص" في الذاكرة ليست بسبب سوء تصميم الذاكرة وانما على العكس، ضرورة حتمية للوصول الى ذاكرة فعالة. تجارب اخرى اظهرت ان المصابيين بأضرار في الهيبوكامبوس، كنتجية لحوادث، لديهم ذاكرة وهمية اقل.
على المستوى العصبي، من المنطقي للغاية ان يكون الهيبوكامبوس نشيط خلال عملية إعادة إستعادة ذكرى الماضي وتصور المستقبل على السواء. احدى الوظائف الاساسية لهذه العملية هي ربط قطع من صور مختلفة ببعضها لخلق انطباع جديد. من اجل تذكر صورة معينة على الدماغ تنشيط اماكن مختلفة مخصصة لتخزين الالوان والاوجه والاماكن والارقام والانطباعات، ووظيفة الهيبوكامبوس هو ربط كافة هذه المناطق ببعضها لخلق الصورة المطلوبة.
على الاغلب، حدث خطأ تركيبي عندما قام الميكنيكي بمحاولة استعادة ذكرى الماضي لتظهر صورة John Doe2 في غير مكانها الصحيح. هذا هو الثمن الذي علينا ان ندفعه من اجل الحصول على ذاكرة ديناميكية. هذا لايعتبر نقص في الذاكرة، وانما يشير فقط الى ان الذاكرة تطورت ليس من اجل عكس صورة الماضي ، وانما بالذات من اجل اعطائنا القدرة على خلق المستقبل. هذا الامر يجعل الذاكرة ليست اهلا للثقة عندما تتحدث عن الماضي.
عن موقع الذاكرة